.......
نُشِرَت هذه القراءة بموقع (الكتابة) في 30 أغسطس 2017
أصوات آلات التنبيه تقترب. الجلَبة المعتادة. الضوضاء المفاجِئة المتوقَّعَة! سيارةٌ فارهةٌ توقفت أمام باب الاستوديو. مقدمة السيارة مزيَّنةٌ بأشرطةٍ تمتدُّ من الزجاج الأماميّ إلى ما لا نهاية، حيث تنعكس من حافة السيارة إلى الزجاج، ثُمّ منه إليها عددًا لانهائيًّا من المرّات. أصواتُ الشباب والنساء جذبتني إلى خارج الاستوديو. الرجل الذي يجلس إلى عجلة القيادة يبدو في منتصف العِقد الخامس، ملامحُهُ جامدة، جبينُهُ مقطَّب وحاجباه معقودان. انفرَجا قليلاً وارتسمَت على وجهه ابتسامةٌ مصطنَعة والتفت قليلاً إلى العروسين الجالسين في المقعد الخلفي، بينما تحلّق الشباب والفتيات حول السيارة وفتح أحدهم البابين الخلفيين ونزل العروسان. العريس مشدود الأعصاب، شبحيّ الابتسامة. تراءى لي أنه على وشكِ أن يَدفعَ بقدمِه الشابَّ الذي فتح الباب لعروسه. العروس مشرقةٌ كالعادة، لكنّ إشراقتَها لا تخبّئُ قلقَها بشأن مظهرِها، كالعادةِ أيضا. اقتربوا من باب الاستوديو، وحيَّوني فأومأتُ برأسي رادًّا التحية وأفسحتُ لهم الطريق.
- ثواني، أنده لعمّ (عاشور).
نزلتُ السُّلَّم الداخلي للاستوديو وناديتُ عمّ (عاشور) ثُمّ صعدتُ أمامَه وطلبتُ من العروسين ووالدتيهما أن يجلسوا جميعا حتى يصعد عمّ (عاشور).
- طيب، ما تصورنا انت يا عمّ؟ مش بتشتغل هنا؟!
رددتُ بابتسامةٍ على اقتراح العريس العصبي، وحين هممت بفتح فمي لأشرح موقفي قاطعني صوت عمّ (عاشور) الممتزج بوقع خطاه الثقيلة على أعلى درجات السلم.
- يا ألف مبروك للعرسان. بالرفاء والبنين ان شاء الله.
- الله يبارك فيك. آا .. ننزل تحت ولاّ نتصور فين؟!
قالها العريس في عصبيته الأولى، بينما عيناه وأعين النساء معلقة بالرجل ضخم الجثة رثّ الملابس ذي اللحية البيضاء المنفوشة، الذي يجرّ خطاه إليهم ويتكلم من قرار بئرٍ عميقة. أتفهم كيف أُخِذَت العروس والحماتان بهيئة الرجُل. ظلَّت إحدى الحماتَين مذعورةً تمامًا، بينما استعادت الأخرى رَباطة جأشها سريعًا وابتسمت في هدوء. مالت المذعورة على كتف الهادئة وسمعتُها تهمس:
- هو دا الفنّان اللي شُرتي علينا بيه؟
قرصَتها الهادئة في فخذها فضحكت في عصبية. أشار عمّ (عاشور) للعروسين بأن ينزلا إلى الدور السفلي. تقدم العريس ثُمّ توقف أمام السلّم كمّن تذكّر الإتيكيت فجأةً فأشار إلى عروسه بأن تتقدمَه، وحمل عنها ذيل الفستان لئلاّ تتعثرَ به. التفت عم (عاشور) إلى السيدة الهادئة. أخذ يتفرّس ملامحها في جرأةٍ تعجبتُ معها من اتساع ابتسامتها المطّرِد!
- كأني شُفت حضرتك قبل كده!
- بس انزل صوّر العِرسان وبعدين نتكلم!
هزّ كتفيه المكتنزتين في مرحٍ مكتوم، وهمّت السيدتان بالنزول خلف العروسين لكنّه أشار إليهما بالتوقف وقال في لهجته الجادّة التي أعرفها، والتي لا تخلو من لمسة مرح:
- ما عليهش يا جماعة، بس دي تقاليد الاستوديو، يمكن تِبان غريبة بالنسبة لكم، بس سُمعة الاستوديو كفيلة بإنها تقنعكم بإن اللي بيتعمل هنا بيطلّع أحلى صُور زفاف في البلد!
همّت المذعورة بأن تُجادِلَه لولا قرصَتها الهادئة مرّةً أخرى في فخذها واستدار عم (عاشور) ليَتبع العروسَين، ثُم أشار إليّ بأن أتبعَه.
لم تكن هذه أول مرّة يسمح لي عمّ (عاشور) فيها بمشاهدة عملِه في صُوَر الزفاف. كانت سُمعة الاستوديو طائرةً في وسط القاهرة كأفضل مكان لالتقاط صور الزفاف، وكانت هذه الصُّوَر مصدر رزقه الأهم. حكى لي أبي ذات مرّةٍ كيف تجاهل عمّ (عاشور) الصعود التدريجي لتصوير الأفراح بالفيديو، وظلّ واثقًا من أنّ تلك الموضة لن تؤثّر على النجاح الاستثنائي للاستوديو في صور الزفاف، ويبدو أنه كان مُحِقًّا بدرجة كبيرة. لم تتسنّ لي مشاهدة كثيرٍ من المصورين أثناء عملهم، لكنّ ما رأيتُه منه كان مذهلاً تماما. لم يكن مغرمًا بشرح ما يفعلُه، ولم أمتلك أبدًا الجرأة الكافية لأتمكن من سؤاله عن مبرر كل خطوةٍ يقومُ بها. لكنّه مثَلاً كان يضع في أحد أدراج مكتبه بالطابَق العلوي من الاستوديو ورقةً عملاقةً عليها تدرّجٌ من الألوان يقارن بها لون وجه كلٍّ من العروسين. لم أتوقع أبدًا وجود شيءٍ كهذا في العالَم! كنتُ قد رأيتُه كذلك أكثرَ من مرّةٍ يقيس بالمسطرة أجزاءَ من جسدَي العروسين في صورةٍ يقفان فيها وقفةً عادية! كانت هذه وغيرها بالنسبة لي تفاصيل مجنونةً، لكنّي أدركتُ أنها سِرُّ تميُّزه في صور الزفاف.
وقف العروسان الوِقفة العادية أولاً، متجاورَين دون أية حيلةٍ من الحِيَل التي يقترحُها المصورون عادةً، وكان هذا بناءً على أمر عمّ (عاشور)! ثُمّ تركهما وصعد إلى أعلى وتبِعتُه. فتح دُرجَ مكتبه وأخرج ورقة ألوان الوجه والمسطرة، بين دهشة المذعورة وابتسامة الهادئة. نقل الصورة اليتيمة التي التقطها إلى الآن إلى الكمبيوتر ثُمّ طبعها وأخذ يفعل ما رأيتُه يفعلُه من قبل. حدّق قليلاً في السقف وهو يحرّك أصابع يُمناه ويتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ، مستغرقًا في حساباتٍ غيبيّة، بينما المذعورة تنظر بطرف عينها إلى الهادئة وتحرّك أصابعها بجوار رأسها في إشارةٍ إلى جنون عمّ (عاشور)، فتلكزها الهادئة وتضحكان من جديد. عاد إلى العروسين وتبِعتُه.
بأوامر من عمّ (عاشور) يجلس العريس كهارون الرشيد وتقف بجواره العروس مُمسِكةً بمروحة طويلة من الريش كأنها خادمتُه تحرك له الهواء، ثُم تجلس العروس ويجثو أمامها العريس ممسكًا يمناها بكِلتَي يديه كأنه يتوسل إليها، ثُم تقف العروس وحدها في الكادر مرّاتٍ عِدَّةً، في وضعيّاتٍ مختلفة، ثم يعود العريس للظهور معها ..
استغرق الأمر ساعةً منذ دخول العروسين إلى الاستوديو. كان عمّ (عاشور) يقلّب الجسدَين أمامه بسهولةٍ شديدة، مرةً من خلف الكاميرا الثقيلة ومرةً دون حجابٍ من كاميرا. كانت العروس دائمًا أكثر تفهُّمًا لما يقصده، وكان يُثني عليها في كل مرّةٍ تأخذ وضعيةً جديدةً طلبها منها، وكان العريس يحاول طيلة الوقت أن يَكتُم غيظًا أوضح من أن ينجح في كتمانه! بعد كل صورتين أو ثلاثٍ كان العريس يصوّب إليّ نظرةً تمزج التساؤل بالغيظ، ويُطِلُّ منها سؤاله المكتوم كغيظه: "وانتَ يا ترى إيه لازمتك هنا؟!".
أنهى عم عاشور جلسة التصوير وأشار إلى العروسين بالصعود أمامه على السلّم ثم تبعهما وتبعتُه.
- إن شاء الله 4 أيام وتستلموا الصور. طبعًا العرسان حيبقوا في شهر عسلهم، أي حد من طرف حضراتكم يقدر يستلم.
قالها وعيناه لا تواجهان إلاّ الحماة التي خاطبها من قبل، والتي كانت تقرص الأخرى في فخذها. عرفت أنها أم العريس من حديثها مع العروسين. اتسعت ابتسامتُها من جديد مع كل كلمةٍ كان ينطق بها، ثم لم تلبث أن أجابته في هدوء:
- أنا حاستلمها منك. انت مش فاكرني طبعًا!
- أكيد صورت حضرتك قبل كده.
- في زفافي من 30 سنة. بس مش فاكرني إيه وانت أول ما شفتني قلت انك شفتني قبل كده!
نظر إلى السقف بُرهةً ثم عاد من السقف إلى وجهها وابتسامته تختلط بمسحة حُزن مكتوم. أومأ برأسه لها قائلاً:
- أهلاً وسهلاً بحضرتك. دا الاستوديو بتاعك دايمًا، والزباين القدامى زي المحاربين القدامى، لهم امتيازات فوق العادة!
أخذ العروسان والحماتان يغادرون الاستوديو وعم (عاشور) عيناه معلقتان بالعريس. كأنني لمحتُ في عينيه نظرة إشفاقٍ في هذه اللحظة. بادرتُه:
- إيه الحكاية يا عم (عاشور)؟
أطرق ثم أشار إليّ بأن أتبعَه إلى أسفل، وفي الدور السفلي أشار إليّ من جديدٍ بأن أتبعه إلى غرفة التحميض القديمة التي لم تطأها قدماي أبدا. كانت الرائحة في داخلها تشبه الكلور. رائحةٌ قويةٌ جدًّا من الصعب تجاهلُها.
- إيه الريحة دي؟ غريبة شوية!
تجاهل سؤالي وأشار إليّ بالجلوس على الشلتة المقابلة للباب. أطعتُ إشارتَه في صمتٍ منتظرًا ما سيُخرِجُه من درج المكتب القائم على يمين الباب. أخرج عددًا من ألبومات الصور لم أستطع إحصاءه بدِقّةٍ في البداية لكنني أدركتُ فيما بعد أنها سبعة ألبومات بالضبط. جلس على الشلتة المجاورة وناولني ألبومًا منها. صُور لعرائس في وضعيات مختلفة. عرائس فقط. دون عِرسان! ربما تظهر عروسٌ في عَشر صور، وربما تظهر أخرى في واحدةٍ فقط. اللافت أنه لا توجد واحدةٌ منهنّ متوسطة الجمال مثَلا. كلهن بارعات الجمال، أو هكذا خُيِّلَ لي!
- دي مجموعة حلوة جدًّا يا عم عاشور.
- دا كلام برضه؟! هو ممكن عمّك عاشور يصور صورة مش حلوة جدًّا؟
ناولني ألبومًا ثانيًا وثالثًا، إلى أن أتيتُ على ألبوماته السبعة. في الحقيقة كانت الألبومات ضخمةً جدًّا ومن القطع الكبير. لم أشعر بالوقت يمُرّ عليّ وأنا أتصفح الألبومات، لكن يبدو أنه كان وقتًا طويلا. لم أعرف هذا إلا بعد أن اسمتعت بآخر صورة في آخر ألبوم. ساعتان! كان يأخذ منّي كل ألبوم أُنهي تصفُّحَه ويتصفحُه هو بينما يناولني آخر. تتابعَت على ملامحِه تعبيراتٌ كثيرةٌ كثيرة لمأستطع أن أصنّفَها بسهولة ضمن الحزن أو الفرح أو الغضب أو لذة التذكُّر، لاحظتُها وأنا أختلس النظر إليه خلال تصفُّحي الألبومات. عيناه تتسعان أحيانًا حتى تلتهما العروس التي في الصورة، وتضيق حدقتاهما أحيانًا حتى أكاد أجزم أنه يحاول رؤية شيءٍ بالغ الدِّقّة في الصورة!
- دول حريمي!
- نعم؟!
قلتُها في لهجةٍ أدركتُ بعد أن نطقتُها أنها أقرب إلى الاستنكار، لكنّي في الحقيقة كنتُ أحاول أن أتفهمَ ما يقول. اتسعت ابتسامتُه وأطرق قليلاً ثُمّ عاد وناولني أول ألبوم تصفحتُه، وفتحه على مجموعة صورة لعروسٍ بعينِها، ودقّ بسبابتِه اليمنى على صور العروس وهو يناولني الألبوم. نظرتُ إليها مُجَدَّدًا فتبينتُ هذه المرّة على الفور أنها صورة الحماة التي كانت معنا منذ ساعتين في الطابق العلوي! ليست هي تمامًا، حيث تختفي تجاعيد الوجه في الصورة، وينسدل شعرُها الأسود الطويل على فستانِها قديم الموضة من تحت تاج العروس، وتأخذ ابتسامتُها في الصورة أبعادًا ليست لتلك المرأة التي رأيناها معًا منذ قليل، كما يقلّ وزنُ عروسِ الصورة كثيرًا عن المرأة ذات اللحم والشحم!
- مش أول واحدة تيجي ببنتها أو ابنها في يوم زفافه، واكون مصوّرها هي شخصيًّا من زمن الزمن في يوم زفافها.
تهدّج صوتُه قليلاً ورأيتُ في عينيه ما يشبه دمعتين تترقرقان لكنّهما لم تجرؤا على المغادرة إلى خدّيه، أو ربما ابتلعَتهما عيناه في قسوة. أخذ منّي الألبوم وهو يتنهّد قائلاً:
- دول عرايسي. دول كل العرايس اللي صورتهم في حياتي. لمّا أقول لك انهم عرايسي، يبقى اقصد انهم عرايسي فعلاً. كنت عريس لكل واحدة منهم على الأقل ليلة، إذا ما كانش أكتر من ليلة. بس عريس من طرَف واحد!
قال هذه الجملة الأخيرة ولهجتُه تختلج بالسخرية، ثم ضحك ضحكةً مكتومةً وربّت كتفي في أُبُوّةٍ وتابع:
- الناس من ورا الكاميرا غير الناس! والستات والبنات مش استثناء من القاعدة دي.
قام من جانبي وفتح أحد أدراج المكتب، وتابع كلامَه وهو يُخرِج منه أنواعًا متعددةً من الكاميرات والعدسات المفردة وآلات الفلاش المنفصلة القديمة:
- كل كاميرا من دول وكل عدسة من دول بتعمل عملها الخاص بيها جدًا في العرايس.
لم أدرِ لماذا خطر لي في هذه اللحظة أنه يتحدث عن عرائس المولد! ابتسمتُ للخاطر بينما تابَعَ وهو يعود إلى جِواري ممسكًا كاميرا قديمة الطِّراز:
- الـ(كوداك) اللي في إيدي دي كانت قادرة تمامًا من تلاتين سنة انها تحوّل أي عروسة لموناليزا. ما اقصدش انها بتحلّي العرايس وخلاص، لأ! بتحوّلها لموناليزا تحديدًا. موناليزا الشهيرة! بُص تاني لصورة الست اللي جات لنا من شوية.
ناولني الألبوم الأول للمرة الثالثة، وهو يفتحه على صُوَر العروس التي كانت منذ ثلاثين عاما. كنتُ أرى في الصُّوَر ما أخذ يتحدثُ عنه بالضبط:
- نظرة العين الغامضة اللي تحيّرك، هي بتبُصّ لك ولاّ بتبُصّ لحاجة وراك وانت بالنسبة لها شفّاف! العروسة دي كانت أرفع من دلوقتي زي ما انت شايف طبعًا، لكن في قعدتها على الكرسي بالشكل دا كانت مليانة بالظبط زي موناليزا. سمرا شويّة، لكن تبان لك في الصورة اللي باصّة فيها بجنب دي، بالظبط لون موناليزا!
ناولتُه الألبوم، وأخذ يضحك ضحكةً تختلط فيها المرارة بالإشفاق بالسخرية، وقال بين ضحكاته:
- العريس بتاع النهارده دا مسكين! أمه ومراته من حريمي! حاسس انّي محقوق له والله!
أخذ يتفرس صورة العروس التي أصبحت أم العريس، وأخذت أصابعه تتتبّع خطوط جسدِها. سبابتُه كأنها ترسم عروسًا فوق العروس الظاهرة في الصورة، لها صدرها الذي يبدو ريّان في صورة الجلوس على الكرسي، وخصرها الضامر وذراعاها الممدودتان بباقة الورد. اتسعَت عيناه رويدًا رويدًا وتمدّد جسدُه العجوز على الشلتة، وتصلّبَت أطرافُه قليلاً كمَن يعاني نوبةَ صرَعٍ خفيفةً، ثُمّ ارتعدَ قليلاً وهو يحتضن الألبوم مفتوحًا على صورة عروسه القديمة، والتفّت الساقُ بالساق، وأخذ يعَضُّ على الحافة العليا للألبوم بينما يصدُر من بين شفتيه المنفرجتَين قليلاً صوتٌ لم أسمعه منه من قبلُ، أقرب إلى المقطع الأول من صياح الديوك، ممطوطًا حتى خُيِّلَ لي أنه لن ينتهي! لكنّه انتهى. خفَت تدريجيًّا وأغمض عم (عاشور) عينيه وهو يقبض إليه جسدَه قبضًا يسيرا. مكث على هذه الحال دقيقتين قبل أن أنبّهَه إلى صوت خطواتٍ تنزِلُ السُّلَّم إلينا من الطابق العلوي. فتح عينيه عندما كان العريس الذي يتميزُ غيظًا منذ ساعتَين واقفًا في منتصف الغرفة ممسكًا هاتفَه المحمول ملوّحًا به في ارتباكٍ وهو يقول:
- آسف جدًّا، بس رجعت لأني اكتشفت بعد ساعتين انّي نسيت الموبايل هنا!
طوى عم (عاشور) الألبوم سريعًا ووضعه جانبًا وهو يقوم إلى العريس. كانت رائحة الكلور قويةً في هذه اللحظة. ربّت كتِفَه ثم قرّبَه منه والعريس في دهشةٍ لا يعرف ماذا ينوي أن يفعل الرجُل. فاجأه عم (عاشور) كما فاجأني بتقبيل جبينه في أُبُوّةٍ وهو يقول بينما يربّت خدّه بكفّه اليمنى:
- خلّي بالك من عروستك يابني، وخلّي بالك من والدتك. دول جوهرتين.
محمد سالم عبادة
نُشِرَت في مُلحَق الأهرام الأدبي يوم الجمعة 5 يونيو 2020
من مجموعتي القصصية (الناظِرُون) - مُعَدَّة للطَّبع
في قصّته (جرملسهاوزن Germelshausen) يحدثنا الروائي الألماني فريدرش جرشتِاكر Friedrich Gerstäcker (1816-1872) عن قرية ملعونة تحمل اسم القصة، خُسفت بها الأرض، تظهر يومًا واحدًا كل قرن من الزمان، ويعود أهلها إلى الحياة. تبدأ القصة بأن بطلها الفنان التشكيلي (أرنولد) يخرج في رحلة استكشافية في خريف أحد أعوام الأربعينيات من القرن التاسع عشر. وخلال رحلته يقطع بالصدفة البقعة التي كانت جرملسهاوزن تحتلّها، فيقع في حب (جِرترود) إحدى فتيات القرية، ويشاء القدَر أن يبتعد عن القرية الملعونة في اللحظات التي تعود فيها القرية للخسف ويواري أهلها التراب، ويظل أرنولد محكومًا عليه بافتقاد حبيبته إلى الأبد.
كان لاختيار الخريف دلالة تتصل برمزه إلى السقوط ونهاية موسم الحصاد وبداية الجزء المظلم من السنة، وهي دلالة تتوافق مع فكرة القرية الملعونة التي تظهر يومًا ثم تعود للسقوط بكل ما فيها ومن فيها.
بشكل شخصي، مضى أكثر من نصف عمري على قراءتي هذه القصة، ولم أكن وقتها أعرف شيئًا عن الهالوين، كما لم تذكر القصة أي شيء مباشر عنه. غير أن تصاعد غزو الهالوين لمحيطي الثقافي أعادني إلى جرملسهاوزن، ولا غرابة في ذلك. فالهالوين (ليلة عيد كل القديسين All Hallows Evening) محدد باليوم الأخير في أكتوبر ليمتدّ إلى الثاني من نوفمبر، أي أنه قلب الخريف. والأيام الثلاثة هي ليلة كل القديسين ثم يوم كل القديسين (1 نوفمبر) ثم يوم كل الأرواح All Souls Day (2 نوفمبر) حيث يُحتفَل بكل الموتى المسيحيين الأبرار الذين غادروا الحياة إلى مرحلة المَطهر Purgatoryتبعًا للعقيدة الكاثوليكية. ويرى كثيرون – مثل (نيكولاس روجرز في كتابه: الهالوين من طقس وثني إلى ليلة احتفالية Halloween From Pagan Ritual to Party Night) أن تاريخ الاحتفال بهذا العيد يعود إلى أصول غاليّة Gaelicوثنية متجذرة في تراث الأيرلنديين والاسكتلنديين، تحديدًا إلى عيد نهاية موسم الحصاد وبداية الشتاء، والمسمى في لغتهم (ساوين Samhain). والمعروف أن طقوس هذا العيد الغاليّ الوثني كانت تضم الألعاب النارية البدائية التي كان يُفترض أن لها قوة حامية من الأرواح الشريرة، وكان الوثنيون يتركون طعامًا وشرابًا خارج ديارهم استرضاءً للأرواح الهائمة العابرة في هذا اليوم من عالَم الموتى إلى عالم الأحياء، إلى غير ذلك من الطقوس التي مازالت حيةً في الهالوين المسيحي.
والسؤال الأساسي لهذا المقال: لماذا تحول الطقس المسيحي -المحتفي بالقدّيسين وشهداء المِلّة وأرواح كل الموتى المسيحيين الأبرار- إلى عيد عالمي للرعب؟! وبصياغة أدَقّ: لماذا احتفظ هذا الطقس بمَظاهِره الوثنية وزاد عليها كثيرًا من التنويعات كزيارة الأماكن التي يُقال إنها مسكونة أو التي صُمِّمت لتحاكي الأجواء المرعبة للأماكن المسكونة، رغم إدراجه منذ قرون طويلة في الأعياد التي أقرّها القانون الكنسي؟
* زواج القداسة والرُّعب:
يعتقد الروائي والمدوّن (مايك ديوران Mike Duran) أن القداسة والرعب مرتبطان تمامًا ببعضهما في الرؤية المسيحية للعالَم. وهو يبدأ جدالَه بإحالتنا إلى عدة مفاهيم صاغها اللاهوتي والفيلسوف الألماني الباحث في مقارنة الأديان رودلف أُتُّو Rudolf Otto (1869-1937). أهم هذه المفاهيم هو الألوهي Numinousوهي كلمة اشتقها من كلمة لاتينية هي Numenتعني الألوهية أو الحضور الإلهي.
https://www.mikeduran.com/2012/08/08/holiness-and-horror/
الألوهي عند (أُتّو) هو أهم ما يميز الخبرة الدينية، وهو أن يجد المرء نفسه إزاء حضور لا شبيه له، (كامل في آخَريَّتِه Ganz Anders) – ويعني بذلك أنه حضور مفارق لما يمكن أن يتعقَّلَه المرء، وليس ثَمّ مشترَك بينه وبين غيره من خبرات المرء اليومية – فيثير هذا الحضور رهبة عظيمة في نفس الإنسان. ثَمّ مفهومان آخَران محوريان عند (أُتّو) هما السر الرهيب Mysteria Tremendumوالسر الجذاب Mysteria Fascinansحيث يصف بهما ذلك الحضور الذي لا شبيه له، إذ إنه لإلغازه وعظمتِه وفرادته واستعصائه على الإحاطة به سرٌّ رهيب، وهو لنفس هذه الحيثيات سِرٌّ جذاب لا يستطيع المرء فكاكًا من جاذبيته.
عودًا إلى (مايك ديوران)، يعتقد (ديوران) أن هذه المفاهيم الثلاثة متحققة غاية التحقُّق في اللاهوت المسيحي بالتحديد أكثر من غيره. وأَجِد نفسي أوافقه الرأي. فالتصور الذي على عليه مدار العقيدة في معظم الفِرَق المسيحية هو حلول المُطلَق اللامحدود في البشري المحدود، وهو تصوُّر مُلغز فريد مُستعصٍ على التعقُّل الكامل، ولذا فهو يجعل من شخص المسيح سرا رهيبًا لا يشبهه شيء في رهبته ولا في جاذبيته. وفوق ذلك، فتبعًا للتصور المسيحي، لقد قتلنا – نحن البشر – هذا الإله المتجسد الحالّ في الإنسان، قتلناه بأيدينا، فأي رعب يمكن أن يفوق ذلك؟
* إضاءة قديمة من كيركجور:
بعض القراءات الفلسفية يعتبر الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي الكبير سُرِن كيركجور Kierkegaard (1813-1855) أبًا للوجودية، ولاسيما الوجودية المسيحية. وما يعنينا هنا هو قولٌ ما، قام أهم مرجع معاصر لفلسفة كيركجور – وهو (هوارد هونج) أستاذ الفلسفة الراحل بكلية سانت أولاف St.
https://evergreenessays.blogspot.com/2006/05/did-kierkegaard-offer-anything-on.html
بالتأكيد يمكن أن نبرر رأي (كيركجور) بأنه منطلِق من رؤية متمركزة أوربّيًّا Eurocentric، مما يضفي على رأيه صدقًا نسبيًّا، فالدور الذي لعبه الإسلام في أوربا يُعَدُّ – بمقتضيات الحِسّ المشترَك – هامشيًّا إذا ما قُورِن بدور التراث اليهودي المسيحي Judeo-Christian Tradition. لكن أمرًا آخر له علاقة بفلسفة (كيركجور) يُعَدُّ في رأيي دعامة هذا الرأي السلبي في دور الإسلام، وهو أمر له انعكاسه على موضوع ارتباط القداسة بالرعب، لاسيّما أنّ مواضع أخرى في كتابات (كيركجور) تَشي بأنه كان على قدر من الاطّلاع على الدين الإسلامي.
يتّضح هذا الأمر حين نراجع مؤلَّف كيركجور الشهير المعنوَن (خَوفٌ ورِعدَة Frygt og Bæven)الذي كتبه باسم مستعار هو (يوحنّا الصمت Johannes de Silentio) سنة 1843. استعار كيركجور العنوان من الآية الثانية عشرة من الإصحاح الثاني من (رسالة بولس إلى أهل فيلپِّي): "إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَة."والتي ربما كانت بدورها إحالةً إلى بدايات المزمور الخامس والخمسين من العهد القديم: "يمخضُ قلبي في داخلي، وأهوالُ المَوتِ سَقطَت عليّ. خوفٌ ورِعدَةٌ أتَيا عليَّ، وغَشِيَني رُعبٌ. فقلتُ ليتَ لي جناحًا كالحمامةِ، فأطيرُ وأستريح."المهم أن (كيركجور) في هذا الكتاب يناقش حكاية تضحية نبي الله إبراهيم بابنه (إسحاق) كما يذكرها الإصحاح الثاني والعشرون من سِفر التكوين. تقول الرواية التوراتية إن إبراهيم لم يخبر أحدًا بأمر الله له، فتحمّل عبء الإيمان وحده، ووضعه إيمانه في موقف تتخاصم فيه الأخلاق التقليدية مع الدِّين، ووصل رعب الموقف إلى منتهاه. وهنا نتذكر تعليق أستاذنا د.زكريا إبراهيم على مذهب كيركجور في الحب الإلهي، في الفصل السادس (العبادة) من الباب الثاني (أشكال الحب) من كتابه (مشكلة الحُبّ): "أصحابُ هذا المذهب وفي مقدمتهم كيركجوريعتبرون الألم بمثابة الجو الطبيعي الذي يحيا فيه الكائن المتدين. فليس المؤمن بالشخص المطمئن الواثق الغارق في فيض علةوي من السعادة، بل هو شخص معذَّب قلِق يحيا في صراع مستمر مع اللامتناهي ويجد نفسَه دائمًا في غمرة التناقض."
الشاهد أن الخبرة الإيمانية الحقّة عند كيركجور محفوفة بالألم والعذاب والخوف والرِّعدة. فإذا قارنّا برواية التوراة عن تضحية إبراهيم برواية القرآن، سنجد تفصيلةً صغيرةً مختلفة، هي أنَّ إبراهيم في القرآن يقول لابنِه: "يا بُنَيَّ إنّي أرى في المنامِ أنّي أذبَحُكَ فانظُر ماذا تَرَى."هنا يتقاسَم إبراهيم الأمرَ الرهيب مع ابنه، فلا يحمل عبئه الثقيل وحده رغم نبوّته، كما تحرص الرواية القرآنية على أن تضيّق الهُوّة بين الأخلاق التقليدية والدين في وصفِها لهذا الابتلاء، لكي يظلّ الدين منبعًا للأخلاق حتى في أحلك المواقف. هكذا نجد لطف الإله بالضعف البشري موجودًا حتى في ثنايا مثل هذا الاختبار الرهيب. وإذَن، فإمكانية ارتباط الخوف والرعدة بالخبرة الإيمانية في الإسلام أقلّ منها بالفعل في المتّصِل اليهودي المسيحي، ولذا جاز لـ(كيركجور) أن يقول ما قال، متّسِقًا مع ما يراه، منطلِقًا من تربيتِه في الثقافة المسيحية.
والحقّ أن الحِس المشترَك يخبرنا كذلك بالفارق الكبير في (المحتوى الرهيب) – إن جاز التعبير – بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، ففي اليهودية نجد شعب إسرائيل يحمل تابوت العهد معه كشرط لحضور السكينة الإلهية (شخينَه שכינה)، فالرّبّ حاضر بينهم بشكل شبه ملموس. في المسيحية يخطو الحضور الربّاني خطوة أبعد، فيتجسد الرب بالفعل بشريًّا كمخلوقاته، وهو حلولٌ من شأنه أن يعمّق الرهبة والاستعصاء على الفهم والإحاطة. أما في الإسلام فقد ظلّت هناك دائمًا هُوّة غير معبورة بين الرب والمخلوق بفِعل التّعالِي المُطلَق للرّبّ، مما يلطف كثيرًا من أثر الحضور الرهيب Numinousالذي حَدّثَنا عنه (رودلف أُتُّو). وحتى حين يصبح مجرد ذكر الله في الإسلام مدعاةً للرهبة والوجَل، نكتشف أن هذه الرهبة هي مجرد مرحلة قصيرة تنتهي إلى الاطمئنان: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.""ألا بذِكرِ اللهِ تطمئِنُّ القُلوبُ."
* الهالوين مرةً أخرى:
بالتأكيد توجد في الثقافات غير المسيحية قصص مرعبة عن الموتى وأشباحهم وعالَم ما وراء الطبيعة، إلا أنه بغَضّ النظر عن رجوع الموقع الذي يحتلُّه هذا القَصَص في الثقافة المسيحية الغربية إلى آلة الإعلام الجبارة في أوربا وأمريكا، فموقع مثل هذا القصَص في الثقافات الأخرى لا يكاد يغادر الهامش، بينما هو من المسيحية الغربية في قلب المتن كما يُطلِعنا رأي كيركجور عن الخوف والرعدة، ومفهومُ (أتُّو) عن السر الرهيب الجذاب، وأخيرًا رؤية (مايك ديوران) عن اقتران الخبرة الدينية بالرعب. وإذا عُدنا إلى بقعتِنا من العالَم، فربما يتكشف لنا أن هامشيّة الرعب والأسرار المقدسة في الممارسة الدينية الإسلامية تُغري المسيحي المتدين بالنظر إلى الإسلام باعتباره أقرب إلى (لا أدرية) و(شكلانية سطحية Formalism)، فالمسلم لا ينشغل كثيرًا بماهية الله وكيفيته من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى لا تنطوي الممارسة الإسلامية الشائعة بطقوسها على قِيَم الرهبة والرِّعدة التي لا تعرفُ نهايةً، وإنما هي دائمًا مرحليّةٌ كما قلنا.
وربما لهذا نجد أجراس الكنيسة حاضرةً في تنويعاتٍ كثيرةٍ في أدب الرعب الأوربي الأمريكي، منذرةً بظهوراتٍ مخيفةٍ مفارقةٍ للخبرة الإنسانية اليومية، حاملةً معها رهبة المقدَّس وحضورَه المستعصي على التعقُّل، وهو ما يحدثُ مثَلاً في بدايات القصة التي افتتحنا بها حديثَنا (جرملسهاوزن). ولا نجد في أدبنا العربي مثلاً أن الأذان يلعب هذا الدور على الإطلاق!
* علمنة كل القديسين:
ختامًا، كان عالم الاجتماع الألماني (ماكس ڤيبر) يرى في كتابه (مقالاتٌ مجموعةٌ في علم اجتماع الدِّين Gesammelte Aufsatze zur Religionssoziologie) أن القوة المحركة لتوسع الرأسمالية الحديثة – وبالتالي الحضارة الحديثة كلّها – ليست فقط كما يرى (ماركس) متعلقةً بآليات الإنتاج ومنشأ رءوس الأموال، وإنما هي بالأساس نمو (روح الرأسمالية) أو رُوح الحياة الاقتصادية Wirtschaftsethik، وكان يُرجع نمو هذه الرُّوح إلى حركة الإصلاح الپروتستانتي في أوربا، التي عملت على ترشيد كل مناحي السلوك الإنساني، وعلى رأسها السلوك الاقتصادي. وما نودّ إضافتَه هو أن الإصلاح الپروتستانتي بشكلٍ ما عمّق مفهوم المكابدة والصراع الروحي الذي لا يهدأ، فالپروتستانتي لا ينتظر صك غفران وإنما يجاهد نفسه روحيًّا باستمرار، ولا يفوتنا أن (كيركجور) وُلِد في بيئة پروتستانتية محافِظة. إلا أن هذا الإصلاح كذلك - بفصلِه المسيحيةَ الغربية عن تجليات القداسة الرهيبة والأيقونيةِ الباذخة الموجودة في الكاثوليكية – خلق هُوَّةً بين اللاهوت الرهيب الذي يؤمن به المسيحي الغربي وبين طبيعة ممارساته الطقسية التي أصبحَت أبسط بكثير في ظل الپروتستانتية. ويبدو أنه كان ضروريًّا أن يبحث المسيحي الأوربي والأمريكي عن متنفَّس يعبر فيه عن حاجته إلى ممارسة الرهبة المزروعة في صميم رؤيته للعالَم. ولمّا كان من نتائج هذا الإصلاح – كما يرى (ڤيبر) وكما نوافقه – ذلك الانفجار الاقتصادي الحضاري الذي نشهدُه في الغرب، فقد ساعد هذا الانفجار الحضاري على بَلوَرة عالَم الرعب بكل مفرداته من أدب وسينما وغير ذلك، والذي يبلغ ذروة تجسُّده في الهالوين. أي أننا حين نُنعِم النظر إلى الأمر، نجد أن الإصلاح الپروتستانتي بشكلٍ ما قد فصل المسيحي الغربي عن تجليات القداسة الكاثوليكية، ثُمّ عوضه عنها تعويضًا علمانيًا معقَّمًا من الحضور الإلهي كما كانت تعرفه المسيحية الغربية في السابق. وهكذا، أصبح علينا أن نرتعد خوفًا كل عامٍ مع حلول عيد كل القديسين، وإن كان خوفًا معقمًا، لا نصدقه نحن، ولا يصدقه من ابتدعوه.
محمد سالم عبادة
31 أكتوبر 2019
https://arabi21.org/story/1219446/%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A-%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%8A%D9%86-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%86%D8%A8%D8%BA%D9%8A-%D8%A3%D9%86-%D9%86%D8%B1%D8%AA%D8%B9%D8%AF-%D8%AE%D9%88%D9%81%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D9%86#category_19
"ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن".
رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابنُ أبي شيبة والحاكم وابن حِبَّان والدارميّ، وغيرُهم!
"زيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم".
رواه الطيالسيُّ وأحمد والبخاريُّ والنَّسائِيُّ والحاكم والبيهقيُّ وابنُ ماجَه، وغيرُهم!
ربما هو تصديرٌ تقليديٌّ لمقالٍ يتناول إشكاليةَ علاقة القرآن بالموسيقى، وهو بالتأكيد تصدير مثير للجدَل لأنه رغم تواتُر رواية هذين الحديثين بَقِيا مُختلَفًا على صحة رواياتهما فضلاً عن المفهوم منهما. لكنَّ كاتبَ هذا المقال لا يجد مفرًّا من مقاربة مفردة (التغنّي) على المعنى الذي يجعلها محمولةً على (مشاكلة الغناء)، وهو وجهٌ مشهورٌ لمعنى الحديث. والسؤال هو: على أي وجهٍ يكون هذا (التغنّي) بالقرآن؟ المفردة نفسها لم تحدد طريقًا معينةً، فهل يكون التغنّي على قواعد الموسيقى والغناء المتعارَف عليها عند أهل الموسيقى والغناء؟ أم أنّ هناك قواعد أخرى تخصُّ القرآن؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتوافق قواعد تلاوة القرآن المتعارَف عليها مع قواعد الموسيقى والغناء؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، علينا أن نستعرض سريعًا أركان الموسيقى وعلاقتَها بالبِنية الموروثة المتعارَف عليها لتلاوة القرآن.
أولاً- الإيقاع:
هو العنصر الذي لا تقوم دونه موسيقى. الأشهر في الممارسة العربية أن يكون الإيقاع ظاهرًا تضبطه آلة أو أكثر من آلات الإيقاع: طبلة الباص أو الدف أو المِزهر أو غيرها، لكنه يمكن أن يتخفّى وراء النغَم (الركن الثاني من الموسيقى) دون أن يتلاشى. في الفالس الأشهر (على ضفاف الدانوب الأزرق الجميل An der schönen blauen Donau ) من المصنَّف 314 للموسيقار النمساوي (يوهان شتراوس) لا يمكن للأذن أن تخطئ الإيقاع الثلاثي للفالس مع اختفاء آلات الإيقاع، ويَصدُق هذا على أي مقطوعة موسيقية في العالَم.
https://www.youtube.com/watch?v=ENETOpNpIiI
قبل أن ننتقل إلى علاقة القرآن بالإيقاع، علينا أن نوضّح اصطلاحًا إيقاعيًّا مهمًّا، هو (تأخير النَّبر) أو (الترخيم) Syncopation. يعني الترخيم ببساطة (انقطاعًا أو اضطرابًا في المجرى الطبيعي للإيقاع، أو وضع النبر في مواضع ليس من طبيعة الإيقاع الأصلية أن يوجد بها). هذا الترخيم يضفي تنويعًا غير متوقَّع على الإيقاع وربما يغير المزاج العامّ للمقطوعة. من أشهر وأبسط الأمثلة على هذه الحيلة الإيقاعية ما يفعله (بيتهوفن) في نهاية المازورة الثانية عشرة من اللحن الأساسي للحركة الرابعة من سيمفونيته التاسعة (الكورالية)، حيث يضع (نبرًا) قويًّا على العلامة الإيقاعية ويربطها ببداية المازورة التالية Legatoلتصبح أقوى، ويظهر هذا في غناء المطرب الباص ثم الكورال لبداية جملة Alle Menschen werden Brüder(البشر كلُّهم يصبحون إخوة).
https://www.youtube.com/watch?v=w6E3xem_c2w
بالطبع يوجد للقرآن إيقاعٌ خاصٌّ به. لا نعني سرعة الأداء Tempoالتي يوجزها اصطلاح (مراتب التلاوة) التي تتدرج من الأسرع (الحَدر) إلى الأوسط (الترتيل) إلى الأبطأ (التحقيق). بالأحرى، نعني ذلك العنصر الذي قلنا إنه لا تقوم دونه موسيقى، كما لا يقوم دونه أي منتَج صوتي على الإطلاق. لكنه ليس إيقاعًا منتظِمًا انتظام الإيقاعات المعروفة المستخدمة في الموسيقى، ولا انتظام إيقاعات الشِّعر. من المعروف أن بعض الآيات في القرآن تنتظم في أوزانٍ تقرّبُها من بعض بحور الشِّعر العربي، فـ(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدْ) تُوزَن (فاعِلاتُن فَعِلُنْ) وتندرج هكذا في بحر (الرَّمَل) مثَلا. لكن يحول بينها وبين تصنيفِها كجُملةٍ موزونةٍ عَرُوضِيًّا أنّ القرآنَ أساسًا مبني على الوَصل، ولذلك تُرسم نهاية هذه الآية (أحَدٌ) بالتنوين، أمّا إن وقف القارئ عليها وسكَّنها، فإنّ عاملاً آخر ينهض ليَحول بينها وبين سهولة تصنيفها كجملة في بحر الرَّمَل. هذا العامل هو المعروف في علم التجويد بالقلقلة، ومكانه حرف الدال من كلمة (أحَدْ). الأمر نفسه يحدث مع "قُلْ أعوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ"التي تُوزَن إن سُكِّن آخرُها (فاعِلُنْ فَعِلُنْ فاعِلُنْ) على البحر المتدارَك، لكن كسر قاف (الفلق) حالَ الوصل، وقلقلتها حالَ التسكين يحولان بينها وبين تصنيفها كجملة في (المتدارَك).
يبقى أن نذكُر خلافًا في الفقه الإسلامي حول موقف أحكام التجويد (ومنها القلقلة المذكورة مثلاً) من الوجوب. معظم رواد التجويد كابن الجزري (صاحب المقدمة الشهيرة في أحكام التجويد) يذهب إلى وجوبه، بينما نفاجأ بأن (ابن تيمية) المشهور في عصرنا بالتشدد يرفع الحرج عن المسلمين في طلَب قواعد التجويد، بل ويزهّدهم في الحرص عليها كما في قوله في (مجموع الفتاوى): "و لا يجعل هِمَّتَه فيما حُجِب به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائقِ القرآن إما بالوسوسةِ في خروج حروفه وترقيمها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك، فإن هذا حائلٌ للقلوب قاطعٌ لها عن فهم مراد الرب من كلامه"!
نقطةٌ أخرى في مسألة إيقاع القرآن هي حركات (المَدّ) وعلاقتها بإجراء (الترخيم Syncopation) الذي قدَّمنا له. المَدّ في القرآن -وما يتّصل به من الغُنّة المتطلبة له- يزرع الجُملة القرآنية بترخيمات غير منتطمة إيقاعيًّا، ويكاد يكون من المستحيل أن تخضع لتنظيم إيقاعي موسيقي مع المحافطة عليها.
الشاهد من هاتين النقطتين أنّ البنية الإيقاعية للقرآن حالَ تلاوتِه بنيةٌ أُرِيدَ لها أن تكون مغلقةً على ذاتِها، غير قابلةٍ للاتّصال بالتقاليد العروضية الشِّعرية ولا بالتقاليد الموسيقية الغنائية فيما يبدو.
ثانيًا – النغم:
تحضر هنا المقولة – المتنازَع على صحّتها هي الأخرى – للإمام (علي بن أبي طالب)، حين وجَّه (عبد الله بن عباس) إلى الخوارج: "لا تُخاصِمْهم بالقُرآن؛ فإنَّ القُرْآن حمَّالُ أوجُه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكنْ حاجِجْهم بالسنَّة؛ فإنَّهم لن يَجدوا عنْها مَحيصًا". الشاهد منها في تقدير كاتب المقال – صحّت أو لم تصِحّ عن قائلها المزعوم – هو أن صفة (حمّال أوجُه) تنطبق على القرآن في منطقة إثارة الوجدان ربماأكثر مما تنطبق عليه في منطقة تقرير الحقائق والأحكام والأفكار!
ما يحدث بشكل تلقائي في جلوس كل مسلم للتعبد بقراءة القرآن هو أنه إمّا أن يقرأه غير منغوم (كإلقاء الشِّعر recitativo) أو يضع له نغمًا وليد اللحظة. هذا النغم يختلف في درجة اتّساقِه وتوافقه الموسيقي من شخصٍ إلى آخر بحسب المهارة والإتقان وجودة الصوت. وغنيٌّ عن البيان أن هذا النغم يتسق وفق المقامات الموسيقية المعروفة مع القرّاء المهَرة بالقرآن، وَعَوا ذلك أم لم يَعُوه، تعمّدوه أم جاء معهم عفوا!
فوق ذلك، قد يقرأ القارئ الواحد الآية الواحدة بأكثر من مقامٍ في أحوالٍ مختلفة. وكلُّ قراءةٍ من هذه تؤثر في الوجدان بشكلٍ مختلفٍ عن الأخريات. الفيديوهات المهتمة بإيضاح المقامات الموسيقية في تلاوة القرآن أكثر من أن تُحصى. في الفيديو الأول هنا يقرأ الشيخ (عبد الباسط عبد الصمد) من مواضع مختلفة بالقرآن بالمقامات الأساسية كلها:
https://www.youtube.com/watch?v=I2MCfZw2QsU
أما في الفيديو التالي فيقرأ (منير محفوظ) الفاتحة فقط بالمقامات الأساسية:
https://www.youtube.com/watch?v=bgpSm24-0Bg
في الفيديو السابق يكتسب نص الفاتحة طابعًا وجدانيًّا مختلفًا مع كل قراءة، وهو طابَعٌ من الصعوبة بمكانٍ أن نحصره في تعبيرٍ لغويٍّ واضحٍ إلا أنه ليس مستحيلاً أن نقاربَه، فهو يبدأ بمقام الصَّبا بما يثيره من الحُزن الهائج الذي يجاوز حدّ الاحتمال، وربما يعود هذا لطبيعة المقام الذي يعتبَر مقامًا ناقصًا لأنه لا ينتهي عند درجة ركوزه (يبدأ بدرجة ري وينتهي بدرجة ري بيمول)، فكأنّ الفاتحة ترثي العالَم المشهود بكاملِه (أو ترثي عالَم ما تحت فلَك القمَر باصطلاح أرسطو الكلاسيكي!). ثم يقرأ بمقام نهاوند (السلّم الصغير) بحُزنه الأرستقراطي المتأمّل من بُعد، ثم ينتقل إلى مقام العجَم (سلّم كبير) وهو مقام يرتبط بالفرَح، كأن الفاتحة فيه تلخّص موكبًا ملائكيًّا للتسبيح وتأمل تناغُم الكون، ويتعالى على اهتداء المُنعَم عليهم وضلال الضالّين، وهو ما يذكّرُنا بشكلٍ ما بفيديو الحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي تتناول نفس الموضوع وتعطي انطباعًا قريبًا من هذا! بعد (العجَم) ينتقل القارئ إلى مقام (البياتي) بإحساسه الدافئ، كأن الفاتحة فيه تعبير عن الانتماء إلى أسرةٍ واحدةٍ متلاحمةٍ من المؤمنين بمصدرها المقدَّس. بعد (البياتي) تُقرأ الفاتحة في مقام (السيكا) بما يبعثه من إحساسٍ باللوعة، كأنها لوعة محاولة القارئ للتعلق بـ(صراط الذين أنعمتَ عليهم) والهروب من فرقتي (المغضوب عليهم) و(الضالّين). ثم ينتقل (منير محفوظ) إلى مقام (الحجاز) القائم أساسًا على مسافة النغمة ونصف النغمة (تون ونصف Augmented note) التي تثير إحساسًا بالحُزن هي الأخرى، لكنّه حُزنٌ محسوبٌ مؤقَّتٌ لا ينتهي إلى اللوعة. بعد (الحجاز) يأتي (الراست) المقام الأساسي في الموسيقى العربية بإحساسه الفَرِح بكل تفاصيل الآيات. تنتهي التلاوة بمقام (الكُرد) الذي يمثّل معادلاً مشرقيًّا للمزاج الفريجيّ Phrygian Modeفي الموسيقى الأوربية، بما يثيره من تأمُّلٍ حزينٍ قريبٍ من (النهاوند) وإن كان أكثر اشتباكًا مع التفاصيل وبالتالي أوفر حظًّا من الحُزن.
الشاهد أن النص القرآني بالطبع لا يمتلك بنية نغميةً خاصةً بعكس موقفه من الإيقاع. لكن يأتي اقتراح (تلحين) القرآن إشكاليًّا مع ذلك. وهذا لأنه يفترض أن يُسجن النص في بنية نغمية واحدة. إن اقتراح التلحين في هذا السياق إمّا أن يعني تقييد القارئ بالقراءة في تتابع نغمي بعينه وكفى، أو أن يكون ذلك بمصاحبة الموسيقى الآلية. المعنى الأول يتوافق مع جاء في مقال الأستاذ شريف حسن (تلحين القرآن: التاريخ الموسيقي الخفي للنص المقدس) المنشور على موقع (منشور) في 1 ديسمبر 2017: "يقول ضياء الدين بيبرس في مقاله إن عبد الوهاب كانت له محاولات لم تُنشر. ويشرح أن عبد الوهاب رأى أن القرآن نص عظيم ومقدس، وفيه تباين عظيم بين آيات العذاب والرحمة والجنة والنار، وأن قراءة هذه الآيات كلها، على حد سواء، تُضعف التأثر به". لكن ما يبدو أنه فات موسيقار الأجيال في هذا التصريح المنقول عنه هو أن افتراض أن قراءة نصّ – أي نصّ – بلحن معين فقط يتماشى مع المفهوم من هذا النص فيه شكل من أشكال الَحجر على الإمكانيات التعبيرية الاستثنائية التي تمنحها الموسيقى للنص. هذا التصريح من موسيقار الأجيال يحيلُنا إلى كتاب (الأغاني الحلوة والأغاني المُرّة: أساليب التلحين العربي) للملحن الراحل أ. محمد قابيل. في فصل (الأسلوب الزخرفي) من الكتاب ينتقد المؤلفلحن الراحل (فريد الأطرش) لأغنية (يا حبايبي يا غايبين) في مقام البياتي، استنادًا إلى أنه وضع لحنًا (فَرِحًا) لكلمات حزينة. المتأمل للأغنية بعيدًا عن نقد الكتاب يجد أن المقام بدفئه أنطقَ الكلماتِ بما لم تقله صراحةً، وهو أن المطرب من أول لحظة في اللحن يشعر بدفء أحبابه الغائبين كأنهم لم يغيبوا، وهي إمكانية تعبيرية كامنة في النص، ما كان لها أن تتفجر على هذا النحو إلا بلحن فريد الأطرش!
https://www.youtube.com/watch?v=Ea2lQvyZny0
كذلك فإن هذا التصريح يقف في مواجهة مغامرات (عبد الوهاب) التلحينية نفسها، فمن كان يُصَدق أن نشيد (دقت ساعة العمل) يُلَحَّن في مقام الهُزام من فصيلة السيكا؟! المقدمة الموسيقية المتراوحة بين الهزام والنهاوند تَخلُص في النهاية للهزام لتسلّم الكورال الذي يغني هو الأخر في الهزام مقام اللوعة! في الحقيقة، أنطق لحن (عبد الوهاب) الكلمات "دقت ساعة العمل الثوري لكفاح الأحرار. تعلن زحف الوطن العربي في طريقه الجبار"بكل طاقة اللوعة واللهفة لتحقيق التحرر القومي وما يليه من إنجازات! ومَن كان يصدّق أن نشيد (طول ما أملي معايا معايا وف إيديا سلاح) يمكن أن يُلحَّن في مقام الصَّبا الحزين، حتى يمكن أن يوحي إلى مستمعه بأنه رثاء لكل شهداء السلاح حتى لحظة الأغنية؟ كان المتوقَّع في إقدام أي ملحّن على التصدي لأغنية وطنية ثورية حماسية أن يبتعد بها عن مقامات ثلاثة أرباع التون المرتبطة في الوعي الجمعي بالتطريب، لكن (عبد الوهاب) كان له أن يقلب هذا التوقع بسلوكه دربًا غير مطروقة.
الشاهد أنه حتى الوتيرة الواحدة في قراءة القرآن كفيلة بإنطاق النص بحمولات وجدانية كامنة فيه وليست غريبةً عنه، طالما أن البنى النغمية المختلفة تفعل ذلك بالفعل مع النص القرآني كما تفعله مع غيره.
https://www.youtube.com/watch?v=7Kh61nqYmks
https://www.youtube.com/watch?v=YVEROaVsYdo
أما مصاحبة الموسيقى الآلية فإنها إما أن تكون وفق لحنٍ محدد سلفًا بالفعل وإما أن تكون ارتجالاً. حالة اللحن المحدد سلفًا هي الأخرى لها أكثر من احتمال، فإما أن يكون اللحن ينتظم النص مع أداء الآلات كما في أغنية الإيراني (محسن نامجو) التي أوردها الأستاذ شريف حسن في مقاله كذلك، وإما أن يكون اللحن للآلات فقط فيما يشبه الخلفية للتلاوة كما في المقطع الصوتي من فيلم (بابا عزيز) الوارد في نفس المقال.
في تجربة (بابا عزيز) لم يحدث تلحين للقرآن، وإنما وُظِّفت التلاوة مع الخلفية الموسيقية في سياق درامي محدد. ساعد على وضوح هذا الانفصال بين المكوِّنين الموجودين في المقطع الصوتي أن الموسيقى الآلية كانت تعزف تآلفات في سلم صغير (مقابل النهاوند) بينما التلاوة بدأت في مقام (قارجهار – شُورِي) من فصيلة البياتي، وعند قوله تعالى "فتقبل منّي إنك أنت السميعُ العليم"تحولت التلاوة إلى مقام الراست، وهما مقامان من مقامات ثلاثة أرباع التون غير القابلة للهرمنة أو العزف المتآلف في العُرف الموسيقي المستقر.
أما تجربة (نامجو) فهي تجربة تلحينية بالطبع، فمُرَجّع الآهات في مقام (نهاوند) يسلم الغناء في سور التكوير والمزمّل مثلاً في مقام الصَّبا، مع إسقاط – يبدو عن غفلة – لبداية آية "أو زِد عليه ورتّل القرآنَ ترتيلا"في بناء لحني واضح، وهو بناء يبدو أميَل إلى التناص الساخر parodyمع القرآن، ويصعب أن يخطئ المتلقي هذا، لاسيَّما مع اقتباس المطرب من قصيدة (كلمات) التي شدت بها (ماجدة الرومي)!
الخلاصة أن محاولة إخراج تلاوة القرآن من طريقة الارتجال/ الأدليب (Ad libاصطلاح موسيقي مختصر من اللاتينية Ad Libitumبمعنى: حسب رغبة المؤدّي) المتوارثة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى اللحن المحدد سلفًا تنطوي غالبا على مخاطر متعلقة بأن يَضرب الموسيقيُّ صفحًا عن القواعد المَرعِية في التلاوة، فضلاً عن سَجن النص في قالب نغمي بعينه مما يُضعف الأثر الوجداني لتلقي القرآن.
تعضِّد هذه النقطةَ الأخيرةَ دراسةٌ قام بها مجموعة من الباحثين في جامعة (أرهوس) بالدنمارك وتتعلق بنتائج الفحص بالرنين المغنطيسي الوظيفي لمراكز المخ المسئولة عن المشاعر أثناء الاستماع إلى مقطوعاتٍ في السلم الصغير وتآلفات وتنافرات نغمية مختلفة لدى عينة بحث مكونة من موسيقيين وغير موسيقيين:
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/16597801
ومن نتائج الدراسة أن التأثر الوجداني بالمقطوعات المستمَعَة كان أقوى في حالة انعدام نية تعلُّم التتابعات النغمية وتذكُّرها، وهو ما ينعكس بوضوحٍ على موضوع مقالنا، حيث قد يؤدي اللحن المحدد للقرآن إلى ضعف التأثر الوجداني به لأن اللحن يقدَّم بصفته منجزًا فنيًّا قابلاً لتكرار الأداء عددًا لانهائبًّا من المرات، وبالتالي يوجِد اللحن عَقدًا ضمنيًا مع المتلقين، بمقتضاه يعملون واعين وغير واعين على حفظ اللحن. في تقدير كاتب هذا المقال، يتنافى هذا على مستوىً أعمق مع الحديث الشريف الوارد في صحيح (مسلم): "تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسُ محمدٍ بيَدِهِ لَهُوَ أشدُّ تفلُتًا من الإبِلِ في عُقُلِها". بالطبع فإن المعنى الشائع للحديث يتعلق بحفظ النص القرآني، لكنه يحتمل كذلك أن الأثر الوجداني للقرآن بدوره أشد تفلتًا من البعير في عقاله، وقد أُرِيدَ له ذلك من البداية ليكون هذا دافعًا إلى تعاهُده من قِبَل المؤمنين به وتجديد علاقتهم الوجدانية بالنص المقدس على نحوٍ مختلِفٍ في كل تلاوة.
ثالثًا – الهارموني والكونترابنط:
ربما يحدثان بشكل معقد إذا اعتمدنا تزاوج الموسيقى الآلية مع التلاوة، أو أبسط من هذا إذا تعلق الأمر بمجموعات من القراء تقرأ في تآلفات نغمية في المقامات القابلة للهرمنة (العجم والنهاوند والكرد والحجاز وفروعها ومشتقاتها الخالية من ثلاثة أرباع التون)، أو في أكثر من خط نغمي مختلفة ومتزامنة. من الصعب الحَجر على مثل هذه التجربة قبل أن تحدث! في تقديري أنها يمكن أن تخرج بصورة طبيعية من المقارئ التي تُعقَد في المساجد الكبرى إذا أَولَت دراسة المقامات الموسيقية قدرًا من الاهتمام، لكن سيظلّ أثر مثل هذه الخطوة على الخشوع وعلاقة المستمع بالنص القرآني ومُرادِه محل خلاف بالطبع.
كلمةٌ أخيرة:
في تقدير كاتب المقال، يمثل سعي بعض الموسيقيين من آنٍ لآخر لتلحين القرآن وجهًا من أوجُه الصراع اللطيف تارةً الخشن تارةً بين الدين والفن، بنفس القدر الذي يمثل به محاولةً من الفن (لخدمة) الدين، وربما أكثر. ففي مقابل وجهة النظر الفقهية الإسلامية التي تحرّم الممارسة الموسيقية على إطلاقها، يحاول الفنانُ بَسطَ سلطانه على أخص خصائص الدين ليؤكد وجوده واستعلاءه. وعلى صعيدٍ آخر، يمثل هذا السعي القديم الجديد – حيث يُروَى أن (إسحاق الموصلي) حاول تلحين القرآن وتصدى له الإمام أحمد بن حنبل - مسيرةً طبيعيةً للفن الذي لا يعرف الحدود ولا يعترف بالعوائق ويحاول أن يستقدم كل مفردات العالَم إلى مملكة الوجدان التي يعلن نفسه حاكمًا لها ولا يرضى مشاركة الدين فيها! ومن منطلق ماركسي تمامًا في التحليل، وإذا ذهبنا مع (ماركس) إلى أن الدين والفن مكوِّنان في البنية الفوقية لكل مجتمع، فإن الفن باحتفائه بالجمال وانطلاقه دون حدود يُعَد قاطرة كل حضارة بشرية إلى المستقبل، بينما الدين بقيوده وتركيزه على الأخلاق (بصفتها قِيَمًا سلبيةً تنبع من تجنُّب الشر أساسًا) والخيط المحوري فيه والذي يحتفي بلحظةٍ ماضيةٍ بصفتها مرجعيةً لفهم كل شيء ومقياسًا لكل تصرف إنساني، فضلاً عن درجةٍ ما من القصور الذاتي تبدو مهمةً لتُوصَفَ أيُّ مجموعةٍ من المعتقدات ووصايا السلوك بأنها دين، لكل هذه الخصائصِ يُمَثّل الدينُ كابحًا قويًّا لمسيرة الحضارة ومحاولةً لإبقائها على حالها الراهنة بقدر الإمكان. الشاهد أن توقعي هو أن تستمر محاولات تلحين القرآن رغم تحفظي عليها مع فريق المتحفظين! وذلك أن مسيرة الفن – التي هي مسيرة الحضارة – تفترض ذلك، ربما في محاولةٍ من الفن لتجاوز النص القرآني (بإخضاعه لقواعد الفن يفقدُ خصوصيتَه التي يتغني بها المتدينون من أمثال كاتب ها المقال، وفي هذا بحد ذاته انتصارٌ للفن).
يتعلق هذا التجاوز بما أجترئُ على أن أُسَمِّيَه (أثر البرواز Frame Effect)، وأعني به قدرة بعض الإجراءات المحددة المرتبطة بالممارسة الفنية على أن تصبغ كل ما يقترب منها بصبغة الفن وتجعله قابلاً للنقد بصفته فَنّا. في الحقيقة اشتققتُ هذا الاسم من ظاهرة اللوحة التشكيلية البيضاء أو المحتوية خطًّا لونيًّا واحدًا لا يفصح عن أية معالم. هذه (اللوحة) بتأطيرها في بروازٍ تتحقق لها (الفنّية) بشكلٍ ما وتصبح موضوعًا للنقد التشكيلي. وقُل الأمر نفسه في الورق الأبيض المُدرَج في كتابٍ يحمل اسم (ديوان شِعر). في موضوعنا يقوم أداء الآلات الموسيقية في مصاحبة التلاوة بالمعادل الموسيقي لهذين المثالَين ويمهَد لـ(أنسَنَة) النص القرآني، ومِن ثَمَّ محاولة تجاوُزِه.
................
محمد سالم عبادة
10 ديسمبر 2017
https://manshoor.com/authors/mohamed.salem.obada/
ربما يذكر كثيرون هذا المشهد من فيلم (رصيف نمرة 5) للراحل (نيازي مصطفى) من إنتاج عام 1956، حيثيواجهالشاويش خميس (فريد شوقي) المعلم بيومي (زكي رستم) في المسجد بعد أن يفرغ الأخير من الصلاة، بأن يقدِّم إليه مسبحته المنفرطة دليلاً على كشفه أمر تورُّطه في قتل زوجته، وحين يحاول المعلم بيومي الهرب من المواجهة بأن يقوم ليصلي ركعتين لله، يقطع (فريد شوقي) عليه صلاته قائلاً: "لأ لأ لأ، دانا عاملها قبل منّك"، في إشارة إلى مشهد من فيلمه (جعلوني مجرمًا) للراحل (عاطف سالم) من إنتاج عام 1954، حيث يهرب من إلقاء القبض عليه بالصلاة في المسجد.
https://www.youtube.com/watch?v=uQ_XQj6La-I
أن يُحِيلَ الممثلالجمهور إلى أعماله السابقة، فهذا التصرف واحد من تخريجات مصطلح (كسر الحائط الخامس)، باعتبار هذا الحائط المعنوي يفصل بين العمل الحالي والأعمال السابقة. جديرٌ بالذِّكر أن المصطلح امتدادٌ للمصطلح الأقدم الأشهر (كسر الحائط الرابع) حيث يكسر الممثلون في المسرح (أو السينما أو التليفزيون) الحائط الوهمي الذي يفصلهم عن الجمهور ويخاطبونه في إشارةٍ إلى الطبيعة الخيالية للدراما ولشخصياتهم.
في الحقيقة فعلها كثيرون، في كلِّ مكانٍ في العالَم بالتأكيد! قد يكسر أحد الممثلين الحائط الخامس لزميله، مثلما فعل الممثل (الطفل آنذاك) أوستن أوبرايان في فيلم (بطل الأكشن الأخير Last Action Hero) في حديثه مع (أرنولد شفارتزينيجر)، حيث أشار إلى (فريد مراد الإبراهيم) بعد خروجه من الكادر بأنه "قد قتل موتسارت"، مستدعيًا بذلك دور (الإبراهيم(في شخصية الموسيقار (أنتونيو سالييري) في فيلم (أماديوس Amadeus) الذي أُنتِج عام 1984، أي قبل (بطل الأكشن الأخير) بتسع سنوات.
https://www.youtube.com/watch?v=5egsTEUS17s
ومثلما فعل (عادل إمام) في مسرحية (الواد سيد الشغال) أثناء حواره مع (عمر الحريري) حيث ذَكَر دور (الحريري) في (ألف ليلة وليلة) مجسِّدًا شخصية الملك (كهلان).
https://www.youtube.com/watch?v=G4iJQ87Y304
يأتي كسر الحائط الخامس أكثر اتّساقًا مع فكرة الخروج عن النص، وذلك أنّه من الصعوبة بمكانٍ أن نفترض أن الكاتب المسرحي أو كاتب السيناريو في الأمثلة السابقة وضع في نصِّه هذه الإحالات الواضحة إلى أعمالٍ سابقةٍ للممثلين، إلاّ إن كان يكتب وفي ذهنه أن (فريد شوقي) و(مراد الإبراهيم) و(عمر الحريري) تحديدًا هم من سيقومون بتلك الأدوار. الأقرب إلى طبيعة الأمور أنَّ الإحالة حدثت عفوًا وبشكلٍ تلقائيٍّ تمامًا أثناء تصوير (رصيف نمرة 5) و(Last Action Hero) وكذلك في (الواد سيد الشغال).
في كتابه (ازدهار وسقوط المسرح المصري) يستعرض الناقد المسرحي الراحل (فاروق عبد القادر) ثلاث مراحل هامّة مرّ بها المسرح المصري في تقديره، أولها مرحلة التكوين قبل يوليو 52 (حيث مسرح نجيب الريحاني ويوسف وهبي وعلي الكسّار)، ثم مرحلة الازدهار (في خمسينيات ومعظم ستينيات القرن العشرين) ثم السقوط منذ النكسة إلى زمن انتهائه من هذا الكتاب في أواخر السبعينيات. ما نلاحظه بسهولةٍ رغم أنّ (فاروق عبد القادر) لا ينصّ عليه صراحةً، هو أن الناقد الكبير في استعراضه هذا لم يتوقف طويلاً (هو لم يتوقف إطلاقًا إن لم تكن الذاكرةُ قد خانتني) عند أسماء أبرز الممثلين الذين قامت على أكتافهم النهضة المسرحية التي يتحدث عنها في الخمسينيات والستينيات، بينما في مرحلة التكوُّن (التي أدانها بشِدّة واعتبر بريقها التاريخيَّ بريقًا زائفًا) ومرحلة الانهيار أفاض في سرد أسماء الممثلين الذين حققوا إيراداتٍ استثنائيةً للمسرح التجاري على خلفية نصوصٍ ضعيفةٍ أو سطحيةِ التناوُل في تقديره.
الشاهد من هذه الملاحظة أنّ الممثلين يتوارَون خلف النص أو يذوبون فيه تمامًا في الدراما الجيّدة من وجهة نظر (فاروق عبد القادر). فمسرحيات (ألفريد فرج) و(ميخائيل رومان) و(صلاح عبد الصبور) و(عبد الرحمن الشرقاوي) – رغم حملة (فاروق عبد القادر) على هذا الأخير لأسبابٍ خارجةٍ عن موضوع هذا المقال – أذابت المؤدِّين على خشبة المسرح تمامًا، بينما أتاحت النصوص الأكثر سطحيةً صعود نجم الثلاثي (فؤاد المهندس) و(شويكار) و(عبد المنعم مدبولي) في المسرح التجاري.
نعود من استطرادنا الطويل إلى مسألة كسر الحائط الخامس. في تقديرنا أنّ إمكانية حدوث هذا الكسر تختلف باختلاف الوسيط الذي تُعرَض من خلاله الدراما، كما تختلف حسب مدى شهرة المؤدِّين وجماهيريتهم. في السينما والتليفزيون حيث تُعاد المشاهد مرّاتٍ ومرّاتٍ حتى تنضبط كما يراها المُخرج، وحيث ينفصل المؤدُّون عن الجمهور مكانيًّا وزمانيًّا، تقلُّ فرصة الخروج عن النص إجمالاً، وتقل بالتالي فرصة كسر الحائط الخامس. أمّا في المسرح حيث العلاقة بين المؤدّي والمتلقّي أوفر حظًّا من الحميميّة، وحيثُ مردود الجمهور من الاستحسان والتصفيق قريبٌ للغاية من الممثلين، تزداد بالطبع فرصة الخروج عن النص، ومعه كسر الحائط الخامس.
إلاّ أنّ عامل شهرة الممثلين يظلّ مُحَدِّدًا بالغ الأهمية في احتمال حدوث هذا الكسر، فمن نافلة القول أنّ ممثلاً ناشئًا حديث عهدٍ بالكاميرا أو ممثلاً مغمورًا أفنى حياته على المسرح دون أن يحظى بالجماهيرية لن يجد رصيدًا من الأعمال المعروفة عند الجمهور يُحيلُه إليه من الأساس.
وهناك عاملٌ آخَر شديد الأهمية ويرتبط بعامل الشهرة، هو حضور الكاميرا وإمكانية تسجيل العرض. بإمكاننا أن نتخيل مئات المرّات التي صعد فيها ممثلو (الواد سيد الشغال) خشبة المسرح ولم يُشِر فيها (عادل إمام) إلى دور (عمر الحريري) في (ألف ليلة وليلة)، لكنّ حضور الكاميرا مرّةً واحدةً فقط كفيلٌ بإغرائه بهذا الكسر.
ما يحدث في كسر الحائط الخامس أشبه بأن يكون معادلاً موضوعيًّا من ناحية الممثِّل لنشر الأعمال الكاملة لمؤلّفٍ مسرحي. الممثل في هذا الكسر (يَنشُر) بالفعل سِجِلَّ أعماله السابقة أمام المتلقِّين داعيًا إياهم بشكلٍ غير مباشرٍ إلى إجلال مشواره الفنّي وتقدير ظهوره أمامهم.
يمكننا أن نرى في هذا (الكَسر) شكلاً من أشكال انتقام محترفي التمثيل لأسلافهم الممثلين الذين جسَّدوا آلاف الأدوار على المسرح منذ (إسخيلوس) و(سوفوكليس) و(يوريبيديس) و(أريستوفانس) اليونانيين إلى ما قبل اختراع التصوير السينمائي وتصوير الفيديو! هؤلاء الأسلاف هم من أعطَوا النصوص المسرحية لحمَها الحقيقيّ الذي شاهدها به جمهور العصور الغابرة، دون أن يكون لهم نصيبٌ من المجد الاستثنائيّ الذي حظِيَ به كتّابُ الدراما، فمجدهم في الحقيقة انتهى بموتهم، ولم يبقَ منهم إلا القليل من الحكايات المتناثرة هنا وهناك في سطور المؤرّخين.
أمّا وحوش التمثيل (الكاسِرَة) التي ظهرت مع مقدَم تصوير السينما والفيديو، فلها أن تُخَلِّد اسمَها بكل الطرُق أمام الكاميرا، ولا يمكن في الواقع الحَجر على هذه الطرُق.
بالطبع يمثّل هذا قيمةً سلبيةً لدى قامةٍ من قامات النقد المسرحي كالراحل الكبير (فاروق عبد القادر)، تنضافُ إلى تهافُت النصوص وسطحيتها المحرضة على الخروج عليها في الأداء في وجهة نظره، لكنّ هذا لا يغيّر من الواقع شيئا. نحن أمام مسرح (الممثل) في مواجهة مسرح (المؤلِّف). في الحقيقة لا يتبني كاتبُ هذا المقال رأيَ (فاروق عبد القادر) بصورةٍ تامّةٍ ولا يرى تلازمًا محتومًا بين مسرح (الممثل) والانهيار، بقدر ما يعنيه رصد الظاهرة ومحاولة فهمها على الوجهِ السالفِ بيانُه.
ختامًا، نتذكّر رأيًا عابرًا للشاعر والمسرحي الكبير الراحل (صلاح عبد الصبور)، أورده في مقدمةٍ لمسرحياته الشِّعرية، حيثُ يُبدي أسفَه على خسارة المؤلف المسرحي المعاصر دورَ المُخرِج لنصوصه على خشبة المسرح. في تقديرنا أنّه ربما ليعود المؤلفُ المسرحي (وكاتب السيناريو بالتبعية) إلى مكانة ما قبل الكاميرا، فعليه أن يتجاوز طموح (صلاح عبد الصبور) في الإخراج إلى الظهور في لحم الدراما كممثل. منذ أكثر من أربعة قرونٍ، لم يكن لـ(شيكسبير) أن يحلم بكل هذا المجد لو كان قد بقيَ مجردَ ممثلٍ في فرقةٍ مسرحية، حتى لو كان أعظم ممثلٍ في عصره. أمّا لو عاد (شيكسبير) إلى الحياة بعد الكاميرا، فربما لم يكن ليجد نفسه مضطرًّا لكتابة حرفٍ واحدٍ مادامَ ممثلاً جذّابًا تلاحقُه العدسات!
محمد سالم عبادة
24 يناير 2018
نُشِر هذا المقال على موقع (منشور) في 29 يناير 2018
رابط المقال:
https://manshoor.com/art/breaking-fifth-wall-acting/
https://www.youtube.com/watch?v=H5I_DNMtknI
ربّما ليست هذه أقدم قلشة في تاريخ السينما المصرية كما يقول عنوان المقطَع على يوتيوب. لكنّها على كلّ حالٍ تصلح مقدمةً لهذا المقال بشكلٍ اعتباطيٍّ تمامًا.
في كتابه العلامة (الضحك: البحث في دلالة المُضحِك Le Rire. Essai sur la signification du comique) يَخلُص الفيلسوف (هنري برجسون) إلى أنَّ تحوُّلَ الحياة إلى نظامٍ آليٍّ هو أصل الإضحاك في كل أنواعِه ومهما تعددت طرائقُه ومواقفُه. ما يحدُث في مقطع الفيديو السابق هو أن (محمد رضا) يُحوِّل مجرى الكلام اتّكاءً على تشابُه كلمتين هما (دهب) بمعنى الذهب (المعدن النفيس) و(ذهب) الفعل الماضي. الطبيعيّ أن يتصفَ الكلامُ بالحيوية والانسياب التلقائي تبعًا للموقف، وهو ما يحدث في المشهد حتى تقول نيللي الجملة الأخيرة، ثُمّ نكتشف مع جملة "دهب مع الرِّيح"لمحمد رضا أنّ هناك آليّةً كامنةً في الكلام كانت تنتظر من يَكشف عنها. هذه الآليّة تعبّر عن نفسها من خلال فقدان الكلام لوظيفته الاتصالية وكأنَّ (آلةَ) الكلام – لا الكائن الحي المسمَّى (كلامًا) – تعطَّلت في هذه اللحظة!
هكذا تتحدد طبيعة القلش! عُطلٌ يَحدُث في ماكينة الكلام يلفِت انتباهَنا إلى أنها ماكينةٌ وليستَ كائنًا حَيًّا كما ظننّاه. وبهذا يصبح القلش نوعًا شديد الخصوصية من النكتة. فالنكتة المعتادة تستخدم الكلام كوسيط لنقل مشهد – يمكن أن ينقُلَه المسرح أو السينما أو غيرُهما من الوسائط – ينبُع فيه الإضحاك من آليّةٍ نكتشفُها في تيار الحياة عبر موقفٍ محدّد (مثل موقف: الغبي اللي دخل امتحان فطلع التاني، حيث ينكسر المنطِق وتتعطل طبيعة الأمور في تآمُر غريب لإثبات غباء بطل النكتة). أمّا في القلشة فلا يوجدُ مشهدٌ يُحاول القلاّش أن يستحضرَه أمام خيالِنا، وبهذا يصبح الكلامُ مادةَ القلشة ولحمتَها وسداها، لا مجرّد وسيطٍ لنقل موقفٍ متخَيَّل.
ولهذا قد تطول النكتة وقد تقصُر حسب الموقف المتخَيَّل فيها، أمّا القلشة فالطبيعيُّ أن تكون شديدة القِصَر، حيث العُطل يحدث في وظيفة الكلمة الواحدة داخل الجُملة. بالطبع يوجد شكلٌ هجينٌ من مادّة الإضحاك يجمع النكتة التقليدية مع القلشة، مثل النكتة القديمة البايخة "مرّة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاي"، وفي الغالب تميل مثل هذه النُّكَت إلى القِصَر الشديد ولا تتمتع بقوّة الإضحاك التلقائيّة التي يتمتع بها القلش. ويَلحَق بهذه الموادّ الهجينة نمَط خاصّ من النُّكَت المُحَمَّلة بالتساؤلات اللُّغَوِيّة، مثل النكت التي ظهرَت في تسعينيات القرن العشرين بين شباب الجامعة في مصر، ومنها:
"– شايف الـsubstitutionاللي واقفة في البلكونة؟!
- يعني إيه بلكونة؟!".
عودًا إلى برجسون، يقترحُ كتابُه المُشارُ إليه في بداية المقال دورًا أخلاقيًّا للضحِك، ففي تلقِّي مسرحيةٍ كوميديةٍ كـ(البخيل) لموليير مثلاً، نضحك من فُقدان (آرپاجون) بطل المسرحية مُرونةَ الحياة وتحوُّلِه ضمنيًّا إلى آلةٍ مهمتُها الحفاظ على المال بكل الطرُق، وفي هذا الضحك عقابٌ افتراضيٌّ لخصلة البُخل، وبهذا يصبح الضحكُ وسيلةَ المجتمع للحفاظ على حيويته ككُلٍّ وحيوية أفرادِه.
إذا قفزنا من هذا الاقتراح إلى طبيعة القلش كما بَسَطناها منذ قليلٍ، فسنشعر بالحيرة أمام ظاهرة الضحك من القلش. القلاّش يقف على الكلمات ويجرّدها من مرونتِها بمحض إرادته ليُضحِكَنا، فأيُّ عقابٍ في الضحك هنا؟ وما مردودُ الضحكِ في إعادة الحيوية إلى الكلمات؟!
ينقذُنا من مأزق هذا السؤال فيلسوفٌ آخَر هو (سارتر)!
في كتابه (ما الأدب؟ Qu'est-ce que la littérature?) يَبسُط (سارتر) عقيدتَه بخصوص الفَرق بين الأنواع الأدبية السردية (من رواية وقصّة ومسرح) من ناحيةٍ، والشِّعر من ناحيةٍ أخرى. عنده أنّ السَّردَ بالضرورة مُلتَزِمٌ ووثيقُ الصِّلة بالسياقاتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ والتاريخيةِ لكاتبِه، وبالتالي فهو (دالٌّ على شيء)، بينما في الشِّعر – كما في الفن التشكيلي والموسيقى الخالصة – يصبح العملُ نفسُه هو (الشيء) محلّ التأمُّلِ والتأويلِ الجماليّ. ويصف (سارتر) الشاعرَ بأنه يعيش خارج اللغة، ولا يستخدمُها بالطرُق التي اصطلح الآخَرون على استخدامها بها، وإنما ينتزعُ المفردات من سياقِها المتعارَفِ عليه ليُبدِعَ لها سياقاتٍ بديلةً جديدةً، وهو بهذا (يَخدُم) اللغةَ في مقابل الروائي الذي (يستخدمُها). وفي هذه العقيدة الفلسفية نجد عند (سارتر) أصداء من الفيلسوف المثالي الإيطالي (بندتّو كروتشه) الذي اعتقدَ أنَّ الشِّعر أسبَق في الوجود من النثر، على اعتبار أنّ النشاط الإنساني الأول في إطلاق أسماء جديدةٍ على الموجودات أدخَلُ في الشِّعر منه في النثر.
صحيحٌ أنَّ هذه النقطةَ عند (سارتر) انتُقِدَت كثيرًا على اعتبار أنَّ المثال الشِّعريَّ الذي تأمَّلَه ليَخرُجَ بهذه التعميمات كان شِعرَ الرمزيين الفرنسيين من (فيرلان) إلى (فاليري) خاصةً، وهم المشهورون بانتزاع المفردات من سياقاتها اللغوية المعتادة، إلاّ أنَّ للتعميم وجاهتَه رغم ذلك، فحتى في أكثر النصوص الشِّعرية تماسُكًا من ناحيةِ المَشهدية تظلُّ مقاومةُ الشاعر لإغراء الإخلاص لجمال اللغة المحض أضعفَ من مقاومة الروائي والكاتب المسرحي!
الشاهدُ مِن تأمُّلِ هذه التفرقة بين الشعر والسرد عند (سارتر) أنَّ ما يحدث في القلش أقرب ما يكون إلى ما يحدث في الشِّعر! حين يرُدّ (محمد رضا) على (نيللي) في مقطع الفيديو قائلاً "دهب مع الريح"، لا يَنصُبُ أمامَ عينِ خيالِنا مشهدًا بعينِه، وإنما يُخلِص لِلُّغَة في ذاتِها ويُخَلِّصُها من حالة الوسيطيّة لتُصبحَ هدفَه الوحيد. لا يعود هناك شكلٌ ومضمونٌ لمادة الإضحاك، فالشكل هو المضمون، تمامًا كما في الموسيقى الخالصة، وفي الشِّعر كذلك عند (سارتر) ومَن قال برأيِه!
بعيدًا عن هذا التأمُّل الفلسفي لظاهرة القلش، لن نخسر شيئًا إذا راجَعنا مادة (قلش) في (لسان العرب)، لنجد أنّ المفردةَ الوحيدةَ المتولِّدةَ من هذه المادة هناك هي (أَقلَش)، ويعرِّفُها ابنُ منظور صاحب اللسان بأنها "اسمٌ أعجميٌّ وهو دخيلٌ، لأنه ليس في كلام العرب شِينٌ بعد لامٍ في كلمةٍ عربيةٍ مَحضة، إنما الشيناتُ كلُّها في كلامهم قبل اللامات". أمّا في قاموس المعاني فنجد في تعريف كلمة (قَلاّش): "اسم علَمٍ تُركِيٌّ معناه الداهية المحتال، وورد كذلك في اللغتين الفارسية والكُردية بمعنى التافه، العاطل المحتال".
شخصيًّا، لا أعرفُ إن كانت مفردة القلش - قبل أن تكتسب في السنوات الأخيرة معناها الذي ندور حولَه في هذا المقال – كانت تُتَداوَل بعيدًا عن التعليق على مباريات كرة القدَم، حيث اللاعب (يقلش) الكرة إذا خرجت من ركلتِه في غير الاتجاه الذي أرادَها فيه. اصطدمتُ بالمعنى الجديد للمرّة الأولى في لقاءٍ مع صديقٍ – ربما بعد 25 يناير – وصفَ ما أفعلُه بتلقائيّةٍ بأنه (قلش)، واستخدم جملة "انت قلاّش؟ ويتحب تاكل جُلاّش؟"لأعرفَ فيما بعد أن (أحمد مكي) قالها في فيلم (طير انت).
المهم أنّ هذا الاستخدام الجديد للمفردة، والذي يَستَحضِرُ دائمًا مَشهدَ اللاعبِ الذي يَركَلُ الكُرةَ فلا تطاوعُ إرادتَه، يوقعُنا في مفارقةٍ دالّةٍ، مفادُها أنَّ الفِعل الحافلَ بالقصديّةِ المتمثّلَ في انتزاع الكلمات مِن سياقِها الطبيعي وإفقادِها مرونتَها، يوصَفُ بمفردةٍ ترتبطُ في خيالِنا باللاقصدية والاعتباط (في عصيان الكرة لقدم اللاعب)! هل هي بالفعل مفارقةٌ دالّة؟! ربما نعودُ إلى دلالتِها بعد قليل!
قفزًا إلى ما قبل ظهور هذا المعنى مباشرةً، نجد أنّ (القفشة) كانت هي المفردة الدالّة على سرعة البديهة وخِفّة الدَّم لعقودٍ طويلةٍ عند المصريين خاصة. فكثيرون يتحدثون عن قفشات أم كلثوم وقفشات كثير من المشاهير. والقفشُ في (لسان العرب) يُطلَقُ على النكاح والأكل في شِدَّةٍ كما يُطلَق على الجَمع، والأقرب للمعنى المقصود هنا هو الجَمعُ أو الاصطياد، فالقفشَجي – كما اعتاد المصريون تسميتَه – هو ذلك الذي يصطاد التفاصيل التي يغفل عنها الآخَرون وينسج حولَها نكتةً تُحيلُ المستمعين إلى موقفٍ مضحكٍ متخَيَّل، ونتمسّك بهذا التعريف حتى ولو خلَطَ بعضُ الناس بين القفشة والقلشة كما في الرابط التالي!
نقطتان بخصوص القفشة مهمّتان هنا: الأولى أنّها تَستخدِمُ اللغةَ كوسيطٍ لاستحضار مضمونٍ مشهديٍّ متخَيَّل، لا كما في القلشة، والثانية أنّ الأسلافَ سمَّوا من اشتُهِر بهذا الفعل: (قفشَجي)! المقطع (جي) له ظروفه التاريخية لأنه يدلّ على النسَبِ للحِرفةِ في اللغة التركية التي تأثرت بها العاميةُ المصريةُ وكثيرٌ من العامّيّات العربية لظروفِ وقوعِ كثيرٍ مِن الأقطار العربية تحت الحكم العثماني. وهو بهذا يَفتَرِضُ أنّ (القفشجي) يَمتَهِنُ (القفشَ)، فكأنه يتكسّبُ به، والشاهدُ هو القصديّة الّتي توحي بها التسمية.
أمّا (القلاّش) فهي مجرد صيغة مبالغة من (قَلَشَ) – ذلك الفعل المستحدَث – لا تفترضُ في ذاتِها قصديّةً من أي نوع، فربما يكون هذا القلاّش مريضًا ولا يستطيعُ فكاكًا من دافعٍ مبهَمٍ لديه يحثُّه على مواصلة القلش!
نعودُ هنا إلى المفارقة التي أرجَأنا الحديثَ عنها منذ قليل. هنا ترتبط استعارةُ مفردةِ (القلش) من ملاعب كرة القدم (حيثُ تعصي الكرةُ قَصْدَ اللاعب)، بالتواطؤ المجتمعي على اختيار صيغة المبالغة – المحايدة بخصوص القصدية أو عدمِها – لتسمية فاعل القلش، فلم نجد كثيرين يسمُّونَه (قلشَجي) مثلاً على غرار (قفشَجي)!
لا أحبُّ أن أبدُو قافزًا من مقدماتٍ بسيطة إلى نتائجَ هائلةٍ غيرٍ مناسبةٍ للمَقام، لكن يبدو لي أنَّ لهذا التآمُر اللاواعي على إظهار هذا الفعلِ - الحافلِ بالقصديّة والمُدَمِّرِ للُّغة كوسيطٍ للتواصُل من أجل الإضحاك – بمظهر الفعل العبثي اللاإرادي، علاقةً وثيقةً بتزايُد إحساس مجتمعاتِنا بالعبثية. ربما تكون العبثية سياسيّةً ومجتمعيّةً عند الغالبية العظمى من الناس، وربما تكون عبثيةً كونيةً عند قِلَّةٍ منهم، إلاّ أنها هناك حاضرةٌ بالتأكيد!
ختامًا، أزعُم أنّ ظاهرةَ تفشّي تعاطي القلش في المجتمَع تؤهِّل القلش كظاهرةٍ جَماليّةٍ لدخول حلبة المنافسة مع الرواية والدراما في الجدَل النقدي العربي الذي أدارَه أستاذنا د.جابر عصفور بمقولته (زمن الرواية) وأستاذنا د.حسن عطيّة بمقولته المضادة (بل هو زمن الدراما). فالقلش مِن ناحيةٍ ليس بعيدًا عن الشِّعر إذا تأمَّلناه تأملاً فلسفيًّا كما فعلنا استنادًا إلى رؤية كلٍّ من (كروتشه) و(سارتر)، وهو من ناحيةٍ أخرى أكثر ارتباطًا من الروايةِ والدراما والشِّعرِ نفسِه بواقع الحياةِ لأنّه يُولَدُ لحظيًّا وتلقائيًّا في أكثر الحوارات يوميّةً وعاديّةً، وهو أخيرًا لا يعدو كونَه فَنًّا بما فيه من الموهبةِ القابلةِ للتدريب والصَّقل والعمَل وبقدرتِه المشهودةِ على الإضحاكِ كالكوميديا الدرامية وربما أكثر في بعض المواقف. ربما هو أقرب إلى الفنونِ الزائلةِ الآنَ كالجرافيتي، لكن مَن يدري؟ ألا يمكن أن نجد مشروعًا اليوم أو غدًا لجمع قلشاتٍ أضحكَت الناس كثيرًا في كتاب؟ أنثولوچيا لأهمّ القلاّشين في مصر مثلاً؟! مَن يدري؟! ربما تتكرّس قريبًا مقولةُ (زمن القلش) بشكلٍ رسميّ!
محمد سالم عبادة
14 مارس 2018
نُشِر على موقع (منشور) في 21 مارس 2018
https://manshoor.com/life/comedy-pun-egypt/
* بماذا تُخبرُنا اللغة؟!:
تُخبرُنا الجولة السريعة في معاجم اللغة العربية بأنّ الجذر اللغوي (فَزَرَ) –وهو جذر كلمةِ فازورة (أو فَزُّورة) بمعني لُغزٍ أو أُحجِيَة- يرتبط دائمًا بالكَسر أو الشَّقّ، ما يَفترض أنّ المتلقّي حين يهُمّ بحَلّ الفازورة إنما يَكسِرُ قشرتَها وصولاً إلى المعنى. وبتطبيقِ مبدأ الاشتقاق الكبير الذي أخذَه فيلسوفُ اللغة العربية (أبو الفتح عثمانُ بنُ جِنّي) عن أستاذِه (أبي عليٍّ الفارسيِّ) وطوَّرَه ونماه في كتابه العُمدة (الخصائص)، يمكننا أن نضع أيديَنا على علاقاتٍ وفيرةٍ بين الكلمات المبنية بهذه الحروف الثلاثة (الفاء والزاي والراء)، فكلمة (فَرَزَ) مثلاً تحملُ معنى تمييز المجموعات الجزئية عن بعضِها البعض، وصولاً إلى (الفِرْز) بمعنى القطعة. وكلُّ (فَزرٍ) أو كسرٍ يَنتُجُ عنه مجموعةٌ من القِطَع أو (الفُرُوز)، فكأنَّ الفِعلَين (فَزَرَ) و(فَرَز) متّصلان برابطٍ خفيٍّ لا يصعُبُ أن نكشفَ عنه. وقُل مثلَ ذلك في الجذر (زَرَفَ) بمعنى اقتربَ مُسرِعًا، فهو يتجاوبُ مع فكرة الإنجاز الموجودة في كُلٍّ من (فَزَرَ) و(فَرَز)، وكذلك (زَفَرَ) بمعنى (أخَرَجَ نَفَسَه)، فكأنَّ الإنسانَ حين يَزفِرُ يكسِرُ كيانَه الذي يبدو متماسكًا لِيُخرِجَ معنى حياتِه ملخَّصًا في النفَس، أو هو (يَفرِزُ) هذا النَّفَسَ الذي (يَزفِرُه) كما يَفرِزُ العَرَق. وهكذا تتجاوب معاني التباديل والتوافيق الصادرة عن مجموعة هذه الحروف الثلاثة، وهذا هو جوهر نظرية الاشتقاق الكبير لابنِ جِنِّي!
هل ابتعدنا كثيرًا عن موضوع الفوازير؟!
* حلاوة الرُّوح:
في فوازير (ماونتن فيو) لرمضان 1439ه/ 2018م القائمة على النجمين ماجد الكدواني ودنيا سمير غانم، لا نصادف الكثير من الجهد التمثيلي من ناحية الكدواني ودنيا، فالممثلان المتمتعان بشعبيةٍ كبيرةٍ -والمشهود لهما بمقدرة أدائية محترمة وخفّة ظِلٍّ موفورة وحضورٍ آسِرٍ أمام الكاميرا- لا يُخرِجان من طاقتهما الإبداعية إلا أقلّ القليل. سيناريو الحلقات السبع الموغلة في القِصَر يتلخّص في أنّ الكدواني ودنيا يظهران في المقدمة بشخصيتِيهما الحقيقيتين، باعتبارهما ضيفين في مهرجان سينمائي إيطالي (ربما يكون مهرجان فينيسيا باعتباره الأشهر)، وتضطرُّهما الظروف لأن يستقلاّ موتوسيكل بكابينة للّحاق ببرنامج المهرجان، وتتلف فرامل الموتوسيكل فيتعرضان لحادث يُفقِدُهما الذاكرة، ويكتشفان في جيوبهما ميداليتي آي-سيتي I-Cityوهو أحد المشروعات العقارية لشركة ماونتن فيو، ومن خلال الحلقات السبع يُكشَف عن مزايا سبعٍ لهذا المشروع، والفزورة هي استخلاص المزايا من الحلقات. وجائزة الفزورة الواحدة إيصال بمائة ألف جنيه تُخصَم من إجمالي قيمة الوحدة السكنية حين يتعاقد الفائز على شرائها، وصولاً إلى الإيصال الأعظم بمليون جنيه، يُمَثل الجائزة الكبرى للفوازير.
ربما يمثل هذا الظهور الخاطف للفوازير وسط حمّى المسلسلات الرمضانية شيئًا أقربَ إلى حلاوة الرُّوح بالنسبة لتقليد فوازير رمضان الذي بدأ في الإذاعة المصرية مع آمال فهمي وسامية صادق عام 1960 لينتقل سريعًا إلى التليفزيون في العام التالي، ويشهد طفراتٍ متعاقبةً مع بطولات ثلاثي أضواء المسرح ثُمّ نيللي ثم فؤاد المهندس وسمير غانم وشريهان مرورًا بعبد المنعم مدبولي ويحيى الفخراني مع صابرين وهالة فؤاد وفوازير الكاريكاتير مع الإعلامية سوزان حسن، ووصولاً إلى نادين ونيللي كريم.
مسألة سقوط دولة الفوازير تُناقَش في الإعلام المصري كلَّ عامٍ تقريبًا مع دخول رمضان، ويُرجِع كثيرون سبب هذا السقوط إلى عوامل بعينِها، ربما أكثرُها تردُّدًا في هذه المناقشات ارتفاعُ الميزانية المتوقَّعَة لإحياء هذا التقليد التليفزيوني الذي يعتمدُ على مزيجٍ من فنون الاستعراض والموسيقى والدراما وغيرِها، فضلاً عن نضوب مَعين المواهب الجبّارة التي قد تضارع موهبتَي نيللي وشريهان تحديدًا في جمع الغناء والأداء الحركي إلى التمثيل إلى خفّة الظِلّ، أو تضارع مواهب الشعراء والموسيقيين ومصممي الرقصات ومصممي الملابس والديكور والمخرجين وكتّاب السيناريو الذين صنعوا مجد دولة الفوازير من الستينيات إلى تسعينيات القرن الماضي.
بشكلٍ شخصيٍّ لا أرتاحُ لحصر الأسباب فيما سبق ذِكرُه. يوجد سببٌ آخَر بسيطٌ ومباشِرٌ قد ينساه المناقشون لهذا السقوط، هو بُطلان موضة الفوازير. لكن يبقى السؤالُ وراء هذا السبب الساذَج بدَورِه: لماذا بَطَلت موضة الفوازير؟!
*قفزةٌ إلى فلسفة الدين:
ربما مِن أهمِّ إسهامات فيلسوف الأديان الروماني مِرتْشِيا إلياد Mircea Eliade (1907-1986) فِكرة تَجَلّي المُقَدَّس Hierophanyالتي تعني تلك الظُّهورات التي تنسبُها النصوصُ المقدسَة والأساطيرُ إلى الإله (أو الآلِهة) والملائكة والكائنات العُلوِيّة الغيبية، والتي تغزو فيها عالَمَنا/ عالَم الشهادة المُدَنَّس. وتتأسس الأديانُ إجمالاً على هذه الفكرة. وفي رأي (إلياد) فإنّ تجلّي المقدَّس هو الذي يؤسس العالَم وجوديًّا، فهو الذي يمنحه قيمةً وتوجُّهًا وغاية. يقول إلياد في كتابه (المُقَدَّس والمُدَنَّس The Sacred and The Profane) ما معناهُ إنّ العالَم المدنَّس للخبرة اللادينية على حالتِه النقيّة لا يمكن تقسيمُه إلا بشكلٍ هندسيٍّ حياديٍّ بارد، فبِنيَتُه الداخلية غير قادرة على خلق أيّ تمايُزٍ قِيمِيّ Qualitative Differentiation، ومِن ثَمَّ فهو لا يُعطي الإنسانَ أيَّ نموذجٍ سلوكيٍّ للاقتداء. ويُعضِّد إلياد هذه الفكرة بفكرة العَود الأبدي في الممارسة الدينية Eternal Return، والتي تختلف عن مفهوم العَود الأبدي الفلسفي (تكرار حدوث العالَم عددًا لانهائيًّا من المرّات)، فالعَود الأبدي الذي يقصده إلياد في فلسفتِه هو ذلك المُعتقَد لدى المؤمنين بدِينٍ ما، أنهم يصبحون قادرين على المشاركة في الأحداث الأصلية لتجلّي المُقَدَّس في دينِهم من خلال اتباعِ طقوسٍ معيَّنة.
بالنسبة للحالة الإسلامية، يحتلُّ رمضان موقعًا مركزيًّا مهمًّا في مفهوم تجلّي المقدَّس، فالثابِتُ إسلاميًّا أنَّ الظهور الأول لمَلَك الوحي جبريل للنبي محمد –صلى الله عليه وسلَّم- كان في رمضان، وبالتحديد في ليلة القَدر. ولِذا يحتفل المسلمون بالشهر بطقوسٍ تطهُّريّةٍ أهمُّها الصوم والصلاة وقراءة القرآن والصدقة، ويتكثّف هذا السلوك الإسلاميُّ في العشر الأواخر من رمضان تحرِّيًا لذِكرى ليلة القَدر التي يُمنَحُ بركتَها من يُعينُه الله على أن يسمُو بسلوكِه إلى درجةٍ يرضاها (فهو بشكلٍ ما أو بآخر يصبح مشاركًا في الحدَث الأصلي لتلقّي الوحي القرآني، انطلاقًا من رأي إلياد). وفي الحقيقة، يصبح هذا الشهرُ المقدَّس إسلاميًّا قادرًا على إعطاء المعنى للزَّمَن نفسِه بهذا التمييز الذي يُحيط به في الموروث الإسلامي، فالسنة القمرية التي تشبه أيامُها بعضَها -ولا يميّز الإنسانُ منها وقتًا على غيرِه- تتوقف لمجيء رمضان، ويلتفت المسلم لحقيقة مرور الزَّمَن وانقضاء العُمر بالتالي، من خلال طقس الصوم بمراقبته ميعادَي الإمساك والفِطر يوميًّا، فضلاً عن ارتقاب بداية ونهاية الشهر، كما يتحدد له في رمضان النموذَجُ السلوكيّ المطلوبُ الاقتداءُ به على مدار الحياة.
* نعودُ إلى الفوازير!
يبدو أنّ ارتباطَ الفوازير برمضان في مصر على الأقل أقدَم من ظهور الإذاعة والتليفزيون، فكما يحكي (إدوارد لين) في كتابه (المصريون المُحدَثُون)، كان أهلُ الريف يتحلّقون في رمضان حول الحكّائين ليسردوا حكاياتِهم مشفوعةً بالفوازير البسيطة. الفزورة باعتبارِها لغزًا تقليدٌ إنسانيٌّ بالطبع، متجاوزٌ لحدود الجغرافيا، لكننا مازلنا نلمس -مع ما نشهده من سقوط موضة الفوازير التليفزيونية هذه الأيام- بقاء هذا التقليد في أشكاله البسيطة في بعض الصحف والمجلاّت، فضلاً عن ممارستِه حتى في بعض مساجد القاهرة بعد صلاة التراويح! هل لهذا الارتباط علاقةٌ بالمقدمة المعجمية لمقالِنا، التي تكشفُ عن أنّ حل الفازورة هو التنقيبُ عن المعنى؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، فهل يُلقي هذا ضوءًا على مركزية رمضان في الممارسة الإسلامية باعتباره مانحًا المعنى للزَّمَن وبالتالي للعالَم كُلِّه؟
في تقديري أن هذا الارتباط بين الفازورة ورمضان وتمحوُر الاثنين حول فكرة منح المعنى، كل هذا حاضرٌ في اللاوعي الجمعي Collective Unconsciousللجماعة المسلمة التي كرَّسَت تقليد الفوازير الرمضانية في هذه البقعة من العالَم، تمامًا كما تفترض نظرية الاشتقاق الكبير -التي ذَكَرنا طرَفًا منها في بداية المقال- حضورًا لذلك التراسُل بين معاني تباديل وتوافيق المادّة الصوتية الواحدة –أو الجذر اللُّغَوي- في اللاوعي الجمعي للجماعة العربية الأولى التي اصطلحَت على وضع اللغة.
فلماذا إذن سقطت الفوازير؟ أو لِنَكُنْ أكثر تحديدًا: لماذا سقطت موضة الفوازير التليفزيونية باعتبارها نوعًا خاصًّا هجينًا من الفن التليفزيوني مميِّزًا لهذا الشهر؟
يبدو لي أنّ تبنّي الإذاعة والتليفزيون لتقليد الفوازير الرمضانية منذ الستينيات كان ينطوي في داخلِه على عمليتين تبدُوان متناقضتين. أُولاهما هي علمنة الدِّين Secularization of Religionبمعنى تحويل المناسبة الدينية إلى مناسبة دنيوية مرتبطة بطقوس احتفالية معيَّنة، وهذه العملية هي الأوضَح لدى قطاعٍ عريضٍ من أثِمّة المساجد مثَلا. نلاحظ هذا في دأَبِهم القديم المتَّصِل إلى الآن على حَضّ المُصَلّين على اعتزال التليفزيون ومقاطعة برامجِه في رمضان. العملية الثانية التي لا ينتبهُ لها هذا القِطاع من المجتمع على الأقلّ هي عمليةٌ في الاتجاه المضاد، بمعنى تديين المجال الدنيوي، وانسحاب المعنى الذي يمنحُه رمضان للزَّمَن على برنامج التليفزيون، فما يَحدُث بالفعل هو أنّ نمطًا خاصًّا من الدراما والاستعراض وغير ذلك ممّا يكوِّن فنّ الفوازير يميّز برنامج التليفزيون في هذا الشهر.
في ضوء هذه الرؤية، يبدو سقوط دولة الفوازير انكماشًا لذلك المعنى الذي يمنحُه رمضان للزمن لدى صانعي برنامج التليفزيون، وبمعنىً أدَقّ، يبدو الأمرُ تراجُعًا لسطوة الدِّين وهيمنتِه على تفكير المشتغلين بالفنّ. ما حدث في العِقد الأخير مواكِبًا لانفجار عدد قنوات التليفزيون الفضائية هو انفجارٌ مماثِلٌ في عدد المسلسلات التي تخصص عرضَها الأول لشهر رمضان، في مقابل انكماشٍ واضحٍ للفوازير. صحيحٌ أن فكرة تخصيص العرض الأول لرمضان تُعَدُّ بِدَورِها شكلاً من أشكال تديين الفنّ أو المجال الدنيوي، لكن بالتأكيد بدرجةٍ أقلّ من تخصيص فنِّ بعينِه لهذا الشهر لا يُعرَضُ إلاّ خِلالَه. نستطيعُ أن نعبِّرَ في أمانٍ عن هذه العملية باعتبارِها ازديادًا في عَلمنة رمضان في مقابلِ الانكماش في تديين الفنّ.
ربما نلمسُ شواهِدَ أخرى على هذه العلمنة في انكماش نسبة المسلسلات المصرية المهتمّة بتاريخ العُصور الإسلامية السابقة ممّا يُشارُ إليه بالمسلسلات الدينية. كذلك فإنّ حلاوة الرُّوح التي أشَرنا إليها سابقًا في حديثِنا عن فوازير ماونتن فيو لهذا العام، هي في الحقيقة فوازير تستهدفُ شريحةً عُليا مميَّزَةً في المجتمع، فمن نافلة القول أنّ المهتمّين بحلّ هذه الفوازير هم من يملكون ثمن شراء الوحدات السكنية الممتازة لمشروعات ماونتن فيو ويرغبون في الاستفادة من الخصم الذي تقدمه الفوازير. هذا في مقابل تراث الفوازير الرمضانية الطويل الموجَّه لكل قطاعات المجتمع دون تفرقةٍ في أغلب الأحيان. يمثل هذا بدوره شكلاً صُلبًا من الرأسمالية لا يهتمُّ كثيرًا بمفاهيم الخير والصدقَة والتكافل التي كانت ترتبط قديمًا بتقليد الفوازير التليفزيونية والإذاعية.
ختامًا، يبدو أنّ سقوط فنِّ مهتمٍّ بفكرة الكشف عن المعنى كالفوازير يمثّل اتجاهًا عامًّا في المجتمع إلى فقدان الثِّقة في حقيقة وجود المعنى. ورجوعًا إلى فلسفة إلياد، يجسّد هذا بدوره انكماشًا يائسًا لسطوة الدِّين بصفتِه مانِحَ المعنى لفضاءات الزمان والمكان للموجود البشري. هي درجةٌ قاسيةٌ من العلمنة، التي يعتبرُها فلاسفةٌ متباينون في مواقفهم إزاء دور الدِّين في المجتمع -مثل ماركس من ناحيةٍ وماكس فيبر من ناحيةٍ مضادة- عمليةً تسير في اتجاهٍ واحد: العلمنة ثم مزيد من العلمنة، وهكذا إلى النهاية.
محمد سالم عبادة
16/6/2018
...................
نُشِرَ في موقع (منشور) في 2 أغسطس 2018.