Quantcast
Channel: Mohamed Salem Obada
Viewing all 94 articles
Browse latest View live

"إشكالية الأخلاق والفنّ"قراءة تأويلية سريعة في رواية (المزيّن) لأحمد سمير سعد

$
0
0

* منهج القراءة:
     تتذرع هذه القراءة بالمنهج التأويلي (الهرمنوطيقيّ) في فهم النص الروائي، حيث تستقرئ الجزئيات لتخرج منها بضوءٍ يمكن منه تكوينُ صورةٍ كُلّيّةٍ مبدئيّةٍ للنصّ، نرتدُّ منها إلى الجزئيات مرةً أخرى، وهكذا في ارتداداتٍ متلاحقةٍ تعيننا على فهم الكل من خلال أجزائه والأجزاء من خلال الكُلّ، مُكمِلين دائرة الإجراءات الهرمنوطيقية Hermeneutic Cycleكما وصفَها مُنَظِّرُو التأويل من (شلايرماخر) مرورًا بـ(فيلهلم دلتاي) و(هايدجر) و(جادامر) و(بول ريكور) ووصولاً إلى (لويس ألونسو شوكل) الذي اقترحَ تسميةً تبدو أصدقَ تعبيرًا لما يحدثُ في إجراءات الفهم التأويليّ (الحلزون الهرمنيوطيقيّ). ويتفق الباحثُ مع (هايدجر) أن تجنُّبَ الأحكام المسبَّقَة تمامًا مستحيلٌ في محاولةِ الفهمِ الهرمنيوطيقيّ، ويتفقُ مع (جادامر) على أنّ الفهمَ يتذرّعُ دائمًا بالأبنية اللُّغَوية التي لا مناصَ من استخدامها للتحاوُر مع النصوص التي نحاولُ فهمَها، ويجرُّنا هذا إلى موافقةِ التفكيكيين على أنّ محاولةَ الفهمِ هذه ما هي إلاّ توسُّطٌ بعلاماتٍ للوصولِ إلى علاماتٍ غيرِها وهكذا في إحالةٍ معرفيةٍ لا تكادُ تنتهي، لكن تبدو المثابرةُ الهرمنوطيقيةُ أفضل الطرُق المتاحة لفهم النص. 
* عنوان الرواية و(الكالوكاجاثيا):
     ظهرت المفردة Kalokagathiaمن قَبلِ أفلاطون عند الإغريق، واستخدمها في محاورته Lysisكما استخدمها أرسطو في (أخلاق نيكوماخوس). هي مزيج من جِذرَين: Kalosو Kagathos. وتعنيان: الجميل والخَيِّر! أحياها (چورچ سانتايانا) في (الإحساس بالجَمال) وقال عنها: "إنها أرقى زهرة في الطبيعة البشرية The finest flower in human nature"!
     (المزيّن) لقبٌ للحلاّق يُوشِكُ أن يختفي من الاستخدام الشعبي. أتصور أن المؤلف اختار لبطله هذه المهنة بهذا الاسم لارتباط الزينة التي يضفيها (المزيّن) بأخذ الفُضول. أعني أن لُبّ عمله هو أن يُخَلّص زبائنه من فضول الشَّعر، فتتحقق الزينة بهذا. ويتبادر إلى ذهني على الفور كقارئٍ رأيٌ لـ(إدوار الخراط) في كتابه (في نُورٍ آخَر) عن علاقة الفن بالأخلاق، حيث يقول إن صنعة الفنان في (أخذ الفضول) وتقليم عملِه وتهذيبه تشبه فعل الأخلاقي في الاستغناء كذلك عن الفضول والاقتصار على الأساسيات وتهذيب النفس! بهذا يكون المزيّن نموذجًا محتملاً لما يمكن أن يكون عليه الخَيِّرُ الجميل أو الفنان الأخلاقي الذي سلف الكلام عنه Kalokagathia. تتأكد هذه النموذجية المقصودة للقارئ مع كلام (المزين) عن نفسه في الفصول التي يتولى فيها دفّة السرد، ففي الفقرة الأولى من الفصل الثاني يقول عن نفسه: "أنا المزين، فنان ملهم وعالم متفرد وحكيم عارف وطبيب خبير، أفصد الدماء وأعيد خلق الدميم، عوالمي واسعة و علومي لدنية، شرح العليُّ صدري وهذّب لساني وغسّل قلبي وألهم روحي ورفع عني الحجب، قربني وبلَّغني وأظلَّني واصطفاني".
* طبيعة السرد في الرواية:
     يتراوح السرد بين فصلٍ تدور أحداثه في زمننا الحاضر فيما يبدو بلسان (أيمن) محاسب البنك الذي يكتب الروايات والقصص، و(المزين) بطل روايته المؤجَّلة الذي يُطِلُّ علينا من تلافيف دماغه ليحدثَنا رغمًا عن (أيمن) بحكايته المتعالية على الزمن والمكان. أول ما يشاركنا به (أيمن) هو معاناته حبسة الكاتب Writer's Block. وهو يحاول أن يجترّ ذكريات طفولته وصباه ليقف على خطيئته التي استحق بسببها هذه اللعنة. وظاهر هذا الربط بين الخطيئة وحبسة الكاتب أننا بإزاء كاتبٍ أخلاقيٍّ يصدر عن قناعةٍ بأنّ الفنّ إلهامٌ سماويٌّ بدرجةٍ ما أو بأخرى. يُوقِفُنا (أيمن) تدريجيًّا على سقطته الأخلاقية الكبرى التي خسر بسببها زواجَه، وهي ممارسته الجنس التليفوني مع الساقطات! كذلك يجترّ (أيمن) ذكريات حياتيه الجامعية والوظيفية وما تزخران به من شواهد على ما يحاول إثباتَه لنا من جُبنه ونفاقه الاجتماعي.
     على الجانب الآخَر، يقدم لنا (المزين) نفسه باعتباره فنّانًا ملهَمًا متمسكًا بأهداب الدين، ووليًّا صالحًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وبكل ما يمكن أن يصف الأولياء من التراكيب اللغوية، متجذرًا في التراث الإسلامي. لكننا نكتشف مع تدفق أحداث حكاية (المزين) أنه يسقط في النفاق الذي يبرره لنفسه كثيرًا، كما يسقط في الخديعة وانتهاءً يكاد يسقط في حُرمة الزنا بامرأةٍ متزوجةٍ ويبرر لنفسه ذلك الفعل دون أن يُبدِيَ ندمًا من أي نوع!
     في ركنٍ من سرد (أيمن) لوقائع حياته المعاصرة، يقبع ابنه الذي يبدو متأخرًا عقليًّا، حيثُ يتضح من حديث (أيمن) عنه أنه كان يبني عليه طموحاتٍ وآمالاً عِراضًا تتصل كلُّها بأن يكون بشكلٍ ما فنّانًا عالمًا فيلسوفًا ينقذ البشرية كلها من تخبطِها! ومن الواضح أن (أيمن) يعتبر خوض التجربة وعِراكَ الحياة ركيزتين أساسيتين في صنع المجد الذي ينتظره من ابنه. هو بشكلٍ ما ينتظر من ابنه أن يكون (المزيّن) الذي ينخُس رأسه ولا يذيقه طعم النوم. لا يَرحم فيَنكَتِبُ سَلِسًا على الورق ولا يترك رحمة الله تنزل فيغادر رأسه ليسمح لروايةٍ بديلةٍ عظيمةٍ بأن تُكتَب! ما يحدث لابن (أيمن) هو شكلٌ من أشكال السخرية القَدَرِية من طموحات أبيه وإنجازات (المزين)، ففي مشهد جلوس (أيمن) مع ابنه وصديقه (محسن) في المقهى وتدخين النارجيلة، نرى الابن "يتغنى بكلمات غير مفهومة، يدندن بها لنفسه، يحرك إصبعه وسط سحابات الدخان وكأنما يرسم به، ينشئ مدنًا ويهد أخرى ويخلق طيورا ونباتات وبشرا، يلاعبهم ويفتك بهم ويمحوهم ويعيد خلقهم، فجأة يلتفت نحوي في حركة متشنجة"!هذا الموقف الوجودي برُمّته يذكرنا بفيلم (رجُل المطر Rain Man) حيث تقف شخصية (داستن هوفمان) Raymond/ Rain Manمجسّدةً سخرية القدَر من طموحات أخيه (توم كروز) وصولاً إلى السخرية من الاسم الذي أطلقه (كروز) على أخيه صغيرًا (رجل المطر)، حيث يتوتر (هوفمان) تمامًا وقت نزول المطر ولا يمكنه أن يخرج من البيت! المهمّ أن هذا الصغير بتأخره العقلي ورفضه (حمل الأمانة في عالَم الذرّ) بتعبير (أيمن) وإصراره في لُعبتِه على أنّ (الفيل يطير والأسد يطير) كما تطير الحمامة والغُراب، بهذه الإشارات كلِّها قد يجسّد الصغيرُ الخير المُطلَق الذي لا يطمح إلى الجمال، بعكس (المزيّن) الخياليّ الذي يجسّد الجمال ويدّعي الخيرية.
     عودًا إلى روايتنا، يظهر من البداية أننا بإزاء عملٍ (ميتا - سَردِيّ)، حيث القناع الوسيط الذي يختاره الروائي هو شخصية روائيٍّ كذلك (أيمن)، مهمومٍ بالكتابة ودائم الحديث عنها. في خبرتي المتواضعة، دائمًا تنشغل الأعمال المصطبغة بالـ(ميتا - سَرد) بماهيّة الأدَب وجدواه. ويتجاوب هذا مع عنوان الرواية الذي سلَفَت الإشارةُ إليه.
* الحِوار بين الحضور والغياب:
     التقابل بين الفصول التي يرويها (أيمن) حيث الاحتفاء بالحوار بينه وبين مطلقتِه وزميلة عمله وصغيره وصديقه، والفصول التي يتناول الدفةَ فيها (المزين) بخُلُوِّها التامّ من الحِوار واسترسال سردِها بلا نهاية، هذا التقابُل - في تقديري – يعكس ابتعاد الفنّ (حبسة الكاتب) واقتراب الأخلاق (محاسبة النفس – الندم على الخطيئة – التسامُح التدريجي مع القدَر) من فصول (أيمن)، في مقابل التطاوُس الذي يشبه تطاوُس الفنّانين في فصول (المزيّن). وإذا أُريدَ لهذه القراءة أن تنحُوَ ناحية القراءات النفسية فسيكون لَغوُ المزيّن Volubilityعرَضًا للهوَس Maniaفي مقابل اكتئاب الكاتب.
     حقيقة أنّ المزيّن الذي يجسّد الفنَّ بأثيريتِه (غيرُ مكتوب) وإنما يتحدث من عقل الكاتب مباشرةً، في مقابل الأمر الواقع المُمَثَّل في الابن المتأخر عقليًّا الذي يجسّد الخير المُطلق، هذه الحقيقة تُحيلُنا إلى رؤية (سارتر) للفنّ باعتباره مطاردةً للعدَم، وربما لذلك يحاول المزيّن تأكيد ذاته مكررًا بشكلٍ هوَسِيٍّ في بداية معظم فقرات السرد (عشرين مرّةً في الفصل الثاني وحدَه!).
* العمل بين أعمال الكاتب:
     وإكمالاً للحلزون الهرمنوطيقيّ القصير في قراءة هذا العمل، نحاول موضَعَته في إطار مجمل أعمال كاتبنا. هنا سنجدُ شخصية المزين بلوازمها مسيطرةً على تفكيره من قبل هذه الرواية، حيثُ يُطلُّ علينا من قصته (حكاوي المزين) في مجموعته القصصية (الضئيل صاحب غِيّة الحَمام) الصادرة عن دار (اكتب) في 2005. وهي تلك المجموعة ذات القصص المحتفية بالصمت باعتباره فضيلةً يصعب الالتزام بها، متجاوبةً مع عودة (المزين) للإلحاح على عقل (أيمن) في نهاية هذه الرواية وهو يحكي حكايته لصغيره. في تقديري أنّ الكاتب مشغولٌ بثنائية الدين والفن، أو فلتَكن الأخلاق (الخير) في مقابل الجَمال في العملَين.
     تبعًا للنهج الماركسيّ فإنّ الدين والفن مُكوِّنان في البِنيه الفوقية للمجتمع. حين يتحدث (چون ديوي) عن القيم الجمالية  - من منطلقِه الپراجماتيّ - يعزو النشاطَ الفني إلى محاولة الإنسان استعادة التكيف مع بيئته، حيث تنشأ نتيجة عودة التكيف مشكلاتٌ أخرى تدفعه إلى نشاطٍ فنّيٍّ آخر يستعيد به تكيفه، وهكذا دواليك فيما يعزز دور الفنّ كقاطرةٍ للحضارة تدفعها للترقّي باستمرار وتزيد تعقُّدَها. أمّا (سانتايانا) فالقِيَم الجمالية عنده قيمٌ إيجابية تمدنا بلذاتٍ حقيقية، بينما الخُلُقية سلبية تقتصر مهمتها على اجتناب الألم ودفع الشر، أي أنها بشكلٍ ما قِيَمٌ سكونيةٌ تحاول كبح جِماح الحضارة. في حين أنّ الفيلسوف الإنجليزي (هربرت ريد) يقرر أن الفن محاولةٌ للسيطرة على العالَم وجدانيًّا كما أن العِلم محاولةٌ للسيطرة عليه معرفيّا. ما لا يخبرنا به (ريد) هو أنّ الدين – بواعزه الأخلاقيّ – يُزَهِّدُ أتباعه في محاولات السيطرة هذه لأنهم يفوضون أمرهم إلى موجودٍ أعلى هو الخالق، وهو المسيطر بحقٍّ في معتقدِهم على العالَم. الشاهد المتعلَق بأدب (أحمد سمير سعد) أنّ ثنائية الدين والفن أو الأخلاق والجَمال حاضرةٌ بقوّةٍ، لاسيَّما في مجموعة (الضئيل) وهذه الرواية، وفي العملَين يحاول الأبطال الاستسلامَ للدين بما يحُضُّ عليه من صمتٍ وسكونٍ ونزوعٍ إلى الفطرة البسيطة ضد تعقُّد الحضارة، لكنّ إغراء الاسترسال في الكلام (الفنّ بقِيَمه الجمالية) لا يتركهم حتى النهاية فيجرفهم في تياره رغم أنوفِهم. ببساطةٍ، يقدّم كاتبُنا معادلاً أدبيًّا لفلسفةٍ خاصّةٍ في الحضارة تحاول اكتناه الدور الذي يلعبه الدين والفنّ في بنيتِها الفوقية، ويُلِحُّ عليه هاجس هذه الفلسفة من عملٍ لآخَر.  

محمد سالم عبادة
20 أغسطس 2017
.......
نُشِرَت هذه القراءة بموقع (الكتابة) في 30 أغسطس 2017


الظاهرةُ المُتحَفِيّة انتصارٌ للإنسانية

$
0
0



     أتذكّر زيارة المتحف الوطني المجريMagyar Nemzeti Múzeumفي فبراير 2006، فيقفز إلى ذهني تقريظ (أندريه مالرو) في كتابه (المتحف الخيالي Le Musée Imaginaire) لظاهرة المتحف باعتباره المكان الذي تتحول فيه لوحاتُ الفنانين وتماثيلُهم ومُنجز أيديهم من مجرد (أشياء) إلى (أعمال فنية بحَق)! ويتجاوز هذا الفعل المتحفيّ منجز الفنانين إلى أزياء وأثاث وآلات الأقدمين والمعاصرين من الشعوب النائية في الجزء الأنثروپولوچي والتاريخي من هذا المتحف وغيره، حيث تفقد هذه (الأشياء) شيئيتها المبنية على العلاقات النفعية التي تربط الناس بها، لتتحول هي الأخرى إلى أعمالٍ فنّيّة تشاهَد وتحترَم لذاتِها. ويلحقُ برأي (مالرو) ويصارعه رأي (موريس ميرلوپونتي) الذي ينطلق من وجوديته في الفصل المعنون (اللغة غير المباشرة وأصوات السكون Le Langage Indirect et les Voix du Silence) من كتابه (علامات Signes) ليرى أنّ المتحف يجني على مقتنياته الفنية لنفس السبب الذي يُقرّظه من أجله (مالرو) في الحقيقة! ففي رأي (ميرلوپونتي) أنّ الفن يكتسب قيمته الحقيقية من ارتباطه بلحم الحياة وعلاقته الجدلية أخذًا ورَدًّا مع معطياتها، وبانعزاله عن الحياة بين جدران المتحف يتسرب إلى المتلقّين إحساسٌ زائفٌ بأن اللوحة مثلاً هي منجزٌ تامٌّ وصل إليه مبدعه لحظةً واحدةً ولم يصارعه ويصارع معه الحياة!
     مَن نصدّق إذَن؟ (مالرو) أم (ميرلوپونتي)؟! نتذكّر كذلك الدور الدعائي/ القومي/ الاستعماري للمتحف مع (چون ديوي) في كتابه (الفن خبرة Art as Experience)، حيث يشير إلى وقائع بعينها على غرار اقتناء (اللوفر) في پاريس تحفًا وأعمالاً فنيةً تُعَدّ من أسلاب (ناپوليون)، فنكتشف مع (ديوي) أنّ للمتحف – بوصفه ظاهرةً أوربيةً بزغت في القرن الثامن عشر وتطورت فيما بعده - دورًا في تكريس الإمپريالية الغربية لا يمكن جحوده!
     في تقديري أنّ الظاهرة المتحفية تنطوي على هذه الإمكانيات جميعها دون تضادّ. فالعزلة التي يضمنها المتحف لمقتنياته كفيلةٌ بإضفاء قدرٍ من التوثين عليها، والوثَن في وعي المؤمنين به كاملٌ في ذاته غير محتاجٍ إلى غيره، وحول هذا المعنى يدور (مالرو) و(ميرلوپونتي) كما أفهمهما بشكلٍ شخصيّ! والمتحف بما يجسّده من (اقتناءٍ) يُسَرِّبُ إلى مرتاديه إحساسًا بعُلُوّ وثراء الشعب الذي ينتمي إليه المتحف، وفي هذا دعمٌ للروح القومية ربما يتجاوزها إلى الروح الإمپريالية إذا أخذنا بعين الاعتبار واقعة (اللوفر) وأسلاب (ناپوليون)!
     بعد هذه الإلمامة السريعة المختزلة بآراء فيلسوفين فرنسيين وثالثٍ أمريكيٍّ في الظاهرة المتحفية، لا يسعني إلاّ الطواف في الذاكرة ببعض ما علِق فيها من زياراتٍ متحفيةٍ (وشِبه متحفية) في خمس رحلاتٍ إلى ثلاث دولٍ هي التشيك والمجر وإيطاليا، هُيِّئَت لي من خلال التجمع العالمي لرابطات طلَبة الطب
 International Federation of Medical Students' Associations (IFMSA)،
 ثُمّ مهرجان قلعة (دوينو) الشِّعري بإيطاليا Castello di Duino Poesiaبين عامَي 2003 و2013.
     ابتداءً، يَحسُن بي أن أوضح الزيارة شبه المتحفية، فأقول إن زيارة الجامعة الطبية بمدينة )سَجَد Szeged) في المجر، وتأمل التمثال النصفي لعالِم الكيمياء الحيوية (ألبرت سان چورچ (Albert Szent-Györgyiالحاصل على (نوبل) لاكتشافه (فيتامين ج)، هذه الزيارة – من زاويةٍ ما – هي زيارةٌ شبه متحفية! كذلك يمثل المرور في شارع (چواكينو روسّيني) فوق القناة الكبيرة في (ترييستِا) بأقصى الشمال الشرقي الإيطالي، وتأمُّل تمثال الروائي والقاص الأيرلندي الأشهر (چيمس چويس) هناك، يمثل هذا بالتأكيد زيارةً شبه متحفية، هذا إذا اعتبرنا المتاحف هي فقط تلك المساحات المؤطَّرَة بالجدران التي دأَبَت على اقتناء ما اتفقنا على استحقاقه المشاهدة!
     لكنني في الحقيقة أودّ أن أتجاوز هذا التقسيم الذي ابتدأتُ به، لأعتبر كل شارعٍ أو مساحةٍ غير مؤطَّرة تضم ما يستحق المشاهدة متحفًا بمعنى الكلمة. يمكننا أن نتحقق من هذا إذا أخذنا جولةً سريعةً في القاهرة الفاطمية ومررنا بخان الخليلي حيث معروضات الباعة تتضافر مع الطرز المعمارية المسيطرة على المكان لتخلق متحفًا مفتوحًا بالفعل. وباعتبار أن محور حديثنا هو متاحف أوربا ودورها في اقتصاد بلادها، فإنّ جولةً مماثلةً في شوارع المدينة القديمة Staré Město في پراغ يمكن أن تؤكّد لنا أن (المتحف) بمعناه الواسع الحقيقي يوجد خارج أسوار (المتحف) كما اصطلحنا على تسميته!
     في شوارع پراغ القديمة يجد السائح نفسه يستكشف شخصية هذه المدينة ويتماسّ معها عن قُرب. حركة البيع والشراء تجسّد إعادة خلقٍ في كل لحظةٍ لمتعلقات وجود الشخصية البوهيمية/ التشيكية وتوسّع دائرة الانتماء إليها. وهذا الوجود إيجابيٌّ وسلبي.
     الإيجابيٌّ بمعنى إبراز المعروضات لما تحرص الشخصية الاعتبارية لپراغ على إثباته، كتماثيل (فرانز كافكا) التي لا يخلو منها دكّان تحف وتذكارات صغير، في تأكيد على انتماء (كافكا) إلى هذا المكان بسحره وحضوره في أدبه، فهو تشيكيٌّ پراغيّ قبل أن يكون يهوديًّا أو متحدثًا كاتبًا بالألمانية! كذلك يطالعنا الوجود الإيجابي في الجولة المنظَّمة للسياح داخل أروقة وقاعات الپرلمان المجري في (بوداپست)، حيث احتفاء المجريين بثالث أكبر بيوت الپرلمان في العالَم وربما أجملها قاطبةً، واقفًا على ضفة الدانوب وشاهدًا على ديمقراطيةٍ فريدةٍ وإن كانت مجهولةً لكثيرين لتواضع أثرها في مجريات السياسة العالمية. هنا تتضافر العمارة مع المدونات التاريخية والأدبيات السياسية لتخلق جوًّا متحفيًّا حاضرًا بكثافةٍ في مكانٍ لا يُعَدّ متحفًا بالمعنى المتعارف عليه بالتأكيد! 
     أما الوجود السلبي لشخصية المكان Negative Ontology - إذا جاز استخدام هذا المصطلح – فهو تحديد هذه الشخصية بإبراز ما تحرصُ على نفيه وتؤكدُ التخلصَ منه لدرجة السخرية والتهكم! والمثالُ أيضًا من تذكارات پراغ المتناثرة في شوارعها المتحفية القديمة: أغطية الرأس الرسمية لقادة الجيش الأحمر السوفياتّي! تلك (الباريهات) المحلاّة برموز القوة العسكرية الضاربة للقوة العظمى التي كانت، والتي تمثّل بالنسبة لكثيرٍ من التشيكيين ماضيًا قريبًا بغيضًا بدأ من قبل ربيع پراغ عام 1968 وانتهى مع الثورة المخملية التي قادها الكاتب المسرحي (فاتسلاف هافل) عام 1989. يمكن للسائح أن يفاوض البائع في سعر الباريه – بحسب الرتبة التي يمثلها الباريه بالطبع – ليحتفظ في منزله بغطاء رأسٍ غير تقليديٍّ يعلن من خلاله توحُّدَه مع عاطفة أبناء بوهيميا بينما يتهكم على المجد السوفياتي الذي كان!
     قريبٌ من هذا التذكار الخاصّ دخولُك بيت الرعب في بوداپست Terror Háza! إذا سمعت به فربما تتوقع معرضًا لأشباح الحكايات الشعبية المجرية مثلاً، لكنك ستفاجأ بأن الرعب هنا هو ذكريات التهديد النازي ثُمّ الشيوعي السوفياتي. مقتنيات المتحف تتسع لأجهزة إرسال الراديو الضخمة المعقدة وأجهزة التنصت التي تقبع في أماكنها شاهدةً على عهدٍ منتفخ بالجاسوسية، وقصاصات من جرائد قديمة صفراء تقول بالمجرية وربما بالروسية أو الألمانية أخبارًا تدور حول العهدين النازي والسوفياتي، ولوحةً هنا أو هناك لـ(فلاديمير لينين)! قريبًا من بيت الرعب – وبعيدًا عنه كذلك – ستجد لدى بازارات بوداپست تماثيل نصفيةً لـ(يوسف ستالين) وهو يحمل لافتةً تقول بالمجرية:

"Nem sajnálom Magyarországot"لستُ آسفًا أيها المجريون!

      والمهم أنك ستعود إلى بيتك متوحدًا مع الشخصية المجرية التي مازالت تحتفل بتخلصها من هذين العهدين إلى الآن!

      إذا خرجنا من دائرة إثباتات الوجود الإيجابي والسلبي، فربما نعرّج على ظاهرةٍ قريبةٍ مما أشار إليه (ديوي) في بداية المقال، أعني علاقة المتحف بالقومية والإمپريالية. أعود إلى تمثال (چيمس چويس) الذي ينتصب في (ترييستِا) شاهدًا على السنوات التي أمضاها الرجل في هذه البقعة من شرق إيطاليا. هنا لا تكتفي إيطاليا بما يزخر به تاريخُها من رموزٍ أثرَت الإنسانية وأضافت إلى الحضارة، لكنها تصادر كاتبًا قادمًا من الجزر البريطانية – يَعُدُّه الأيرلنديون أحد رموزهم الوطنية – لصالح الثقافة الإيطالية! في اللحظة التي أتأمل فيها (مستر چويس) متقبّعًا كعادته، مبتسمًا، مُميلاً رأسه قليلاً إلى اليمين، أتذكر مجموعته القصصية الأشهر (أهل دبلن) وأجده يُسرّ إليّ بأنه ربما كان إيطاليًّا بقدر ما كان (أيرلنديًّا) لكن هذا سِرٌّ لا يعرفه الكثيرون! والخلاصة أنني إذا فتشتُ في قرارة نفسي أجد أحد أسباب حبي لـ(ترييستِا) حضور (چويس) هناك بابتسامته وقبعته و(برونزه)! هنا خلع الإيطاليون على الرجل قوميةً إيطاليةً وعززوا مكانة بقعةٍ من أرضهم بحضور رمزٍ أدبيٍّ لا تنقصه محبة المهتمين بالأدب من كل بقاع المعمورة.

     أعود سريعًا إلى پراغ لأطوف بنمطٍ استثنائيٍّ من المتاحف يتخذ منها موطنًا له! هنا متحف (السيمياء) حيث تجتمع نثرياتٌ بعضها ملفّق في الحقيقة، لخلق حالة سيمياء العصور الوسطى وسعي المشتغلين بها إلى حجر الفلاسفة وتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب! هنا (متحف الأشباح) حيث تطالعنا قصاصات ملصقة على الجدران تحكي بعض الحكايات الشعبية البوهيمية والمورافية (من غرب التشيك وشرقها على الترتيب)، مدعَّمةً بنماذج مثيرةٍ لتوجُّس الرعب وإضاءة خافتة  low key

كالتي يستخدمها السينمائيون في أفلام الرعب! هذا النمط من المتاحف يعزز الصورة المرتسمة لپراغ في الوعي الجمعي البشري باعتبارها عاصمةً من عواصم العالم القوطي الغامض الغارق في تفاصيل القرون الوسطى وما بعدها إلى عصر التنوير الأوربي!

     وفي الحقيقة، يبدو التشيكيون من أوفر الشعوب حظًّا من البراعة في تسويق بلادهم باعتبارها متحفًا مفتوحًا كبيرًا، ففي پراغ كذلك نجد (متحف الجنس) الذي يحتفي بعرض بعضٍ من الألعاب الجنسية التي جادت بها قرائح بني البشر لمضاعفة اللذة المتوقعَة من العلاقة الحميمة، وصولاً إلى الاحتفاظ بواحدٍ من أقدم الأفلام الپورنوغرافية السينمائية لعرضه على مرتادي المتحف! فإذا خرجتَ من المتحف، اصطدمت بالـ(تي شيرتات) المعروضة لدى باعة التذكارات، مرسومًا عليها أكواب (البيرة) التشيكية بأنواعها المختلفة التي يعتبرها لأجلها متعاطو الكحوليات عاصمة البيرة في العالم، فضلاً عن كونها عاصمةً للمتع الحسّيّة إجمالا!

     ربما يحل طرح المتحف المفتوح إشكالية عزلة الفن التي أثارها (ميرلوپونتي) - كما قدّمتُ في بداية المقال – بدرجةٍ ما، وفي حقيقة الأمر فإنه يبدو من التعسف أن نغفل ما تكتنزه المتاحف  - مفتوحها ومُغلَقها - من الجَمال لأجل تأمل (ميرلوپونتي) أو غيرِه! وبغض النظر عن دور المتحف في تكريس الإمپريالية كما أشار إليه (ديوي) – وهو دورٌ يمكن تقليصه إذا اشتدّ عُود الدول التي هُرِّب تراثُها ضمن أسلاب ناپوليون وغيرِه فطالبت بعودته سالكةً ما درج المتفاوضون على سلوكه من طرق الدبلوماسية والحِجاج الدولي – فإن المتحف سيظلّ ذلك المكان الذي يستحق اسمه في اللغات الأوربية

Museum

المشتقّ من اسم ربّات الفنون عند اليونان الأقدمين، لكل ما يكفله من براح للتأمل والمتعة العقلية والدراسة، وما يثيره من ارتباطٍ عاطفيٍّ يجُرّ بالضرورة ارتباطًا ماليًّا بالبلد التي يوجد في أرضها، سواءٌ كان محاطًا بالجدران كاللوفر والپرادو أو مفتوحًا للسابلة كخان الخليلي وشوارع (پراغ) القديمة! فحتى في المصادرات الثقافية الضمنية التي تثيرها رؤية مستر (چويس) في ترييستِا، يمكننا أن نلمح في الظاهرة المتحفية انتصارًا عابرًا للحدود متعاليًا على القوميات. وهو – إذا تأملناهُ جيّدًا - انتصارٌ للإنسانية.

محمد سالم عبادة

15 يوليو 2017

.................
نُشِر في عدد يوليو 2017 من مجلة عالَم الكتاب   
     

Article 0

$
0
0


پانوراما الفكر الجَمالي
قراءة في كتاب (فلسفة الفن في الفكر المعاصر) للأستاذ الدكتور زكريا إبراهيم

     من الصعوبة بمكانٍ أن يتصدى المرءُ للتعليق على كتابٍ كهذا. مرَدُّ الصعوبة في تقديري أنّ مؤلِّفَه أستاذنا الدكتور زكريا إبراهيم يبدو كما لو كان لم يترك شيئًا ليُقال!
     في ثلاثة عشر فصلاً وخاتمةٍ وتذييلٍ (قُل: في خمسة عشر فصلاً) يفتح أستاذ الأساتذة نوافذ على فلسفة الفن عند عددٍ من فلاسفة العالَم المعاصرين له والسابقين عليه بقليل. وهي نوافذُ يحاول من خلالها إلقاء الضوء على أبرز سمات الفكر الجماليّ عندهم دون أن يدّعِيَ الإحاطةَ بتفاصيل مذاهبهم الجمالية، ثُمّ يشفع كل فصلٍ بإبراز مآخذه على ذلك المذهب الجمالي وأوجه نقصه كما يراها.
     فمثلاً تبدأ الپانوراما بـ(هنري برجسون) وفلسفته الحدسيّة حيث الفنّ عنده إدراكٌ حِسّيٌّ خالصٌ وهذا الإدراك دون سواه هو ما يميز الفنان عن غيره من الناس. مستعينًا باصطلاحات (كانت) الشهيرة، يلخّص (برجسون) رؤيتَه في أنّ الفنان يرى الشيءَ في ذاتِه (أي في فرديته المتعينة) لا يرى مجموع العلاقات النفعية التي تربطه بحاجاته الحيوية. وهو بهذا يوحّد بشكلٍ ما بين عِيان الفنان من ناحيةٍ والمعرفة الصوفية من ناحيةٍ أخرى. ويؤاخِذ أستاذُنا (برجسون) على تجاهُلِه جانبَ الفعل/ الخلق في الظاهرة الفنية.
     بعد هذا تنفتح نافذة أستاذنا على (بندتّو كروتشه) الذي يخفف من حِدّة تقسيم (برجسون) الأرستقراطي للبشر إلى فنانين ذوي عيانٍ حدسيٍّ ممتازٍ وعوامّ يفتقرون إلى هذا العيان، فيقول بأنّ الفارق بين الشاعر مثلاً والرجل العادي هو فارقٌ كمّي لا كيفي، ويفسر بهذا تفاعُل الجمهور مع الفن وظاهرة تلقّي العمل الفني. لكنه - فيما يقول المؤلف - يظل حبيس مذهبه المثالي فيظل بالتالي الفن عنده (حدسًا تعبيريًّا) وتظل فاعلية الفنان فاعليةً تعبيريةً تنحصر في القدرة على تكوين الصور الذهنية، ويتجاهل كل جهدٍ تحقيقيٍّ يبذله الفنان في إخراج عمله إلى النور.
     بعد (كروتشه) ينتقل (زكريا إبراهيم) إلى (چورچ سانتايانا)، وربما تكون النقطة الجديدة في مذهبه كلَّ الجِدّة - في إطار العرض الپانورامي الذي تكفل به الكتاب – هي بيانه لأوجه الاختلاف بين القيم الجمالية من ناحية وتلك الأخلاقية والعملية من ناحيةٍ أخرى. فالجمالية عنده قيمٌ إيجابية تمدنا بلذات حقيقية، مكتفية بذاتها غير مطلوبةٍ لغايةٍ وراءَها، بينما الأخلاقية سلبية تقتصر مهتمها على اجتناب الألم ومحاربة الشر. والإحساس بالجمال عنده هو الإحساس بوجود خيرٍ محضٍ إيجابي تماما. ويحاول (سانتايانا) في كتابه (الإحساس بالجمال) إقامة أخلاقٍ جمالية، انطلاقًا من الفكرة اليونانية القديمة التي تجمع بين الخير والجمال في مفهومٍ واحد Kalokagathia. وهو في دفاعه عنها يذكّرنا بأديبنا المصري الراحل الكبير (إدوار الخراط) في كتابه المهتم بنقد الفن التشكيلي (في نُورٍ آخر)، حيث يقرر (الخراط) أن ممارسة الفن - بما تنطوي عليه من تحرّي الكمال والاستغناء عن الفضول ونُشدان التناسب في العمل الفني – يمكنها أن تنعكس على حياتنا الخُلُقية بالإيجاب. والمهم أن أستاذنا (زكريا إبراهيم) يأخذ على (سانتايانا) ابتداءه من نقطة التفرقة بين الجميل والخيِّر، وانتهاءه بالتوحيد بينهما في نسقٍ صُوفِيٍّ يفوق الوصف ويستعصي على التحليل في رأيه.
     ثُم يلتفت الكتاب إلى (چون ديوي) الذي يرد الظاهرة الفنية إلى خبرة الحياة العادية، فعنده الإيقاع الناشئ عن فقدان التكامل مع البيئة ثم استعادة الاتحاد بها هو المظهر البدائي لكل خبرة جمالية. ويرتبط هذا الطرح – فيما يقول أستاذنا – بنزعة (ديوي) التجريبية التي ترفض التجريدات الميتافيزيقية الشاطحة والتأملات اللفظية العقيمة. وفي هذا الطرح يصبح الفنّ بالفعل قاطرةً للحضارة البشرية تشدُّها إلى الأمام، طالما أنّ الممارسة الفنية تحقق تكيفًا للمرء مع بيئته بطريقةٍ ما، وتَظهر على أثر هذا التكيف نوعيةٌ أخرى من المشكلات تتطلب بذل جهدٍ من نوعٍ مختلفٍ لمواجهتها، وهكذا دواليك في ترقيةٍ واضحةٍ لدوافع الموجود البشري. وفي تصوري أن هذا الطرح لـ(ديوي) الذي شرحه أستاذُنا يعزز دور الفن كمكوّنٍ في البنية الفوقية للمجتمع يعمل على زيادة تعقُّد الحضارة طالما أنه ينقلُها باستمرارٍ من طورٍ إلى طورٍ أكثر تركيبا. يبقى النقد الذي يوجهه أستاذنا لنظرية (ديوي) متمحورًا حول الصبغة الپراجماتية التي تصطبغ بها رؤيته للفن من حيث هو مجرد نشاطٍ أداتي في خدمة غاياتٍ اجتماعيةٍ وحضارية.
     أمّا (ألان Alain) وهو الاسم الذي اشتُهر به الأديب والفيلسوف الفرنسي (إميل شارتييه) فيركز على جانب العمل والصنعة في الظاهرة الفنية إلى درجة القول بأن الإلهام نفسه وليدُ عملية التعبير بدرجةٍ ما، وأن الفنان هو من يصطرع مع المادة حتى يُجبِرَها على أن تنعطف وتتثنى تحت تأثير ذبذباته الفكرية! وبهذا يقرّب (ألان) بين الفن والصناعة حيث يشعر المرء في كلاهما بمقاومة المادة ويتجلى جهده الإبداعي في التغلب عليها. لكن أستاذنا ينعي على (ألان) اهتمامه بتعمُّق طبيعة الصلة بين الفن والصناعة، حيث هو في التحليل الأخير لم يَقل إلا أن الفنان صانع! كما ينعي عليه اهتمامه بالتقسيم التعسفي لأنواع الفنون إلى سكونية وحركية أو جماعية وفردية على حساب الاهتمام بدراسة طبيعة الموضوع الجمالي.

     في الفصول السابقة وفي غيرها يلفت أستاذنا الراحل أنظارنا إلى العلاقة الوثيقة بين المذهب الجمالي لكل فيلسوف وفلسفته العامة. فمثاليةُ كروتشه وتجريبية ديوي مثلاً قائدتا هذين الفيلسوفين إلى رؤيتيهما للفن وطبيعته ودوره. كذلك وجودية (ألبير كامي) المحتفية بتمرُّد الإنسان على موقفه البشري وعلى الخليقة كلها كانت قائدتَه إلى رؤية الفن باعتباره محاولةَ الإنسان لإدراك العالَم منتظمًا، متغلبًا بذلك على العبث الظاهر لحواسّه. وربما يكون من أطرف أمثلة هذه العلاقة ما يسوقه أستاذنا في الفصل الذي يناقش مذهب (مارتن هايدجر) الجمالي، حيث يصطنع (هايدجر) منهج الظواهر Phenomenological Methodالذي أرساه الفيلسوف الألماني الكبير (إدموند هوسرل)، والذي يقضي بضرورة دراسة وقائع الفكر والمعرفة دراسةً وصفيةً خالصة. ويقوده هذا المنهج إلى البحث عن أصل العمل الفني، فيقع في دورٍ منطقيٍّ يعترف به (هايدجر) ويقرر ألاّ فِكاكَ منه، وملخص هذا الدور أنه لكي نفهم الفنان علينا أن ندرس أعماله الفنية، في نفس الوقت الذي ينبغي علينا فيه أن ندرس الفنان أولاً باعتباره الأصل في العمل الفني، ويجابهنا حَدٌّ ثالثٌ يزيدُ العملية تعقيدًا هو (الفَنّ) نفسه، حيث لا يمكن أن نشير إلى أشياء متعينةٍ باعتبارها أعمالاً فنيةً قبل أن نفهم أولاً ما هو الفن، في نفس الوقت الذي لا نتمكن فيه من الوصول إلى تعريفٍ للفنّ قبل أن ندرس الخصائص المشتركة للأعمال الفنية! وينتهي (هايدجر) إلى دعوتنا أن نوجّه أسئلتنا إلى العمل الفني القائم بالفعل لنقف على كينونته ونعرف منه طبيعة الفن. وفي الحقيقة فإن مثل هذا الدور المنطقي –  كما يقول أستاذنا الدكتور محمود زيدان في كتابه (مناهج البحث الفلسفي) – يبدو مقبولاً وربما يكون أساسيًّا في بناء المذاهب الفلسفية، لكن حياد (هايدجر) وتجرُّدَه العلمي الصارم ومنهجه في الظواهر، أملَت عليه أن يضع بين أيدينا المشكلة قبل أن يقبلها وينطلق منها إلى بحثه!

     من المسائل المثارة في الكتاب عبر فصوله المختلفة طبيعة العلاقة بين الفن والعلم. يتعرض لها (إرنست كاسيرر) فيَخلُص إلى أنّ العلم واللغة باعتبارهما نظامَين رمزيين من نظم التواصل البشري يهدُفان إلى اختزال الواقع أو اختصاره بُغيةَ فهمه، بينما الفن يهدف إلى تقوية الواقع وزيادة شدته، فهو حضورٌ كثيفٌ في الحياة ودعمٌ للكثرة في الحقيقة، وربما يتضح هذا في اتّكاء الفنّ على الخلق المستمر أساسًا، وهنا يلتقي (كاسيرر) مع (برجسون) - الذي ظلَّ نقطةَ انطلاق الكتاب – في أنّ إدراك الفنان للشيء في ذاتِه مختلفٌ عن إدراكاتنا النفعية للشيء باعتباره مجموع علاقاته التي تربطه بنا بشكلٍ نفعي، ومن هنا يتأكد وجود الأشياء في ذواتها على كثرتها. أمّا (سوزان لانجر) فلم تجعل من الفن مجرد أداةٍ للمتعة الحسّيّة، بل كان عندها وسيلةً للمعرفة مثله في ذلك مثل العلم، فإذا كان من شأن العلم بصفته نشاطًا ذهنيًّا أن يستقدم مضامين العالم إلى مملكة المعرفة الموضوعية، فإن من شأن الفن أن يقوم بدورٍ مماثلٍ ولكن في مجال المضمون الوجداني للعالم. ويتفق (هربرت ريد) مع ما ذهبت إليه (لانجر) في أن وظيفة الفن أن يزوّد المدرك بشيءٍ لم تسبق له معرفته من قبل، لا أن يزوده بلذةٍ مهما كان نُبلُها. ويذهب (ريد) إلى أبعد من ذلك فيقول أن هناك اتفاقاتٍ عامةً بين العلم والفن، فللخيال الإبداعي منطق لا يقل صرامة عن الاستدلال العلمي، ولابد في النشاط الفني – تمامًا كالعلمي – من توافر مثل أعلى للوضوح، وفي استطاعتنا أن نقول إن القابلية للتحقق verifiabilityعنصر ضروري من عناصر الإبداع الفني كما هي مقوم أساسي من مقومات المنهج العلمي!        

     المسألة الأخرى التي يدفعنا إلى تأملها عرض أستاذنا لكل تلك المذاهب الجمالية هي العلاقة الجدلية بين الفن والدين. في الحقيقة تأتي الإشارة إليها على استحياءٍ في ثنايا العرض، لكنّها تبزغ في خلفية البحث حين يتعرض الفلاسفة للفارق بين الآمر الأخلاقي والآمر الجمالي، باعتبار الدين هو الحاضن التاريخي للآمر الأخلاقي. فحين يقول (سانتايانا) إن الإحساس بالجمال إحساسٌ بخير إيجابي مطلق، بينما القيمة الأخلاقية سلبية دائمًا وتدفعنا إلى الاحتماء من الشر، وحين يسترسل (ديوي) فيقول إن ضروب التعارض التي تقام أحيانًا بين الروح والجسد أو النفس والمادة هي مظاهر لخوف الإنسان مما قد تجلبه عليه الحياة، ومظاهر للانكماش والتراجع والفرار، نستحضر على الفور ذلك النزوع الباطن في الدين إلى الزهد والعودة إلى لحظةٍ معياريةٍ في الماضي. في هذا السياق يتجسد الدين كنزوعٍ بشريٍّ لكبح جماح الحضارة، ويبدو أن هذا الكبح جزءٌ أصيلٌ من دور الدين في البنية الفوقية للمجتمع. في تقديري أنّ هذا يفتح بابًا جديدًا في فلسفة الدين وفلسفة الحضارة يحتاجُ من يَطرُقُه ليُطلِعنا على تجليات هذا الدور وإمكانات مصالحته مع حتمية التطور الحضاري الذي يبدو لانهائيّا.   
     مظهرٌ آخر لم يكشف عنه أستاذنا صراحةً في العلاقة الوثيقة بين المذهب الجمالي للفيلسوف وتوجهه الفلسفي العام، وهو تحديدًا ارتباط المذهب الجمالي بمحصّلة الرؤية العقَدِية للفيلسوف. المثال الذي لا يسعني إلا الإشارة إليه هو ذلك التقابل بين (برجسون) من ناحية و(سارتر) من ناحية. أولهما يجعل الفن مطاردةً للوجود الحقيقي ويجعل من عِيان الفنان للموضوع الجمالي عيانًا للشي في ذاته. بينما الثاني يجعل الفن مطاردةً للعدم باعتبار الجمال لاواقعيًّا أو عدَمًا بالأساس، وباعتبار الحرية لازمةً للوعي تنزع إلى العدم، فالفنان عنده بالتالي أشد الناس ممارسةً للحرية ونزوعًا إلى العدم. في تقديري أن إيمان (برجسون) بالمسيحية  - بما تنطوي عليه من عاطفةٍ مشبوبةٍ تجاه المطلق محتَضَنًا في الوجود البشري من خلال حلول اللاهوت في الناسوت في شخص المسيح عليه السلام – وراء هذا الإجلال للجمال (الموجود) غايةً وانتهاءً. بينما إلحاد (سارتر) الباطن في مذهبه الوجودي يجعله يُجِلّ الجمال أيضًا، إلى درجة نفيه عن الوجود، فكما أن الإله غير موجودٍ عنده، فالجمال كذلك غير موجود. ربما يفتح هذا بابًا لتأمل انعكاس الرؤية العقدية للفيلسوف على مجمل فلسفته، ينتظر من يطرقه كذلك!

     قبل النهاية لابد من الإشارة إلى نصوع لغة أستاذنا (زكريا إبراهيم)، التي تتجلى على أكمل وجهٍ حين يتصدى بنفسه لترجمة فقرةٍ من كتابٍ لأحد الفلاسفة تلخص رُوح مذهبه الجمالي، كما في فصل (الفن حرية وإبداع – أندريه مالرو) حيث يترجم فقرةً من كتاب (الخلق الفني La Creation Artistique) لمالرو على هذا النحو: "وكما أن الموسيقار هو ذلك الرجل الذي يحب الموسيقى لا البلابل، بل كما أن الشاعر هو ذلك الإنسان الذي يحب الشعر لا الخمائل، فإن المصور أيضًا هو ذلك المخلوق الذي يحب اللوحات لا المناظر!". وهذا النصوع والحرص على الوضوح يجعله يسائل بعض العبارات الملتبسة التي يعبر بها فيلسوفٌ ما عن فكرةٍ في صميم مذهبه، كما يفعل مع (ميرلوپونتي): "لقد أشاع في فلسفة الفن ضربًا من الغموض حينما قال إن التعبير هو جوهر الجسم وحينما ذهب إلى أنه ليس هناك ما يُعبَّر عنه سوى الجسم! إن ميرلوپونتي على حق حين يقرر أن الجسم مأخوذ في نسيج العالم، ولكننا لسنا نفهم على وجه التحديد ما الذي يعنيه حين يضيف إلى ذلك أن العالم مصنوعٌ من قماش جسميّ"!

     انتهاءً، يبدو الكتاب مهمًّا لكل قارئٍ للعربية مهتم بالفن وفلسفته، كما يهم المهتمين بفلسفة الأخلاق وفلسفة الحضارة وفلسفة الدين بشكلٍ غير مباشر. أخُصّ المشتغلين بالأدب والفن إجمالاً لأن الپانوراما التي يفتحها (زكريا إبراهيم) لقرائه هنا تضيف استبصارًا عميقًا بطبيعة الفن ودوره الحضاري وغاية الفنان ووسائله، أرى أنه لا غني عنه لكل مخلص للفن.

محمد سالم عبادة
30 يونيو 2017
نُشِر في مجلة (عالَم الكتاب) في عدد أغسطس 22017



عن أهمية اللاقراءة: نفايات ثقافية وأشياء أخرى!

$
0
0
     "الكتب بتُثقِل الروح يابو سالم. كان نفسي الواحد يقتصر على مجموعة قليلة جدًا من أمّهات الكتب كده، لأن الباقي دا نفايات ثقافية فعلاً".
     هكذا حدَّثَني الصديق العزيز (محمد فهمي زكي) - طبيب الأمراض الباطنة الشاعر المثقف الموسوعي – ذاتَ أصيلٍ في صيف عام 2013، ونحن واقفان مستندان إلى إفريز النافذة في مطبخ سكن الأطباء بمستشفى دار السلام العام (هرمل) بمنطقة الملِك الصالح/ مصر القديمة.
     الجدير بالذِّكر أنّ جزءًا يسيرًا من مكتبة المذكور كان قد أَغرقَ بالفعل أسطح دواليب السَّكَن، متنوعًا بين الدوريات الثقافية والكتب في معظم حقول المعرفة. ولأنه كان أسبق منّي انتظامًا في هذا المستشفى، سمعتُ به ولم أكن قد رأيتُه مع ابتداء انتظامي. سمعتُ اسمَه من بائع الكتب الذي يفترش الشارع الموصِل من خلف المستشفى إلى محطة مترو الملِك الصالح. وسمعتُ اسمَه من زملائنا حين سألتُ عن صاحب كلِّ هذه الكتب.
     أتذكَّر نصيحةً أسداها إلى قُرّائه (چوزيف بوجر Joseph Boggs) في كتابه (فن الفرجة على الأفلام)، مفادُها أنه من المفيد جدًّا ألاّ يتسرع المُشاهِد في الخروج من قاعة السينما مع انتهاء أحداث الفيلم، وأن يتريّثَ حتى يستمع إلى موسيقى النهاية ويجلس صامتًا بينما يُعرَض شريط صنّاع الفيلم credits. ذلك أنّ هذا التريُّث – من وجهة نظر (بوجز) – يساعد المُشاهِد كثيرًا في فهم ما شاهده وفي تزويد وعيِه بمفتاح استيعاب العمل الفني، ويمنحه القدرة على استعادتِه بشكلٍ ما.
     كما أتذكَّر نصيحةً أخرى أسداها إليَّ وإلى مجموعةٍ من أصدقائي أيامَ نشاط جماعة (سيميا) الأدبية – ربما في 2007 أو 2008 – أستاذنا وأبونا الطيّب الملهِم د.رمضان بسطاويسي, أستاذ علم الجمال بأكاديمية الفنون والناقد الأدبي الكبير. كان د.رمضان يوصينا بألاّ نفوّت كتابًا قرأناه دون أن نعلّقَ عليه. يعني أن نكتب عنه قدرَ ما نستطيع، لأسبابٍ أزعم الآنَ أنها تتفق وما ترمي إليه نصيحةُ (چوزيف بوجز).
     هاتان النصيحتان في تقديري تقفان مع القراءة وضدَّها في وقتٍ واحد. هل يبدو هذا لغزًا؟!
     الأمر بسيط! الفهم دائمًا يقتضي التمهُّل في التلقّي. مدخلاتنا الثقافية - من مقروئات ومسموعات ومرئيات وغير ذلك – تكون أسهل في هضمها وامتصاصها كلما (مضَغناها) جيِّدًا، تمامًا كمُدخلاتِنا الغذائية من نشويات وبروتينات ودهون وغير ذلك. لكنّ هذا يعني أن يتقلّص كَمُّ هذه المُدخلات في النهاية، فهل ثَمَّ ما يبرر هذا التقليص لصالح (الهضم والامتصاص)؟!
     ربما يبرز سؤالٌ ضروريٌّ هنا، هو: "هل هذا التشبيه صائبٌ من الأساس؟"
     في الحقيقة، تبدو لي الإجابة القاطعة على هذا السؤال صعبةً لأنها في تقديري تستندُ إلى الخبرة الذاتية التي لا مجال لنقلِها إلى الآخَرين، لكنّي مضطَرٌّ إلى تأكيد موقفي بالإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. نعم هو تشبيهٌ صائبٌ إلى أبعد مدىً ممكن!
     في خبرتي المتواضعة، تتابع المدخلات الثقافية يسبب ارتباكًا لا يُجحَد. قد يسفر هذا الارتباكُ عن إبداع تجربةٍ جماليةٍ في حقلٍ من حقول الفن. أذكرُ في هذا الصدد لقاءً تليفزيونيًّا قديمًا للفنان التشكيلي الكبير (محمد عبلة)، قال فيه ما معناه إنه يعمَد إلى رشق وعيه بالمدخلات الثقافية (مشاهدة لوحات بعينها أو قراءة أعمال أدبية أو الاستماع إلى موسيقا ما) بُغيةَ حَفز ملَكَاتِه الإبداعية، وأزعم أني دأبتُ طويلاً – على بدائية تجربتي الإبداعية وتواضعها إلى جوار مُنجَزِه التشكيلي - على فعل الشيء ذاتِه، ولكن ..
     خلال فعل (الرشق) هذا نفسه لابُدَّ من توقُّفٍ أمام هذه المدخلات لتُحدِثَ أثرَها. أمّا بعيدًا عن هذا الفعل فإنّ الارتباكَ الناجمَ عن تتابع المدخلات الثقافية في سرعةٍ يشبه بشكلٍ ما أو بآخر (التلبُّكَ المعويّ)! أنت لا تستطيعُ أن تقف على جماليات روايةٍ عظيمةٍ وإحالاتِها المعرفية إذا أتبعتَها روايةً أخرى غيرها بمجرد انتهائك من قراءتها، وقُل مثل ذلك في أي منجَزٍ فنّيٍّ تتلقاه.
      
     تخبرنا الدراسات التي تتناول الآثار الصحية للصوم بأنّ الجسم يبدأ في التغذّي على مخزونه من النشويات (الجليكوجين المخزون في الكبد تحديدًا) ثُمّ الدهون ثم البروتينات في النهاية كلما طالت فترة الصوم. ما يحدثُ حين تنتهي من روايةٍ عظيمةٍ ووتوقف على إثرِ ذلك مُدَّةً ما عن القراءة (أو في جلوسك أمام شاشة السينما بعد انتهاء أحداث الفيلم كما ينصح بوجز) هو أنك تُحيلُ معرفتك المكتسبة حديثًا من خلال الرواية أو الفيلم إلى خزانة معارفك القديمة، فتتلاقح معارفُك في هذه المُدَّة وتُنتج معرفةً جديدةً وبصيرةً وليدة. وكلما طالت هذه المُدَّة كانت فرصتُك لتأمُّل المكنون في خزانة معارفك الداخلية أكبر.
     في الحقيقة، يبدو أنك تحظى بفرصةٍ أكبر لـ(تقرأ) بشكلٍ أعمق وأهدأ كلما قلَّصتَ عدد مقروئاتِك! الانكباب على موالاة كتابٍ بآخر في سرعة يحوِّل الكتب إلى نفاياتٍ ثقافيةٍ بالفعل. مواد غذائية تزيد عن حاجتك ولا تسبب لك إلاّ ترهُّلاً يُمرِضُك ويُثقِلُ رُوحَك.
     عند هذه النقطة أتذكر حديثًا آخر مع صديقٍ عزيزٍ آخر هو (د.وليد الخولي) الجَرّاح الشاعر كاتب السيناريو الناقد الأدبي. منذ عِدَّة أعوامٍ أخبرني بأنَّ التحاقَه بأكاديمية الفنون ساعدَه على (تنظيم) قراءاتِه. بَدَهَني تعبيرُه (تنظيم القراءة) يومّذاك كما لو كنتُ لم أسمع به من قبل!
     تنظيم القراءة يقتضي أن تكون هناك أولويّاتٌ مُلِحَّة، ومشروعاتٌ مؤجَّلَة، و .. نعم: (نُفاياتٌ ثقافية)!
     لكن في تقديري، نفاياتُك (أنت) الثقافية ليست بالضرورة نفاياتٍ ثقافيةً في تقدير غيرك. الحُكمُ ليس مُطلَقًا وهو غير قابلٍ للإطلاق. قراءة (الإلياذة والأدويسا) مهمة لكثيرين يهتمون بمعرفة تاريخ أمّة اليونان القديمة وأساطيرها ومكوناتها الثقافية، لكنّها قد تصبحُ مُجَرَّدَ نُفايةٍ ثقافية لشخصٍ أولويتُه الآن تكوينُ رأيٍ بخصوص سياسة الانفتاح في عهد (السادات) مثلاً! وقِس على ذلك.
     المهم أن تتسامح مع فكرة النفايات الثقافية ولو بشكلٍ مؤقَّت لتستطيع ترتيب أولوياتك في طمأنينة. والمهمُّ قبل ذلك أن تُدرك تمامًا أن اللاقراءة لا تقلُّ أهميةً للثقافة عن القراءة!
..............
محمد سالم عبادة
25 ديسمبر2017

نُشِر في موقع (هاف بوست عربي) يوم 29 ديسمبر2017     

مسارٌ حتميٌّ للعِلم الجَمُوح: قراءة في مسرحية (إنسان روسوم الآلي) للكاتب التشيكي (كاريل تْشابِك)

$
0
0
     يظلُّ صعبًا أن يتعرض المرء لمحاولة قراءة نصٍّ مسرحيٍّ قديمٍ تواطأ الزمنُ وريادةُ كاتبه وشهرتُه العالمية على تكريسه كنصٍّ كلاسيكيٍّ في الوعي الجمعي لمحبّي المسرح. لكن يبدو أنه لا مفرَّ من أن يبسط المرءُ أفكاره عن النصوص التي مسَّت وترًا حسّاسًا في ذائقته، لعلَّ فيها جديدًا حقيقيًّا جديرًا بأن يُضافَ إلى كُلِّ ما كُتِب عن هذا النصّ.
     النسخةُ التي وقعت في يدي  هي التي قام بترجمتها إلى العربية أ.د. طه محمود طه، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الكويت، لمصلحة سلسلة (المسرح العالمي) الصادرة عن وزارة الإعلام الكويتية، معتمدًا على ترجمةٍ وسيطةٍ من التشيكية إلى الإنجليزية، أنجزها (ب. سلفر) بحسب الغلاف الداخلي للنسخة. في الحقيقة لم يبخل أستاذنا (طه محمود طه) بمعرفته العميقة والموسوعية فيما يتعلق بتاريخ فكرة (اليوتوبيا) ومفهوم الإنسان الآلي وما يرتبط بهذين الموضوعين من  موضوعاتٍ فلسفيةٍ وإنسانيةٍ أثرى بها مقدمتَه لهذه النسخة.
     ومما أثبته (د.طه) في هذه المقدمة سَبقُ هذه المسرحية إلى تناول اليوتوبيا العلمية بعد فترةٍ طويلةٍ امتدّت من نهايات القرن التاسع عشر إلى سنة كتابة هذا النص عام 1920، انفردت فيها القصّة بهذا الحقل الخيالي. وفي تقديري أنَّ هذا التأخُّرَ في جانب الكتابة المسرحية مرجِعُه إلى طبيعة الخطاب المسرحي كتابةً وأداءً، فمن أخَصِّ خصائص خطاب هذا النوع الأدبي الفنّيِّ: المبالَغَة. المبالغة الأدائية من ممثلي المسرح ضروريةٌ للوصول إلى المتلقِّين، حيث العلاقة المباشِرة لمن يعتَلون الخشبةَ بالجمهور لا تضمنُ أن تصلَ الانفعالاتُ المُقَدَّرَةُ بقدرها الطبيعيِّ من الممثل إلى المتفرجين، وذلك بحكم المسافة الفيزيقية التي تفصل الخشبة عن مقاعد الجمهور ببساطة. ولأنَّ كل من يتعرضُ للكتابة المسرحية يشرعُ في الكتابة وفي خلفية وعيِه هذا الاعتبار، فهو لابُدَّ مستعينٌ بقدرٍ من المبالغة في توجيهاته لحركات الممثلين وفيما يبسطه من حوار شخصياته وفي انتقالات دفة الحوار ودفة الأحداث. المحصِّلَةُ أنَّ المبالغةَ تفرض نفسَها في المسرح. يأتي هذا ليصطدم بطبيعة اليوتوبيا العلمية القائمة على الخيال العلمي، وما يتطلبه هذا من قفزٍ على مفهوم الاستحالة المعرفية Epistemic Impossibility
بمعنى أنَّ الكاتب يتحدى المنظومة العلمية المستقرة في وقت كتابتِه عملَه هذا، فيأتي بتصوراتٍ لا يُعضِّدُ إمكانيةَ حدوثها الواقعيِّ حاضرُ العلم بتقنياتِه وحقائقه التي وقفَ عندها في اللحظة الراهنة. وفي هذا ما فيه من المبالغة بدَورِه، حيثُ يفترضُ صدمةً معرفيةً وتخييليَّةً للمتلقِّي، الذي يكفيه في العُرف المسرحي المستقِرِّ ما يواجهه من مبالغات المسرح المُكَرَّسَة كتابةً وأداء! وهو ما لا يحدث حتى مع اليوتوبيا (المثالية) التي لا دخل للعلم فيها، حيث الصدمةُ أقَلّ لأن العمل لا يواجهُ حقائق علميةً مستقرةً في وعي المتلقِّين. 
لهذا كان الإقدام على كتابة مسرح الخيال العلمي مغامرةً إبداعيةً عنيفة. ولا يُقاسُ مدى هذه المغامرة بالتناوُل          القصصيِّ لموضوعات الخيال العلمي، لكلِّ ما يتوافرُ في القِصِّةِ من حميميةٍ كوسيطٍ يحتضنه المتلقّي بين يديه ويُقبِلُ عل قراءتِه بإيقاعه الشخصيِّ الخاص.
معروفٌ بالطبع أن هذه المسرحية الشهيرة ديستوبيا، حيث تسير الأحداث في اتجاه سيطرة مجتمع (الناس الآليين) على البشر وإفناء حضارة الجنس البشري. ينقُد (تشابك) العلمَ بصفته إفرازَ الحضارة الضروري وقاطرتَها إلى التقدم في وقتٍ واحد. يفعلُ هذا على عدّة مستوياتٍ أوضحُها بالطبع هو الاتِّجاه العامّ لأحداث المسرحية، ثُمّ النقد المباشر بلسان الشخصيات، وبينها (دومين) مدير المصنع نفسُه حين يقول لـ(هيلينا): "أراد روسوم العجوز أن يشارك الله في قدرتِه وكان ماديًّا مخيفًا لذلك قام بكل هذا العمل. ولم يكن له من هدفٍ سوى أن يُمِدَّنا بالدليل على أن العناية الإلهية لم تعد ضرورة". لكن لعلَّ ألطفَ وأدَقَّ هذه المستويات هو إشاراتُ (تشابك) المنتثِرَة في ثنايا الحِوار. مِن أهمّ هذه الأشارات تعليق (هيلينا) على اسمَي الرجل والمرأة الآليين الذَين قدمهما لها (دومين)، حيث هما (سولا) و(ماريوس)
Sulla & Marius
فتصفُ اختيار هذيين الاسمين بالشناعة – لاسيَّما (سولا) المرأة – لأن (سولا) اسمُ رجُلٍ، والاسمان كانا لقائدَين رومانييّن قامت بينهما حربٌ أهليةٌ بين عامي 89 و88 ق.م. إجابة (دومين) الكوميدية هي أن فريق العمل ظنّ الاسمَين لعاشِقَين!
     هذه الإشارةُ إلى استغراق طائفةٍ من العلماء في العلم التجريبي وجهلهم المُطيِق بالتاريخ الإنساني، أو معرفتهم بقشوره بشكلٍ سطحيٍّ لا يُسمِنُ حكمةً ولا يُغني من حماقةٍ وتهوُّر، تمثّل نقدًا لاذعًا لمسار العلم الحديث وربّما مسار التعليم العلمِيّ كذلك في انقطاعه الصارم عن الإنسانيات كرافدٍ معرفيّ. وتزداد مناسبة اختيار هذين الاسمَين وتتعمق دلالةُ المفارقة حين نعرفُ أنّ الحرب الأهلية المُشارَ إليها في التاريخ كانت بسبب اغتيال (ماركوس ليفيوس دروسوس) وإلغاء إصلاحاته التشريعية الهادفة إلى منح حلفاء روما في عموم الأراضي الإيطاليةِ مواطنةً رومانيةً كاملةً تستتيعُ حقَّهم في التصويت على السياسات الخارجية والداخلية لروما. يشبه هذا إنذارًا من الكاتب في بداية المسرحية بأنَ هؤلاء الناس الآليين سيشعلونها حربًا مع تقدُّم الأحداث لسببٍ مشابهٍ لما حدث في روما القديمة، وهو ما يحدث بالفعل حين يطالبون بأن يقوم مجتمعُهم العالميُّ على حساب البشر الذين أصبحوا بلا عمل!
لطيفةُ أخرى في اختيار أسماء بعض الشخصيات. هناك عالِم الفسيولوجيا (جال) أو (جول) كما عرَّبَه (د.طه)
Gall
الذي اختار له (تشابك) هذا الاسم الذي يعني في التشيكية ما يعنيه في الإنجليزية: (العُصارة الصفراوية)! هذه العصارة التي كانت تمثّل في الطبّ القديم أحد الأخلاط الأربعة (مع البلغم والدم والسوداء) والتي أصبح اسمُها يمثل في تراث اللغات الأوربية إشاراتٍ مختلفةً إلى الخُبث أحيانًا والشجاعة أحيانا. هو يجسِّد هذه الورطة التي يخلقها العلم ويقعُ فيها، لاسيَّما حين يخلُقُ على صورة (هيلينا) البطلة زوجة (دومين) آلِيَّةً تحمل نفس الاسم المربِك الحافل بالإشارات بدوره .. (هيلينا) اليونانية التي اختطفها (باريس) أو (ألكساندروس) الطروادي والتي بسببها قامت حرب طروادة. هي هنا التي اختطفها أوّلاً مجتمع العلميين القائمين على المصنع من الجمعية الإنسانية التي ابتعثتها لتطَّلِع على أحوال الناس الآليين، ثُمّ اختطفها في صورةٍ آليّةٍ مجتمعُ الآليين أخيرا. هي المخطوفةُ أبدًا من يدٍ إلى يدٍ في حربٍ أبديةٍ، لكنّ (تشابك) يمنحها في الختام فرصةً لتكون حوّاء ما بعد فناء البشر!
من هذه اللطائف كذلك حديثُ (ألكويست) المهندس المدنيّ لـ(دومين): "لقد كان في العمل لذةٌ جميلة يا دومين. كان العمل شيئًا عظيمًا في الإنسانية. لقد كان هناك نوعٌ من الفضيلة في الكدح وفي التعب". (ألكويست) هو الوحيد الذي يعمل بيديه بين شخصيات المسرحية، ويظهر في أكثر من مشهدٍ ويداه متَّسِختان من أثر العمل، ويُبقِي عليه الآليُّون في مفارقةٍ دالَّةٍ لاعتقادهم أنه مثلُهم لأنه يعمل بيديه، ثُم يرجونه بعد ذلك أن يخبرَهم بكيفية صناعة المزيد من الروبوتات (حيث أحرقَت هيلينا مخطوطَ روسوم الأصليَّ لصناعة الروبوت قبل أن يقتلوها). الشاهد أنّ العلم بتوفيره الجهدَ البشريَّ من خلال قيام الآلة بالمزيد من العمل – قاطرًا الحضارة إلى تقدُّمٍ ما – يقضي على تلك الفضيلة الخلُقِيّة التي يتغني بها (ألكويست). هل يُدَكِرُنا هذا بالكثير من المأثورات في الأديان المختلفة، بينها قولُ نبي الإسلام: "إنَّ من الذنوب ما لا يكفِّرُها إلا السعيُ في الرزق"وإثناؤه على الرجل الذي أحجمَ عن مصافحتِه خجلاً من كفَّيه الخشنتين من أثر العمل: "إن هذين يدان يحبهما اللهُ ورسولُه"؟!
في تقديري أنّ ألطف إشارات (تشابك) في حبكة المسرحية تتمثل في الغياب الجسدي لـ(روسوم)! العالِم العجوز الذي بدأ الأمرَ كُلَّه وأعلن إلحادَه وبالتالي قتل مفهومَ الإله بشكلٍ مجازيٍّ قبل بداية أحداث المسرحية، جاءه ابنُ أخيه المهندسُ الواعدُ (روسوم) الشابّ الذي عمل معه فترةً ثُمَّ تمرَّد عليه وتركه ليجرِّبَ في معمله مع (مساخيطه) – بحسب قول (دومين) في ترجمة د.طه – وانطلق ليبني الإنسان الآلي الحقيقي الذي يشبه صورة الآدميين والمتكامل ميكانيكيًّا كما ينبغي للكمال أن يكون! لقد قتل هذا المهندسُ عمَّه (روسوم) مجازيًّا بدَوره. ثم جاء الغياب الجسديُّ لهذا المهندس العبقريِّ عن أحداث المسرحية رغم إنجازه العلميِّ الضخم قتلاً ضمنيًّا له هو الآخر. بهذه الطريقة المكرَّسَة بهذا اللطف في المسرحيةِ يُحَوِلُ العِلمُ الجَمُوحُ الذي لا يعترف بالعوائق الخُلُقيةِ المشتغلين به إلى مشروعاتِ آلهةٍ مقتولة! إنها عمليةٌ كأنها جزءٌ مفصليٌّ في بِنية النشاط العلمي الجَموح، وكأنها انتقامٌ إلهيٌّ - ينتمي للألطاف الخَفِيَّة – ممّن يجرؤون على القتل المجازي للمُحَرِّك الأوّل!
     في ختام المسرحية نكتشف أنَّ شكلاً من أشكال الرُّوح قد دَبَّ في رجلٍ وامرأةٍ آلِيَّين هما (بريموس) و(هيلينا) التي صنعها العالِم (جول) على هيئة (هيلينا) البطلة التي ماتت، وأنَّ هذين الآليين وقعا في حب بعضهما البعض. يسمح لهما (ألكويست) – بعد أن تسيَّد مجتمعَ الروبوتات الآيِلَ إلى الفناء بسبب احتراق مخطوط روسوم - بأن يذهبا بعيدًا ويؤسسا مجتمعًا بشريًّا – أو شبهَ بشريٍّ – جديدًا، ويدعوهما (آدم) و(حواء)، ثم يتلو من إنجيل (لوقا) آياتٍ: "فخلق اللهُ الإنسانَ على صورتِه. على صورة الله خلقَه"إلى: "الآنَ تطلِقُ عبدَكَ يا سيِّد، حسب قولِكَ بسلامٍ لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصَك". بهذا الاقتباس الأخير يبسطُ لنا (تْشابِك) رؤيتَه للدِّين كمقوِّمٍ للحضارة وضرورةٍ للاجتماع البشري، رغم تمرُّد (روسوم) العجوز على الدين في البداية في غمرة إخلاصه للحضارة! ويظهَر من هذا التناوُل أنَّ الدِّينَ يقوم بوظيفتين للحضارة تبدوان متعارضتين بالفعل، فهو يبعثُها ويحثُّ الناس على الإعمار وصولاً إليها، لكنَّه يقفُ كابحًا جموح هذه الحضارة في الوقت ذاتِه، ويبدو أنَّه لكي تتجاوز الحضارةُ نقطةً بعينِها من سيرورتها عليها أن تتجاوز الدِّين مع هذه النقطة، لكن المفارقة أن هذا التجاوُزَ يُسرِعُ الخَطى بالحضارة إلى نهايتِها وفَناء الجميع! هنا تبدو فضيلةُ العمل- التي حدَّثَنا عنها (ألكويست) والتي يحثُّ عليها الدِّينُ – بدورها قاطرةً للبشرية وفي نفس الوقت فإنَّ المزيد من العمل بلا تراخٍ يفرزُ بالضرورةِ بحثًا علميًّا يُفضي إلى استئصال العمل والكدح من النشاط البشري، وبالتالي اقتراب النهاية!
 هي معادلةٌ تبدو حتميةَ الحدوث وغيرَ قابلةٍ للحَلّ تبعًا للمسرحية، وليست المسرحية بحسب هذه القراءة إنذارًا شديد اللهجةِ من (تْشابِك) للبشرية بضرورة الإبطاء من عجلة التقدم العلمي لصالح الرجوع إلى الدين، بقدر ما هي إيضاحٌ لرؤيته المعقَّدَة ومحاولةٌ منه للفت انتباه جمهوره إلى أنَّ المصير قادمٌ وحتميّ وكلُّ ما هُنالِك أن نحاول إبطاءه، عسى ألاّ يحدُثَ ونحنُ على ظهرِها!
محمد سالم عبادة
 فبراير 2018
نُشِر في صحيفة (مسرحنا) الإلكترونية في عدد 19 فبراير 2018
      

مِن تقمُّص تاريخ العَدُو إلى حصارِه به: قراءة في مسرحية (شمشون ودليلة) لمُعين بسيسو

$
0
0


     منذ السطور الأولى التي يُنطِقُ بها الشاعر الفسلطيني الراحل الكبير (معين بسيسو) شخصيات مسرحيتِه هذه، يتبين أنه عازمٌ على كسر الحائط الرابع الافتراضيّ بين الممثلين والجمهور. الوجه الأول الذي لا يحملُ اسمًا في هذه المسرحية يقولُ أولَ ما يقول: "فلنكشِف أوراقَ اللُّعبة. وكفانا نرقصُ بالأقنعةِ على الخشبة". يتأكد هذا مع الإيغال في نصّ هذه المسرحية الشِّعرية، حيث يقول الرجُل ذو المِعطَف مثلاً: "هل تنتظرون يدًا تفتحُ سِردابًا تحتَ الخشبةْ. ويقودُكمُ السردابُ إلى الصّالةْ؟"، كما يتأكد مع تكرار الإشارة إلى عالم المتفرّجين في الصالة خلف الأسلاك الشائكة، ومع الممثّلين المندسّين بين الجمهور، يقومون في منتصف المسرحية ليُلقوا بالأربطة الطبية البيضاء والنقود والطعام إلى الممثلين من فوق السلك الشائك. هذا الفِعلُ المسرحيُّ المتبادَل بين الخشبة والصالة يُذَكِّرُنا بما أراد المسرحي العظيم (سعد الله ونُّوس) أن يفعلَه وضمَّنَه مقدِّمتَه لمسرحيتِه (مغامرة رأس المملوك جابر)، حيثُ تحدث عن الممثلين المبثوثين وسط الجمهور يشاركون في الفعل المسرحي ويتجاذبون الحوار مع ممثّلي الخشبة من آنٍ لآخَر، متمنّيًا أن يصبح ممثِّلو الجمهور هؤلاء نواةً لحوارٍ حقيقيٍّ يقومُ بشكلٍ تلقائيٍّ في مستقبل المسرح بين الجمهور وشخصيات المسرحية. وهذا الرسمُ الذي رسمَه (بسيسو) لمسرحيته يتقاطع كذلك مع مفهوم تسييس المسرح عند (ونُّوس)، حيثُ تصبح مشاركة المتفرجين في الفعل شكلاً من أشكال حضّ المتفرِّجين خارج المسرح (ويُقصَدُ بهم عامةُ العرب في تعاملهم مع القضية الفلسطينية) على المشاركة الإيجابية في الخروج من أزمة الاحتلال الصهيوني. يتجنب (بسيسو) هنا الدخول في تفاصيل واقعيّةٍ متعلقةٍ بالصراع العربي الإسرائيليّ، إلاّ بما يشكّل إطارًا عامًّا لأحداث المسرحية، مِن قبيل الإشارة إلى مرور ستة عشر عامًا على النكبة (وهو ما قد يوحي لوهلةٍ بأنّ زمن كتابة المسرحية هو عام 1964، حتى تسير الأحداث إلى تمام الاحتلال الصهيوني لسيناء وجولان وغزّة وضلوع الأردن الغربية، فنكتشف أنّ زمن إنجاز هذا النصّ هو بعد 5 يونيو 1967 بالتأكيد). وفي هذا التجنُّب ما يُبعِد هذه التجربة المسرحية عن مفهوم المسرح التسجيليّ كما نجدُه عند الكاتب المسرحي الألمانيّ (پيتر فايس) مثَلاً في مسرحيته (أنشودة غول لوزيتانيا) التي سجَّلَ فيها حَرفِيًّا وقائع الاستعمار البرتغاليّ لأنجولا. إلاّ أنَّ (بسيسو) يتقاطع مع (فايس) في مسرحية الأخير الأشهر (ماراصاد)، حيث الرجل الغارق في الصابون والذي يقوم من البانيو في منتصف المسرحية محرِّضًا على الثورة يشبه كثيرًا ملامح شخصية (مارا) الذي كان أحد أهم رموز الثورة الفرنسية وقُتِلَ بينما يستحمّ، إلاّ أنه يخرس سريعًا جدًّا في نصّ (بسيسو)، ربما لأن كاتبَنا يحاول أن ينقِّيَ الثورةَ من فرسان الكلمات البرّاقة الخاوية!
      الخلاصةُ أنّ هذه المسرحية تنأى بنفسها عن المسرح التسجيليّ بقَدر ما تهَبُ نفسها للمسرح السياسيّ في اقتدار.
     التحوُّل الأوضح في سير أحداث المسرحية هو خروج الشخصيات الفسلطينية من كونها محاصَرَةً في عالَم العَرَبَة (وهو الديكور الذي بالَغَ بسيسو في رسمِه للوحات المسرحية الأولى، قاصدًا به ديكور فلسطين المحتلّة)، إلى عالَم المقاومة والفعل الحقيقي. التفاصيل الشنيعة المتعلقة بهذه العَرَبَة ترسِّخُ حالةً كابوسيّةً أصيلةً، على غِرار الخراطيم الطويلة التي يثبتها الكمساري في سواعد وأفخاذ الركّاب ليسحب دمَهم وقودًا للعربة التي لا تمشي في الحقيقة.
     الاستعارةُ واضحةٌ في ديكور العربة، حيث الحالةُ العربيةُ الموسومةُ بالشَّلَل التامّ الذي يكرّسُهُ الزعماء العرب الرسميون، ممثَّلين هنا في سائق العربة والكمساري. كما أنَّ الرجُل ذا المِعطَف الذي يقولُ كلماتٍ رنّانةً ويحاول إغراء الثائر الفلسطينيّ (عاصم) بالتسلُّل عبر الأسلاك الشائكة إلى الصالة حيث عالَم المتفرجين، هذا الرجُل يمثّل في وضوحٍ كلَّ المتخاذِلين الذين يحاولون تمييع القضية الفلسطينية بتذويب الدَّم الفلسطيني في الجنسيات العربية الأخرى، وفي الحقيقةِ لا يتحقق خروج الأبطال من الحِصار إلى المقاومة إلاّ عبرَ الثورة على الأمر الواقع ممثَّلاً في الرجل ذي المعطَف أوّلاً، ثُمّ السائق والكمساري وعالَم العرَبة بأكملِه لاحِقا.
     المهمُّ هو الإحالاتُ الثقافية التي ترِدُ على ألسنةِ الأبطال الفلسطينيين في الجزء الأول من المسرحية في إشاراتهم إلى حالتهم الراهنة المحاصَرَة. الأمُّ التي يتّضِح لاحقًا أنَّ اسمَها (ريم) تقولُ في البداية عن رضيعِها الذي ألقَته من يدِها في إحدى ساعات الرُّعب: "كنتُ أطوفُ به تُرضِعُهُ هذي الأمُّ وتلكَ الأمّ. كان كمَن يتنبَّأْ. كان كمَن كُتِبَ عليه. أن يرضعَ مِن كُلِّ الأثداءْ. إلاّ مِن ثَديَي أُمِّهْ". هذا الطِفلُ الذي يتنبّأ بمستقبَل الشتات الفلسطينيِّ هو تُكَأةٌ لتماهي حالة المحاصَرين الفلسطينيين مع تاريخ العدو الصهيوني، وتحديدًا مع حالة الشتات Diaspora.
وهو في ذات الوقت نبيٌّ مقلوبٌ، كأنه موسى (نبي اليهود) وقد أُخِذَ من حضن أُمِّه، لكنّه لم تُحَرَّم عليه المراضع كما ورد في النص القرآني، ولكن أُبيحَت له كلُّ المراضع إلاّ أمُّه، فهو الآخَرُ تماهٍ لكنّه تماهٍ مقلوبٌ أشدُّ بُؤسًا من تاريخ الحالة اليهودية.
    أمّا في حوار الأب الفلسطينيّ مع ابنه (عاصم) فيقول: "أفضَلُ أن تقطعَ بالسِّكِّينِ أصابعَكَ وتُلقِيَها في النارْ/ تشويها، تأكُلَها/ مِن أن تنتظِرَ هُنا وهُنالِكَ في المنفى/ أن تسقُطَ مائدةُ المَنِّ عليكَ ومائدةُ السَّلوَى". فهنا تماهٍ آخَر مع الموروث اليهوديّ، فالحالُ الفلسطينيُّ في انتظارِ عون السماء وعون الأرض أقربُ إلى حال اليهود في خروجهم من مصر.
     الانقلابُ الأصيلُ الذي يأتي في أعقابِ الثورة على عالَم العربة الوهميّ يصاحبُهُ انسلاخٌ تامٌّ من هذا التقمُّص أو التماهي مع الموروث اليهودي، لصالح حِصار العدو الصهيوني بموروثه. فممّا قد يُؤخَذُ على هذا النصِّ لأوّل وهلةٍ مثَلاً عدمُ ظهور (شمشون) إلاّ قُربَ نهاية المسرحية. و(شمشون) هنا قائدٌ إسرائيليٌّ متعجرفُ يحاولُ إذلالَ (عاصم) و(ريم)، وتقنعُه زميلتُه (راحيل) بأنّ لـ(ريم) اسمًا آخر هو (دليلة). هنا فقط تتجسّد على خشبة المسرحِ الحكايةُ التوراتيّة عن (دليلة) بنت الفلسطينيين التي خدعت (شمشون) القاضي الربّاني وسلَبَته قوتَه بأن حلقَت له شعر رأسه. القائد الإسرائيليّ كذلك يظهر بضفائره ينفثُ سخطَه على الثوّار العرب، ويؤرِّقُه كما يؤرّقُ (راحيل) هاجسُ تجسُّدِ (دليلة) في (ريم)!  
     الشاهدُ أنّ تأخر ظهور (شمشون) مبَرَّرٌ تمامًا في سياق علامات النص المسرحي، حيث يحاصره الأبطال بأسطورتِه الخارجة من سِفر القُضاة، فتنتهي المسرحية وهو يدورُ في هياجٍ كالثور حول المدفع، بينما تقولُ له (ريم) وهي ممدَّدةٌ في محفَّتِها: "دُرْ حولَ المدفعْ. هذا هو طاحونُكَ يا شمشونْ. ستطلُّ تدورُ إلى أن تسقُطْ. هذا هو قَدَرُكْ". فهو انتصارٌ رمزيٌّ لهذه الفلسطينية المطعونة الموشكة على مفارقة الحياة، بكلماتِها الواثقة من سقوط عدوِّها في فخِّ هواجسِه وذُعرِه من انتفاضة الكيان العربي.
     لا ندري بالتأكيد ماذا كان يمكن لـ(معين بسيسو) أن يكتُبَ في ظلِّ ما آلَت إليه الحالُ العربية وقد مضى سبعون عامًا على النكبة. هل كان سيُنهي مسرحيتَه بهذه الثِّقة على لسان بطلته الفلسطينية؟ ليتَ لنا مثل ما أوتِيَ (مُعين) من إرادةِ الثورة، بعد تراكُم طبقات الخذلان على جسَد العروبة!   
محمد سالم عبادة
17 فبراير 2018 
نُشِر في صحيفة (مسرحنا) يوم 12 مارس 2018 

الترجمة إلى العامية: همومٌ ورؤية

$
0
0


     في المقدمة الضافية التي كتبَها لترجمتِه لمسرحية (دكتور فاوستُسْ) لكريستوفر مارلو، أثار الدكتور عبد الواحد لؤلؤة مشكلة الترجمة إلى العامّيّةِ العربيةِ بشكلٍ يصعُبُ أن يمُرَّ القارئُ به مرورَ الكِرام. مثَّلَت الشخصيّاتُ الثانوية في المسرحية - المنتميةُ إلى طبقاتٍ اجتماعيةٍ دُنيا – مشكلةً في طبيعةِ الحِوار المتوقَّع أن يَصدُرَ عنها في وعي الدكتور لؤلؤة. فالرجُل ترجمَ المسرحيةَ في معظمِها إلى العربية الفصحى، ولإضفاء مزيجٍ من الكوميديا والواقعيّة على أجوائها قرّرَ أن يترجمَ حوارَ هذه الشخصيات إلى العامية، فواجَهَته مشكلة: "أيَّ العامّيّاتِ نَختار وعلى أي أساس؟!"، وعمَّقَ المشكلةَ أنَّ سلسلة المسرح العالَميّ الكويتيّة التي ترجمَ لمصلحتِها هذه المسرحيةَ موجَّهَةٌ إلى قُرّاء العربيةِ من المُحيطِ إلى الخليج. اختار الدكتور لؤلؤة في النهايةِ عامّيّةً (وُسطَى)، أقربَ ما تكونُ إلى فُصحى متخففةٍ من بعض قواعدِها، ليلائمَ جمهورَ السلسلةِ العريضَ بعامّيّاتِه المختلفة.
     يَجُرُّنا هذا الموقفُ إلى مصطلَحٍ شائعٍ في علم اللسانيّات الاجتماعي Sociolinguisticsهو (ازدواجُ اللسان) Diglossia. أولُ مَن وصفَ الحالَ اللُّغَويَّةَ العربية بهذا الوصف كان المستشرق الفرنسي (وِيّام مارسيه) William MarÇaisعام 1930، وكان يعني تحديدًا حال أهل المغرب العربي، حيث يستخدمون لهجةً لحديثِهم اليوميِّ العاديِّ تختلف كثيرًا عن اللغة العربية المعياريّة التي يجعلونها للمخاطبات الرسمية والأدب والتعليم، ولا يتكلمُها أحدٌ بصفتِها (لُغَةَ أُمّ) Mother's Tongue. ليس من الصعبِ بالطبعِ أن نجزِمَ بأنَّ هذا الوصف ينطبق على كلِّ مَن يعتبرون العربيةَ الفصحى لغتَهم الرسميّة في بقعتِنا من العالَم، وليس المغاربة فقط!
     في الحقيقةِ يُثارُ السؤالُ بشكلٍ أعنفَ وأكثرَ جذريَّةً هكذا: هل نقولُ (اللهجة المصرية) مثَلاً؟ أم الأصوَبُ أن نقول (اللغةُ المصرية الحديثة)؟ وبالتأكيد لإجابتِنا مردودٌ يتعلّقُ بحجم وطبيعةِ الترجمةِ المتوقَّعَةِ من اللغاتِ الأخرى إلى اللهجة/ اللغة المصرية.
     نعودُ إلى علم اللسانيات الاجتماعي لعلَّنا نظفرُ بإجابةٍ مُرضِيَةٍ أو نقتربُ منها مؤقتًا على الأقلّ. المصطلحان الأكثر استخدامًا للتعبير عن وضع اللغتين في حالة الازدواج اللساني هما: النسخة العليا Hوالنسخة السُّفلَى L. العُليا هي بالطبع تلك المستخدمة في الأدب والمواقف الرسميّة، العربية الفصحى في حالتِنا، والسُّفلَى هي المستخدمة في الحديث اليومي، المصرية عندنا. بَيدَ أنَّ لُغَوِيًّأ ألمانيًّا مهمًّا هو هاينتْسْ كْلُسْ Heinz Kloss(1904 – 1987) استخدم اصطلاحين بديلَين، ينطويان على دلالةٍ عميقة، هما اللسان الخارجي Exoglossiaللنسخة العليا، واللسانُ الداخلي Endoglossiaللسفلى، ولا يَخفَى أنَّ المقطعين exo&endoيشيران إلى ما للنسخة السفلى من رصيدٍ عاطفيٍّ عند مستخدميها باعتبارِها لغة الأمِّ الحقيقيةَ لهم، وفي المقابلِ ما يكتنزُه استخدام العُليا/ الفصحى من التصنُّع واللاطبيعيّة.
     في الواقعِ يأتي إسهامُ (كْلُسْ) الثريُّ ليُلقِيَ ضوءًا جديدًا على طبيعةِ مشكلتِنا اللغوية العربية، فقد نحتَ الرجلُ اصطلاحَين آخرَين أكثرَ أهميةً هما:
- اللغة المتباعِدة Abstandsprache: ويعني بها أية نسخةٍ أو مجموعة نسخٍ من لغةٍ ما، تفترقُ عن غيرِها بشكلٍ واضحٍ لا لبسَ فيه، إلاّ أنّ (كْلُسْ) عادَ فأشارَ إلى درجاتٍ مختلفةٍ من التباعُد بين كلِّ زوجَين من النسخ اللغوية المتقاربة!
- اللغةُ المتمَدِّدة Ausbausprache: أي نسخةً من النسخ المنتمية إلى متَّصَلٍ لَهْجِيٍّ معيَّن Dialect Continuumيتمُّ تطويرُها إلى لغةٍ معيارية Standard Language. وتحدَّثَ عالِمُنا عن مراحلَ محددةٍ لهذا التطوُّر، فأولاً تُستخدَمُ اللغة المتمددة في الفولكلور، ثُمَّ في الشِّعر (شِعر العامّيّة)، ثُمّ في السَّرد التخييلي النثريّ (الرواية والقصّة)، ثُمَّ تأتي مرحلةٌ حاسمةٌ حين تستخدَم هذه العامّيّة المتمددة في السَّرد غير التخييلي، حيث يُتوَقَّعُ بعد ذلك أن يَسهُلَ اختراقُها دوائرَ المخاطبات الحكومية الرسمية والتعليم والخطاب العلمي والتقني.
    والمهمُّ في آليّات (تمدُّد) اللغات بهذا الشَّكل هو قيامُها بوظائفَ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ معينةٍ تُكَرِّسُ استخدامَها بشكلٍ مستقِلٍّ عن قريباتِها من النسخ اللغوية.
    قبلَ أن نهبطَ إلى الواقع اللغويِّ العربيِّ، نذكرُ المثَل المعاصِر الذي غالبًا يقترنُ بالحديثِ عن اللغات المتمددة، وهو الحالة الاسكَندِنافية. عبرَ هذه البقعةِ من شمال أوربّا ينتشر المتَصلُ اللهجِيّ الاسكندنافي، ويتألَف من نسخٍ لغويةٍ مختلفةٍ يُطلَق عليها (مجموعة اللغات الجرمانية الشَّمالية) أو (لغات الشَّمال Norse Languages) اختصارًا. ورغم تحقُّق عامل الفَهم المتبادَل Mutual Intelligibilityبين من يتحدثون هذه النسخ المختلفة، فإنَّ صعود التيارات القومية الرومانسيّة بدءًا من نهايات القرن الثامن عشر واكتمالاً في التاسع عشر (قَرن القوميات الأوربية بامتياز) عمل على تكريس النسخ الثلاث الأكبر من هذه المجموعة المتجانسة (السويدية والنرويجية والدنماركية) باعتبارها (لُغاتٍ) قوميةً، لا لهجاتٍ للغةٍ واحدة.
     فماذا عن الحالةِ العربية؟!
     يُشارُ إلى ما نحنُ فيه لُغَوِيًّا باعتبارِه هو الآخَر مُتَّصَلاً لَهجِيًّا، ومن الملاحظات المُطَّرِدَة في المتَّصلات اللهجية أنَّ أصحاب اللهجات المتقاربة جغرافيًّا يتمتعون فيما بينهم بقدرٍ أكبر من الفهم المتبادَل، ومع التباعُد الجغرافيِّ تتراكمُ الفُروقُ بين اللهجاتِ حتّى تصِلَ إلى صعوبةٍ شديدةٍ في فهم الآخَر. يمكننا أن نفهمَ هذا حين نتصورُ لقاءً بين قاهريٍّ وبيروتيٍّ مثلاً، في مقابلِ لقاءٍ بين عُمانِيٍّ ومغربيّ. في الحالة الأولى يتوافق القرب الجغرافيُّ مع القُرب اللغوي فيتمتع الطرفان بقَدرٍ معقولٍ من الفهم المتبادَل، وعكس ذلك بالضبط يُتوَقَّعُ في الحالةِ الثانية. لهذا تبدو مشكلة الدكتور (لؤلؤة) مُبَرَّرةً تماما!
     فماذا إذا تناولنا الحالة المصريةَ تحديدًا؟!
     تعدَّدت محاولاتُ تقعيد العامية المصرية ورفعِها إلى مصاف اللغات المعيارية، حتى لم يعُد الحديثُ عنها مدهشا. لكن ما لم يفقِد إدهاشَه بالنسبةِ لي على الأقلِّ هو تحقُّقُ المرحلة الحاسمة من مراحل (التمدُّد) التي تحدثَ عنها (كْلُسْ) في الآونةِ الأخيرة، بظهور (ويكيبيديا المصري) من ناحيةٍ، وشيوع محاولة ترجمة سُوَرٍ من القرآن إلى العامية المصرية بعد ثورة 25 يناير بقليل.
     أجدُني أتساءلُ عن جدوى قولِنا: "ويكيبيديا مصري هي النسخة المصري بتاعة الموسوعة الحُرّة، وفيها 18251 مقاله دلوقتي"بدلاً من: "هي النسخة المصرية من الموسوعة الحرة، وفيها 18251 مقالةً الآن". أعني أنني لا أتصور أن أقلَّ الناس حظًّا من التعليم والقدرة على القراءة في مصر يمكن ألاّ يفهم النسخة الفصيحة من الجملة السابقة!
     كذلك يبدو التساؤلُ مشروعًا جدًّا حين نقرأُ الفاتحة بالعامية المصرية، لينتهي النصُّ المقدس بـ(ولا سِكّة التايهين) بدلاً من (ولا الضالّين)! صحيحٌ أنَّ مقولةَ الإمام عليٍّ في نقطةِ الباء من (بسم الله الرحمن الرحيم) شائعةٌ، وصحيحٌ أن للمفسِّرين اختلافاتهم بالطبع، لكنّ ملايين المسلمين المتدينين الذين يقرأون الفاتحة يوميًّا سبع عشرة مرّةً على الأقل في صلاتِهم لم يشتكوا قطيعةً معرفيةً مستحكِمةً مع نَصِّها لينتظروا الترجمةَ إلى العامية! فكيف نفهمُ هذا؟!
     رأيي المتواضِع يتّفق مع الحكمة الخالِدة التي أشاعَها اللُّغَوِيُّ الرُّوسي (ماكس فاينرايش Max Weinreich) في أربعينيات القرن العشرين. أعني الحكمة التي تقولُ: "اللغة ما هي إلا لهجة، بجيش وأسطول!". قال (فاينرايش) عن هذه الحكمة إنها تعبِّر عن الأزمة الاجتماعية للغة اليديش (لغة يهود أوربا الأشكنازيين) باعتبارِها مَحكِيَّةً ومكتوبةً من دون جيشٍ أو أسطولٍ يحميها، وبالتالي فهي لا تتمتعُ بالصفة الرسمية – وقتذاك – على أي صعيد. وفي التأويل الأوسع لهذه المقولة، نجدُها تعبِّرُ عن اعتباطيّة الفصل بين وضعَي اللغة واللهجة، حيثُ لا يبدو على أرض الواقعِ أيُّ مُسَوِّغٍ لاعتبارِ نسخةٍ لغويةٍ ما لغةً – لا لهجةً - إلاّ وصولُ الإرادة السياسية والتوافق الاجتماعيِّ بشأن ترسيمِها إلى حدٍّ حرِجٍ، عنده تُعتبَر هذه النسخةُ لُغةً مستقِلَّةً، لا مُجرَّدَ لهجة. ولنا في المثال الاسكندنافي نموذجٌ صارخ!
     الشاهدُ من هذه المقولةِ أنَّ المسألة خاضعةٌ في المقام الأول لصراع الإرادات، لا لحقائق ملموسةٍ بوضوحٍ في دراسة الظواهر اللسانية كما تبدو على أرض الواقع. المنادون بترسيم العامية المصرية لغةً مستقلّةً – لا لهجةً عربيةً – يمثلون إرادة القومية المصرية، وهم مرتبطون أكثر من غيرِهم بمقولة (الاحتلال) العربيِّ لمصر منذ عام 21 للهجرة. والمنادون بـ(بقائها) لهجةً عربيةً يتبنَّون في العادة خطابًا إمّا قوميًّا عربيًّا أو إسلاميًّا، وإن لم يَعُوا ذلك!
     لكن تبقى المشكلة الأكثر استعصاءً على الحلّ أمام إرادة ترسيم العامّيّة هي النص المقدس المركزيَّ للغة العربية. ماذا سيبقى من الصِّدق في آية "بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ"حين نترجمُها إلى المصرية إلى "بِلُغَة عربي واضحة"مثلاً؟!
     تجذبُنا هذه النقطةُ إلى رأيٍ أوردَه اللغويُّ الألمانيُّ الكبير (فلوريان كولماس Florian Coulmas) في كتابه (اللغة والاقتصاد) الذي ترجمَه د.أحمد عوض (إلى العربية الفصحى!) ضمن سلسلة عالَم المعرفة. يُورِد (كولماس) أولاً نقدَ (ماكس فيبر Max Weber) لتفسير الماركسيّة للتحوّل الرأسماليِّ الكبير في أوربّا بإرجاعِه إلى عوامل اقتصاديّةٍ بَحتَةٍ ترتكزُ على وسائل الإنتاج، حيثُ يرى (فيبر) أنَّ العنصر المهمَّ الذي أغفلَته الماركسيّةُ هو رُوحُ الحياة الاقتصادية Wirtschaftethik، وهي الإدارة الرشيدة للعمَل، التي يعتبرُها (فيبر) نتيجةً للزُّهد المسيحيِّ الذي رفعَته حركةُ الإصلاح البروتستانتيِّ إلى مستوى المبدأ العامِّ الموجِّه للحياة اليومية. ثُمَّ يعقِّبُ (كولماس) على رأي (فيبر) بأنَّ النصوصَ التي فحصَها الأخيرُ ليَخرُجَ منها بوِجهةِ نظرِه هذه كان معظمُها مكتوبًا بالألمانية أو الهولندية أو الإنجليزية، وليس باللاتينية، ورغم ذلك لم يلتفت (فيبر) إلى هذه الحقيقة، ويلخّصُ (كولماس) فكرتَه بقولِه: "فمِن دون صياغة الإنجيل بلُغة عامَّةِ الناسِ فإنَّ إخضاعَ الحياةِ اليوميّةِ للنظامِ الصارِمِ كما أنجَزَته الأخلاقُ البروتستانتيّةُ كان سيُصبِحُ مستحيلاً تماما".    
     المهمُّ من هذه الانعطافة، هل (ترجمةُ) القرآن إلى العاميات العربية، وبينها (اللغةُ) المصرية يمكن أن تؤتِيَ أثرًا مشابهًا؟ في الحقيقةِ يفترِضُ الردُّ بالإيجابِ على هذا السؤالِ أنَّ الهُوَّةَ شاسِعةٌ بالفعل بين سَواد الناس في مصر وبين فهم النص القرآني. مرّةً ثانيةً لا يمكننا أن نُنكِرَ مستويات التلقّي وغموضَ كثيرٍ من الإشارات القرآنية، لكنَّ الحِسَّ المُشترَكَ يأبى أن يجعلَ هذا الغموض ينسحبُ على مستوى الأوامر والنواهي الأخلاقيّة الواضحة في المستوى العامِّ من التلقّي لدى الأُمِّيِّ والمتخصصِ في اللُّغَةِ على حَدٍّ سواء!

     القفزةُ الأخيرةُ لكاتبِ هذا المقال بعيدًا عن موضوعه المباشِر وقبل الختام، تتعلقُ بشهادةٍ شخصيّة. ربما في عام 2007، ألقيتُ تجربةً شِعريةً بالعاميّة المصرية في ندوةٍ شعريّةٍ مجمَّعة. ومن أكثر ردود الأفعال حضورًا في ذاكرتي، تعليقُ شاعر عاميّةٍ مصريٍّ صديقٍ على تجربتي: "مش دي العامّيّة اللي احنا عارفينها!". أثار هذا التعليقُ شهيّتي لملاحظة فرُوق التعبير بيني وبين غيري من المتكلمين بالعامية المصرية! باتّساع الملاحظةِ تبيَّنتُ أنَّ العاميةَ المصريةَ كما تفترقُ عن غيرِها من العاميات العربية، فإنها هي بحد ذاتِها كِيانٌ متفلِّتٌ جدًّا، لأنَّ عاميّة القاهرة غير عامّيّة (بحري) غير عامية الصعيد، ثُمّ إنَّ في القاهرة نفسِها نسخًا لهجيَّةً مختلفةً، ويصل الأمر إلى أنَّ لكلِّ فردٍ مجموعةً من الألفاظ قد لا يفهمها إلاُّ هو وقِلَّةٌ من أخِصَّائه بالفعل!
     الفكرة الحُلوةُ المُرَّة التي قدَّمَها لنا الفيلسوف الأمريكي (ويلارد كواين Willard Quine) في كتابِه المهمّ (الكلمةُ والشيء Word & Object) هي لاتَحَدُّد الترجمة Indeterminacy of Translation. تحت مظلّة هذه الفكرة يوجد مفهومان مهمّان بالنسبة لموضوعِنا. الأولُ هو غموضُ المرجِع Inscrutability of Referenceحيثُ المفرداتُ يحملُ كلٌّ منها كثيرًا من المعاني الممكنة، والثاني هو لاتَحَدُّد العبارات الكاملة Holophrastic Indeterminacyحيث ما يصدُقُ على المفردات ينسحبُ على الوحدات اللغوية الأكبر: الجُمَل. تبعًا لهذين المفهومين، ينحَلُّ الفهم الصحيح لأيِّ منطوقٍ – لا في لغةٍ غريبةٍ عنّا فقط، بل في لغة الأمِّ التي نتكلمُها – إلى مجموعةٍ من الاحتمالات، كلُّها صائبةٌ بدرجةٍ ما! وبهذا، يمكننا أن نُعِيدَ بناء تعقيب الشاعر الصديق على تجربتي الشِّعرية بتعديل ضمائره ليُصبِح: "مش دي العامّيّة اللي أنا عارفها"بدلاً من "اللي احنا عارفينها"!
     لهذا أتوقَّعُ أن تُعمِّقَ ترجمةُ نصٍّ مركزيٍّ كالقرآن إلى العامية المصريةِ أزمةَ المعنى، لا أن تَحُلَّها.
     انتهاءً، أجِدُني مُضطَرًّا إلى تلخيص موقفي من مسألة ترسيم العامية المصرية وممكنات الترجمةِ إليها. حين يقرأ المرءً روايةً ضخمةً كـ(بيت كئيب Bleak House) لتشارلز ديكنز، أو مسرحيةً مثل (بيجماليون) لبرنارد شو، يجد الحِوار متراوحًا بين مستوياتٍ مختلفةٍ من العامّيّة كما يمكن أن نتوقعَها على أرض الواقع، رغم أنّ مَتنَ السرد عند (ديكنز)، ومقدمةَ المسرحية عند (شو) تتطابقان مع الإنجليزية المعيارية. في تقديري أنَّ هذا الحَلَّ يجذبُ العامّيّات إلى مظلة اللغة الفصحى باعتبارها تجلّياتٍ مختلفةً لنفس النظام اللغوي. وعلى ذلك، تبدو لي مناورةُ الدكتور (عبد الواحد لؤلؤة) التي صدَّرتُ بها المقال موفَّقةً جدًّا من الناحية النظرية على الأقل. رغم هذا الانحيازِ الواضحِ من ناحيتي، أتوقَّعُ أن تسيرَ الأمورُ في الاتجاه المضاد، وتكتسب دعوى ترسيم العامّيّات العربية -وبالتالي الترجمة إليها بشكلٍ كاملٍ- أنصارًا جُدُدًا يومًا بعد يوم، حتى تُكتَبَ لها الغَلَبَةُ في صراع الإرادات. فمزيدٌ من تعقُّد الحضارةِ يعني مزيدًا من اللغاتِ، وتبدو حكايةُ بُرج بابل الواردةُ في العهد القديم أقربَ إلى النبوءة المستقبليةِ منها إلى الحكاية القديمة. استقراءُ محطّات مسار الحضارةِ يُخبرُنا بذلك، أو هكذا يبدو لي!
محمد سالم عبادة
21 أبريل 2018
نُشِر في عدد أبريل 2018 من مجلة عالَم الكتاب 

قصّة: الناظِر مِن أعلى

$
0
0



     رجفةٌ خفيفةٌ في قلبي. يبدو أنّ للسّنِّ حُكمَه كما يُقال! كنتُ أردِّدُ لنفسي أنّ الأمر سيسيرُ على ما يُرامُ من البداية إلى النهاية، خاصّةً أن صحّتي الآنَ وأنا في منتصف العِقد السادس كما كانت منذ عشرين عاما. لم أدخّن أبدًا ولم أشرب قطرةكحولٍ واحدةً ولم أترك تماريني الرياضية يومًا - باستثناء فترات الاكتئاب بالطبع- فلماذا يمكن أن يرتجف قلبي الآن؟!
     آه! لقد هدأ قلبي! لعلَّها رجفةٌ عابرةٌ من قلوبٍ أخرى، مرّت بقلبي لا تَلوي على شيءٍ، قاصدةً قلبًا آخرَ في طريقِها. يُطَمئِنُني هذا التفسير، خاصةً أنني الآنَ أخوضُ أغرب مغامرةٍ في حياتي. أتأكّدُ من إحكام الحزام العريض حول ظَهري وبطني وأجزائي الحميمة. مُحكَمٌ بالفعل. أتأكّدُ من وجودِ الكيس القماشيِّ الذي أعددتُه لمهمّتي وطويتُه في جيب بنطلوني. موجودٌ في مكمنِه الأمين. ها أنَا ذا مُعلَّقٌ في الهواء بحبلٍ عريضٍ مربوطٍ إلى داخل شُبّاك غرفة نومي، أترك له ثقلي فيهوي بي إلى أسفل، أو أشُدُّ امتداده المتدلّي بجواري من نفس نقطة الارتكاز في شُبّاكي، فيصعد جسدي إلى أعلى كمِصعدٍ ميكانيكي! لا أحتاجُ إلى كثيرٍ من حُرّيّة الحركة أفُقِيًّا، فكلُّ ما أريدُ أن أفحَصَه موجودٌ متراصًّا فوقَ بعضِه أسفل شُبّاكِ غرفةِ نومي.
     النشوةُ تهُزُّ كياني! اخترتُ ظروفَ هذا التَّدَلِّي بدِقَّةٍ أُحسَدُ عليها. ففضلاً عن أنَّ الشُّقَق المتراصّةَ أسفل شقّتي غيرُ مسكونةٍ أساسًا- باستثناء شقّة الدور الأرضي ذات الحديقة- فإنه تقريبًا لا أحدَ في العمارة الآن. إنه أول أيام العيد الكبير، وهذا يعني أن سُكّان الضواحي الجديدةِ الهادئة قليلةِ الكثافةِ تركوا شُقَقهم وراءهم وعادوا من حيثُ أتَوا. الآتُون من الرِّيف عادوا في زيارةٍ خاطفةٍ إلى الرِّيف، والآتُون من زِحام القاهرة القديمة عادوا إلى دُخانِهم القديم. حتى أُسرَتي الصغيرة لم تُستَثنَ من هذا الإجراء المُقدَّس. زوجتي وابنتاي الآنَ في بيت حماتي. سَيَبِتْنَ هناك، ثم يَقضِينَ أيام العيد الباقية بين منزل حماتي ومنزل عائلتي الرِّيفي. هذه هي المرّةُ الأولى التي أتركهنَّ فيها يمارسن زيارات العيد بمفردهِنّ. لم أخبرهنّ بنيّتي في البقاء في البيت إلاّ أمس:
- أنا محتاج اقضي العيد دا لوحدي. روحوا انتو.
     لم يَطُل الجِدالُ كثيرًا لأنهن يعرِفن صلابة دماغي في الآونةِ الأخيرة، أو هذا ما يُرَدِّدنَه على الأقلّ. ربما ندّت من زوجتي نظرةُ إشفاقٍ من أن أُقدِمَ على الانتحار، نظرًا لمعاناتي الاكتئابَ في العامين الأخيرين بشكلٍ متقطِّع، إلاّ أنّها استطاعت أن تخنُقَ قلقَها في مهدِه وانطلقت إلى زياراتها، وها أنا أنظرُ إلى أعلى وأتخيلُها واقفةً في شُبّاكِنا مذعورةً لمَشهَدي وقدماي تضربان حائط العمارةِ الخارجيّ!
     أنظرُ في اتجاه الشارع الموازي. رجلٌ يرتدي جلبابًا يعبرُ في سلام. يلمحُني فيتوقف. يُلوِّحُ لي بيُمناه ويرقع صوتَه عاليا:
- هيه!
     أُلوِّحُ له ضاحكًا فيبتسم وينصرف. ربما ظنّني لِصًّا وأراد أن يُبدِّدَ هذا الظنّ، فإن أجبتُ صيحتَه في ثباتٍ فلستُ لِصًّا، وإلاّ فالواجبُ أن يستدعي البوّابِين الذين لم ينصرفوا بَعدُ إلى بلادهم البعيدة، ليطوّقوا المتسلل المتدلّي قبل أن يلوذَ بالفرار! أظنُّه يعتقد أنني أقوم بمهمّةٍ ما في صيانة العمارة. لا أدري ماذا يمكن أن تكون هذه المهمة ولا ما خطر بباله بالضبط. أضحكُ في سِرِّي حينما تداعبُ خيالي جُملةٌ أتخيلُ أني أوجِّهُها له: "يا صديقي، كلُّ ما خطرَ ببالِك، فأنا غَيرُ ذلك"!
     أتدلّى حتى تلامسَ قدماي أغصان الأشجار المتناثرةِ في حديقة الدور الأرضي. تكادُ قدَمي تُطيحُ بعُشٍّ ساذَجٍ لأسرةٍ ساذجةٍ من العصافير، لكنّني أسمحُ للحبل أن يُدَلِّيَني أكثر، فأُعيد العُشَّ إلى مكمنِه بين الأغصان. هذه أولُ مرّةٍ في حياتي ألمس عُشًّا للعصافير. ليس هَشًّا كما تصورتُ، فقَشّاتُه لم تتطاير أو تتكسّر بفعلِ يدَيَّ القويتين. أو ربما لم تعد يداي قويتين كما عهدتُهما. نعم! ربما هذا أيضًا فِعلُ الزَّمَن. يُضعِفُ اليد حتى تتراخى، ويُرَقِّقُ القلب حتى يرتجف!
     آه! مَشابِكُنا! أولُ الغيث قطرة!
     بجوار العُشِّ، وفي تشابُكٍ من أغصان هذه الشجرة العملاقة التي لا أعرفُ اسمَها، وجدتُ ثلاثة مشابك غسيل. كلُّها لنا. مشبكان خشبيّان غليظان، ومشبك بلاستيكيٌّ رقيقٌ أصفر. كلُّها متّسخةٌ بالطبع. متّسخةٌ إلى أقصى درجة! كم عامًا مرَّت عليها وهي في هذه البقعة الخبيئة من الشجرة؟ لا عواصف بالطبع لأنّ الحديقة محاطةٌ بأسوارٍ عالية. لكن ماذا عن المطر وفضلات الطيور وما يحمله الهواء من التراب؟ كم حدثًا هامًّا مرَّ على أسرتنا وهذه المشابك مستقرّةٌ في مكانِها هذا الذي لم تَختره ولم يختره أحدٌ مِنّا؟
     هاه! لم أنتبِه مع النظرة الأولى! مشابِكُنا في كلِّ مكانٍ من الشجرة. الأحمر والأخضر الدّاكِنُ والفاتِحُ والبُنّيُّ والأبيَض. الرقيق الموشِكُ على الانكسار، والغليظُ الذي يبدو أزليًّا أبديّا. كلُّها هنا! لم يتبدَّد أيٌّ من مشابِكِنا المفقودة، وإنما استقرَّت في تشابُكاتِ البُقعة المباركة من الشجرة، منتظرةً هذا المُتَدَلِّي العَجُوزَ الشابّ ليستخرجَها ويعودَ بها.
     من يُصَدِّقُ أنني لم أُوقِعْ مشبَكًا واحدًا في حياتي؟!
     الاعتراض الجاهز على هذا التصريح سيكون: رُبَّما لم تَخُض تجربة نشر الغسيل من الأساس، ولهذا يبدو منطقيًّا أنك لو تُوقِع مشبكًا في حياتِك!
     لكن لا. في الحقيقة ظَلَّ نشرُ الغسيلِ خبرةً حبيبةً إلى قلبي منذُ طفولتي المبكِّرَة. طالما استمتعتُ بِرَصِّ صفوف الملابس والمُلاءات. القصيرُ قريبٌ والطويلُ بعيد. الداخليُّ مختبئٌ والخارجيُّ مكشوفٌ للمارّةِ والجِيرانِ إن وُجِدُوا. والمتعةُ الأكبرُ كانت في مراعاة توافُقِ الألوان. ليس فقط توافُقَ ألوانِ الملابس المتجاورة، وإنما توافُقَ المشبك وقطعة الملابس التي يُثَبِّتُها إلى الحبل. هكذا، كان قميصي المُخَطَّطُ عرضيًّا بالأبيض والأخضر الفاتح يقفُ هادئًا مبتسمًا على الحبل السابع، مثبَّتًا بمشبكَين من الأخضر الفاتح، يتجاوبان مع الطُّول المَوجِيِّ لألوانِه الرَّاضِيَةِ المُطمئِنَّة. وكنتُ أُحِبُّ أن يقِفَ وحيدًا على هذا الحبل، كما ينبغي لمِثلِه أن يَفعل. وكانت بنطلوناتُ بِنتَيَّ القصيرةُ و(شورتاتُهما) تشغلُ حبلَين متلاصِقَين، مع مراعاة تناسُبِ الأطوال بالطبع. هكذا كنتُ أرُصُّها بينما الكُبرى في الرابعةِ والصُّغرى في عامِها الأوّل. كنتُ أختارُ لهما پالِتَّة الألوان بعنايةٍ فائقة، ولم أكُن أخشى التجريب كلَّ فترة، فشبكتُ الشُّوْرْتَات الورديّة الخالصة بالمشابك البُنّيّة حين تخيّلتُهما قد كبرتا وأصبحتا شابَّتَين جذّابتَين، لأفقأَ أعيُنَ المتبجِّحِين، وشبكتُها بالمشابِك الزرقاءِ حين رأيتُهما ساحرتين رغم أنفي في أحدِ أحلامِ اليقظة، وشبكتُها بالمشابك الحمراء حين تمرَّدَتا على قِيَمي كلِّها في حُلمٍ آخر، وهكذا!
     كان هذا الحِرصُ يستغرقُ وقتًا طويلاً لا أُحِسُّ بمرورِه، وإنما أكتشفُه حين أنتَهي من النشر، أو حين تنبِّهُني زوجتي متأفِّفةً من بُطئي الشديد. كنتُ أُراجِعُ ما فعلتُه بين الفينةِ والفينة، فأتأكَّدُ من تناسُبِ الأطوال وتوافُق الألوان على الحِبال، قبل أن أغلِقَ الشُّبّاكَ في حرصٍ على ألاّ يبقى رِتاجُهُ مُوارَبًا، وألاّ ينضغِطَ زيادةً عن اللُّزومٍ كذلك. كنتُ حريصًا على أن ينغلق الشّبّاكُ دُونَ صوتٍ يُذكَر.
     آه. تلك الأيام! مضت أعوامُ وأعوامٌ منذُ نشرتُ الغسيلَ آخِرَ مَرّة. كبرت بنتايَ وورثتا ضِيقَ أُمِّهما ببُطئي الشديد، ولم يَعُدْ أحَدٌ في البيت يسمحُ لي بأن أُمارِسَ هوايتي الأثيرة، فبمُجَرَّدِ إعلان صَفّارةِ الغَسّالة انتهاءَ دورةِ الغَسل، تُسرِعُ إحداهُنَّ بطبَق الغسيل وتُعَبِّئُه، ثُمّ تَجري إلى جِوارِ الشُّبّاك، وتبدأُ مهمَّتَها وتُنهِيها في لاوَقتٍ، لتَصفِقَ الشُّبّاكَ مُغلِقةً إيّاهُ في عُنفٍ، ويَصرُخَ رِتاجُه المغبونُ مُستجيرا! هُنَّ مَن أَوقَعن هذه المَشابِك. لا أنا.
     فقط لو يَنظُرنَ الآنَ إلى العدد الهائلِ من المشابِكِ التي جمعتُها من أغصان هذه الشجرة في كيسي القماشيِّ العملاق!
     أنظُرُ حولي في جنَباتِ الحديقة. كلُّ المشابِكِ عَلِقَت بالشّجرة. لا يوجد مشبكٌ واحدٌ وقع خارجَها. أجذِبُ الحبل المُوازِي لثقلي إلى أسفل، فأرتفعُ إلى أن أُحاذِيَ شُرفةَ الدورِ الأول. أتسلّلُ إليها. سورُها مُترَبٌ جدًّا. إلى هنا سافرَت ملابسُهنّ الداخلية. العباراتُ المكتوبةُ بالإنجليزية عليها لم تنطمِس بفعل الزَّمَن. بعضُها في الحقيقة وصلَ إلى هنا قريبًا جِدًّا، فهذا الأحمرُ سافرَ من شُبّاكِنا أمسِ فقط. ربما لم يَمُرَّ أسبوعٌ لم تفقد أُسرَتي فيه قطعةَ ملابسَ ومشبكين أو ثلاثة. اتّسَخَ بعضُها هنا أو هناك، لكنّ العباراتِ ظلَّت مقروءةٌ في يُسر. كثيرٌ منها هُنا. كثيرٌ جِدًّا! أجثو على رُكبتَيَّ وأنا أنظرُ في حذَرٍ إلى الشارعِ المُوازي. أبتلعُ ريقي في صعوبةٍ ثُمّ أجمعُ أغراضَهُنّ الحميمةَ في الكيس. أشعرُ أنَّ عضلةً منهارةً في قفصي الصَّدرِيِّ يتمُّ ترميمُها مع كلِّ (پانْتي) ينضَمُّ إلى الكيس. أفردُ جسدي واقفًا، وترتفعُ ذقني الحليقةُ وتتوتَّرُ كما اعتدتُها تَفعَلُ متى أحسستُ بالزَّهو. أقفِزُ من الشُّرفةِ إلى الهواء، وأجذِبُ الحبل المُوازي، فيرتقع ثقلي إلى شُرفة الدور الثاني.
     هنا سقطت بِذلةُ العملياتِ الرّماديّةُ التي فقدتُها منذُ خمسة عشر عاما. كانت الأكثر أناقةً بين كُلِّ ما لبستُه من بِذلات العمليات. أجريتُ فيها أنجَح جراحاتٍ في حياتي. أعني تلك المَرّاتِ التي كان تدخُّلي فيها مُنقِذًا من الموت. كانت تُغدِقُ على رُوحي من أناقتِها فأثِقُ بقراراتي وأحترمُ أصابعي. وقعَت ذاتَ يومٍ من ابنتي الصُّغرى وهي تَلُمُّ الغَسيلَ، فتشاءمتُ، ولم أَعُدْ كما كنتُ من يومِها. وضعتُها في كيسي الحَنُون، وقفزتُ خارجًا، وجذبتُ الحَبل صاعدًا إلى أعلى.
     في شُرفةِ الدور الثالث تناثَرَت أوراقُ الخطابات. كلُّها خطاباتٌ تَخُصُّني. أنا الّذي نشرتُها على حِبالِنا منذُ عشرة أعوام. خطاباتُ صديقاتِ المُراسَلَة اللّاتي دَخَلنَ حياتي وأنا مُراهِقٌ في الرابعةَ عشرة. كنتُ قد أتيتُ بها ذاتَ يومٍ من بيتِ أُمِّي، وقررتُ أن أحتفظَ بنسخةٍ منها على حاسُوبي من خلال الماسحِ الضوئي. تركتُ رِزمةَ الخطاباتِ داخِلَ أظرُفِها على مكتبي في صباح اليوم التالي، وذهبتُ إلى العمَلِ في حماسٍ استثنائيٍّ، واعدًا نفسي بإبحارٍ فريدٍ في ذكرياتي حين أعودُ من المستشفى. ولمّا عُدتُ وجدتُها مفتوحةً، ومبلّلةً بالماءِ، حتى أنَّ كلماتِها اختلطت ببعضها ودخلَ الحِبرُ في الحِبر. ثُرتُ يومَها على زوجتي وابنتَيَّ، ولم تُخبرني أَيُّهُنَّ مَن فعل هذا بخطاباتي. كتَمنَ عليَّ في إصرار. نشرتُ الخطاباتِ والأظرُفَ مفتوحةً مفرودةً على حِبالِي. لا أدري كيفَ تراءى لي أن أفعلَ هذا. كنتُ ثائرًا وحزينًا وغاضِبًا ويائسا. نشرتُها وهُنَّ يضحَكن. وحين تفقَّدتُها بعد دقائقَ، كان معظمُها قد فارقَني، فلممتُ ما تبقّى، ودخلتُ نوبةَ اكتئابٍ طويلة.
     ها هي الآنَ تفترشُ أرضيّةَ الشُّرفة في الدور الثالث، أسفل شقّتي بالضبط. انحنيتُ عليها ورأيتُ صُورةَ أولِ فتاةٍ أحببتُها في حياتي، مشبوكةً بدبُّوسٍ في الرسالة. التقطتُها وابتسمَت شفتاي. ظللتُ هكذا وقتًا لا أعرفُ مِقدارَه، حتى أنني لا أدري كيف انطمس التاريخُ المكتوبُ تحت الصُّورة بخَطِّ يدِها وقد كان مقروءًا مازالَ حين التقطتُ الورقة. تداخلت الأرقامُ واختلط الحِبر.
وضعتُها في الكيس، ووضعتُ خلفَها كلَّ الورَق المتناثر. جذبتُ الحَبلَ فصعدت.
     ها أنَذا رفعتُ جسدي على إفريزِ شُبّاكِ شقّتي. أتأمَّلُ داخِلَ الشّقّة. أتذكَّرُ كيفَ أصرَّت زوجتي بينما نُعِدُّ هذه الشقّة للسُّكنَى على أن نضُمَّ مساحةَ الشُّرفةِ إلى الغُرفَة، ونغلِقَها بحوائطَ من جميعِ الجِهاتِ، إلاّ موضعًا لِشُبّاكٍ نستطيعُ من خلالِه أن ننشُرَ الغسيلَ فقط.
     في الكيس مشابكُ كثيرةٌ يمكنُ أن تتوزَّعَ على ثلاثة أطقُم، وملابس داخليّةٌ لهُنّ، وبِذلةُ عملياتٍ رماديّةٌ، وخطاباتٌ قديمة. أنظُرُ نظرةً أخيرةً إلى داخِلِ الشّقّة، وأُغَيِّرُ وِجهَتي. أدَعُ ثقلي يأخذُني إلى أسفل. إلى حديقةِ الدورِ الأرضيِّ مرّةً أخرى. أخلعُ الحزامَ العريض، وأحملُ الكيس على ظهري، وأتسلّقُ سُورَ الحديقة، إلى خارجِ العمارة.
..............
محمد سالم عبادة
7/8/2018     
نُشِرَت في عدد سبتمبر 2018 من مجلة الثقافة الجديدة   


الحُبُّ مَلاذًا من الانقراض: قراءة في فيلم فوتوكوپي

$
0
0

     تمتاز السرديّات (الأفلام والمسرحيات والأعمال الأدبية) التي تتخذ أبطالَها من الكُتّاب بأثرٍ خاص: من الصعب أن يُقاوِم المتلقّي إغراء التوحيد بين صانع السردية (المؤلّف/ المُخرج) وبطلِها الخيالي الذي يحترف الكتابة. لكنّ هذه الحِيلة الشائعة لدى الكُتّاب للتعبير عن حياتهم وهمومهم وآرائهم فيما يكتبون تعرّض كتاباتِهم لمجازفةٍ من الناحية الأخرى، فبقدر ما يستطيع المتلقّي تمييز صوت الكاتب في شخصية بطلِه، يشعر بهُوّة تفصِله عن البطل/ البطلة، حيث يشعر المتلقّي بنفسِه غالبًا واقفًا على الطرف السلبيّ الأضعف في العملية الإبداعية، بينما البطل الكاتب واقفٌ على الطرف النقيض (الإيجابي/ الفاعِل/ الأقوى).
     في (فوتوكوپي) – إنتاج 2017 – يخطو السينارست (هيثم دبور) خطوةً واسعةً باتجاه المُشاهِد، حين يُنزِل بطلَه الكاتب (محمود فوتوكوپي) من عَلياء الكتابة الإبداعية إلى دَورَين متواضِعَين، أحدهما في الزمن الحاضر للفيلم وهو دور صاحب مكتب الكمبيوتر الذي يكتُب الوثائق التي يطلُب منه زبائنُه كتابتَها، والآخَر ماضٍ نعرفه من سياق الفيلم وهو دور موظف بقسم الجَمع في إحدى الجرائد، مسئول عن كتابة المقالات والتقارير الصحفية التي يُنجِزها محررو الجريدة على الكمبيوتر تمهيدًا لظهورها. بهذه الخطوة يستبقي (دبور) لبطلِه ظِلاًّ خافتًا من بطولة الكتابة، بينما يُجرِّده من بريقِها، أو هو بالأحرى يضحّي له بهذا البريق ليمنح المشاهِد البسيط المزيد من القدرة على الالتحام التلقائي بالبطَل.
     رغم هذه التضحية، يبقى ظِلّ البطولة ماثلاً في عِدّة مقابلات درامية تظهر في الفيلم، أولها المقابلة بين محترف الكتابة محمود/ محمود حميدة، وحُسني/ بيومي فؤاد, المالك الذي يؤجر منه محمود مكتبَه. الثنائية التقليدية التي تضع رجُل الكتابة النبيل ذا الأخلاق الكريمة –وربما المثقف عمومًا- في موقف الفقر والعوَز، في مقابل رجُل المال الوضيع الانتهازي النهِم للمال, هذه الثنائية حاضرةٌ هنا بقوة. كذلك نجد مقابلةً أخرى بين محمود الذي لا يتَّسِع مكتبه إلا للكتابة – بكل ما تنطوي عليه من سموّ قد يربطها به المُشاهد – والشاب أسامة/ علي الطيب، صاحب السايبر الذي يعُجّ محلّه بأجهزة الكمبيوتر حيث لا مكان إلا للعب المراهقين. في هذه المقابلة تحضر الفجوة بين الأجيال والتغريب الذي تُحدِثه التكنولوجيا، وهما كذلك موضوعان شائعان في الدراما على إطلاقِها. إلا أن السيناريو لا يبخل على جيل أسامة بإنسانية حاضرة في المعاملة الطيبة التي يلقاها محمود من أسامة كما لو كان في مكان والده المتوفى. المقابلة الثالثة التي تحتل هنا موقعًا هامشيًّا وإن كان حضورُها يعزز بطولة الكاتب محمود فوتوكوپي هي مقابلته مع السلطة، ممثَّلةً مرةً في سلطة شرطة المصنفات التي تصادر أجهزة الكمبيوتر من مكتبه لورود بلاغٍ بشأن استخدامِه برامج كمبيوتر غير أصلية، ويضطر لدفع مبلغٍ ما لاستعادة أجهزتِه، ومرةً في البيروقراطية الحكومية التي تعطِّل حصولَه على معاشِه لثلاثة أشهر من الجريدة التي كان يعمل بها. هنا الكاتب – وإن كان مجرد كاتب بسيط ينسخ المقالات أو الوثائق على الكمبيوتر – مازال محتفظًا بظلّ بطولة الكُتّاب في مواجهة تغول رأس المال (حسني) واستهتار الأجيال الجديدة (أسامة) وفساد السلطة (الشرطة وبيروقراطية الجريدة الحكومية).
     غزل دبور خيوط السيناريو بحيث تورّط المُشاهِد في محبة أبطال العمل العاديين والتعاطف معهم إلى أقصى درجة. فمِن ناحيةٍ، لدينا الست صفية/ شيرين رضا، الأرملة التي يعيش ابنها كريم خارج البلاد ولا يبدو أنه يهتمّ بها. نعرف هذا من مكالماتهما الهاتفية المتكررة التي حرص الفيلم على إظهار طرف الأُمّ فقط منها مع استبعاد الابن تمامًا، وبهذا تتحول هذه المكالمات في لاوعي المُشاهِد إلى مونولوجات ويتحول الابن العاقّ إلى طيف خافت تمامًا، نصطدم بأثره الوحيد السلبي قُرب النهاية حين يعود إلى مصر على أثر مكالمةٍ مِن أحد جيران أُمّه، يخبره فيها بأنها مُقبلة على الزواج من محمود فوتوكوپي، فيطرد أُمَّه من شقتها، ولا نعرف هذا إلا من حكيِها لمحمود وهي تبكي أمام مكتبه. الجانب الآخَر المثير لتعاطف المُشاهِد في صفية هو معرفتنا بفقدها أحد ثدييها لإصابته بورم خبيث، وتعرضها لخبرة المتابعة نصف السنوية لحالة الثدي الآخَر مع تجدد خوفها من تكرار الإصابة بالورَم فيه. يُسَرّب إلينا الفيلم معلومة هذا الفقد لأول مرة بشكل رهيف مع أول مشهد لدخول صفية بيتَها وتغييرها ملابسها وسقوط الثدي الاصطناعي على الأرض.
     من ناحيةٍ أخرى، هناك أسامة/ علي الطيب، الذي يُطلِعنا على حكاية فقده لأبيه وهو يربط الكرافتة لمحمود فوتوكوپي حين يطلب منه ذلك، حيث يخبر محمود بأنه كان يقوم بهذا الدور يوميًا صباحًا مع والده بعد وفاة والدته، إلى أن تأخر ذات صباحٍ في النهوض من نومه فأسرع إلى غرفة أبيه ليجده قد مات.
     وأخيرًا لدينا محمود نفسُه، وهو شخصية محاطة بحِيَل الكتابة التي تورِّطُنا في محبتِه بـ(صنعة لطافة) كما يُقال، ففضلاً عمّا أسلفنا ذِكرَه من استبقاء ظل بطولة الكتابة والتضحية ببريقِها، نكتشف إلى أي مدى يُشبه عم محمود آباءنا البسطاء، فهو من منتصف الفيلم - حيث يدخل الإنترنت إلى مكتبِه - إلى نهاية الفيلم لا يستطيع أن يميّز جيّدًا بين النيجر/ بلد زبونه الأول الأفريقي عثمان، ونيجيريا البلد الأشهر لدى المصريين بسبب تألق منتخباتها في كرة القدم، ونجدُه كذلك يسقط بسهولة ككثيرٍ من المصريين في فخّ الريبة والعنصرية الكوميدية الهادئة والاحتراز من الأجانب حين يحرّضه عبد العزيز/ أحمد داش على التحرّي جيّدًا عن بلد عثمان خوفًا من أن يكون جاسوسًا، وحين يعترض عم محمود على أساس أنه لا توجد عداوات أفريقية لمصر، يقنعه عبد العزيز بوجهة نظره ببساطةٍ مُذَكِّرًا إياه بالتنمُّر الأفريقي المُحيط بأخبار سد النهضة! كذلك فإن حقيقة عزوبته بعد أن جاوز الستّين، وهي تيمة أخرى شائعة في الدراما، وتردد جارتِه الشابة بسنت/ عايدة الكاشف على شقته للاطمئنان عليه تورطنا في التعاطف مع موقفه الوجودي برُمّته، فهو رجل يعاني إحساسًا ثقيلاً بأنه موشِكٌ على الفَناء، ولهذا يمسّ البحث الذي ينسخه على الكمبيوتر لأحد زبائنه – والذي يتحدث عن انقراض الديناصورات – وترًا حسّاسًا لديه، ويخلق بالتالي تيمةً أخرى شديدة الطرافة في الفيلم، هي هوس عم محمود بالبحث عن سبب انقراض الديناصورات، حتى أنه يتوقف طويلاً أمام خبر منشور في صفحة جريدة يفرشها على مائدته ليأكل عليها، حيث يتعلق الخبر بمخاوف من انقراض الحُوت الأزرق أكبر الحيوانات الثديية، فيقتطع الخبر ويحتفظ به!  
     أخيرًا، هناك اسم الشهرة نفسُه الذي نعرف به عم محمود، والذي تُصَرح صفية لابنها في تسجيلٍ صوتيٍّ بأنها لا تعرف غيرَه لهذا الرجُل الذي تقدم للزواج بها: (فوتوكوپي). فكأن الدور الذي ارتضاه لنفسه بعد تقاعُدِه من الجريدة يطبعُ حياتَه كلَّها بطابَعِه، فهو في الحقيقة فوتوكوپي أو صورة طِبق الأصل من قطاع عريض من أهلنا الذين لهم نفس ظروفِه، وهو بالتالي جديرٌ بما نظهره نحوه من تعاطُف.   
     نقطة أخيرة بشأن السيناريو المنسوج بإحكام، تتعلق بحِيلة يستخدمها (دبور) ببراعة لرَبط مصيري بطلَي الفيلم محمود وصفية. هذه الحيلة هي ما تحكيه صفية للصيدلانية داليا من انتظارِها اليومي للفقرة الغنائية لفريد الأطرش، لعلّ الراديو يذيع تسجيلاً نادرًا لإحدى پروفات أغنيته (قلبي ومفتاحه) يغني فيها كوپليه "يا مسهّر دمعي على خدودي/ كرّهني غيابك في وجودي/ وان سبتك أدبل على عُودي/ وارجع من غير ما تقول عُودي"، وتعلّق صفية بأن هذا الكوپليه بضمير المخاطَبة في نهايته (عُودي) دليل على أن الأغنية وُضِعَت أصلاً لليلى مراد وخطفها منها فريد الأطرش الذي حذف الفقرة كلَّها في النسخة الرسمية من الأغنية. قُرب النهاية نكتشف أنّ عم محمود هو الآخَر يعرف هذه الفقرة ويحب هذه النسخة النادرة من الأغنية، وحين تُبدي صفية اندهاشَها لهذا، يجيبها محمود: "أنا قديم يا ست صفية"، فتصبح هذه المعرفة الخاصة الإيزوتيريّة بالأغنية سببًا جديدًا في تقوية مشاعر صفية تجاه محمود وربما قبولِها عرضه للزواج. وفي الحقيقة يُحسِن (دبور) استخدام هذه المعلومة العابرة في بناء السيناريو وتوثيق حبكتِه.  
نجح المخرج (تامر عشري) في تجربته السينمائية الأولى مع الفيلم الروائي الطويل نجاحًا موازيًا لنجاح (دبور) في أولى سيناريوهاته الطويلة، فقد وظّف إمكانات ممثليه على الوجه الأمثل واهتمّ بإبراز أدقّ التفاصيل في تصميم مشاهدِه وتنفيذها، فعلى سبيل المثال هناك علَم فريق برشلونه معلَّقًا على الحائط وراء أسامة الذي يستلقي على أريكة داخل السايبر ويدخّن سيجارة ملفوفة، وهي التفصيلة الواقعية التي نجدُ مثيلاتِها بالفعل داخل مقاهي الإنترنت والپلِايستيشن، وهناك اهتزاز ضوء اللمبة التي تضيء لافتة مكتب فوتوكوپي، حيث ينصح الصبي البواب عبد العزيز عم محمود بإطفائها حتى لا تحترق، فيرفض عم محمود معللاً ذلك بأنه لا يحب أن تبدو لافِتَتُه مُظلمة. وهي تفصيلة بالَغة الرهافة توحي لنا مقدَّمًا بكل ما سنكتشفه من هشاشة الموقِف الوجودي لعم محمود، وتمسُّكِه بالحياة رغم ذلك.
     على مستوى الأداء، كان محمود حميدة تجسيدًا شديد الواقعية للدَّور كما يمكن أن نتخيلَه مرسومًا على الورَق، وجاء أداؤه الهادئ ذو الانفعالات المحسوبة موازيًا لهدوء أحداث الفيلم ودورانها حول شخصيتين في مرحلة هادئة من عمريهما. كذلك تفوقت شيرين رضا على نفسها في دور صفية. أما بيومي فؤاد فقد جسّد دور حُسني رغم صِغَرِه في مقدرة أضافت إيجابيًّا إلى رصيده المتزايد من أدوار الشرّير الكوميدي. بالنسبة لأحمد داش، فالفيلم يعتبَر استمرارًا لتألقه المبكر في فيلم (لا مؤاخذة) الذي قام ببطولتِه، ويمكننا تخيلُه هنا بطلاً لقصةٍ فرعيةٍ في الفيلم لا نراها ولكن نرى آثارَها في تلك (اللماضة) التي تظهر في حديثه مع كلٍّ من محمود وصفية وأسامة. كذلك يبدو دور أسامة فارقًا في مسيرة علي الطيب السينمائية إلى الآن، والذي تألق تليفزيونيًا عام 2010 ككوميديان ستاند-اپ من خلال البرنامج الرمضاني (ضحكني شكرًا).
     جاءت الموسيقى التصويرية لـ(ليال وطفة) أُحادية المقام، فقد اندرجت بالكامل تقريبًا في النهاوند الكُردي (سُلّم صغير طبيعي)، واعتمدت بشكلٍ أساسيٍّ على الپيانو والعود، تؤازرهما الوتريات أحيانًا، ولا نكاد نلحظ أي خروج على مقام النهاوند إلا على يد فريد الأطرش في جُملتي (وان سبتك أدبل على عُودي وارجع من غير ما تقول عُودي) حيث يُعرِّجُ سريعًا على البياتي كما في بقية كوپليهات الأغنية ليعود إلى اللحن الأساسي للمذهب في مقام النهاوند ويقفل به. وبشكلٍ ما يمكن أن تبدو أُحادية المقام لموسيقى (وطفة) التصويرية قاصدةً إلى الاتّكاء على اللحن الأساسي لأغنية (قلبي ومفتاحه) التي تحتلُّ موقعًا مركزيًّا في أحداث الفيلم، فتبدو التتابعات النغمية كلها في الفيلم كأنها دوائر متحدة المركز حول هذه الأغنية التي تمثل حجَرًا ألقى به (هيثم دبور) في صفحة السيناريو.  لهذا يبدو الفيلم عملاً متكامل العناصر بدرجةٍ كبيرة.
.... 
محمد سالم عبادة
نُشِر في عدد ديسمبر 2018 من مجلة الثقافة الجديدة


مسرحية شِعرية تحاولُ أن تكون رواية: قراءة في رواية (لا تسقِني وَحدي) لسَعد مكّاوي

$
0
0

     الأكيدُ أنّ أجواء التجربة الصوفية - بما تنطوي عليه من غموض إشاراتها والتباس معانيها وانصبابِها على كُنه علاقة الإنسان بالله وبالعالَم - مُغريةٌ لقطاعٍ كبيرٍ مِمَّن يحترفون الأدب. وذلك أنَّ الأدب هو الفن الذي مادّته اللغة، وبما أنَّ اللغة علاقةٌ قائمةٌ بين دالٍّ ومدلول، وبما أنَّ الفنَّ بشكلٍ ما أو بآخر مَعنِيٌّ بالبحث عن علاقاتٍ جديدةٍ بين الدّوالّ ومدلولاتها، أو بتعبيرٍ أدقّ: معنيٌّ بإيجاد صيغٍ جديدةٍ للتعبير عمّا هو قائمٌ في عالَم الحِسّ بُغيةَ فهمٍ مباشرٍ حَدْسيٍّ أعمقَ لهذا العالَم، فلكلِّ هذه المُعطَيات تبسُط التجربة الصوفية سُلطانَها على مَن أغوتهم حِرفةُ الأدَب، حيثُ يَعِدُ استحضار التجربة الصوفية بفِردَوسٍ من الرموز التي تُوحي ولا تُصَرِّح، والدّوالِّ التي تُديرُ رءُوسَ قُرّائها في عالَم الحِسّ حتى يفقدوا توازُنَهم ويَظُنُّوا أنهم قد حلَّقُوا بعيدًا إلى عالَم الغَيب. ويحدث هذا بنسبٍ متفاوتةٍ وبأشكالٍ لا حصرَ لها بالتأكيد. 
     عتَبَة الرواية التي بين أيدينا عنوانُها. والعنوان هنا مَصُوغٌ في صيغة النَّهي "لا تَسقِني وَحدي"، لكنّه نَهيٌ يَئولُ إلى رجاءٍ لا محالة، وذلك أنَّ السّاقي بُحكم امتلاكِه الماء – أو أيًّا كان ما يُسقَى – في موقفِ قُوّةٍ، فبيَدِه البذلُ والمنع. والرجاءُ هنا فيه شكلٌ من أشكال إنكار الذّات لصالح المجموع، فهو دعوةٌ اشتراكيّةٌ في فَحواها. فإذا علِمنا أنّ العنوان مقتبسٌ من أبيات شهاب الدّين السُّهرَوَردي الصوفيِّ الكبير صاحب الطريقة السهروردية وأحد أشخاص هذه الرواية، حيث يُنشِد:
"لا تسقِني وحدي فما عوَّدتَني .. أنّي أشِحُّ بها على جُلاّسِي
أنتَ الكريمُ ولا يليقُ تَكَرُّمًا .. أن يَعبُرَ النُّدَماءَ دَورُ الكاسِ"
- وهي رواية كتاب (وفَيات الأعيان) لابن خِلِّكان، وتختلف عنها رواية كتاب (شذرات الذهب في أخبار مَن ذَهب) لابن العِماد الحنبليِّ: "أن يصبِرَ النُّدَماءُ دُون الكاسِ"– تبيّنَ لنا حينئذٍ أنّ العنوان يحملُ رجاءً إلى الله بالإنعام بالمحبّة والوصل على كلِّ السالكين إليه. يُروى في (شذرات الذهب) وفي (طبقات الأولياء) لابن الملقن أنَّ السهرورديَّ حين أنشد هذه الأبيات "تواجدَ الناسُ لذلك وقُطِّعَت شُعورٌ كثيرةٌ ومات جَمعٌ"أو "تاب جمعٌ كبير".
     زمن الرواية غير محدد بدِقّة، إلاّ أنّ الجوّ العام يوحي بأننا في عصر المماليك. شكوى ظُلم الحُكّام وفساد الحياة تشبه تلك الشائعة في كل الأعمال التي تتناول عصر المماليك. إلا أننا لا نستطيع أن نحدد بدِقّةٍ أيَّ حقبةٍ هي من عصر المماليك الطويل، لا سيّما أن الاجتماع الخيالي لأربعةٍ من أقطاب التصوف (شهاب الدين السهروردي وعمر بن الفارض والعز بن عبد السلام وبرهان الدين الجعبري) يعقّد الأمر أكثر، وإن كان يَنحو بنا نحوَ العقود الأولى من قيام دولة المماليك وبعد سقوط الأيوبيين. الخط الأوضح في حركة الرواية يَتبَع رحلة صاحب المواويل الصعيدي (علاء الدين) من بلده الذي انتشر فيه الفساد إلى القاهرة بصحبة رفيقه (مروان) الذي قصُرت به هِمَّتُه فترك (علاء الدين) منتويًا العودة من حيث أتى، فافترسته ذئاب الصحراء، ثُمّ لقاء (علاء الدين) بالأقطاب الأربعة واحدًا وراء الآخَر وتردُّدَه على مجالسهم، وما يعانيه من ضيق زوجته بفقره وضيقِه بسلاطة لسانها وعدم فهمِها ما يَشغله، مرورًا بمثوله في حضرة زوجة الوزير الفاسد (زياد) التي طلبت منه أن يأتي إليها بالخطيب الواعظ برهان الدين الجعبري بحُجّة أنها تريده واعظًا خصوصيًّا – وهي في الحقيقة تشتهي رجولته بعد ما سمعت به – ثُمّ كيد هذه الزوجة لعلاء الدين على إثر رفضِه طلبَها، وموت الوزير (زياد) وخروج الشُّرطة في طلب صاحب المواويل.
     لا نبذل كثيرَ جهدٍ لنتعرّف على صوت (سعد مكّاوي) متخفِّيًا وراء (علاء الدين)، فصاحبُ المواويل قريبٌ في حضوره من الكاتب والشاعر. كما أنّ مفردات اللغة التي يتكلمها (علاء الدين) معاصِرةٌ بدرجةٍ كبيرة: "حاول أن تُريحَ حنجرتَك لتنشِّط مُخَّك، واعلم أن هناك دائمًا بصيصًا من الرجاء على آخِر المَدى"، ممّا يضعُه خارج إطار الزمن، وكأنه بطلٌ للإنسانيةٍ مُتعالٍ على حواجز الوقت. وفي الحقيقة، نجد أصداء كثيرةً في الرّواية من مسرحية (مأساة الحَلاّج) لصلاح عبد الصبور، فمنها تصوير الصوفيّ بصورة المُصلح الاجتماعي الثائر على الظلم، وإنطاقُ الأبطال بلغةٍ شاعريةٍ طيلة الوقت تقريبًا، فضلاً عن المبالغات المسرحية التي اعتدنا أنها تليق أكثر بالمسرح بحُكم كونِه وسيطًا محتاجًا بشكلٍ ما إلى المبالغة (في نمط الحِوار وأداء الشخصيات على الأقل) لتصل رسالتُه. تتجلى هذه المبالغات في جُمَل الحِوار، كما في قول (علاء الدين) للسهروردي في المرّة الأولى التي لقيَه فيها مع (مروان) وهو يوضِّحُ مَهجَرهما وجهةَ رحلتهما: "جئنا يا سيدي من أرض النباتات المتسلقة والقلوب الميتة. إلى أي أرضٍ لا تسودُها طفيلياتٌ تفترسُ حياةَ الأشجار المثمرة"، كما تتعدّى لغةَ الحوار إلى لغة الرّاوي العليم نفسِه، ونجد أمثلةً لهذا في حشد النُّعوت في مثل قولِه: "فقال علاء الدين ونفسُه تفيضُ بالرضا"/ "التقت نظرة السهروردي بنظرة غزالته والابتسام مُشرِقٌ في وجهه الصافي"/ "في حُمّى الرُّوحِ الكوني الساري في الوجود هبَّت نسماتٌ حملَت علاءَ الدين على أجنحتِها الرَّطبة".
     فضلاً عن المبالغة، نجد كثيرًا من التشابُه بين المُعجَم الذي يستخدمه (علاء الدين) ومعاجم مفردات السهروردي وعمر بن الفارض، فضلاً عن مُعجَم الراوي العليمِ نفسِه، ولا يُفلِتُ من إسارِ هذا التشابُه في الشخصية والكلام إلاّ بُرهان الدين الجعبري، فلا نكاد نُحِسُّ أننا أمام شخصيةٍ من لحمٍ ودمٍ بين هذه الأقطاب المحشودة في الرواية إلا مع (الجعبري) الذي يمثّل مشروعًا لشخصيةٍ روائيةٍ فَذّة. ويبدو لي هذا التشابُه – بشكلٍ شخصيٍّ - ضارًّا ببناء الرواية من زاويةٍ محددة. وذلك إيمانًا بضرورة تبايُن التعبير اللُّغوِيّ Heteroglossia، وهو ذلك الاصطلاح الذي صكّه (باختين) ليعبِّرَ به عن التبايُن الضروري في لغات شخصيات العمل الروائي، والذي يعبِّر بقَدرٍ ما عن صراعٍ طبقيٍّ بقدر ما يعبِّر عن اختلافاتٍ فرديةٍ أساسيةٍ، وعليه تُبنى حركيّة الرواية.
    
     من الصعب أن يُغالِب القارئ هاجس التصنيف وهو بصدد قراءة الرواية، وتتأتّى (الواقعية السحرية) قريبًا من طبيعة الأحداث. يخبرُنا التحقيقُ التاريخيُّ بأنّ الاستخدام الأولَ لاصطلاح (الواقعية السحرية) كان على يد الناقد والمؤرِّخ التشكيليِّ الألماني (فرانتس رُوه Franz Roh) في كتابِه (ما بعد التعبيرية: الواقعية السحرية .. مشكلات الفن التشكيلي الأوربي الأحدث)، حيث استطاع (رُوه) في هذا الكتاب تحديد مميزات هذا التيار الجديد في التفاصيل الدقيقة والوضوح الفوتوغرافيِّ إضافةً إلى بيان العناصر السحرية في الواقع. وانسحبَ هذا على غزو الواقعية السحرية عالمَ الأدب.
     فيما يتعلق بـ(لا تسقني وحدي)، لدينا هذا الحشد لأربعة صوفيّةٍ ليس بين أيدينا من التاريخ ما يَدعمُ اجتماعَهم معًا، ولدينا قطيعٌ من الغزلان يُنقِذ زوجتَي (علاء الدين) و(مروان) من هجوم الذئاب في الصحراء، وغزالةٌ تعيش صديقةً للسهروردي في خيمتِه الصحراوية المنفردة، كما لدينا تلك المصارعة بين برهان الدين الجعبري وذئبٍ حقيقيٍّ قُربَ النهاية، حيث يتغلب الجَعبَرِي ويقتل الذئب بيديه العاريتين، وكلُّها عناصر تبدو سحرية. لكننا في المقابل نفتقر إلى الدِّقَّة في وصف الواقع كخلفيةٍ لهذه الأحداث، حتى لو كان واقعًا تاريخيّا، وهو ما يُسقِط زعمَنا للرواية بالواقعية. بالعكس، فقد كانت استراتيجية (سعد مكاوي) في بناء الرواية أشبه باستراتيجية الطائر الذي يحلّقُ عاليًا على ارتفاعٍ لا يسمحُ له بالتقاط تفاصيل الحياة على الأرضِ إلاّ لِمامًا حين يقرر أن ينخفض قليلا. فهناك مثلاً شخصية الوزير (زياد) الوُصولِيّ المنافق الفاسد. لا يحضر الوزير بشحمه ولحمه إلاّ حين ينبري (الحاج عمران) على المقهى لحكاية مشهدٍ يدورُ بين الوزير والسلطانِ على جُلوس المقهى، يبدأ بتهديد السلطان بفضح فساد (زياد) نائب وزير الحِسبة وينتهي بترقيته إلى منصب الوزير. وفي الحقيقة، يبدو هذا الموقِف بصياغة (سعد مكاوي) له أدخَلَ في تقنية (المسرح داخل المسرح) من (الحكاية داخل الحكاية)، حيث تعتبَر الأخيرة تجلّيًا من تجليات ما بعدَ الحداثة، الكثيرة الوُرُود في سرد الواقعية السحرية، أما (المسرح داخل المسرح) فهو المقابل المسرحي لهذا التجلّي. ولِنَكون أكثرَ تحديدًا، فإنّ هذا الموقف في الرواية يُحيلُنا مباشرةً إلى مسرح (سعد الله ونُّوس)، وربما لا نجانبُ الصوابَ كثيرًا إذا قُلنا إنه يبدو امتدادًا لعرض الراوي في مسرحية (مغامرة رأس المملوك جابر) لـ(وَنُّوس)! 
     ختامًا، تبدو (لا تسقني وحدي) حُلمًا راود (سعد مكّاوي)، تكثَّفَت فيه نزوعاتُه الإنسانية الإصلاحية، وأشواقُه الصُّوفيّة، وأرادَ لهذا الحُلم أن يعرف طريقَه إلى عالَم الرواية، لكنّه كان منشغلاً بالتحليق عاليًا أكثر ممّا يَجِب، وربما أملى عليه هذا التحليقَ ذوبانُه في أجواء التجربة الصُّوفيّة التي أرادَ أن يعبِّرَ عنها، فتجسّد هذا الحُلمُ في صورةٍ يمكننا وصفُها بأنها خاطرةٌ مسرحيةٌ شِعريةٌ تحاول الانتماءَ إلى الرواية.
محمد سالم عبادة
22 أكتوبر 2018
نُشِرَ في عدد يناير من مجلة (عالَم الكتاب)

الاسم والهويَّة: كيف يختار الآباء الجدُد أسماء أبنائهم؟

$
0
0

الاسمُ والهُوِيَّة:
كيف يختارُ الآباءُ الجدُدُ أسماءَ أبنائهم؟
     في هذا المقطع من مسرحية (ريّا وسكينة) تعبّر (سهير البابلي) في بساطةٍ عن واقعِ اختيار المصريين أسماءَ أطفالِهم تبعًا لِعددٍ من المُحَدِّدات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.
     لماذا تكتسحُ مجموعةٌ من الأسماء اختيارَ الآباء لأبنائهم في حِقبَةٍ زمنيّةٍ ما؟ المقطعُ السابق يفترِض صعوبةَ أن يُقدِم أبَوان اسماهما (وائل وسَحَر أو رشا) على تسميةِ ابنِهما (عبد العال)، ويقترح مجموعةً من البدائل (سِراج، إلخ)، ليعود أحمد بدير وينفُخَ في المفارَقَة المضحكة بتفجير مفاجأةِ أنّ (عبد العال) هو اسمُ تدليلِه بينما اسمُه الحقيقيّ (هاني Honey)!
     لدينا ثلاثةُ احتمالاتٍ عن الزَّمَن الذي يفترضُه المقطَعُ لتراتُبِيّة هذه الأسماء، فإمّا أنّه يُحيلُنا إلى الزَّمَن الفِعلِيِّ لريا وسكينة أي النصف الأول من القرن العشرين وتحديدًا حَولَ ثورة 1919، أو إلى زمَن العرض الأوّل للمسرحيّة في نهاية السبعينيات، أو هو يفترِضُ هذه التراتُبِيّة مُطلَقَةً ولا يمكنُ بحالٍ من الأحوال في أيِّ زمَنٍ أن نتوقَّعَ أنّ (وائل) و(رشا) يمكنُ أن يُسَمِّيا ابنَهما (عبد العال)!
     ولأنَّنا ننطلِقُ هنا من الملاحظةِ الشخصيّةِ للمجتمع ولا تدعَمُنا إحصاءاتٌ دقيقةٌ، فسنفترضُ ابتداءً أنّ هذه الملاحظةَ صادقةٌ على الأقلّ في المجتمَع القاهريِّ وفي مُدُن المحافظات القريبةِ من القاهرة. الاحتمالُ الثالثُ في مسألة زمن الأسماء المُشارِ إليها في المقطع فيه شكلٌ من أشكال المصادرة على الغيب لأننا لا ندري بالتأكيد كيف سيتراءى للناس اسمُ (عبد العال) مثلاً بعد عشرين سنةً من الآن! إذن يبقى الاحتمالان الآخَران. وكلاهما – اعتمادًا على الملاحظة البسيطة – صادق! فلماذا يتعذّر أن تسمّيَ (سحَر) ابنَها (عبد العال)؟ ولماذا يصدقُ هذا أيضًا على (وائل) و(رشا) الذَين شاعا ووصلا إلى مستوى المُوضة في سبعينيات القرن العشرين؟! 
    
     نترُكُ هذه الأسئلةَ مؤقَّتًا لنستكشف مُصطَلَحًا في علم اللسانياتِ الاجتماعي Sociolinguisticsهو (اللغةُ أو اللهجةُ المفضَّلةُ مجتمعيًّا Prestige Language/ Dialect). هي اللغةُ أو اللهجةُ التي تتمتع بأكبر توافُقٍ مجتمعيٍّ على أنها الجديرةُ بالاحترامِ ومِن ثَمَّ بالتقليد، وعادةً تكونُ اللغةَ أو اللهجةَ التي يتحدثُها مَن يحتلُّون قمّة الهرَم الاجتماعيّ الاقتصاديّ. في مصر بداية القرن العشرين كانت هذه اللغةُ هي الفرنسيّة بحُكم تواطُؤِ ظُروفٍ عِدّةٍ، من أهمِّها بعثاتُ محمد علي وخلفائه المنحازةُ إلى فرنسا، النِّكايةُ في المستعمِر الإنجليزي، تصديرُ فرنسا للعالَم صورةَ الأُمّة المتحررة التي تدعَمُ الحريةَ أينما كان المُطالِبون بها، إلى غير ذلك. في هذا الإطارِ يحاولُ المُنتَمُون إلى الطبقات العُليا تعزيزَ هُوِيَّتِهم الاجتماعيّة الوجيهة بأسماءَ تَليقُ بما وصلوا إليه. ألهذا اقترحَت (سهير البابلي) هنا اسمَ (سِراج) بديلاً عن (عبد العال)؟! لنتخيَّلْ النُّطق الفرنسيَّ للاسم مع اللثغة الشهيرة التي تحوِّلُ الراءَ إلى غَينٍ كما كانت (آثار الحكيم) تفعل في الجزء الأول من مسلسل (زيزينيا): (سِغاجْ)! فرنسيٌّ قُحّ!  
فلنقارن به (عبد العال). اسمٌ مركَّب به عينان، ممّا يوقِعُه في المحلّيّة الشديدة وبالتالي في قاع الهرم الاجتماعي. إذَن صدقَت (سهير البابلي)!
     هناك ملاحظةٌ متواترةٌ في علم اللسانيات الاجتماعي، مفادُها أنَّ لهجةَ (كْريمة) المجتمع – مثلها مثل كل الظواهر الاجتماعية – في تطوُّرٍ مستمِرّ، وأنَّ أحدَ أهمِّ بواعثِ هذا التطوُّرِ رغبةُ مَن يَشغَلُون الطبقاتِ الأدنى في الهرم الاجتماعيّ في اللحاقِ بِمَن في القِمّة ولو بشكلٍ رمزيٍّ، فيقلّدون – على قدر ما تسمحُ مُدخلاتُهم الثقافيّةَ – لهجةَ المُرَفَّهين الأغنياءِ ويَتَسَمَّون بأسمائهم المفضَّلةِ بالتبَعِيَّة. ويترتّب على هذا السعيِ سعيٌ مضادٌّ مِن قِبَل الأغنياء بتطويرِ لهجتِهم أو طرائقهم في التعبير والتواصًل، وباصطناع أسماءَ جديدةٍ تأخذُ كلُّ مَوجَةٍ منها شكلَ المُوضة. وترتبطُ هذه الظاهرةُ بظاهرةٍ أخرى أعَمَّ في اللسانياتِ قد تكونُ الترجمةُ العربيةُ الموفَّقَةُ لها هي الكِناية Euphemism. وتعني تطوُّرَ الكلمات الدالّة على معنىً قبيحٍ أو مستهجَنٍ بشكلٍ مستمرٍّ لا يعرفُ نهاية. هكذا كان المصريون مثلاً يشيرون إلى مكان قضاء الحاجةِ بكلمة (كَنيف) ثُمّ أصبحَت (مرحاضًا) ثُمّ (حَمّامًا) ثُمّ (تْواليتّ) مع المَدّ الفرنسي Toilette، ولمّا لَحِقَ الفقراءُ بالأغنياء وأصبحوا ينطقون الكلمة (تَواليتّ) بتحريك التاء الأولى، انصرف الأغنياءُ إلى استعمال الاختصار الأمريكي (دابليو.سِي)، وأخيرًا عادوا إلى النطق الأمريكيّ للكلمة الفرنسية فأصبحنا في عصر الـ(تُويْلِتْ) Toilet!

     وعلى هذه الملاحظَة المتواترةِ يُمكِنُنا أن نرى في ضوءٍ جديدٍ انتشارَ أسماءَ بعينِها في الجيل الحاليِّ مِن أطفالِ مرحلةِ ما قبل المدرسة. فأسماءُ مثلُ (آدم, أدهم, يحيى, عُمَر, علي، عبد الرحمن، ياسين، آسِر) في الذكور، و(ملَك، آيتِن، فريدة، حبيبة) في الإناث، هذه الأسماءُ تحملُ في طيّاتِ انحيازِ الآباءِ لها إشاراتٍ إلى تغيُّراتٍ مجتمعيّةٍ جديرةٍ بالتأمُّل.
     إذا اخترنا (عمر وعلي) مثلاً وسألنا ماذا يعني انتشارُهما على النَّحوِ الذي لا تجحَدُه عينٌ الآن؟ فرُبَّما تكون الإجابةُ البسيطةُ التي تتبادرُ إلى أذهان الجميعِ هي تفاؤل المسلمين باسمَي الخليفتين الراشِدَين (عُمر بن الخطاب) و(علي بن أبي طالب). لكنّ هذا ليس كلَّ ما في الأمر!
     لماذا لم تنتشر أسماء بقيّة العشرة المبشَّرين بالجنّة مثلاً (باستثناء عبد الرحمن بن عوف)؟

     (أبو بكر) كُنيَةٌ بالأساسِ – وهذا لا يعني جُمهُورَ الآباء كثيرًا في الحقيقة – لكنّ تكوُّنَه من مقطعَين، ورُبَّما شهرةُ أبي بكرٍ الصدِّيق بالرحمة عند الجمهور العريض من المسلمين، كفيلان بإقصاء الاسم من قائمة الأسماء التي يختارُ الأبَوان منها لابنِهما. الرحمةُ - بصفتِها عنوانًا لنمَطٍ من العلاقاتِ الإنسانيّة المنفلتة من الضبط والمعياريّة المُمَيِّزَين للمجتمع المعاصِر ليسَت صفةً مرغوبةً تمامًا في مستقبَل المولود الجديد، بعكس الحَزم والصّرامةِ المُمَيِّزَين للصُّورة الشائعة عن (عمر بن الخطاب). وفي هذا التمييزِ أيضًا لا يعني الجمهورَ كثيرًا النِّقاشُ المحتدمُ حول قرارِ (أبي بكرٍ) بخوض حروب الرِّدّةِ ضدَّ مانعي الزّكاة، وهو القرار الذي راجعَه فيه (عُمَر). فالمهمُّ هو الصُّورةُ الشائعةُ التي تتبادرُ إلى الذِّهن بمجرَّد ذِكر الاسم، وهي رؤيةٌ من جانبِنا تلتقي مع ما طرحَه (ميلان كونديرا) في روايتِه (الخُلود L'Immortalité)من حُلول الصُّورة Imagologyمحَلَّ الفِكر الخالص Ideologyفي الأهمّيّة مِن تحريك المجتمَعات المعاصِرة.    
     هذا فضلاً عن أنَّ اسمَ (عُمَر) يُلقي بظلالٍ أخرى في الصورة الذهنية المتخيَّلَة لصاحبِه في وقتِنا، فمن الصعوبة أن يُفلِتَ واحدٌ من جيلي - حين يسمع اسمَ عمر – من تذكُّر إعلان السيراميك التسعيناتيّ الشهير حين تفاجَأ (يسرا) بدخول (عمر الشريف) الكادر فتناديه باسمِه (عمر)، وهو ما كان يبدو صادمًا لي آنذاك لمكانةِ (عمر الشريف) العالَمية وانتمائه إلى جيلٍ أقدم بكثيرٍ من جيل (يسرا)! المهمُّ أنّ هذه الذكرى كفيلةٌ بإضفاء جوٍّ أرستقراطيٍّ على المشهد الذي يوجد فيه كلُّ طفلٍ اسمُه (عُمَر)، وتتلاشى في مواجهتِه فورًا شهرةُ (بن الخطّاب) بالزُّهد والتقشُّف! كذلك تحتلُّ الكادْر صورةُ (عمر خيرت) بطلعتِه المَهيبة وألحانِه الأرستقراطيّةِ الرصينة. في النهايةِ يبدو الأمرُ أعقدَ بكثيرٍ من مجرّد محبّة (أمير المؤمنين)!
     قُل مثلَ ذلك في انتشار (عليٍّ) وخفوتِ (عثمان). أوّلاً، نحنُ أمامَ جيلٍ جديدٍ من الآباء، مهما ادَّعَى المحافظون من مُسلِميه السُّنّيِّينَ تحفُّظَهم إزاءَ الاتهاماتِ التي تطالُ بعض الصحابةِ، فإنّهم في النهاية بشكلٍ لاواعٍ ينحازون إلى مَن يقِلُّ الخلافُ على صورتِه المثالية، وبالتالي (يَجِدون بعضَ الموجِدة) على الخليفة الثالثِ عثمانَ وإن لم يذهب بهم حظُّهم من الليبراليّةِ إلى درجة التصريحِ بالعَتب عليه. هذا فضلاً عن اختلاطِ الاسمِ في أذهانِ المِصريينَ بالشخصية السينمائيّة التي رَسَمَها (علي الكسّار) للنُّوبيّ البوّاب البسيط (عثمان عبد الباسط) وتابعَه عليها تراثُ السينما المصريّة (بوّاب = عثمان)، ناهيكَ عن (موجِدَةٍ) أخرى تجاهَ الاحتلال/الخلافة/الغزو/الفتح العثمانيّ لمصر وغيرها من الأقطار العربية! هذا في مقابلِ (علي) الذي تتقاطع فيه صورةُ الإمام (عليٍّ) العادل الزاهد العالِم الشاعرِ إلى غير ذلك، مع صورٍ أخرى مؤثِّرةٍ في هذا الجيلِ من الآباء المصريين، كصورة (علي البدري) الشخصية التي جسَّدها الراحل (ممدوح عبد العليم) في مسلسل (ليالي الحلمية) لخمسة أجزاء أو يزيد، بكلّ رومانسيّتِه وتقلُباتِه الفكرية التي كرَّسَته نموذجًا للإنسان المتراوح بين الخير والشرّ في إنسانيّةٍ حقيقية!
     (عمر) و(علي) فيهما (عينٌ) من عينَي (عبد العال) الذي افتتحنا به المقال، لكنّهما مكرَّسان عالميًّا، وبهذا يقفزُ إلى ذهن الأبوين المصريَّين رسمُ الاسمَين بالحروف اللاتينية Omar/ Aliكما في صورة عمر الشريف وشخصية محمد علي (الحاكم والملاكم، كلَيهما). وهذا يضمن شكلاً من أشكال الطموحِ إلى مواطنَةٍ كونيّةٍ متجاوِزَةٍ لحدود القُطر في المولود الجديد!
     يَلحَقُ بهذا الحرصِ على المواطنة الكونيّة تفضيلُ بعض المسيحيين المصريين النُّسَخَ الأوربيةَ من الأسماء المتجذِّرَة في الوعي المسيحيِّ على النسخ المصرية. ففي فترةٍ قريبةٍ من المَدِّ الثقافيِّ الفرنسيِّ كان اسمُ (ميشيل) بديلاً (أرقى) عند كثيرين لاسم (ميخائيل) رغم قُرب النُّطقِ الأخيرِ من المصادر الآراميّةِ القديمةِ للنصوص المسيحية المقدسَة وأسماء الملائكة. وحين حلَّ المَدُّ الأمريكيُّ محلَّ الفرنسيِّ، أصبحَ اسمُ (مايكل) هو البديلَ الذي يداعبُ الآباء. وهكذا، حتى وصلنا إلى الأسماء ذات الجذور الأوربيةِ بالكامل مثل (كيفِن Kevin) ذي الأصل الأيرلندي الذي يعني (نبيل المنشأ).
     أمّا اسمُ (ياسين) فقد كان صعودُه أكبر من مجرَّد احتفاءٍ إسلاميٍّ مفاجئٍ بالسورة القرآنية ذات الخصوصيّة الرُّوحِيّة الشهيرة. وإلاّ فلماذا لا يوجد صعودٌ مُوازٍ لاسم (طه) مثلاً؟ بل بالعكس هناك انحسارٌ للرغبة في تسمية الأبناء بهذا الاسم!
     في (ياسين) استبقاءٌ لمَلمَحِ القُوّة الكامنةِ والدَّهاءِ الذي يَنتظرُ الفُرصةَ المُناسِبةَ للإفصاحِ عن نفسهِ من شخصية (ياسين) التي جسَّدَها (أحمد سلامة) في (ذئاب الجبل)، ممتزجًا عند البعض بنجوميّة (آسِر ياسين)، وربما عند البعض بحُلم الثراء، تُسَرِّبُه إليهم لوجوهات مجموعة (ياسين) المطبوعة على السيارات! هل نبالِغ؟! واردٌ بالطبع، لكنَّ إغفالَ كل هذه التأثيرات المحتملة يضعُنا في ورطةِ الانتشار المُستَعصي على التفسير! لماذا يُحجِم المصريون الآن عن تسمية أبنائهم (طه)؟ هل لأنَّ الكلمةَ فِعلٌ بمعنى (طَأْها)؟ لم يلتفت المصريون قديمًا إلى هذا وتيمَّنوا بالاسم على اعتبار أنّه من أسماء النبي. هل لأن بدايةَ السُّورة تُعتبَر عند البعض من الحروف المُقطَّعة؟ فماذا عن (يس) وهي مِثلُها؟! هل لأنّ شخصية (طه السماحي) – الوطنيّ الثوريّ على الملَكيّة والاستعمار- التي جسَّدَها (عبد العزيز مخيون) في (ليالي الحلمية) كذلك أصبحَت تُذكِّرُ آباءَ الجيلِ الحاليِّ بإخفاقاتِ جيلٍ سابقٍ بالغ في الطنطنة بأمجادِه حتى انطفأَت جذوةُ جاذبيّتِه فقرر الآباء المعاصِرون – بشكلٍ واعٍ أو غيرِ ذلك – قطيعةً معرفيّةً مع ذلك الجيل؟ يظلُّ هذا واردًا جدًّا وإن أسرعَ في الاعتراضِ متسرِّع، والمهمُّ هو تعدُّد التأثيرات لا الأمثلةُ المتعيِّنة.
     هناك أيضًا الأسماءُ العربيةُ المَصُوغةُ في قالَبٍ يبدو أجنبيًّا عن طريق الكتابة. الأمثلةُ تأتينا بغزارةٍ من مُوضة أسماء البنات المعاصرة. (جُمَانَة) أي الدُّرَّة التي يكتبها المصريون (چومانا)، و(لُجَينَة) أي قِطعةُ الفِضَّة التي يكتبونها (لُوچينا) ويُدَلِّلُونَها (لُوچي). فضلاً عن (رِتاج) الذي يعني التِّرباس – أيَّ ترباسٍ لأيٍّ بابٍ على وجه البسيطة – ويكتبونه (ريتاچ) ويقولون مرّةً إنه يعني (كسوة الكعبة) ومرّةً (مفتاح باب الكعبة) كما يدَّعُون مرّةً أنَّ له أصلاً فارسيًّا ومرّةً أنه عربيٌّ أصيل، و(ريماس) الذي يُقالُ إنَّ معناه (ترابُ الماس) – ولم أسمع بشكلٍ شخصيٍّ عن تراب الماس إلاّ مع صدور رواية أحمد مراد التي تحملُ العنوانَ ذاتَه – و(رَتال) أي التي تُرَتّلُ (يَعنُون القرآن) فيكتبونه (رِيتال) كما لو كانوا يودُّون الإشارة إلى المصدر الإنجليزي Retaliationأي الثَّأْر، أو إلى (كريتال) وهو أحد أنواع طلاء اللاكيه المعروفة!
     هذه الأسماء التي تسرَّبَت رويدًا رويدًا من الأغنياءِ إلى الطبقات الوسطى (ريتاچ: ابنةٌ رضيعةٌ لزميلتي الطبيبة عام 2008) إلى الفقراء (ريتال: طفلة في الرابعة ترددت بصُحبةِ أمِّها على العيادة الخارجية للجراحة في المستشفى العامِّ الذي أعملُ به عام 2018) تتبعُ الخُطَّةَ الكونيّةَ نفسَها التي يتبعُها اسما (عمر) و(علي). فهي أسماءٌ عربيةٌ في معظمِها وبالتالي تُشبِعُ ذلك الادّعاءَ الهُوِيّاتِيَّ السطحيَّ عند بعض الآباء ولو بشكلٍ لاواعٍ، وهي مُحَرَّفَةٌ كتابيًّا لتَبدُوَ مُتَرجَمَةً عن لُغَةٍ أوربّيّة (ريتاج وريماس بوزن فِيعال، وهو وزنٌ التصقَ في الميزان الصرفيِّ العربيِّ بالألفاظِ المترجمةِ عن لغاتٍ أخرى كديوان عن الفارسية وقيراط عن اليونانية في الأصل، وذلك لاستقدام هذه المفردات إلى مملكةِ العربيّة، ولا يوجدُ عربيًّا خالصًا إلاً نادرًا كما في المصدر حِيقال بمعنى الحوقلة أو ترديد "لا حول ولا قوّةَ إلا بالله"). وهي في النهايةِ أسماءُ بسيطةٌ يحاولُ بها الفقراءُ إلحاقَ أبنائهم بطبقةِ مَيسُوري الحال، ومِن ثَمَّ بالمُوَاطنَة الكَونِيّة الحُلم!

    تلخيصًا لما سبقَ، يمكننا أن نرى بوضوحٍ إزاحةَ الأسماء التي شكَّلَت (مُوضةً) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في مصر، والتي بدأت في قمة الهرم الاجتماعي، مثل (تامر، وائل، هاني) في الذكور و(رشا، رانيا، رنا) في الإناث، ثم انتشرت في بقية الطبقات، لصالح موضةٍ أخرى أسلَفنا الإشارةَ إليها. وكثيرٌ من العوامل التي حكمت انتشار الأولى بقيَت لتحكم انتشارَ الثانية، وأهمُّها بساطةُ الاسم وخُلُوُّه النسبيُّ من المتعلقاتِ الصوتيّة الثقيلةِ للهُوِيّة المحلّيّة (كعَينَي عبد العال)، الكفيلان ببعث التفاؤل بالمواطنة الكونية. بينما استُحدِثَت عواملُ تحكمُ انتشار الموضة الجديدة، تتعلّقُ بصعود الصورةِ وملاءمتها لمعايير النجاح العصرية (نموذج عمر في مقابل أبي بكر)، والرغبة في قطيعةٍ معرفيةٍ مع الفترات التي أصبحَت سيئة السُّمعة لدى الأجيال الجديدة (نموذج طه في مقابل ياسين)، والحنين إلى فردوسٍ ماضَوِيٍّ متخَيَّل (بعث فريدة من العصر الملَكي).

     المقولةُ الشائعةُ "لكلِّ إنسانٍ نصيبٌ من اسمِه"تبدو صحيحةً في إطار النظرية التواصُليّة للهُوِيّة Communication Theory of Identityالتي بَلوَرَها (مايكل هِكْتْ Michael Hecht) الباحثُ في علم النفس الاجتماعي. تقولُ النظريةُ إنَّ للهويّة أربعةَ طبقات 4 Layers of Identity:
- شخصيّة Personal: هي صورةُ الذاتِ، أو كيف يرى المرءُ ويُعَرِّفُ نفسَه.
- مًصَدَّرة أو تواصُلية Enacted : تتخلّق وتتدعّم وتُحَوَّر بالتواصل مع الآخَرين وتنطبع في أذهانِهم.
- علائقيّة Relational: تُرسَم على مهَلٍ بقيام المرء بأدوارِه المختلفة في الأسرة والعمل وغيرهما من المواقف المجتمعية، ويستبطنُها الشخصُ تدريجيًّا فيَرى نفسَه بضوءٍ متجدّدٍ في إطارِها.
- مجتمعية Communal: هي ما يُعَرِّف به المجتمَع مجموعةً جزئيّةً منه.
والشاهدُ أنَّ طفلاً يسمّيه أبواه (عُمَر) مثلاً، يُكوِّن بمُضِيِّ الوقتِ صورةً لِذاتِه، فيها ما يَعرفُه عن اسمِه كمكوِّنٍ أساسيّ. ثُم يفاجأ أنَّ الهويّة التي صدَّرَها لقاؤُه بآخَرين تختلف بعض الشيء عن صورتِه لِذاتِه، وفيها اسمُه (عُمَر) يحملُ ظلالاً مختلفةً بعض الشيء. ثُمّ ينخرطُ في أدواره المختلفة التي تُمليها عليه حياتُه الاجتماعيّةُ فتتجدَّدُ من خلالِها علاقتُه بذاتِه ورؤيتُه لمقتضياتِ اسمِه، وفي النهايةِ لا مفرَّ من تحوُّراتٍ مستمرّةٍ في الهُوِيّة ورؤية الشخص لمعنى اسمِه وارتباطِه بمعنى وجودِه ذاتِه، عبر المستويات الأربعة التي تحدثَ عنها (هِكْتْ). بهذا يكونُ للإنسان نصيبٌ عظيمٌ من اسمِه في الحقيقة.
     إنّ الأمرَ يشبهُ بطريقةٍ ما موقفًا متخيَّلاً حكاه له صديقٌ قديما: أن تسألَ شخصَين "مَن هُو محرِّرُ العبيد؟"فيقول ذو الثقافة الإسلامية: "أبو بكرٍ الصّدّيق"، ويقولُ الآخَر المتوحِّدُ مع التاريخ الأمريكيّ: "أبراهام لِنْكِنْ"، وكلاهما مُحِقٌّ من زاويةٍ معيّنة. هنا الأمرُ مقلوب. فأنتَ لا تسأل عن صفةٍ بعينِها وإنما تسألُ "من عُمَر؟"فتتعدد الإجابات بتعدُّد زوايا الرؤية، وبالتالي تتعددُ تعدُّدَ الأشخاصِ المسئولين، ومن هنا تتشابكُ خطوطُ الهُوِيَّةِ وتتعقد مع ازديادِ ضربات الفرشاةِ المضافة كلَّ لحظةٍ إلى لوحةِ الاسم. إنه قدَرٌ لا مفَرَّ منه. قد يبدو مرعبًا أحيانًا لأنَّ لكلٍ إنسانٍ نصيبًا آخَر من القُصور الذاتيِّ النفسيّ  Psychological Inertiaيَميلُ بمُقتضاهُ إلى تثبيتِ زاويةِ رؤيتِه للعالَم ولنفسِه، لكنّه لا يخلو من إثارةٍ حتميّةٍ، تخمدُ بخمود آخر أنفاس الإنسان.  

محمد سالم عبادة
23 مارس 2018
 .....
نُشِر على موقع (منشور) في 8 أبريل 2018

      

عالَمُ بِنتِ الحاوي: قراءة في المجموعة القصصية (سِرّ السُّكَّر) لمريم حسين

$
0
0


     
"أنظرُ بدِقَّةٍ لحلقة النار. أراقِبُ تَلَوِّيَ ألسنتِها بعُنفٍ كأثَر مضاجعةٍ جنونية، بينما تستقرُّ في ثباتٍ الكراتُ السوداءُ التي يتمركزُ فيها الجاز. أرفعُ رأسي لأعلى تجاهَ شرفة منزلِنا وألمحُني أقفُ أترقَّبُني بحَذَر".
     بهذا الانقسام في الذّاتِ السّارِدة تبدأ (مريم حسين) قصّة (الحاوي) التي تُصَدِّرُ بها مجموعتها الصادرة عن (دار ميريت) منذ أسابيع قليلة. واقعُ الأمر أنَّ هذا الانقسام لا يتكرر على هذا النحو من الوضوح في أيٍّ من قصص المجموعة التِّسعَ عشرة. فتدريجيًّا نكتشفُ أننا بإزاء ذاتٍ تسعى لتوكيد حُضورِها المتقوقِعِ داخلَ صدفَةٍ من مُدرَكاتِها وهلاوسِها، فتُحاولُ باستمرارٍ خَلقَ عالَمٍ مُوازٍ لعالَمِنا الواقعِيِّ، يصبحُ نسختَها الخاصَّةَ جِدًّا، وهي لا تَقبَلُ أبدًا المساومةَ على الاعترافِ بمُفردات الواقعِ كما هي، وإن انصاعَت لضغط هذا الواقعِ بأشخاصِه الذين يَظهَرون ويختفون سريعًا كـ(فَرقَع لَوز)، فهي لا تلبَثُ أن تعودَ وتهدِمَ ما بَنَته على طريقتِهم، وتُلاحِقُهم بسِبابِها العنيف، لتعودَ سيرتَها الأولى: رافضةً ما يُملِيه الواقعُ، متمسكةً بنسختِها من العالَمِ التي تبنيها في دأَبٍ قاتل!
* الحاوي مركزُ الثقل:
     (الحاوي) من القصص القليلة في المجموعة التي يمكننا اعتبارُها محتويةً على (مركز ثقلٍ) واضح. أعني أنَّ هناك ما يشبهُ المَذهَب أو المُرَجَّع في القصيدةِ أو الأغنية، هو حضورُ الحاوي وابنتِه الفقيرةِ في الحارة، وموقفُها منهما في مواجهة موقف أهل الحارة. ونتبيّنُ من طبيعة السَّردِ هنا ورطةً وجوديَّةً يعانيها جميعُ الشخصياتِ في القصّة. فالذاتُ السّاردةُ منقسمةٌ إلى نصفٍ ينخرِطُ في لَعِبِ الحاوي وابنتِه "اقتربتُ أنا والحاوي من الحلقةِ المُوقَدَةِ استعدادًا للقفز، وعندما شعرتُ بهَبو النارِ يُلامِسُ وجهي خفتُ وتراجَعتُ، تركتُه يقفِزُ وحيدًا وصعدتُ أنا جريًا إلى شُرفَتي"، ونصفٍ يراقبُ ما يجري من الشُّرفة، ونكادُ نجزمُ طيلةَ القصّة أنّ النصفَ المتفاعلَ مع الحاوي نصفٌ طيفيٌّ حُلُمِيٌّ لا يشعُرُ به أحد "تحاشَيتُ ساقَ الحاوي أكثرَ من مرَّةٍ بينما اندمج هو متحمسًا للضحك والحوار وداسَ على قدمي اليُسرَى ممّا جعلني أصرخُ متألِّمةً: تصدق انا غلطانة؟!. وانسحبتُ من الزحامِ أعرُجُ متألمةً إلى شُرفتي". هو حضورٌ يشبهُ حضور شخصية (مالكولم كرُو) التي جسَّدها (بروس ويليس) في فيلم (الحاسّة السادسة The 6thSense)، رُوحَ ميِّتٍ يمشي بين الأحياء. ومن ظواهرِ هذا السِّياقِ يمكنُنا أن نكتشف معنيين متشابكَين لكلمة (أعرُج) في هذه الجُملة، فقد تأتي من (العرَج) أي الإعاقة وهو المعنى الظاهر، وقد تأتي من (العُروج) بمعنى صعود هذه الرُّوح لتلتحمَ بالجسَد الواقفِ هناك في الشّرفة يراقبُ في حِياد!
لا يجعلُنا ندركُ أنَّ هذا النصفَ المُتَفاعِلَ ربما يكونُ حقيقيًّا إلاّ رَدُّ ابنةِ الحاوي في آخِر جملةٍ في القصّة على (مريم) إثر توسُّلاتِها لها ولأبيها بالبقاء: "يا شيخة رُوحي كِده، ينعل أبوكو!"
      كذلك الحاوي وابنتُه غارقان في هذه الورطة الوجوديّة، فهما يحاولان إثباتَ حضورِهما للجمهور دون جدوى، ولا أحد يُبدي إعجابَه بألعابِهما إلاّ حين يُضطَرّان إلى الإسفافِ فيأمر الحاوي ابنتَه: "قولي انا بنت حلال يابا"فتُجيب: "أنا بنت حمار يابا". شكلٌ بُدائيٌّ من تنازُل الفنّان عن معاييرِه الخاصّةِ لإرضاء ذوقِ العامّة!
     أمّا الشخصيات الثانويةُ في القصّة – وما أكثرها وما أكثر حبكاتِها الفرعيةَ القصيرةَ جِدًّا هنا وفي معظم القصص، بشكلٍ يبدو غيرَ متناسِبٍ مع الإحكامِ المفترَضِ وجودُه في عمَلٍ سرديٍّ قصيرٍ كهذا – فهي بدَورِها مؤرجَحَةٌ بين الوُجودِ والعدَم: المرأتان اللّتان تشاجرَتا منذ أسبوعين – حسبَ زمنِ القصّة – في نفس البقعة من الحارةِ التي يشغلُها عرضُ الحاوي بسبب خلافٍ يخصُّ سيد الكهربائي وخمسين جنيهًا، هاني وزوجتُه اللذان باتا ليلتَهما في علاقةٍ حميمةٍ مصحوبةٍ بآهاتٍ سَمِعَها كلُّ مَن في الحارةِ فأصبحا يُراقِبان عرض الحاوي مِن وراء سِتار شُرفتِهما خجَلاً، الأستاذ (نجمي) المحامي القدير الذي يعودُ إلى منزله كلَّ يومٍ في تاكسي ولا يظهرُ في المشهد إلاّ ليَصرِفَ الحاوي وابنتَه ليعود لنومِه، وهكذا!
     يحضُرُ الجسَدُ هنا حضورًا مُؤلِمًا دائمًا، فهو ألَمُ الغربة الاجتماعيّة التي يعانيها (هاني) وزوجتُه بعد ممارسة الجنس، وألَمُ (عين السمكة) في القدم اليُسرى لنصف (مريم) المتفاعِل مع عرض الحاوي، والذي يتفاقم بعد أن يدوسَها الحاوي غيرَ عابئٍ بوجودِها، وألَمُ الإنهاكِ في محاولةِ اجتذابِ الجمهور عند الحاوي وابنتِه، والذي نستنتجُ وجودَه رغم عدم التصريح به، وألَمُ ما بعد شِجارِ المرأتين الموشِكَتَين على تدمير جسدَيهما.
     ربّما يتحوّلُ الحاوي هنا إلى مُعادِلٍ موضوعِيٍّ يَكتنزُ هذه الورطةَ الوجوديّةَ بتمامِها ولذا لختارته مريم لتُعَنوِنَ به قصَّتَها الافتتاحيّة؟ سنعودُ إلى الحاوي في نهايةِ المقال!
* التشويقُ بين اليوميّات والفانتازيا الشِّعريّة:
     ابتداءً من القصة الثانية (الخُطّة) تترُكُ القاصّةُ قلمَها لإغراءِ ما يُشبِهُ اليوميّات، فالأحداثُ منطلِقةٌ في اتّجاهٍ واحدٍ لا عودةَ فيه للوراء، ويَصعُبُ أن نجدَ في أية قصّةٍ أخرى في المجموعةِ (مركزَ ثقلٍ) كما في الحاوي. تُبَرهِنُ (مريم) على مقدرتِها على التشويق Suspenseفي أكثرَ من قصّةٍ، ففي (الخُطّة) تُخفي عنّا تمامًا ما تعتزِمُه البطلةُ الرّاويةُ مُدَرِّسَةُ الموسيقى إلى الصفحة قبل الأخيرة لنكتشفَ أنها من البداية كانت تُخَطِّطُ لتدخين سيجارةٍ في حَمّام المَدرَسة. كذلك في (سِرّ السُّكّر) تجعلُنا نتساءِلُ مع السطورِ الأولى عن "فُتاتِ سُكَّر مرشوش علَيَّ، ألتقطُه في كَفِّي وأتلفَّتُ حولي لأتاكَّدَ مِن عدم وجود نمل".
     وهي حين تُفلِتُ من قبضةِ اليوميّات المسترسِلَةِ في وصف الأحداث الواقعيّة بإخلاصٍ شديد، تقعُ في براثن الفانتازيا الشِّعريّة، كما في الخُطَّة حين تصفُ حصانًا في مزرعة الخيول القريبة من المدرسة: "كان يرمَحُ بقوّةٍ. أبيض تمامًا. رأيتُ شَعرَ ذيلِه ورأسِه يزدادُ طولُهما كلّما جرى أسرع، ومع ازديادِ سُرعتِه عبر شَعرُه التُّرعةَ ودخلَ مِن شُبّاكِ المَطبَخ، وسرَح على الطاولة الطويلة وسقطَ طرفُه في كُوبِ القهوة، غضِبتُ بشِدَّةٍ ونَهرتُه بعُنفٍ فانكمشَ الشَّعرُ وانسحَبَ مَخذُولاً إلى مَزرعتِه". بِناءُ هذا الحدَث الفانتازِيّ يُذكِّرُنا ببناءِ قصيدةٍ مثل (بُوهيمِيَّتي Ma Boheme) لآرثر رامبو مثَلا.
* الكتابةُ عن الكتابة، والسيرةُ الذاتية:
    يُطِلُّ (الميتا-سَرد) في مواضع مختلفةٍ من المجموعة، أعني انشغالَ الكاتبة بالحديثِ عن الكتابة داخل قصصِها، وبالتالي كسرِ إيهامِنا بأنَّ ما نقرؤُه حقيقة. ففي (أهمية الساعة حداشر) تَروي: "أُكمِلُ قِصَّةً قصيرةً بعنوان (انعكاسات)، عن فتاةٍ تُحملِقُ في انعكاس وجوه الرُّكّاب على زجاج نوافذ سيارة أجرة تجري على كورنيش المعادي في الحادية عشرة ليلاً، وتفاجأ في الزجاج أيضًا بعَيني حبيبِها تراقِبُ مراقبتَها"، فهُنا الحبيبُ نفسُه يمارسُ الكتابةَ من طرفٍ خفيٍّ وهو ما سنعودُ إليه لاحِقًا. وفي (عن العلاقة بالتوابل) تروي: "مِن أسبوعٍ فشِلتُ في نَشر إحدى قصصي، وبالتالي زادَت كمّيّةُ الشطة والفلفل الأخضر الحارّ في أكلَتي المحبوبة: الكبد والقوانص". وفي القصة الأخيرة (اللعبة): "لكم اجتهدتُ في التأليفِ على السلالِم – سواءٌ في منزلِنا في بشتيل أو في منازل العائلة في الفيُّوم – وإشراكِ كُلِّ الأطفالِ معي في التمثيلِ فقط، فأنا هنا المؤلِّف، وكوَضعٍ تلقائيٍّ فأنا إلى الآن المؤلِّف. أنا القاصّةُ وكاتبةُ السيناريو. أنا خالِقُ الحِكايات". فضلاً عن هذا، فإنّ الأحداثَ العابِرةَ للقِصَص كمرض الأب ووفاةِ الجَدّةِ ولقاء الراويةِ بحبيبِها تلفتُنا إلى أنّ ما نقرؤُه هو كتابةٌ تخييليّةٌ Fiction، ومن ناحيةٍ أخرى تقرِّبُنا من أدب السيرة الذاتيةِ في مُراوَحةٍ لافتة.
     نلاحظُ في اقتباسات الفِقرة السابقة وفي غيرِها اهتمامَ الكاتبةِ بذِكر أماكِنَ حقيقيّةٍ متعيِّنةٍ للأحداثِ، ممّا يُقَرِّبُ قِصصَها كذلك من أدَب السيرةِ الذاتيّةِ أو اليوميّات المتأدِّبة.
* حضورٌ قويٌّ للحواسّ، ونشاطُ التسميةِ البديلة:
     خلالَ هذا الإبحار الذي لا يَلوي على شيءٍ في أحداثِ القِصَص، تحضُرُ بكثافة ٍحواسُّ البطلَة الرّاوية (التي لا تغيبُ عن أيٍّ من قصص المجموعة، فلا يوجدُ راوٍ عليمٌ مثلاً في أيٍّ منها). ففي (الخميس ألوانٌ متداخلة) تقول: "الاتنين أحمر. التلات برتقاني. وجدتُ فَرشةَ بائعِ لمبات الجاز، لكَم دأبتُ على إهدائه لمباتٍ متعددةَ الألوان. إلخ". وفي (أضواء): "حوض الريحان العملاق ترصَّدَ بي صابًّا كل رائحتِه الغالية التي ادّخرَها لي طوالَ اليوم"و"عيني فيها مغناطيس يجذبُ الضوء، الضوء هو الذي يخشى النظرَ إليَّ أصلاً". وتصِلُ بلاغةُ الحواسّ إلى مَداها في قصّة (عن العلاقة بالتوابل): "ميّزتُ صوتَ الفُلفل الأسود الأجَشّ، وصوتَ الكسبَرة المسرسع". إلاّ أنّ حاسّةَ الشَّمِّ تحديدًا تتضخّمُ في هذه المجموعةِ لتصطادَ روائحَ الناسِ بما تحملُه مِن آثارِ وجودِهم وتُصبِح مُحَدِّدًا قويًّا لعلاقةِ البطلةِ بِهم. يتضحُ هذا في (الخطّة): "لمحتُ شبشب دادة امُّ حنان البنفسجي مستقِرًّا أسفلَ الحوض وطرحتَها منسِيَّةً خلفَ الباب. سببتُها في سِرّي، فطَرحَتُها تلك جعلت الحمّامَ كلَّهُ كرائحتِها التي كانت كرائحةِ رُقاقٍ تمَّ تخزينُه لفترةٍ طويلة". وفي (القَرار) يتحوّل وعيُها بسُوء رائحة ضِرسِها المتسوِّس إلى مُحَدِّدٍ لعلاقتِها بذاتِها وخوفِها من عدوى هذه العلاقةِ إلى طبيب الأسنان، فتقول: "قرشتُ قرنفُلةً حتى لا يَضيقَ الدكتور برائحةِ فمي وينفعلَ في خلع الضرس".
     ويتسرّب هذا الحُضورُ القويُّ لحواسِّها – لاسِيَّما حاسّةَ الشّمّ – إلى نشاطٍ بارزٍ تقومُ به خلالَ مسارِ أحداث القِصَص، وهو نشاطُ إطلاق الأسماء البديلة! في (الخطة) مثلاً تقولُ: "كنتُ أُسَمِّيهِ (عُود النعناع)، فظهورُه كان يسبب لي حالة انتعاشٍ غريبةً". والواضحُ أنّها تحتفي بمجموعةٍ قليلةٍ من الأشخاص الذين تمنحُهم حقَّ إطلاقِ الأسماءِ البديلةِ بدَورِهم، بينهم جدَّتُها في (سعاد إسماعيل يوسف) حيثُ تقولُ الجَدّة: "جبت لِك ِبدَة يا سِوِخ (تدليل مهذَّب لكلمة وسِخ)"، وتحكي عنها القاصّة: "وتناولَت هي سندوتش المُخّ بمشاركة قرن فلفل صغير جدًّا نَعَتَته بالنصراني لشِدَّة حَرَقانِه". وبينهم ذلك الحبيب الذي يشاركُها بطولة القصّة الوحيدة الخالية من الظهورات (الفرقع لَوزِيّة) السريعة لشخصياتٍ ثانويةٍ، وهي القصّة التي تحملُ عنوانَ المجموعة (سِرّ السُّكَّر)، حيث يقولُ لها: "إنتي ريحانة رايقة"ـ وتقترح عليه أن يُطلِقا معًا اسمًا بديلاً لسُور مَجرى العُيون هو (أوَّل الدنيا) تأثُّرًا بأبيها الذي كان يُسَمّي هو وحبيبتُه قاهرةَ المُعِزّ نفس الاسم.
في هذا النشاط تتجلّى رغبةُ القاصّةِ في خَلقِ نسختِها الخاصّة من العالَم، التي تحدَّثنا عنها في بداية المَقال. فهي تسمّي ذلك الحبيب (ضَوئي الأثير) وتسمحُ له بأن يرى قميصَها أخضر بينما تراهُ هي تركواز، ويتحوّل هذا الخِلافُ إلى تُكأةٍ لاستعادةِ وجودِ الحبيب في قصّة (نَشيدي). أمّا في القصّتين اللتين تتمحوران حول فُقدان الجَدّة (الأربعين) و(سعاد إسماعيل يوسف)، فالقاصّةُ نفسُها تتوقف عن هذا النشاطِ تمامًا ويظهَرُ بدلاً منه نشاطُ السرقات الصغيرة، حيث تقول: "لمحتُ ملعقةَ جَدِّي الذي لم أرَهُ وبُسرعةٍ أدخلتُها بين طيّاتِ ملابسي وعُدتُ لتكملةِ جُزءِ القرآن"، و"قلّبتُ محتوياتِ الدولابِ بحثًا عن مجموعةِ صُوَر". هُنا لا تحاولُ خلقَ عالِمٍ بديلٍ وإنما تتشبَّثُ بمُفردات عالَم الأعزاء الراحلين كما هي، فتلجأُ إلى السَّرِقةِ لإبقائهم حولَها.
     لا تتناصّ (مريم) مع النُّصوص المقدَّسَةِ إلاّ في هاتين القصّتين (سِرّ السُّكَّر) و(نشيدي)، وتحديدًا مع (نشيد الأنشاد) من العهد القديم. هكذا يتّضِحُ تقديسُها لتلكَ العلاقةِ مع حبيبٍ يتمتّعُ مثلَها بالقدرة على إطلاق الأسماء البديلةِ وبالتالي خلق نسختِه الخاصّة من العالَم.
     مثَلٌ أخيرٌ لتَجَلِّي هذا الإصرار على العالَم المُوازي نجدُهُ في (عن العلاقةِ بالتوابل)، حيثُ تنصاعُ لنصيحة إحداهُنَّ بلَصقِ بطاقةٍ تعريفيّةٍ على كلِّ برطمانٍ لإنقاذِها من الخلط بين التوابل، لكنّها في النهاية تضيقُ ذرعًا بأكوامِ الأوراق المقصوصة والشريط اللاصِق اللازمَين للبطاقات المُرادة، وتكوِّمُها في چركن المُهمَلات، وتعودُ لخلط التوابل والرسمِ عليها والتجريبِ بها على طريقتِها الخاصّة.
* الضِّيقُ بالقواعد ملمحٌ أساسيّ:
     ويجرُّنا هذا الضِّيقُ بالقواعدِ الذي تعبّرُ عنه في (علاقتها بالتوابل) إلى ضيقٍ عامٍّ بكُلِّ القواعِد، يتبدَّى في بعض أحداث قَصَصِها كما في (الوَحش): "شرَعَت فتاةٌ في ترديدِ دُعاءِ الرُّكوب. ردَّدتُ معها في سِرِّي، وكعادتي بمُجَرَّدِ قولِها (اللهُ أكبَر) وتركيزِها على التشكيل الصحيح مع كسر الكاف ووتسكين الرّاء، قَلَّدتُها وأنا أُجاهِدُ بشِدَّةٍ لِكَتمِ ضِحكَتي". ويتبدّى في طريقةِ السَّردِ التي تجنَحُ كثيرًا إلى التّداعي الحُرّ للأفكار  Free Associationعلى طريقةِ (فرويد) في التحليلِ النفسيِّ كما لو كانت تمارِسُ الكتابةَ للاستشفاء، كما تجنَحُ أحيانًا إلى تيّار الوعي Stream of Consciousnessعلى طريقةِ (چيمس چويس) و(ويليام فوكنر) وغيرِهما من الحداثيّين، بالعُكوفِ على استبطانِ ما تفكِّرُ فيه البطلةُ الراويةُ والتعبيرِ عنه لحظةً بلحظة.
وأخيرًا يتبدّى هذا الضِّيقُ بالقواعِد في لُغةِ المجموعةِ نفسِها. لا أعني المُراوَحة بين الفُصحَى ودرجاتٍ مختلفةٍ من العامّيّة، وإنّما أعني تلك الأخطاءَ النحويةَ والاشتقاقيّة والبِنائِيّة المنتشِرةَ بطول المجموعة، والّتي تتدعّم وتلفِتُ انتباهَنا بالحرص على التشكيلِ الخاطئِ كما في (أعلم أنه لا يوجد مدرسين غيري اليوم) بدلاً من (مُدَرِّسُون)، و(تصالح مع أخاهم الثالث) بدلاً من (أخيهِم)، وغير ذلك. في الحقيقةِ يدفعُنا المستويان الأوّلان من الضِّيق بالقواعد (في الأحداث وفي طريقة السَّرد) إلى التفكيرِ في أنَّ هذه الأخطاءَ الكثيرةَ ربّما تكونُ مقصودةً من الكاتبة رغبةً منها في خَلقِ نَحوٍ مُوازٍ ونسخةٍ خاصّةٍ من اللُّغةِ كذلك، فنتوقّفُ قبلَ أن نُقدِمَ على لوم المُصَحِّح اللُّغَوِيِّ لِدار النشر!
* بنتُ الحاوي: العلاقةُ بالأب:
     ختامًا، تبدو العلاقةُ بالأبِ ومتعلقاتِه ملمحًا هامًّا في المجموعة. فهو يحضُرُ حضورًا ملموسًا في معظم القصص. والملاحظةُ التي تُعيدُنا إلى (الحاوي) كما وَعَدنا في بداية المقال هي أنَّ السِّبابَ العنيفَ الذي تكيلُه الشخصيّة الراوية لكل مفردات الواقع التي تضغطُ على أعصابِها (مُدرّس الموسيقى الزميل في "الخُطّة"– التليفون في "أهمية الساعة حداشر"– ممرّضة طبيب الأسنان في "القرار"– السَّبّ غير المُحَدَّد لمُقترِحَةِ فِكرة بطاقات التعريف في "العلاقة بالتوابل"– المَمَرّ الطويل لوحدة شريف مختار لأمراض القلب في "الحرّيف"– القِطّ الذي أوقعَ كُوبَ الشاي على قدَمِها في "رثاء الرقاق"– إلخ)، هذا السِّبابَ لا يتحوَّلُ إلى سِبابِ شخصٍ لآخَرَ لها إلاّ مع الجُملة الختاميّة في (الحاوي) حين تسبُّها بنتُ الحاوي وهي تجري وراءَهما. هذه الملاحظةُ لواحدةٍ من أبرز ظواهر هذا النصّ السرديّ تؤدِّي بنا إلى استنتاجٍ مفادُهُ أنَّ الحاوي وابنتَه في مقدمة المجموعةِ يمثّلان معادلاً موضوعيًّا لعلاقةِ القاصّةِ بأبيها. فهي تسمحُ لنفسِها في شخصِ ابنةِ الحاوي بشتمِ نفسِها في الحقيقة، وإحباطُ الحاوي وابنتِه وهما يٌيمان عرضَهما الذي لا يُعجِبُ الجمهور هو ذلك الإحباطُ الموفورُ الذي يعانيه أصحابُ الموهبة المتمتِّعُون بأصالةِ إبداعِهم في مواجهةِ انحطاطِ الذوقِ العامّ، واضطرارُ الحاوي وابنتِه للإسفافِ هو أكبرُ مخاوفِ الذاتِ الرّاوِية أمامَ ضغطِ هذا الانحطاط، ونشاطُ (الحِوايَةِ) نفسُهُ بما يفترضُه من مهارةٍ وقدرةٍ على الخَلق المُبهِر هو مرادِفٌ لنشاط الكتابةِ عند الراويةِ، ولـ(حَرفَنَة) الأبِ التي عنونَت بها إحدى القِصص.
     لو سمَحَت لي القاصّةُ بممارسةِ نشاطِها الأثيرِ في إطلاقِ الأسماءِ البديلةِ، لما تردَّدتُ في تسميةِ هذه المجموعةِ بالاسمِ الّذي أدَّتني إليه هذه القراءةُ الپانوراميّةُ السريعةُ لظواهرِها اللغويةِ والسردية: (بِنتُ الحاوي)!  
محمد سالم عبادة
27 مارس 2018

    نُشِر في أخبار الأدب المصرية في 2018          



قِصَّة: لايُبصِرُون بِها

$
0
0


يقولون إنّ كلّ جرّاح يشبه النسيج الذي يعمل فيه. سمعتُها من جرّاح عيون في درس (رَمَد) وأنا بَعدُ طالبٌ بالفرقة الرابعة في كلّيّتي. كان بالتأكيد يحاول إقناعَنا بأنّ أمامَنا واحدًا من المجموعة الأرقى من الجرّاحين الذين سنتعامل معهم منذ تلك اللحظة. بحسب كلامه، كان جرّاحو العيون دقيقين رقيقين، جرّاحو الأنف غارقين فيما يبعث على التقيُّؤ، جرّاحو العِظام قُساةً صخريين، جرّاحو النساء مرِنين إلى درجة الغموض وجرّاحو القولون والشرَج مولعين بالدهاليز المُظلِمةِ القذرة.
     أؤمن تمامًا بتلك المقولة. أبي كان قاسيًا كالنسيج الذي يعملُ فيه كذلك. اختار الصوّان منذُ شبابه واحترف النحت. كثيرٌ من أصدقائي الذين عرفوه قالوا إنه بدا لهم رجلاً طيّبًا بشوشا. نُقّاد الفنّ الذين اقتربوا منه لم يتركوا مناسبةً يذكرونه فيها إلاّ وذكروا معه ابتسامتَه ورحابة صدره وتواضُعَه، وكأنها كائناتٌ تعيش مرافقةً له لا صفاتٍ فيه! وحدي اختبرتُ قسوتَه. ربما لم يجد متنفَّسًا لها إلاّ معي أنا وحيدَه. سمَّوه ملِك الصّوّان لأنه كان يفضّل العمل مع ذلك الحجَر الصُّلب، وقالوا إنه كان ملِكًا طاغيةً مع حجارتِه لا يرحمها ولا يرِقُّ قلبُه لها وهو ينهالُ عليها بإزميله ومطرقتِه. وكنتُ أراهُ رقيقًا معها كجرّاحي العيون أو أرَقّ، ديمقراطيًّا يقبلُ رأيَ الحجَر ولا يسمعُ مشورتَه فقط بل يلمسُها ويشمُّها! نعم، يتحرّى العُروق التي تتخلل حجارتَه ليعمل دون أن يصطدمَ بها، ويختبرُ صلابة القِطع المختلفة بأن يَطرُقَها بأصابعه، بل ويتشمم كلَّ حجَرٍ قبلَ أن يُعمِلَ فيه مِشرَطَه فيَعرفُ كيف يبدأ معه ومن أين يبدأ!
     أمّا أنا فكنتُ حَجَرَه الذي لا يقوى على أن يُبدِيَ رأيًا ولا عِرقا. لم يَكُنْ يُعطيني الفرصةَ لأبدِيَ في الحقيقة. يعاجلُني بإزميلِه من اللحظةِ التي أفتحُ فيها عينيَّ في الصباح، ولا يرحمُني منه إلاّ أن يُغَيِّبَني القدَرُ عن عينيه، ولَشَدَّ ما كنتُ أفرَحُ كلّما أنعم عليّ القدَرُ بغَيبةٍ كهذه. مازال في وجهي أثرُ دَفعَته إيّاي حتى ارتطمَت جبهتي بالبابِ حين سخِرَ أطفالُ الشارعِ مِن سِمنَتي فلَم أرُدّ عليهم، وأثَرُ مِشرَطِه -أعني إزميلَه- في خدّي الأيسَر حين طوَّحَ يدَه في وجهي وهو يحملُه غاضبًا من قولي له إنّ مدرّسي الفصل يقولون إنّ مهنتَه حرامٌ وإنّه أشَدُّ الناسِ عَذابًا يومَ القِيامة، وأثَرُ صوتِه وسكونِه في رُوحي وهو يعلّقُ في تَهكُّمٍ على إخفاقاتي ويتجاهلُ نجاحاتي في إصرار.
     لكنّ الجُرحَ الأعمقَ في رُوحي كان من عمل يدِهِ كذلك، لكن بشكلٍ غير مباشر. كانت نظرةُ أمّي هي السبب المباشِر في هذا الجُرح. ليست نظرةَ أُمّي التي من لحمٍ ودَم. إنما أعني أُمّي التي في الحِجارة. تماثيلَ أمّي التي صنعَها أبي وحقّقت له مزيدًا من الشُّهرة.
     شيءٌ ما زَهَّدَني في فنّ هذا الرجُل منذُ صِباي. لا أعني فنَّه هو بشكلٍ خاصّ، وإنما أعني النحت والتماثيل وكلّ تلك الأشياء. ليس شيئًا متعلّقًا بالدّينِ أو الفقه, فقد تشكّلَ هذا الزهدُ وترعرعَ حتى قبل أن أصطدِم برأي الفقه في عملِ أبي. ربّما – وأقولُ رُبّما لأنني لستُ متأكدًا تمامًا – هي نظرةُ أعيُن التماثيل، فقد كانت كراهيتي للنحت تتضاعف مع كل تمثالٍ لإنسانٍ أو كائنٍ حيٍّ بعينين. إنه ذلك الخواءُ المُطِلُّ من أعيُن التماثيل. العدَم. حين اصطحَبني أبي إلى الاستوديو في المرّةِ الأولى وأنا في الرابعةِ أخافَني هذا الخواء. أخافَني حتى ارتعدتُ فلمّا حاولَ أن يُهَدهِدَني – وتلك كانت المرّةَ الوحيدةَ التي أذكرُها له – بكيتُ وأدرتُ وجهي بعيدًا، فلمّا أدارَني ونظرَ في عينيّ أخافَني أكثر، لأنّي رأيتُ في عينيه مِثلَ ما رأيتُ في أعيُن التماثيل. الخواء. العدَم.
     أشارَ إليّ بالكَفّ عن البُكاء وهو لا يحاولُ أن ينظُرَ في عينيّ مُجَدَّدًا، وأخذني من يدي وعادَ بي إلى البيت. ظللتُ بعدَها عشرةَ أعوامٍ لا أقوى على زيارة الاستوديو. وحين أعَدتُ الكرّةَ في الرابعةَ عشرةَ ارتعدتُ كذلك لكنني لم أبكِ. كنتُ رابِطَ الجأشِ كمراهِقٍ طبيعيٍّ يكرهُ أباه، لكن رباطةَ جأشي هذه كانت مرهونةً بألاّ أنظُرَ أبدًا في أعيُن التماثيل، ولا في عينَي أبي.
     في الأعوام العشرة التي تفصل الزيارتين كوّنتُ رأيًا احتفظتُ به لنفسي. من أجلِ هذه النظرةِ الخاويةِ تُعبَد التماثيل. عُبِدَت قديمًا ومازالت تُعبَد لِسواد عيون العدَم المُطِلِّ من عيونِها. الناسُ يهربون فيها من وجودهم بكلِّ مشاقِّه وأزماتِه وكوارثه. يهربون حيثُ لا مشاقَّ ولا أزماتٍ ولا كوارث. لا همومَ ولا امتحانات. لا شيء. لذلك توعّدَ مُدَرِّسُو الفصلِ أبي، ولذلك غضِبَ حتى كادَ يقتلُني يومها بإزميلِه!
     يومًا ما، وكنتُ مازلتُ طالبَ طِبّ، قابلتُ في مقهىً حقيرٍ زميلين لي، لم يكونا صديقين حميمين وإنما كنت أجَرّبُ صُحبتَهما وقد جذبَتني غرابةُ حديثِهما. قابلَنا في المقهى صديقٌ لهما عرّفاهُ إليّ بصفتِه طالبَ فلسفة. أخذوا يتحدثون طويلاً عن الفنّ. حين عرفَ صديقُهما من هو أبي احتفى بي. كان هذا وحدَه كافيًا لإقامة حاجزٍ بين رُوحَينا. لكنّني أدليتُ بدَلوي في الحديثِ الدائرِ بينهم رغم كلّ شيء، وتحدثتُ عن خبرتي مع أعيُن أصنامِ أبي. ضحك يومها زميلاي كثيرًا، وشردَ بعيدًا صديقُهما الفيلسوفُ ووضع سبابتَه على شفتيه المزمومَتين ثُمّ أخبرنا بأنّ (سارتر) كان يقولُ إنّ الفنانَ في عملِه يُطارِد العدَم، وإنّ العدم هو جوهرُ الفنّ الأصيل.
     أعودُ إلى عينَي أمّي! لم يكتَفِ الرجُلُ بأن يزرعَ الخواءَ في عينيها. قدَّمها للناظرين عارية. أُمّي أنا، التي كانت تتأذّى من اضطرارِها للانكشاف على طبيبٍ حين كانت تعاني ما يعانيه الفَانُون من الألَم، عاريةٌ أمام مَن هَبَّ ودَبّ. كلُّ نُقّاد الفنّ يعرفون أنها كانت موديلَه العاريَ الوحيد. تقاليدُه الريفيةُ منعَته من العارياتِ بأجرٍ، وكانت أمامَه دائمًا، فلماذا لا؟!
     أُمّي أنا التي لم أرَها تترك صلاةً منذُ وعيتُ عليها، عاريةٌ أمامَ الجميع. صنع لها تماثيلَ كثيرةً، وهي واقفةٌ شامخةً، وهي نائمةٌ مستسلمةً، وهي مُتّكِئةٌ شاردةً، وهي جالسةُ منهمكة. وكلُّها تماثيلُ عارية! بالطبعِ لم أجرُؤ على أن أُكَلِّمَه في هذا الأمر. كان الردُّ المتوقَّعُ عنيفًا، والأثَرُ المحتمَلُ غائرا. أنا الآنَ جَرّاحٌ قديمٌ وأعرفُ عواقبَ كُلّ ضربة!
     كان عُريُها المُخَلَّدُ في الحجارة عدَمًا آخَرَ مع العدَم المُطِلّ من عينيها، كما أشبعَ عدمَ عينيها غموضًا على غموضه. أهناك ما لم أعرِفهُ عنها؟ أكانت امرأةً أخرى غيرَ التي أشبَعَتني حنانًا ورِفقًا وفَرِحَت لخطواتي الأولى حتى زغردَت، كما فرِحَت لخطواتي الأخيرةِ حتى دمعَت عيناها؟ وراءَ وقارِها شبَقٌ غفلتُ عنه؟ وراءَ تستُّرِها فُجورٌ لم أُدرِكهُ في خِضَمِّ حياتيَ الأولى؟ أكانَ يَجرؤُ على تقديمِها هكذا لو لم تكن قدَّمَت نفسَها له ولغيرِه بنفسِ الطريقة؟ أينتقِمُ منها على هذا النحوِ وهي بريئةٌ غافلة؟! نزفتُ دمَ رُوحي على نظراتِها ولم يَخثُر الدّمُ ولم تندمل الجُروح. ظلّت الأسئلةُ تعذبني وستظلّ، رغمَ ما فعلتُه لإخمادِها!
     كان بنيانُه القويُّ الحَجَريُّ أولَ ما يُطالِعُه الناظرُ إليه. لم تفارقه قوّةُ الجسَد، حتى كتبَ نُقّادُ الفنّ إنّ قوة الجسد لا تقلُّ أهميةً للمَثّال عن الموهبة. وبذلك كان قادرًا على أن يظلَّ يصنع تماثيلَه وهو في الثمانين، بعد موتِ أمّي بعشرة أعوام. كيف أكرهُه زيادة؟!
     اكتملت خُطّتي في ذهني أوّلاً ولم أُدخِل عليها أي تعديلٍ يُذكَر وهي تدخل حيّزَ التنفيذ. كانت خُطّةً بسيطةً تقليديّةً، لكنّها نجحَت بسهولةٍ وأبعَدَتني عن الشكوك. كانت واسطتي في تنفيذ الخطة مريضًا أجريتُ له جراحةً ناجحةً ويتمنى أن يَخدُمَني من كلِّ قلبِه. أتاني في نوبتجيةِ ليلٍ مطعونًا في صدره وبطنه طعناتٍ أوشكَت أن تُودِيَ بحياتِه. خرجَ بعد أسبوعٍ من المستشفى قادرًا على أن يثأرَ لنفسِه. مازالت معي أرقامُ هواتفِه. اتصلتُ به وطلبتُ مقابلتَه في أمرٍ عاجل. التقينا في مقهىً بعيدٍ عن دائرتَي حياتَينا. وطلبتُ منه أن يقتُلَه. هكذا دون لَفٍّ أو دورَان. هكذا مرّةً واحدة! لم أُخبِره عمَّن يكون. أُخِذ الرجُل من طلبي الذي لم يتوقعه وسألني لماذا أكرهُ هذا المقتولَ إلى هذا الحدّ.
- "هو رجل في الثمانين. أكثر رجل آذاني في حياتي، وإن عاش أكثر من ذلك فسيستمر في إيذائي"!
     أنا جرّاحٌ طيّب، أنقذُ حياة مرضاي. أستحقُّ أن أُخدَم بعيونهم. هذا ما قاله لي. كان قادرًا على تنفيذ ما طلبتُه منه، ولذا استعنتُ به، ولذا مرّ الأمرُ بسلام.
     اقتحمَ الاستوديو ذاتَ صباحٍ وكان العجوزُ قد باتَ به ومازال نائما. طعنه في صدره وبطنه طعناتٍ لا تدَع لجرّاحٍ فرصةً لإنقاذه. وأخذ ما في الاستوديو من المال. لم يكن العجوز يحتفظ بمالٍ يُذكَر في الاستوديو. قال صديقي إنه لم يجد إلاّ ألف جنيهٍ أخذها لكَي يُبعِد الشبهاتِ عن هدف العملية. لم يشُكّ أحدُهم في المسألة، وسارت جنازةُ العجوزِ كما يليقُ بفنّانٍ كبيرٍ أنجبَ جَرّاحًا ماهرا.
     لم تكَد تمُرّ الأيام الأربعون على العمليةِ حتى دخلتُ كعبتَه. لم أكن قد دخلتُها منذُ ما يربو على عشرين عاما. كانت الأمورُ كما عهدتُها في ذلك الزمن البعيد. أدواتُه في كلِّ مكان. صوتُ طرقاتِه على الحجَر يتردد صداه بعد أن مات. كان يحبُّ العمل في الاستوديو المغلَق أكثر من الهواء الطلق بعكس معظم أبناء مهنته. ولذا كان العملُ مازال جاريًا في الاستوديو على قدمٍ وساق. تمثالان آخَران لها. أحدُهما وهي جالسةٌ، ورأسها ملفوفٌ إلى الوراء وهي تنظرُ إلى مَن يواجهون ظهرَها. والثاني وهي نائمةٌ تمسكُ ثدييها بيديها. الإزميلُ في يسراي والمطرقةُ في يمناي. لم أُبقِ من التمثالين ما يصلُح أن يَدُلَّ على شيء. كان عملاً شاقًّا أنهكَني إلى درجة الإعياء. في نفس اللحظات التي كنتُ أنجزُ فيها هذه العملية، كان مريضي المخلص ورفاقُه يتسللون إلى ثلاثة معارض دائمةٍ تقتني تماثيلَها التي أنجزها العجوز. في غضون هذا اليوم لم يعُد لها تمثالٌ واحدٌ على الأرض. تكسّرت عارياتُها النائمةُ والجالسةُ والواقفةُ والمتّكئة، بعد أن أُخلِيَت منها المعارض.
 - "لن تُعبَدي في الأرضِ بعد اليوم".
     في ركنٍ قصيٍّ من الاستوديو وجدتُ تمثالاً من الواضح أنه أنجزه مؤخَّرًا، أو بالأحرى كان على وشكِ الانتهاءِ منه. كان تمثالاً لفلاّحٍ يرتدي جلبابًا مُشَمَّرًا إلى ما فوق ركبتيه، ذي لحيةٍ وشاربٍ كَثَّين، يرفع إلى مستوى رأسه طِفلَه الرضيع عاريًا، وجزءٌ من رأس الرضيع في فمِ الفلاّح المجنون. كان يأكلُ ابنَه كما يفعلُ (زُحَل) في لوحاتِ (جويا) وغيرِه التي كنتُ أشاهدُها في الكتالوجات التي يحتفظُ بها العجوز في البيت والاستوديو. لكنّه كما قُلتُ لم يكن قد انتهى بعدَ من التمثال. كان مكانُ العينين غير منحوت. مجرد كتلةٍ من الصوّان متصلةٍ بالجبهة دون تضاريس. كان باعثًا على الحُزن. لم أشعر بالحُزن في حياتي كما شعرتُ به وأنا أشاهدُ هذا التمثال. حتى يوم موتِ أمّي. لكنّه كان حزنًا بلا دموع. ملأ وجودي بكاملِه ولم يترُك لي نافذةً على العدَم. تحاملتُ على رُكبتيَّ اللتين خانتاني، وربّتُّ على كتف الفلاّح الأعمى. وولّيتُ جِهةَ باب الاستوديو.

محمد سالم عبادة
السبت 26 أغسطس 2017
نُشِرَت في ملحق الأهرام الأدبي يوم الجمعة 12 أبريل 2019 بعنوان (الجُرح الكبير - من اختيار هيئة التحرير)، ثُمَّ نُشِرَت في أخبار الأدب في ديسمبر 2019 باعتبارِها فائزة بجائزة نادي القصة.

قصّة: الناظِرُ في كتابِ المَوتَى

$
0
0

     أسوأ هزائمي كانت رفض مصلحة الطب الشرعي انضمامي لها. كان هذا منذ عشرة أعوامٍ بالضبط. ذهبتُ إلى هناك وسألتُ عن كيفية الانضمام، فأجابوا:
- "ينزل الإعلان في الجرايد وتقدّم. تابع نزول الإعلان!"
     وكان هذا يعني الرفض، أو عدم الاكتراث بشخصي إن شئنا الدِّقَّة. ذلك أنَّ الإعلان مجرد ديكور رسمي لضَمّ أشخاصٍ بعينهم إلى المصلحة. أعني أولئك الذين تكفُل لهم الواسطة التحاقًا سهلاً بالمصلحة، وتعوّضُ في نعومةٍ نقصَهم العِلمِيّ. لكنّها كانت هزيمةً مؤقّتة. مؤقتةً جدًّا في الحقيقة!
     كنتُ حزينًا جدًّا في ذلك اليوم. ولم يكن لي مَلاذٌ إلاّ مشرحة الكلّيّة. خرجتُ من المصلحة، وهِمتُ على وجهي في شوارع (زينهم). لم أعرف أمامي من ورائي. لا أدري كيف أخذَتني قدماي إلى المشرحة. كنتُ مُسَيَّرًا إلى هناك بِلاوَعيي. عُمّال المشرحة يعرفونني جيّدًا. أنا الأول على دفعتي في التشريح في السنتين الأولَيَين من دراستنا بالكلّيّة. لا ندرس التشريح بعدهما. ولم أكرر هذا الإنجاز في أية مادةٍ أخرى. في الحقيقة، كانت تقديراتي متوسطةً في بقية الموادّ. لم يستَهوِني شيءٌ كما استهواني التشريح. لو كنتُ تعاملتُ بشِدّة مع إرادتي العليلة ونزَقي الجامح لكانت تقديراتي الآن قد منَحَتني كرسيّ المُعيد في قسم التشريح.
     بالتأكيد لم يكن تفوقي في مادة التشريح - التي لم تستغرق من حياتي الجامعية إلا عامَين-كافيًا لأظَلَّ معروفًا لعُمّال المشرحة إلى الآن. في الحقيقة، كنتُ لاجئًا في المشرحة طيلة أعوام الدراسة، وحتى في سنة التدريب. لم أكن أجلسُ هناك لأذاكر البكتيريا أو الطفيليات أو الجراحة أو طب الأطفال مثلا. كنتُ عاكفًا على المشاركة في تشريح ما يستجِدُّ من جُثَث، وإعداد الدروس للمدرسين المساعدين والمدرّسين. كان هذا يعني أنَّ طقم أدوات التشريح - الذي نشتريه من محالّ الأدوات الطبّيّة فور التحاقِنا بالكلّيّة – حاضِرٌ دائمًا في حقيبتي. دائمًا!
     إعداد الدروس كان يعني أنني في يومٍ ما أنشُرُ جمجمةَ إحدى الجثث (وهي مهمّةٌ يقومُ بها العُمّالُ في الغالِب)، وأفصِل جِذعَ المُخِّ جيّدًا، وقد أُضيفُ تحديدًا بالألوان الفلوماستر للقنطرة والنخاع المستطيل والمُخّ الأوسط. وفي يومٍ آخَر، أربِطُ بلفافاتٍ صغيرةٍ من الشاشِ عضلاتٍ وأوتارًا وأعصابًا وأوعيةً دمويةً بعينِها من السّاعِد، تهيئةً للامتحانات. وهكذا.
     المهمُّ أنني حين وجدتُ نفسي على باب مشرحة الكلّيّة في ذلك اليوم، عادت إلَيَّ رُوحي التي فارَقَتني مع ردّ موظف المصلحة المتجهّم.  
     كان في المشرحة جُثّةٌ واحدة، قام أحدُ المُعيدين بفتح بطنِها. كانت جُثّةَ امرأةٍ في عِقدِها الثالث. رائحة الفورمالين لم تكن قويّةً في هذا اليوم. لا أدري لماذا!
     جذبتُ كرسيًّا وجلستُ أمامَها.
- دي المفروض تتحضّر عشان درس الـLiverلسنة تانية، خلاص الترم التاني ع الأبواب اهو، وأجازة نُصّ السنة بتخلص، كل سنة وانت طَيِّب يا دكتور!
    
     كان هذا إيذانًا من رئيس عُمّال المشرحة بأن أبدأ العمل! هكذا اعتادوا معي. عليهم فقط أن يحددوا الدرس المطلوب للدكتور غريب الأطوار الذي يَعشقُ المشرحة ولا يحتملُ غيرها، وسيشمِّرُ ساعدَيه ويرتدي قُفّازَين ويُخرجُ أدواتِه ويبدأ العمل. إذَن، فالكبِد هي المطلوبة! نظرتُ داخِلَ بطنِها، وتحسستُ أعضاءها من فوق غشائها البريتونيِّ الذي مازال مُغلقًا، ثُمّ تحسستُ كَبِدَها. متوسطةُ الحجم. من الواضح على الأقلّ أنها لم تكن مريضة كبِد. هاه! ألم أكن أَولَى من غيري بالطب الشرعي؟!
     عزلتُ الكبد عن حجابها الحاجز، وشرّحتُ الوريد الأجوف السفلي والشريان الكبدي والقنوات المرارية، بحيثُ تبدو واضحةً للطلَبة.
- نفسي البتّ بنتي تدخل طب والله يا دكتور! النهارده نتيجة امتحانات نُصّ السنة بتاعتها. هي في أولى ثانوي. كانت بتشتكي من المواد الأدبية. يا ترى حتجيب كام؟!

     كان عمّ (سيد) رئيس عُمّال المشرحة مسترسلاً في هذا المونولوج ولا يتوقّع أن أَرُدَّ عليه بالطبع، كعادتِه. كنتُ في هذه اللحظاتِ أضعُ يدي في شقوق الكبِد وأتفحّصُ أقسامَها. ثَمَّ إحساسٌ غريبٌ يراودني لأول مرّة. إحساسٌ لا يُوصَف!
- استنّى دقيقة يا عم سيّد!
     كانت هذه المقاطعة غير مألوفةٍ بالنسبة لعمّ سيد، فالمتعارَفُ عليه أنني أتركُه يقولُ ما يشاء ولا ألتفتُ إلاّ إلى الجُثّة. بالطبع لَم أرَ ملامحَه، فقد كان يقف ورائي بالضبط حين دفنتُ رأسي داخل بطن الجثّة، إلا أنه بالتأكيد فغرَ فاهُ دهشةً. عيناي ويداي والكبِد. مازلتُ إلى الآن عاجزًا عن وصف هذا الإحساس الغريب.
- مجموعها 122 من 140، عربي 19 من 25، إنجليزي 21 من 25، فيزيا 9 من 10، كيميا 9 من 10، .........
     كان كلُّ شيءٍ واضحًا أمامي! لا أدري كيف حدث هذا، إلا أنَّ الكبِدَ أصبحَت أمام عينيَّ وبين يديَّ أقربَ إلى شهادة درجاتٍ لبنت عمّ سيد! حين انتهيتُ من سرد درجاتها بالكامل عليه، التفتُّ إليه. لم أكن قادرًا على تثبيت عينيَّ في أي شيء. كان النُّورُ مؤلِمًا جدًّا لعينيّ. أحسستُ بألَمٍ كالوَخز فيهما فأغمضتُهما. حين أغمضتُهما انتبهتُ إلى وخزٍ آخر في أطراف أصابعي التي كنتُ أفحصُ بها الكبِد. وخزٌ شديدٌ، لكنَّه توارى مؤقتًا خلف وخز عينيّ. ابتلعتُ صرختي وانكمشتُ على نفسي، وعمّ (سيد) وبقيّة العُمّال ينظرُون إليَّ في ذهول. بدأ الألَمُ يَخفُتُ، ورَنَّ هاتف عم (سيد). إنها ابنتُه الكبرى تُطَمئِنُه على نتيجة امتحانات التِّرم. كانت تُنهي إلى مسامعِه درجةً درجةً، ويكررها وراءها وعيناه مفتوحتان على اتّساعِهما وهو ينظرُ إليّ:
- 122 من 140، عربي 19 من 25، إنجليزي 21 من 25، فيزيا 9 من 10، كيميا 9 من 10، .........!

     اختفى ألَمي تمامًا، وحلّت محلَّه الدهشة. لم أكن أصدِّقُ ما حدث! التمعَت الفكرةُ في رأسي. أيُمكن أن يحدُثَ هذا؟ إنه يشبه التنبُّؤَ بالمستقبل بفحص الكبِد Hepatoscopy! قرأتُ عنه منذ فترةٍ طويلةٍ وظلَّ مسيطِرًا على تفكيري. كان الكهَنَةُ يمارسونه في أكثر من حضارةٍ قديمة. في بابل وآشور، وعند الإتروسكيين في شمال إيطاليا. مارسوه مع أكباد حيوانات القرابين المذبوحةِ للآلهة، ومع القرابين البشرية، التي طالما كانت من العذراوات صغيرات السّنّ. لكن!
     هذا ليس علميًّا! هذا غير معقولٍ بالمرّة! لقد كان مجرّد احتيالٍ بدائي. كيف يمكن أن يحدثَ معي؟!
- ابني راح مع امُّه وخطيبته وحماتُه ينقّوا أوضة نوم لشقّة الجواز. ما تقول لنا كده يا دكتور حَيِرسُوا على إيه؟!
     قالَها عم (كمال) مساعد عم (سيد) ضاحكًا، ولم يكن يَعرف، ولم أكن أَعرف، أنني بعد ارتباكِ ثانيتين فقط، سأعودُ إلى بطن الجُثّة، وأعمد إلى فتح الغشاء البريتوني وأفحصُ أمعاءها الدقيقة. فحصتُها كما لم أرَ إنسانًا يفحصُها. لا أدري أين وكيف تعلَّمتُ هذا! بدأتُ من آخرِها، من حيثُ تلتقي بالأعور عند الزائدة الدودية، وصعدتُ إلى الاثني عشر، وهناك ألصقتُ أنفي بها وأخذتُ أتشمَّمُها. عم (سيد) شعر بالتقزُّز وتقيَّأ رغم أنه أقدمُ العُمّال ورئيسُهم. يبدو أن المشهد كان موغلاً في الغرابة.
- حَيِرسُوا على أُوضِة نوم (إم دِي إف). متينة وشِيك وسِعرها معقول، بس حَتبُوش مِن تحت مع أول مسحة لأوضة النوم!
     من الواضح أنني لا أمارس التنبؤ الكبدي فقط. مجالي الجديد أوسعُ من مجرّد الكبِد. هذا ما سمّاه الرومان Extispiciumأو التنبؤ بفحص الأحشاء! الوَخزُ في عينيَّ وأصابعي وأنفي. الألَمُ رهيب. انكمشتُ من جديد.  
أسرع عم (كمال) يلتقطُ هاتفَه المحمولَ وطلبَ زوجتَه. انساب إليه صوتُها الذي سمعنا رنَّتَه دون أن نتبيّن تفاصيلَ ما تقولُه. ظلَّ فاغرًا فاه ولا يقولُ مع نهاية كل جملةٍ إلا:
- الله أكبر! الله أكبر!
     لم أنتظر أكثر من هذا. قمتُ من أمام الجُثّة وألقيتُ قُفّازَيَّ بجوار المنضدة وأسرعتُ إلى الخارج. كان عليَّ أن أتحرَّكَ سريعًا، لا أدري لماذا، لكن تلك كانت الفكرة التي سيطرت عليّ!
     ذهبتُ إلى مصلحة الطب الشرعي من جديد وأصررتُ على مقابلة رئيسِها. قِيلَ لي إنه ليس موجودًا الآن وإن الوقت متأخِّرُ جدًا. لم أكن منتبهًا حينذاك أن الشمس تميل للمغيب بالفعل وأن يوم العمل الحكومي انتهى! كان عليَّ أن أنتظر إلى الغد.
     في تلك الليلةِ رأيتُ أطرافَ أصابعي تتّقِد. تتّقِدُ حتى تبعثَ ضوءًا يكاد يُغشي الناظرين. كان الضوءُ قريبًا من ذلك المُنبَعِث مِن لِحام الأوكسجين! أمّا أنفي فقد كان متضخمًا في الحُلم وثقيلاً ويتدلّى فوق شفتَيَّ كالمظلّة! عيناي كانتا مفتوحتين على اتساعِهما، وكان الهواءُ يحملُ إبَرًا طائرةً، كلُّها يقصد عينيَّ، وكلُّها لا يُخطئُ هدفَه. كانت الإبَرُ تخترقُ عينيَّ فأتألّم. لكنّه لم يكن ألمًا خالصًا كما حدث في المشرحة. كان ألمًا ممزوجًا بالنشوة. كنتُ أهتزُّ في تلذُّذٍ كلّما التقفَت عيناي إبرة. أهتزُّ وأصرُخ. ولم أكن أنزِفُ دمًا، بل مشاهِدَ مطبوعةً تتساقطُ من عينيَّ في قطراتٍ كقطراتِ الماء أو الدموع الباردة، فإذا لمسَت الأرض تمدَّدَت وأخذت شكلَها النهائيَّ، كما لو كانت صُورًا فوتوغرافيّةً مطبوعة! 
     في صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى المصلحة، ونجحتُ في إقناع الموظَّفين بأهمية مقابلتي رئيس المصلحة. كان الرجُل فاترًا جدًّا، وكان هذا مفهومًا بالنسبة لي. ما الذي يدعو طبيبًا حديث التخرج إلى الإصرار على مقابلتِه؟! لم أَدَعه يفكر طويلا.
- أنا لازم أشتغل هنا لسبب واحد. السبب دا مالوش علاقة بإني أول دفعتي في التشريح في أولى وتانية كُلّيّة. السبب دا إني باعمل HepatoscopyوExtispiciumناجحين جدًّا!
     ظل الرجُل صامتًا بُرهةً، وأدركتُ أنه لم يفهم تماما. ظنّني أتحدث عن فُحوصٍ كبديّةٍ جديدةٍ بالمنظار أستطيع أن أقوم بها، ولم يفهم أصلاً ما أعنيه بالـExtispicium.
- لا يافندم! أنا باتنبأ بالمستقبل من فحص الجثث. لازم حضرتك تشوف دا عمليًّا. تحب تختبرني دلوقت حالاً؟!
     نظر في عينيَّ من قريبٍ وعلى فمه شبحُ ابتسامة، ثُمّ وضع كفّه في كفّي وسحبني وراءه خارجًا من مكتبه. عبرنا طرقات المصلحة إلى ثلاّجة المشرحة.
- أنا طبعًا كما لا يَخفَى عليك مش مصدقك! لكن أحب أشوف اللي انت بتعرف تعمله دا بالظبط!
     أمر عاملاً من عمال الثلاجة أن يَفتح أحد الأدراج. كانت الجُثّة لرَجُلٍ في عِقدِه السادس، في عنُقِه أثر طعنة.
- اسألني عن أي حاجة تهمّك، وممكن تتأكد منها سريعًا بعد ما أجاوبك عن سؤالك!
     سبقني لساني إلى هذا القول، ثُمّ ارتبكتُ جدًّا بعده. الجثة مطعونةٌ في الرقبة، وخبرتي الجديدة التي لا تتعدى جثةً واحدةً فحصتُها أمسِ لم تتجاوز فحص الكبد والأمعاء! لستُ أعرفُ أصلاً إن كان هناك في التاريخ سوابق للتنبؤ بفحص أعضاء خارج البطن! صمت رئيس المصلحة قليلاً وهو يضع يديه في جيبَي بنطلونه ويدور حول نفسه مفكِّرًا، ثم توقف وواجهَني مضيِّقًا حِدقَتَي عينيه:
- سهم الشركة الذهبية للعقارات أخباره إيه النهارده في البورصة؟!
     فاجأني هذا السؤال! لكنّني بشكلٍ آليٍّ أخرجتُ أدواتي وأعملتُها في رقبة الجُثّة. ظللتُ أُشَرِّحُ وقتًا طويلاً حتى تركتُ الرقبة إلى أعلى الصدر ووصلتُ إلى مفترَق القصبة الهوائية إلى الشعبتين الهوائيتين الرئيستين. وضعتُ كفَّيَّ على هذا المُفترَق وشبَّكتُ أصابعي حولَه، ونفختُ بينهما وشممتُ هواءَ زفيري وهو يصطدمُ بهذه المسارات الهوائيّة ثمّ انسابت الكلمات رغمَ أنفي. المُخيفُ أنني لا أفهمُ شيئًا من اصطلاحات البورصة على الإطلاق. لم أحتكَّ من قريبٍ بهذا المَجال لأعرفَ عنه أقلَّ القليل. لكنّ الكلماتِ انسابَت، كأنني كاهنٌ إغريقيٌّ في معبد دِلفي، أقرأ الوحي على الزُوّار طُلاّب النبوءة ولا يَدَ لي فيه. ذكرتُ الأرقام التفصيليّة لبُنودٍ تسمَّى القيمةَ الاسمية والقيمة السوقية والقيمة الدفترية وغير ذلك مما لا أذكرُه بالطبع! نعم، لا أذكُر. لقد كان لساني وحنجرتي وجهازي الصوتيُّ وجسدي كلُّه، بل ورُوحي أيضًا، كياني كلُّه كان ضيفًا على هذه النبوءة التي لا أعرفُ شيئًا عن مجالِها الدقيق! لم يَفُت الرجُلَ أن يُخرِج قلمَه ودفتر ملاحظاتِه الصغير ويُدَوِّنَ القِيَم الرقمية التي تلوتُها عليه. اتّصل بشركة التداوُل التي تُديرُ استثماراته في البورصة وسألهم عن سهم الذهبية للعقارات. انتظر قليلاً، ثم أخذ يدوِّن القِيَم التي يُمليها عليه مُحَدِّثُه. أنهى المكالمة وقارَنَ قائمة الأرقام وحاجباه يرتفعان دهشةً، وهو ينقل عينيه بين دفتره وبيني. كنتُ أتعافى من الوَخز في أنفي وشفتيَّ وأصابعي.
- انت إيه؟! بسم الله الرحمن الرحيم! اللهمَّ احفظنا!
     ابتسمتُ في صمت. في هذا اليوم عُيِّنتُ في المصلحة. كان هذا بالضبط منذ عشرة أعوامٍ إلاّ يومًا واحدا، وكان أعظمَ انتصاراتي قاطبة!
     لعشرة أعوامٍ إلا يومًا أذهبُ يوميًّا إلى المصلحة، عدا أيام العُطلات الرسمية، وأفحص ما يُوكَلُ إليَّ من الجُثَث، وأتلو النبوءات التي لا أعرفُ مصدرَها على مَن يطلبونها من زملاء العمل. فشِلتُ تمامًا في أن أكون طبيبًا شرعيًّا حقيقيًّا طيلة هذه المُدّة. ربما لأنني لم أهتمَّ بالأمر في البداية وكان كلُّ ما يَعنيني أن أُمارس التشريح كما أهوى، وأدعَ النبوءات تنسابُ على لساني لكَي تُرضِيَ الجميع. لستُ قادرًا على تحديد طريقة القتل الحقيقية في جرائم القتل المعقَّدة، ولا أستطيعُ أن أجزِمَ إن كانت الخدوش التي في صدر امرأةٍ ما ناجِمةً عن محاولة اغتصابٍ أم أنها خدشَت نفسَها كما يَدَّعي المتَّهم بالاغتصاب. في الواقع، لم يَشغَلني رؤسائي بهذا الجزء الكبير من الطب الشرعي الذي يهتمُّ بفحص الأحياء. تركوا لي الموتى منذ البداية. ولم يطلبوا منّي البحث عن أسباب الوفاة، وجنَّبُوني القضايا الدائرة في قاعات المَحاكِم. كانت مهمَّتي في المصلحة محددةً بشكلٍ تصالح عليه الجميع.
     حواسي تعملُ بأقصى كفاءتها حين أنخرطُ في نوباتِ قراءةِ ما كُتِبَ على أعضاء الموتى، وتتخدَّرُ وتتبلَّد فيما بين ذلك. زاد هذا الخدَر والتبلُّدُ يومًا بعد يوم. أصبحتُ أرتدي نظّارةً سميكةً، وثَقُلَ سمعي فاضطررتُ إلى السمّاعة الإلكترونية، ولم يعُد من الأمان أن أوقِدَ فُرن البوتاجاز على الإطلاق في بيتي، لأن انهماكي في أي شيءٍ ونسياني ما بداخل الفُرن يَعني أن أحترقَ ويحترقَ كلُّ شيء. أنفي معطَّلٌ خارج الجُثَث.
     لم أتزوّج. ظللتُ راهبًا للمصلحة. لم أحقِّق بالطبع أيَّ شكلٍ من أشكال الثراء. أقاربي يظنون هذا راجعًا إلى طهارة يدي وتعفُّفي عن التربُّح من موقعي كطبيبٍ شرعي، والحقيقةُ أنَّ هذا راجعٌ إلى أنني حتى إن أردتُ أن أتربَّحَ لن أستطيع.
     الغريبُ أنَّ أحدَهم لم يشغل نفسَه بمحاولة تفسير ما يحدُث بيني وبين أجسادِ الموتى. حالتي مختلفةٌ عن حالة الكُهّان في الحضارات القديمة. كانوا يقرأون من أكباد القرابين، وأنا أقرأ كلَّ ركنٍ في أجساد الموتى العابرين! كلُّ الموتى قابلون لحمل النبوءات بين طيّات أعضائهم. يكفي أن تَحضُرَ الجُثَّةُ أمامي، لتُجيبَ عن أسئلةِ مَن حضرَ من الناس. هل أنا المتنبِّئُ ولا تكتسبُ الأجساد هذه الخاصِّيَّة إلاّ معي؟ أم أنَّ أحداثَ العالَم محفورةٌ بتمامِها بالفعل في أجساد كلِّ الموتى، وما أنا إلا وسيطٌ يُجِيدُ القراءة؟!
     مرَّ عشرة أعوامٍ إلا يوما. ذِكرى. لا أعرفُ إن كانت حزينةً أم فرِحة. ذكرى أسوأ هزائمي وأعظم انتصاراتي. الفارقُ بينهما يومٌ واحدٌ، ولا أدري أيهما الهزيمةُ وأيهما الانتصار. ربما هما مجرَّد حدَثَين. ربما لا ينبغي أن أعزُوَ إلي أيِّهما أيةَ صِفة. لا أدري.
     ها أَنَذا في طريقي إلى المصلحة. ليس أمامي إلا أن أستمرَّ فيما زُرِعتُ فيه. ما أخذتُه لنفسي بإصرارِ ساعةٍ واحدة. لا أستطيعُ أن أُدِيرَ وجهي إلى جهةٍ أخرى. مازلتُ أحبُّ أن ينحني جسَدي على الجُثّة وأن أنهمِك في تشريحِها. أصَنِّفُ وأُقَسِّمُ وأُبَيِّنُ كلَّ شيءٍ فيها. ورغم أنفي تنسابُ النبوءاتُ من كتاب الموتى على لساني إلى مَن ينتظرونها. نعم. وصلتُ إلى ثلاّجة المشرحة. ليس أمامي إلاّ أن أبقى هنا.
محمد سالم عبادة
الأربعاء 29 أغسطس 2018     
نُشِرَت في عدد مايو 2020 من مجلة الثقافة الجديدة    



قِصَّة: الناظرون عَبْرَ الكاميرا

$
0
0

 

     أصوات آلات التنبيه تقترب. الجلَبة المعتادة. الضوضاء المفاجِئة المتوقَّعَة! سيارةٌ فارهةٌ توقفت أمام باب الاستوديو. مقدمة السيارة مزيَّنةٌ بأشرطةٍ تمتدُّ من الزجاج الأماميّ إلى ما لا نهاية، حيث تنعكس من حافة السيارة إلى الزجاج، ثُمّ منه إليها عددًا لانهائيًّا من المرّات. أصواتُ الشباب والنساء جذبتني إلى خارج الاستوديو. الرجل الذي يجلس إلى عجلة القيادة يبدو في منتصف العِقد الخامس، ملامحُهُ جامدة، جبينُهُ مقطَّب وحاجباه معقودان. انفرَجا قليلاً وارتسمَت على وجهه ابتسامةٌ مصطنَعة والتفت قليلاً إلى العروسين الجالسين في المقعد الخلفي، بينما تحلّق الشباب والفتيات حول السيارة وفتح أحدهم البابين الخلفيين ونزل العروسان. العريس مشدود الأعصاب، شبحيّ الابتسامة. تراءى لي أنه على وشكِ أن يَدفعَ بقدمِه الشابَّ الذي فتح الباب لعروسه. العروس مشرقةٌ كالعادة، لكنّ إشراقتَها لا تخبّئُ قلقَها بشأن مظهرِها، كالعادةِ أيضا. اقتربوا من باب الاستوديو، وحيَّوني فأومأتُ برأسي رادًّا التحية وأفسحتُ لهم الطريق.

- ثواني، أنده لعمّ (عاشور).

     نزلتُ السُّلَّم الداخلي للاستوديو وناديتُ عمّ (عاشور) ثُمّ صعدتُ أمامَه وطلبتُ من العروسين ووالدتيهما أن يجلسوا جميعا حتى يصعد عمّ (عاشور).

- طيب، ما تصورنا انت يا عمّ؟ مش بتشتغل هنا؟!

     رددتُ بابتسامةٍ على اقتراح العريس العصبي، وحين هممت بفتح فمي لأشرح موقفي قاطعني صوت عمّ (عاشور) الممتزج بوقع خطاه الثقيلة على أعلى درجات السلم.

- يا ألف مبروك للعرسان. بالرفاء والبنين ان شاء الله.

- الله يبارك فيك. آا .. ننزل تحت ولاّ نتصور فين؟!

     قالها العريس في عصبيته الأولى، بينما عيناه وأعين النساء معلقة بالرجل ضخم الجثة رثّ الملابس ذي اللحية البيضاء المنفوشة، الذي يجرّ خطاه إليهم ويتكلم من قرار بئرٍ عميقة. أتفهم كيف أُخِذَت العروس والحماتان بهيئة الرجُل. ظلَّت إحدى الحماتَين مذعورةً تمامًا، بينما استعادت الأخرى رَباطة جأشها سريعًا وابتسمت في هدوء. مالت المذعورة على كتف الهادئة وسمعتُها تهمس:

- هو دا الفنّان اللي شُرتي علينا بيه؟

     قرصَتها الهادئة في فخذها فضحكت في عصبية. أشار عمّ (عاشور) للعروسين بأن ينزلا إلى الدور السفلي. تقدم العريس ثُمّ توقف أمام السلّم كمّن تذكّر الإتيكيت فجأةً فأشار إلى عروسه بأن تتقدمَه، وحمل عنها ذيل الفستان لئلاّ تتعثرَ به. التفت عم (عاشور) إلى السيدة الهادئة. أخذ يتفرّس ملامحها في جرأةٍ تعجبتُ معها من اتساع ابتسامتها المطّرِد!

- كأني شُفت حضرتك قبل كده!

- بس انزل صوّر العِرسان وبعدين نتكلم!

     هزّ كتفيه المكتنزتين في مرحٍ مكتوم، وهمّت السيدتان بالنزول خلف العروسين لكنّه أشار إليهما بالتوقف وقال في لهجته الجادّة التي أعرفها، والتي لا تخلو من لمسة مرح:

- ما عليهش يا جماعة، بس دي تقاليد الاستوديو، يمكن تِبان غريبة بالنسبة لكم، بس سُمعة الاستوديو كفيلة بإنها تقنعكم بإن اللي بيتعمل هنا بيطلّع أحلى صُور زفاف في البلد!

     همّت المذعورة بأن تُجادِلَه لولا قرصَتها الهادئة مرّةً أخرى في فخذها واستدار عم (عاشور) ليَتبع العروسَين، ثُم أشار إليّ بأن أتبعَه.

     لم تكن هذه أول مرّة يسمح لي عمّ (عاشور) فيها بمشاهدة عملِه في صُوَر الزفاف. كانت سُمعة الاستوديو طائرةً في وسط القاهرة كأفضل مكان لالتقاط صور الزفاف، وكانت هذه الصُّوَر مصدر رزقه الأهم. حكى لي أبي ذات مرّةٍ كيف تجاهل عمّ (عاشور) الصعود التدريجي لتصوير الأفراح بالفيديو، وظلّ واثقًا من أنّ تلك الموضة لن تؤثّر على النجاح الاستثنائي للاستوديو في صور الزفاف، ويبدو أنه كان مُحِقًّا بدرجة كبيرة. لم تتسنّ لي مشاهدة كثيرٍ من المصورين أثناء عملهم، لكنّ ما رأيتُه منه كان مذهلاً تماما. لم يكن مغرمًا بشرح ما يفعلُه، ولم أمتلك أبدًا الجرأة الكافية لأتمكن من سؤاله عن مبرر كل خطوةٍ يقومُ بها. لكنّه مثَلاً كان يضع في أحد أدراج مكتبه بالطابَق العلوي من الاستوديو ورقةً عملاقةً عليها تدرّجٌ من الألوان يقارن بها لون وجه كلٍّ من العروسين. لم أتوقع أبدًا وجود شيءٍ كهذا في العالَم! كنتُ قد رأيتُه كذلك أكثرَ من مرّةٍ يقيس بالمسطرة أجزاءَ من جسدَي العروسين في صورةٍ يقفان فيها وقفةً عادية! كانت هذه وغيرها بالنسبة لي تفاصيل مجنونةً، لكنّي أدركتُ أنها سِرُّ تميُّزه في صور الزفاف.

     وقف العروسان الوِقفة العادية أولاً، متجاورَين دون أية حيلةٍ من الحِيَل التي يقترحُها المصورون عادةً، وكان هذا بناءً على أمر عمّ (عاشور)! ثُمّ تركهما وصعد إلى أعلى وتبِعتُه. فتح دُرجَ مكتبه وأخرج ورقة ألوان الوجه والمسطرة، بين دهشة المذعورة وابتسامة الهادئة. نقل الصورة اليتيمة التي التقطها إلى الآن إلى الكمبيوتر ثُمّ طبعها وأخذ يفعل ما رأيتُه يفعلُه من قبل. حدّق قليلاً في السقف وهو يحرّك أصابع يُمناه ويتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ، مستغرقًا في حساباتٍ غيبيّة، بينما المذعورة تنظر بطرف عينها إلى الهادئة وتحرّك أصابعها بجوار رأسها في إشارةٍ إلى جنون عمّ (عاشور)، فتلكزها الهادئة وتضحكان من جديد. عاد إلى العروسين وتبِعتُه.

     بأوامر من عمّ (عاشور) يجلس العريس كهارون الرشيد وتقف بجواره العروس مُمسِكةً بمروحة طويلة من الريش كأنها خادمتُه تحرك له الهواء، ثُم تجلس العروس ويجثو أمامها العريس ممسكًا يمناها بكِلتَي يديه كأنه يتوسل إليها، ثُم تقف العروس وحدها في الكادر مرّاتٍ عِدَّةً، في وضعيّاتٍ مختلفة، ثم يعود العريس للظهور معها ..

     استغرق الأمر ساعةً منذ دخول العروسين إلى الاستوديو. كان عمّ (عاشور) يقلّب الجسدَين أمامه بسهولةٍ شديدة، مرةً من خلف الكاميرا الثقيلة ومرةً دون حجابٍ من كاميرا. كانت العروس دائمًا أكثر تفهُّمًا لما يقصده، وكان يُثني عليها في كل مرّةٍ تأخذ وضعيةً جديدةً طلبها منها، وكان العريس يحاول طيلة الوقت أن يَكتُم غيظًا أوضح من أن ينجح في كتمانه! بعد كل صورتين أو ثلاثٍ كان العريس يصوّب إليّ نظرةً تمزج التساؤل بالغيظ، ويُطِلُّ منها سؤاله المكتوم كغيظه: "وانتَ يا ترى إيه لازمتك هنا؟!".

     أنهى عم عاشور جلسة التصوير وأشار إلى العروسين بالصعود أمامه على السلّم ثم تبعهما وتبعتُه.

- إن شاء الله 4 أيام وتستلموا الصور. طبعًا العرسان حيبقوا في شهر عسلهم، أي حد من طرف حضراتكم يقدر يستلم.

     قالها وعيناه لا تواجهان إلاّ الحماة التي خاطبها من قبل، والتي كانت تقرص الأخرى في فخذها. عرفت أنها أم العريس من حديثها مع العروسين. اتسعت ابتسامتُها من جديد مع كل كلمةٍ كان ينطق بها، ثم لم تلبث أن أجابته في هدوء:

- أنا حاستلمها منك. انت مش فاكرني طبعًا!

- أكيد صورت حضرتك قبل كده.

- في زفافي من 30 سنة. بس مش فاكرني إيه وانت أول ما شفتني قلت انك شفتني قبل كده!

     نظر إلى السقف بُرهةً ثم عاد من السقف إلى وجهها وابتسامته تختلط بمسحة حُزن مكتوم. أومأ برأسه لها قائلاً:

- أهلاً وسهلاً بحضرتك. دا الاستوديو بتاعك دايمًا، والزباين القدامى زي المحاربين القدامى، لهم امتيازات فوق العادة!

     أخذ العروسان والحماتان يغادرون الاستوديو وعم (عاشور) عيناه معلقتان بالعريس. كأنني لمحتُ في عينيه نظرة إشفاقٍ في هذه اللحظة. بادرتُه:

- إيه الحكاية يا عم (عاشور)؟

     أطرق ثم أشار إليّ بأن أتبعَه إلى أسفل، وفي الدور السفلي أشار إليّ من جديدٍ بأن أتبعه إلى غرفة التحميض القديمة التي لم تطأها قدماي أبدا. كانت الرائحة في داخلها تشبه الكلور. رائحةٌ قويةٌ جدًّا من الصعب تجاهلُها.

- إيه الريحة دي؟ غريبة شوية!

     تجاهل سؤالي وأشار إليّ بالجلوس على الشلتة المقابلة للباب. أطعتُ إشارتَه في صمتٍ منتظرًا ما سيُخرِجُه من درج المكتب القائم على يمين الباب. أخرج عددًا من ألبومات الصور لم أستطع إحصاءه بدِقّةٍ في البداية لكنني أدركتُ فيما بعد أنها سبعة ألبومات بالضبط. جلس على الشلتة المجاورة وناولني ألبومًا منها. صُور لعرائس في وضعيات مختلفة. عرائس فقط. دون عِرسان! ربما تظهر عروسٌ في عَشر صور، وربما تظهر أخرى في واحدةٍ فقط. اللافت أنه لا توجد واحدةٌ منهنّ متوسطة الجمال مثَلا. كلهن بارعات الجمال، أو هكذا خُيِّلَ لي!

- دي مجموعة حلوة جدًّا يا عم عاشور.

- دا كلام برضه؟! هو ممكن عمّك عاشور يصور صورة مش حلوة جدًّا؟

     ناولني ألبومًا ثانيًا وثالثًا، إلى أن أتيتُ على ألبوماته السبعة. في الحقيقة كانت الألبومات ضخمةً جدًّا ومن القطع الكبير. لم أشعر بالوقت يمُرّ عليّ وأنا أتصفح الألبومات، لكن يبدو أنه كان وقتًا طويلا. لم أعرف هذا إلا بعد أن اسمتعت بآخر صورة في آخر ألبوم. ساعتان! كان يأخذ منّي كل ألبوم أُنهي تصفُّحَه ويتصفحُه هو بينما يناولني آخر. تتابعَت على ملامحِه تعبيراتٌ كثيرةٌ كثيرة لمأستطع أن أصنّفَها بسهولة ضمن الحزن أو الفرح أو الغضب أو لذة التذكُّر، لاحظتُها وأنا أختلس النظر إليه خلال تصفُّحي الألبومات. عيناه تتسعان أحيانًا حتى تلتهما العروس التي في الصورة، وتضيق حدقتاهما أحيانًا حتى أكاد أجزم أنه يحاول رؤية شيءٍ بالغ الدِّقّة في الصورة!

- دول حريمي!

- نعم؟!

     قلتُها في لهجةٍ أدركتُ بعد أن نطقتُها أنها أقرب إلى الاستنكار، لكنّي في الحقيقة كنتُ أحاول أن أتفهمَ ما يقول. اتسعت ابتسامتُه وأطرق قليلاً ثُمّ عاد وناولني أول ألبوم تصفحتُه، وفتحه على مجموعة صورة لعروسٍ بعينِها، ودقّ بسبابتِه اليمنى على صور العروس وهو يناولني الألبوم. نظرتُ إليها مُجَدَّدًا فتبينتُ هذه المرّة على الفور أنها صورة الحماة التي كانت معنا منذ ساعتين في الطابق العلوي! ليست هي تمامًا، حيث تختفي تجاعيد الوجه في الصورة، وينسدل شعرُها الأسود الطويل على فستانِها قديم الموضة من تحت تاج العروس، وتأخذ ابتسامتُها في الصورة أبعادًا ليست لتلك المرأة التي رأيناها معًا منذ قليل، كما يقلّ وزنُ عروسِ الصورة كثيرًا عن المرأة ذات اللحم والشحم!

- مش أول واحدة تيجي ببنتها أو ابنها في يوم زفافه، واكون مصوّرها هي شخصيًّا من زمن الزمن في يوم زفافها.

     تهدّج صوتُه قليلاً ورأيتُ في عينيه ما يشبه دمعتين تترقرقان لكنّهما لم تجرؤا على المغادرة إلى خدّيه، أو ربما ابتلعَتهما عيناه في قسوة. أخذ منّي الألبوم وهو يتنهّد قائلاً:

- دول عرايسي. دول كل العرايس اللي صورتهم في حياتي. لمّا أقول لك انهم عرايسي، يبقى اقصد انهم عرايسي فعلاً. كنت عريس لكل واحدة منهم على الأقل ليلة، إذا ما كانش أكتر من ليلة. بس عريس من طرَف واحد!

     قال هذه الجملة الأخيرة ولهجتُه تختلج بالسخرية، ثم ضحك ضحكةً مكتومةً وربّت كتفي في أُبُوّةٍ وتابع:

- الناس من ورا الكاميرا غير الناس! والستات والبنات مش استثناء من القاعدة دي.

     قام من جانبي وفتح أحد أدراج المكتب، وتابع كلامَه وهو يُخرِج منه أنواعًا متعددةً من الكاميرات والعدسات المفردة وآلات الفلاش المنفصلة القديمة:

- كل كاميرا من دول وكل عدسة من دول بتعمل عملها الخاص بيها جدًا في العرايس.

     لم أدرِ لماذا خطر لي في هذه اللحظة أنه يتحدث عن عرائس المولد! ابتسمتُ للخاطر بينما تابَعَ وهو يعود إلى جِواري ممسكًا كاميرا قديمة الطِّراز:

- الـ(كوداك) اللي في إيدي دي كانت قادرة تمامًا من تلاتين سنة انها تحوّل أي عروسة لموناليزا. ما اقصدش انها بتحلّي العرايس وخلاص، لأ! بتحوّلها لموناليزا تحديدًا. موناليزا الشهيرة! بُص تاني لصورة الست اللي جات لنا من شوية.

    ناولني الألبوم الأول للمرة الثالثة، وهو يفتحه على صُوَر العروس التي كانت منذ ثلاثين عاما. كنتُ أرى في الصُّوَر ما أخذ يتحدثُ عنه بالضبط:

- نظرة العين الغامضة اللي تحيّرك، هي بتبُصّ لك ولاّ بتبُصّ لحاجة وراك وانت بالنسبة لها شفّاف! العروسة دي كانت أرفع من دلوقتي زي ما انت شايف طبعًا، لكن في قعدتها على الكرسي بالشكل دا كانت مليانة بالظبط زي موناليزا. سمرا شويّة، لكن تبان لك في الصورة اللي باصّة فيها بجنب دي، بالظبط لون موناليزا!

     ناولتُه الألبوم، وأخذ يضحك ضحكةً تختلط فيها المرارة بالإشفاق بالسخرية، وقال بين ضحكاته:

- العريس بتاع النهارده دا مسكين! أمه ومراته من حريمي! حاسس انّي محقوق له والله!

     أخذ يتفرس صورة العروس التي أصبحت أم العريس، وأخذت أصابعه تتتبّع خطوط جسدِها. سبابتُه كأنها ترسم عروسًا فوق العروس الظاهرة في الصورة، لها صدرها الذي يبدو ريّان في صورة الجلوس على الكرسي، وخصرها الضامر وذراعاها الممدودتان بباقة الورد. اتسعَت عيناه رويدًا رويدًا وتمدّد جسدُه العجوز على الشلتة، وتصلّبَت أطرافُه قليلاً كمَن يعاني نوبةَ صرَعٍ خفيفةً، ثُمّ ارتعدَ قليلاً وهو يحتضن الألبوم مفتوحًا على صورة عروسه القديمة، والتفّت الساقُ بالساق، وأخذ يعَضُّ على الحافة العليا للألبوم بينما يصدُر من بين شفتيه المنفرجتَين قليلاً صوتٌ لم أسمعه منه من قبلُ، أقرب إلى المقطع الأول من صياح الديوك، ممطوطًا حتى خُيِّلَ لي أنه لن ينتهي! لكنّه انتهى. خفَت تدريجيًّا وأغمض عم (عاشور) عينيه وهو يقبض إليه جسدَه قبضًا يسيرا. مكث على هذه الحال دقيقتين قبل أن أنبّهَه إلى صوت خطواتٍ تنزِلُ السُّلَّم إلينا من الطابق العلوي. فتح عينيه عندما كان العريس الذي يتميزُ غيظًا منذ ساعتَين واقفًا في منتصف الغرفة ممسكًا هاتفَه المحمول ملوّحًا به في ارتباكٍ وهو يقول:

- آسف جدًّا، بس رجعت لأني اكتشفت بعد ساعتين انّي نسيت الموبايل هنا!

     طوى عم (عاشور) الألبوم سريعًا ووضعه جانبًا وهو يقوم إلى العريس. كانت رائحة الكلور قويةً في هذه اللحظة. ربّت كتِفَه ثم قرّبَه منه والعريس في دهشةٍ لا يعرف ماذا ينوي أن يفعل الرجُل. فاجأه عم (عاشور) كما فاجأني بتقبيل جبينه في أُبُوّةٍ وهو يقول بينما يربّت خدّه بكفّه اليمنى:

- خلّي بالك من عروستك يابني، وخلّي بالك من والدتك. دول جوهرتين.


محمد سالم عبادة
نُشِرَت في مُلحَق الأهرام الأدبي يوم الجمعة 5 يونيو 2020
من مجموعتي القصصية (الناظِرُون) - مُعَدَّة للطَّبع



هاپي هالوين: لماذا ينبغي أن نرتعد خوفًا في عيد كل القديسين؟

$
0
0

 

     في قصّته (جرملسهاوزن Germelshausen) يحدثنا الروائي الألماني فريدرش جرشتِاكر Friedrich Gerstäcker (1816-1872) عن قرية ملعونة تحمل اسم القصة، خُسفت بها الأرض، تظهر يومًا واحدًا كل قرن من الزمان، ويعود أهلها إلى الحياة. تبدأ القصة بأن بطلها الفنان التشكيلي (أرنولد) يخرج في رحلة استكشافية في خريف أحد أعوام الأربعينيات من القرن التاسع عشر. وخلال رحلته يقطع بالصدفة البقعة التي كانت جرملسهاوزن تحتلّها، فيقع في حب (جِرترود) إحدى فتيات القرية، ويشاء القدَر أن يبتعد عن القرية الملعونة في اللحظات التي تعود فيها القرية للخسف ويواري أهلها التراب، ويظل أرنولد محكومًا عليه بافتقاد حبيبته إلى الأبد.

     كان لاختيار الخريف دلالة تتصل برمزه إلى السقوط ونهاية موسم الحصاد وبداية الجزء المظلم من السنة، وهي دلالة تتوافق مع فكرة القرية الملعونة التي تظهر يومًا ثم تعود للسقوط بكل ما فيها ومن فيها.

     بشكل شخصي، مضى أكثر من نصف عمري على قراءتي هذه القصة، ولم أكن وقتها أعرف شيئًا عن الهالوين، كما لم تذكر القصة أي شيء مباشر عنه. غير أن تصاعد غزو الهالوين لمحيطي الثقافي أعادني إلى جرملسهاوزن، ولا غرابة في ذلك. فالهالوين (ليلة عيد كل القديسين All Hallows Evening) محدد باليوم الأخير في أكتوبر ليمتدّ إلى الثاني من نوفمبر، أي أنه قلب الخريف. والأيام الثلاثة هي ليلة كل القديسين ثم يوم كل القديسين (1 نوفمبر) ثم يوم كل الأرواح All Souls Day (2 نوفمبر) حيث يُحتفَل بكل الموتى المسيحيين الأبرار الذين غادروا الحياة إلى مرحلة المَطهر Purgatoryتبعًا للعقيدة الكاثوليكية. ويرى كثيرون – مثل (نيكولاس روجرز في كتابه: الهالوين من طقس وثني إلى ليلة احتفالية Halloween From Pagan Ritual to Party Night) أن تاريخ الاحتفال بهذا العيد يعود إلى أصول غاليّة Gaelicوثنية متجذرة في تراث الأيرلنديين والاسكتلنديين، تحديدًا إلى عيد نهاية موسم الحصاد وبداية الشتاء، والمسمى في لغتهم (ساوين Samhain). والمعروف أن طقوس هذا العيد الغاليّ الوثني كانت تضم الألعاب النارية البدائية التي كان يُفترض أن لها قوة حامية من الأرواح الشريرة، وكان الوثنيون يتركون طعامًا وشرابًا خارج ديارهم استرضاءً للأرواح الهائمة العابرة في هذا اليوم من عالَم الموتى إلى عالم الأحياء، إلى غير ذلك من الطقوس التي مازالت حيةً في الهالوين المسيحي.     

    والسؤال الأساسي لهذا المقال: لماذا تحول الطقس المسيحي -المحتفي بالقدّيسين وشهداء المِلّة وأرواح كل الموتى المسيحيين الأبرار- إلى عيد عالمي للرعب؟! وبصياغة أدَقّ: لماذا احتفظ هذا الطقس بمَظاهِره الوثنية وزاد عليها كثيرًا من التنويعات كزيارة الأماكن التي يُقال إنها مسكونة أو التي صُمِّمت لتحاكي الأجواء المرعبة للأماكن المسكونة، رغم إدراجه منذ قرون طويلة في الأعياد التي أقرّها القانون الكنسي؟ 

* زواج القداسة والرُّعب:

     يعتقد الروائي والمدوّن (مايك ديوران Mike Duran) أن القداسة والرعب مرتبطان تمامًا ببعضهما في الرؤية المسيحية للعالَم. وهو يبدأ جدالَه بإحالتنا إلى عدة مفاهيم صاغها اللاهوتي والفيلسوف الألماني الباحث في مقارنة الأديان رودلف أُتُّو Rudolf Otto (1869-1937). أهم هذه المفاهيم هو الألوهي Numinousوهي كلمة اشتقها من كلمة لاتينية هي Numenتعني الألوهية أو الحضور الإلهي.    

https://www.mikeduran.com/2012/08/08/holiness-and-horror/

     الألوهي عند (أُتّو) هو أهم ما يميز الخبرة الدينية، وهو أن يجد المرء نفسه إزاء حضور لا شبيه له، (كامل في آخَريَّتِه Ganz Anders) – ويعني بذلك أنه حضور مفارق لما يمكن أن يتعقَّلَه المرء، وليس ثَمّ مشترَك بينه وبين غيره من خبرات المرء اليومية – فيثير هذا الحضور رهبة عظيمة في نفس الإنسان. ثَمّ مفهومان آخَران محوريان عند (أُتّو) هما السر الرهيب Mysteria Tremendumوالسر الجذاب Mysteria Fascinansحيث يصف بهما ذلك الحضور الذي لا شبيه له، إذ إنه لإلغازه وعظمتِه وفرادته واستعصائه على الإحاطة به سرٌّ رهيب، وهو لنفس هذه الحيثيات سِرٌّ جذاب لا يستطيع المرء فكاكًا من جاذبيته.

     عودًا إلى (مايك ديوران)، يعتقد (ديوران) أن هذه المفاهيم الثلاثة متحققة غاية التحقُّق في اللاهوت المسيحي بالتحديد أكثر من غيره. وأَجِد نفسي أوافقه الرأي. فالتصور الذي على عليه مدار العقيدة في معظم الفِرَق المسيحية هو حلول المُطلَق اللامحدود في البشري المحدود، وهو تصوُّر مُلغز فريد مُستعصٍ على التعقُّل الكامل، ولذا فهو يجعل من شخص المسيح سرا رهيبًا لا يشبهه شيء في رهبته ولا في جاذبيته. وفوق ذلك، فتبعًا للتصور المسيحي، لقد قتلنا – نحن البشر – هذا الإله المتجسد الحالّ في الإنسان، قتلناه بأيدينا، فأي رعب يمكن أن يفوق ذلك؟

     * إضاءة قديمة من كيركجور:

     بعض القراءات الفلسفية يعتبر الفيلسوف واللاهوتي الدنماركي الكبير سُرِن كيركجور Kierkegaard (1813-1855) أبًا للوجودية، ولاسيما الوجودية المسيحية. وما يعنينا هنا هو قولٌ ما، قام أهم مرجع معاصر لفلسفة كيركجور – وهو (هوارد هونج) أستاذ الفلسفة الراحل بكلية سانت أولاف St. OlafCollegeللدراسات الكلاسيكية بجامعة مينسوتا – قام بنسبته إلى الفيلسوف الدنماركي الكبير: "حين ينظر المرء إلى الأدوار التاريخية للأديان في رحلتها عبر العالم، يجد الأمر على النحو التالي: المسيحية هي المالك الحقيقي الذي يجلس في العربة، واليهودية هي الحُوذيّ الذي يقود العربة، أما المحمدية Mohammedanismفهي سائس للخيل، لا يجلس مع الحُوذيّ، بل يجلس في الخلف."

https://evergreenessays.blogspot.com/2006/05/did-kierkegaard-offer-anything-on.html

     بالتأكيد يمكن أن نبرر رأي (كيركجور) بأنه منطلِق من رؤية متمركزة أوربّيًّا Eurocentric، مما يضفي على رأيه صدقًا نسبيًّا، فالدور الذي لعبه الإسلام في أوربا يُعَدُّ – بمقتضيات الحِسّ المشترَك – هامشيًّا إذا ما قُورِن بدور التراث اليهودي المسيحي Judeo-Christian Tradition. لكن أمرًا آخر له علاقة بفلسفة (كيركجور) يُعَدُّ في رأيي دعامة هذا الرأي السلبي في دور الإسلام، وهو أمر له انعكاسه على موضوع ارتباط القداسة بالرعب، لاسيّما أنّ مواضع أخرى في كتابات (كيركجور) تَشي بأنه كان على قدر من الاطّلاع على الدين الإسلامي.

     يتّضح هذا الأمر حين نراجع مؤلَّف كيركجور الشهير المعنوَن (خَوفٌ ورِعدَة Frygt og Bæven)الذي كتبه باسم مستعار هو (يوحنّا الصمت Johannes de Silentio) سنة 1843. استعار كيركجور العنوان من الآية الثانية عشرة من الإصحاح الثاني من (رسالة بولس إلى أهل فيلپِّي): "إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَة."والتي ربما كانت بدورها إحالةً إلى بدايات المزمور الخامس والخمسين من العهد القديم: "يمخضُ قلبي في داخلي، وأهوالُ المَوتِ سَقطَت عليّ. خوفٌ ورِعدَةٌ أتَيا عليَّ، وغَشِيَني رُعبٌ. فقلتُ ليتَ لي جناحًا كالحمامةِ، فأطيرُ وأستريح."المهم أن (كيركجور) في هذا الكتاب يناقش حكاية تضحية نبي الله إبراهيم بابنه (إسحاق) كما يذكرها الإصحاح الثاني والعشرون من سِفر التكوين. تقول الرواية التوراتية إن إبراهيم لم يخبر أحدًا بأمر الله له، فتحمّل عبء الإيمان وحده، ووضعه إيمانه في موقف تتخاصم فيه الأخلاق التقليدية مع الدِّين، ووصل رعب الموقف إلى منتهاه. وهنا نتذكر تعليق أستاذنا د.زكريا إبراهيم على مذهب كيركجور في الحب الإلهي، في الفصل السادس (العبادة) من الباب الثاني (أشكال الحب) من كتابه (مشكلة الحُبّ): "أصحابُ هذا المذهب وفي مقدمتهم كيركجوريعتبرون الألم بمثابة الجو الطبيعي الذي يحيا فيه الكائن المتدين. فليس المؤمن بالشخص المطمئن الواثق الغارق في فيض علةوي من السعادة، بل هو شخص معذَّب قلِق يحيا في صراع مستمر مع اللامتناهي ويجد نفسَه دائمًا في غمرة التناقض."

     الشاهد أن الخبرة الإيمانية الحقّة عند كيركجور محفوفة بالألم والعذاب والخوف والرِّعدة. فإذا قارنّا برواية التوراة عن تضحية إبراهيم برواية القرآن، سنجد تفصيلةً صغيرةً مختلفة، هي أنَّ إبراهيم في القرآن يقول لابنِه: "يا بُنَيَّ إنّي أرى في المنامِ أنّي أذبَحُكَ فانظُر ماذا تَرَى."هنا يتقاسَم إبراهيم الأمرَ الرهيب مع ابنه، فلا يحمل عبئه الثقيل وحده رغم نبوّته، كما تحرص الرواية القرآنية على أن تضيّق الهُوّة بين الأخلاق التقليدية والدين في وصفِها لهذا الابتلاء، لكي يظلّ الدين منبعًا للأخلاق حتى في أحلك المواقف. هكذا نجد لطف الإله بالضعف البشري موجودًا حتى في ثنايا مثل هذا الاختبار الرهيب. وإذَن، فإمكانية ارتباط الخوف والرعدة بالخبرة الإيمانية في الإسلام أقلّ منها بالفعل في المتّصِل اليهودي المسيحي، ولذا جاز لـ(كيركجور) أن يقول ما قال، متّسِقًا مع ما يراه، منطلِقًا من تربيتِه في الثقافة المسيحية.

     والحقّ أن الحِس المشترَك يخبرنا كذلك بالفارق الكبير في (المحتوى الرهيب) – إن جاز التعبير – بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، ففي اليهودية نجد شعب إسرائيل يحمل تابوت العهد معه كشرط لحضور السكينة الإلهية (شخينَه שכינה)، فالرّبّ حاضر بينهم بشكل شبه ملموس. في المسيحية يخطو الحضور الربّاني خطوة أبعد، فيتجسد الرب بالفعل بشريًّا كمخلوقاته، وهو حلولٌ من شأنه أن يعمّق الرهبة والاستعصاء على الفهم والإحاطة. أما في الإسلام فقد ظلّت هناك دائمًا هُوّة غير معبورة بين الرب والمخلوق بفِعل التّعالِي المُطلَق للرّبّ، مما يلطف كثيرًا من أثر الحضور الرهيب Numinousالذي حَدّثَنا عنه (رودلف أُتُّو). وحتى حين يصبح مجرد ذكر الله في الإسلام مدعاةً للرهبة والوجَل، نكتشف أن هذه الرهبة هي مجرد مرحلة قصيرة تنتهي إلى الاطمئنان: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.""ألا بذِكرِ اللهِ تطمئِنُّ القُلوبُ."

* الهالوين مرةً أخرى:

     بالتأكيد توجد في الثقافات غير المسيحية قصص مرعبة عن الموتى وأشباحهم وعالَم ما وراء الطبيعة، إلا أنه بغَضّ النظر عن رجوع الموقع الذي يحتلُّه هذا القَصَص في الثقافة المسيحية الغربية إلى آلة الإعلام الجبارة في أوربا وأمريكا، فموقع مثل هذا القصَص في الثقافات الأخرى لا يكاد يغادر الهامش، بينما هو من المسيحية الغربية في قلب المتن كما يُطلِعنا رأي كيركجور عن الخوف والرعدة، ومفهومُ (أتُّو) عن السر الرهيب الجذاب، وأخيرًا رؤية (مايك ديوران) عن اقتران الخبرة الدينية بالرعب. وإذا عُدنا إلى بقعتِنا من العالَم، فربما يتكشف لنا أن هامشيّة الرعب والأسرار المقدسة في الممارسة الدينية الإسلامية تُغري المسيحي المتدين بالنظر إلى الإسلام باعتباره أقرب إلى (لا أدرية) و(شكلانية سطحية Formalism)، فالمسلم لا ينشغل كثيرًا بماهية الله وكيفيته من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى لا تنطوي الممارسة الإسلامية الشائعة بطقوسها على قِيَم الرهبة والرِّعدة التي لا تعرفُ نهايةً، وإنما هي دائمًا مرحليّةٌ كما قلنا.     

     وربما لهذا نجد أجراس الكنيسة حاضرةً في تنويعاتٍ كثيرةٍ في أدب الرعب الأوربي الأمريكي، منذرةً بظهوراتٍ مخيفةٍ مفارقةٍ للخبرة الإنسانية اليومية، حاملةً معها رهبة المقدَّس وحضورَه المستعصي على التعقُّل، وهو ما يحدثُ مثَلاً في بدايات القصة التي افتتحنا بها حديثَنا (جرملسهاوزن). ولا نجد في أدبنا العربي مثلاً أن الأذان يلعب هذا الدور على الإطلاق!

* علمنة كل القديسين:

     ختامًا، كان عالم الاجتماع الألماني (ماكس ڤيبر) يرى في كتابه (مقالاتٌ مجموعةٌ في علم اجتماع الدِّين Gesammelte Aufsatze zur Religionssoziologie) أن القوة المحركة لتوسع الرأسمالية الحديثة – وبالتالي الحضارة الحديثة كلّها – ليست فقط كما يرى (ماركس) متعلقةً بآليات الإنتاج ومنشأ رءوس الأموال، وإنما هي بالأساس نمو (روح الرأسمالية) أو رُوح الحياة الاقتصادية Wirtschaftsethik، وكان يُرجع نمو هذه الرُّوح إلى حركة الإصلاح الپروتستانتي في أوربا، التي عملت على ترشيد كل مناحي السلوك الإنساني، وعلى رأسها السلوك الاقتصادي. وما نودّ إضافتَه هو أن الإصلاح الپروتستانتي بشكلٍ ما عمّق مفهوم المكابدة والصراع الروحي الذي لا يهدأ، فالپروتستانتي لا ينتظر صك غفران وإنما يجاهد نفسه روحيًّا باستمرار، ولا يفوتنا أن (كيركجور) وُلِد في بيئة پروتستانتية محافِظة. إلا أن هذا الإصلاح كذلك - بفصلِه المسيحيةَ الغربية عن تجليات القداسة الرهيبة والأيقونيةِ الباذخة الموجودة في الكاثوليكية – خلق هُوَّةً بين اللاهوت الرهيب الذي يؤمن به المسيحي الغربي وبين طبيعة ممارساته الطقسية التي أصبحَت أبسط بكثير في ظل الپروتستانتية. ويبدو أنه كان ضروريًّا أن يبحث المسيحي الأوربي والأمريكي عن متنفَّس يعبر فيه عن حاجته إلى ممارسة الرهبة المزروعة في صميم رؤيته للعالَم. ولمّا كان من نتائج هذا الإصلاح – كما يرى (ڤيبر) وكما نوافقه – ذلك الانفجار الاقتصادي الحضاري الذي نشهدُه في الغرب، فقد ساعد هذا الانفجار الحضاري على بَلوَرة عالَم الرعب بكل مفرداته من أدب وسينما وغير ذلك، والذي يبلغ ذروة تجسُّده في الهالوين. أي أننا حين نُنعِم النظر إلى الأمر، نجد أن الإصلاح الپروتستانتي بشكلٍ ما قد فصل المسيحي الغربي عن تجليات القداسة الكاثوليكية، ثُمّ عوضه عنها تعويضًا علمانيًا معقَّمًا من الحضور الإلهي كما كانت تعرفه المسيحية الغربية في السابق. وهكذا، أصبح علينا أن نرتعد خوفًا كل عامٍ مع حلول عيد كل القديسين، وإن كان خوفًا معقمًا، لا نصدقه نحن، ولا يصدقه من ابتدعوه.  

محمد سالم عبادة

31 أكتوبر 2019  

.......

نُشِرَ المقال في موقع عربي 21 يوم 31 أكتوبر 2019 

https://arabi21.org/story/1219446/%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A-%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%8A%D9%86-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%86%D8%A8%D8%BA%D9%8A-%D8%A3%D9%86-%D9%86%D8%B1%D8%AA%D8%B9%D8%AF-%D8%AE%D9%88%D9%81%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D9%86#category_19 

إشكاليّةُ القُرآنِ والموسيقى

$
0
0

 


     "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن".

رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابنُ أبي شيبة والحاكم وابن حِبَّان والدارميّ، وغيرُهم!

     "زيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم".

رواه الطيالسيُّ وأحمد والبخاريُّ والنَّسائِيُّ والحاكم والبيهقيُّ وابنُ ماجَه، وغيرُهم!

     ربما هو تصديرٌ تقليديٌّ لمقالٍ يتناول إشكاليةَ علاقة القرآن بالموسيقى، وهو بالتأكيد تصدير مثير للجدَل لأنه رغم تواتُر رواية هذين الحديثين بَقِيا مُختلَفًا على صحة رواياتهما فضلاً عن المفهوم منهما. لكنَّ كاتبَ هذا المقال لا يجد مفرًّا من مقاربة مفردة (التغنّي) على المعنى الذي يجعلها محمولةً على (مشاكلة الغناء)، وهو وجهٌ مشهورٌ لمعنى الحديث. والسؤال هو: على أي وجهٍ يكون هذا (التغنّي) بالقرآن؟ المفردة نفسها لم تحدد طريقًا معينةً، فهل يكون التغنّي على قواعد الموسيقى والغناء المتعارَف عليها عند أهل الموسيقى والغناء؟ أم أنّ هناك قواعد أخرى تخصُّ القرآن؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتوافق قواعد تلاوة القرآن المتعارَف عليها مع قواعد الموسيقى والغناء؟

     للإجابة عن هذه الأسئلة، علينا أن نستعرض سريعًا أركان الموسيقى وعلاقتَها بالبِنية الموروثة المتعارَف عليها لتلاوة القرآن.

أولاً- الإيقاع:

     هو العنصر الذي لا تقوم دونه موسيقى. الأشهر في الممارسة العربية أن يكون الإيقاع ظاهرًا تضبطه آلة أو أكثر من آلات الإيقاع: طبلة الباص أو الدف أو المِزهر أو غيرها، لكنه يمكن أن يتخفّى وراء النغَم (الركن الثاني من الموسيقى) دون أن يتلاشى. في الفالس الأشهر (على ضفاف الدانوب الأزرق الجميل An der schönen blauen Donau ) من المصنَّف 314 للموسيقار النمساوي (يوهان شتراوس) لا يمكن للأذن أن تخطئ الإيقاع الثلاثي للفالس مع اختفاء آلات الإيقاع، ويَصدُق هذا على أي مقطوعة موسيقية في العالَم.

https://www.youtube.com/watch?v=ENETOpNpIiI

     قبل أن ننتقل إلى علاقة القرآن بالإيقاع، علينا أن نوضّح اصطلاحًا إيقاعيًّا مهمًّا، هو (تأخير النَّبر) أو (الترخيم) Syncopation. يعني الترخيم ببساطة (انقطاعًا أو اضطرابًا في المجرى الطبيعي للإيقاع، أو وضع النبر في مواضع ليس من طبيعة الإيقاع الأصلية أن يوجد بها). هذا الترخيم يضفي تنويعًا غير متوقَّع على الإيقاع وربما يغير المزاج العامّ للمقطوعة. من أشهر وأبسط الأمثلة على هذه الحيلة الإيقاعية ما يفعله (بيتهوفن) في نهاية المازورة الثانية عشرة من اللحن الأساسي للحركة الرابعة من سيمفونيته التاسعة (الكورالية)، حيث يضع (نبرًا) قويًّا على العلامة الإيقاعية ويربطها ببداية المازورة التالية Legatoلتصبح أقوى، ويظهر هذا في غناء المطرب الباص ثم الكورال لبداية جملة Alle Menschen werden Brüder(البشر كلُّهم يصبحون إخوة).

https://www.youtube.com/watch?v=w6E3xem_c2w

     بالطبع يوجد للقرآن إيقاعٌ خاصٌّ به. لا نعني سرعة الأداء Tempoالتي يوجزها اصطلاح (مراتب التلاوة) التي تتدرج من الأسرع (الحَدر) إلى الأوسط (الترتيل) إلى الأبطأ (التحقيق). بالأحرى، نعني ذلك العنصر الذي قلنا إنه لا تقوم دونه موسيقى، كما لا يقوم دونه أي منتَج صوتي على الإطلاق. لكنه ليس إيقاعًا منتظِمًا انتظام الإيقاعات المعروفة المستخدمة في الموسيقى، ولا انتظام إيقاعات الشِّعر. من المعروف أن بعض الآيات في القرآن تنتظم في أوزانٍ تقرّبُها من بعض بحور الشِّعر العربي، فـ(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدْ) تُوزَن (فاعِلاتُن فَعِلُنْ) وتندرج هكذا في بحر (الرَّمَل) مثَلا. لكن يحول بينها وبين تصنيفِها كجُملةٍ موزونةٍ عَرُوضِيًّا أنّ القرآنَ أساسًا مبني على الوَصل، ولذلك تُرسم نهاية هذه الآية (أحَدٌ) بالتنوين، أمّا إن وقف القارئ عليها وسكَّنها، فإنّ عاملاً آخر ينهض ليَحول بينها وبين سهولة تصنيفها كجملة في بحر الرَّمَل. هذا العامل هو المعروف في علم التجويد بالقلقلة، ومكانه حرف الدال من كلمة (أحَدْ). الأمر نفسه يحدث مع "قُلْ أعوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ"التي تُوزَن إن سُكِّن آخرُها (فاعِلُنْ فَعِلُنْ فاعِلُنْ) على البحر المتدارَك، لكن كسر قاف (الفلق) حالَ الوصل، وقلقلتها حالَ التسكين يحولان بينها وبين تصنيفها كجملة في (المتدارَك).

     يبقى أن نذكُر خلافًا في الفقه الإسلامي حول موقف أحكام التجويد (ومنها القلقلة المذكورة مثلاً) من الوجوب. معظم رواد التجويد كابن الجزري (صاحب المقدمة الشهيرة في أحكام التجويد) يذهب إلى وجوبه، بينما نفاجأ بأن (ابن تيمية) المشهور في عصرنا بالتشدد يرفع الحرج عن المسلمين في طلَب قواعد التجويد، بل ويزهّدهم في الحرص عليها كما في قوله في (مجموع الفتاوى): "و لا يجعل هِمَّتَه فيما حُجِب به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائقِ القرآن إما بالوسوسةِ في خروج حروفه وترقيمها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك، فإن هذا حائلٌ للقلوب قاطعٌ لها عن فهم مراد الرب من كلامه"!

     نقطةٌ أخرى في مسألة إيقاع القرآن هي حركات (المَدّ) وعلاقتها بإجراء (الترخيم Syncopation) الذي قدَّمنا له. المَدّ في القرآن -وما يتّصل به من الغُنّة المتطلبة له- يزرع الجُملة القرآنية بترخيمات غير منتطمة إيقاعيًّا، ويكاد يكون من المستحيل أن تخضع لتنظيم إيقاعي موسيقي مع المحافطة عليها.

     الشاهد من هاتين النقطتين أنّ البنية الإيقاعية للقرآن حالَ تلاوتِه بنيةٌ أُرِيدَ لها أن تكون مغلقةً على ذاتِها، غير قابلةٍ للاتّصال بالتقاليد العروضية الشِّعرية ولا بالتقاليد الموسيقية الغنائية فيما يبدو.

ثانيًا – النغم:

    تحضر هنا المقولة – المتنازَع على صحّتها هي الأخرى – للإمام (علي بن أبي طالب)، حين وجَّه (عبد الله بن عباس) إلى الخوارج: "لا تُخاصِمْهم بالقُرآن؛ فإنَّ القُرْآن حمَّالُ أوجُه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكنْ حاجِجْهم بالسنَّة؛ فإنَّهم لن يَجدوا عنْها مَحيصًا". الشاهد منها في تقدير كاتب المقال – صحّت أو لم تصِحّ عن قائلها المزعوم – هو أن صفة (حمّال أوجُه) تنطبق على القرآن في منطقة إثارة الوجدان ربماأكثر مما تنطبق عليه في منطقة تقرير الحقائق والأحكام والأفكار!

     ما يحدث بشكل تلقائي في جلوس كل مسلم للتعبد بقراءة القرآن هو أنه إمّا أن يقرأه غير منغوم (كإلقاء الشِّعر recitativo) أو يضع له نغمًا وليد اللحظة. هذا النغم يختلف في درجة اتّساقِه وتوافقه الموسيقي من شخصٍ إلى آخر بحسب المهارة والإتقان وجودة الصوت. وغنيٌّ عن البيان أن هذا النغم يتسق وفق المقامات الموسيقية المعروفة مع القرّاء المهَرة بالقرآن، وَعَوا ذلك أم لم يَعُوه، تعمّدوه أم جاء معهم عفوا!

     فوق ذلك، قد يقرأ القارئ الواحد الآية الواحدة بأكثر من مقامٍ في أحوالٍ مختلفة. وكلُّ قراءةٍ من هذه تؤثر في الوجدان بشكلٍ مختلفٍ عن الأخريات. الفيديوهات المهتمة بإيضاح المقامات الموسيقية في تلاوة القرآن أكثر من أن تُحصى. في الفيديو الأول هنا يقرأ الشيخ (عبد الباسط عبد الصمد) من مواضع مختلفة بالقرآن بالمقامات الأساسية كلها:

https://www.youtube.com/watch?v=I2MCfZw2QsU

     أما في الفيديو التالي فيقرأ (منير محفوظ) الفاتحة فقط بالمقامات الأساسية:

https://www.youtube.com/watch?v=bgpSm24-0Bg

     في الفيديو السابق يكتسب نص الفاتحة طابعًا وجدانيًّا مختلفًا مع كل قراءة، وهو طابَعٌ من الصعوبة بمكانٍ أن نحصره في تعبيرٍ لغويٍّ واضحٍ إلا أنه ليس مستحيلاً أن نقاربَه، فهو يبدأ بمقام الصَّبا بما يثيره من الحُزن الهائج الذي يجاوز حدّ الاحتمال، وربما يعود هذا لطبيعة المقام الذي يعتبَر مقامًا ناقصًا لأنه لا ينتهي عند درجة ركوزه (يبدأ بدرجة ري وينتهي بدرجة ري بيمول)، فكأنّ الفاتحة ترثي العالَم المشهود بكاملِه (أو ترثي عالَم ما تحت فلَك القمَر باصطلاح أرسطو الكلاسيكي!). ثم يقرأ بمقام نهاوند (السلّم الصغير) بحُزنه الأرستقراطي المتأمّل من بُعد، ثم ينتقل إلى مقام العجَم (سلّم كبير) وهو مقام يرتبط بالفرَح، كأن الفاتحة فيه تلخّص موكبًا ملائكيًّا للتسبيح وتأمل تناغُم الكون، ويتعالى على اهتداء المُنعَم عليهم وضلال الضالّين، وهو ما يذكّرُنا بشكلٍ ما بفيديو الحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي تتناول نفس الموضوع وتعطي انطباعًا قريبًا من هذا! بعد (العجَم) ينتقل القارئ إلى مقام (البياتي) بإحساسه الدافئ، كأن الفاتحة فيه تعبير عن الانتماء إلى أسرةٍ واحدةٍ متلاحمةٍ من المؤمنين بمصدرها المقدَّس. بعد (البياتي) تُقرأ الفاتحة في مقام (السيكا) بما يبعثه من إحساسٍ باللوعة، كأنها لوعة محاولة القارئ للتعلق بـ(صراط الذين أنعمتَ عليهم) والهروب من فرقتي (المغضوب عليهم) و(الضالّين). ثم ينتقل (منير محفوظ) إلى مقام (الحجاز) القائم أساسًا على مسافة النغمة ونصف النغمة (تون ونصف Augmented note) التي تثير إحساسًا بالحُزن هي الأخرى، لكنّه حُزنٌ محسوبٌ مؤقَّتٌ لا ينتهي إلى اللوعة. بعد (الحجاز) يأتي (الراست) المقام الأساسي في الموسيقى العربية بإحساسه الفَرِح بكل تفاصيل الآيات. تنتهي التلاوة بمقام (الكُرد) الذي يمثّل معادلاً مشرقيًّا للمزاج الفريجيّ Phrygian Modeفي الموسيقى الأوربية، بما يثيره من تأمُّلٍ حزينٍ قريبٍ من (النهاوند) وإن كان أكثر اشتباكًا مع التفاصيل وبالتالي أوفر حظًّا من الحُزن.     

    الشاهد أن النص القرآني بالطبع لا يمتلك بنية نغميةً خاصةً بعكس موقفه من الإيقاع. لكن يأتي اقتراح (تلحين) القرآن إشكاليًّا مع ذلك. وهذا لأنه يفترض أن يُسجن النص في بنية نغمية واحدة. إن اقتراح التلحين في هذا السياق إمّا أن يعني تقييد القارئ بالقراءة في تتابع نغمي بعينه وكفى، أو أن يكون ذلك بمصاحبة الموسيقى الآلية. المعنى الأول يتوافق مع جاء في مقال الأستاذ شريف حسن (تلحين القرآن: التاريخ الموسيقي الخفي للنص المقدس) المنشور على موقع (منشور) في 1 ديسمبر 2017: "يقول ضياء الدين بيبرس في مقاله إن عبد الوهاب كانت له محاولات لم تُنشر. ويشرح أن عبد الوهاب رأى أن القرآن نص عظيم ومقدس، وفيه تباين عظيم بين آيات العذاب والرحمة والجنة والنار، وأن قراءة هذه الآيات كلها، على حد سواء، تُضعف التأثر به". لكن ما يبدو أنه فات موسيقار الأجيال في هذا التصريح المنقول عنه هو أن افتراض أن قراءة نصّ – أي نصّ – بلحن معين فقط يتماشى مع المفهوم من هذا النص فيه شكل من أشكال الَحجر على الإمكانيات التعبيرية الاستثنائية التي تمنحها الموسيقى للنص. هذا التصريح من موسيقار الأجيال يحيلُنا إلى كتاب (الأغاني الحلوة والأغاني المُرّة: أساليب التلحين العربي) للملحن الراحل أ. محمد قابيل. في فصل (الأسلوب الزخرفي) من الكتاب ينتقد المؤلفلحن الراحل (فريد الأطرش) لأغنية (يا حبايبي يا غايبين) في مقام البياتي، استنادًا إلى أنه وضع لحنًا (فَرِحًا) لكلمات حزينة. المتأمل للأغنية بعيدًا عن نقد الكتاب يجد أن المقام بدفئه أنطقَ الكلماتِ بما لم تقله صراحةً، وهو أن المطرب من أول لحظة في اللحن يشعر بدفء أحبابه الغائبين كأنهم لم يغيبوا، وهي إمكانية تعبيرية كامنة في النص، ما كان لها أن تتفجر على هذا النحو إلا بلحن فريد الأطرش!

https://www.youtube.com/watch?v=Ea2lQvyZny0

      كذلك فإن هذا التصريح يقف في مواجهة مغامرات (عبد الوهاب) التلحينية نفسها، فمن كان يُصَدق أن نشيد (دقت ساعة العمل) يُلَحَّن في مقام الهُزام من فصيلة السيكا؟! المقدمة الموسيقية المتراوحة بين الهزام والنهاوند تَخلُص في النهاية للهزام لتسلّم الكورال الذي يغني هو الأخر في الهزام مقام اللوعة! في الحقيقة، أنطق لحن (عبد الوهاب) الكلمات "دقت ساعة العمل الثوري لكفاح الأحرار. تعلن زحف الوطن العربي في طريقه الجبار"بكل طاقة اللوعة واللهفة لتحقيق التحرر القومي وما يليه من إنجازات! ومَن كان يصدّق أن نشيد (طول ما أملي معايا معايا وف إيديا سلاح) يمكن أن يُلحَّن في مقام الصَّبا الحزين، حتى يمكن أن يوحي إلى مستمعه بأنه رثاء لكل شهداء السلاح حتى لحظة الأغنية؟ كان المتوقَّع في إقدام أي ملحّن على التصدي لأغنية وطنية ثورية حماسية أن يبتعد بها عن مقامات ثلاثة أرباع التون المرتبطة في الوعي الجمعي بالتطريب، لكن (عبد الوهاب) كان له أن يقلب هذا التوقع بسلوكه دربًا غير مطروقة.

الشاهد أنه حتى الوتيرة الواحدة في قراءة القرآن كفيلة بإنطاق النص بحمولات وجدانية كامنة فيه وليست غريبةً عنه، طالما أن البنى النغمية المختلفة تفعل ذلك بالفعل مع النص القرآني كما تفعله مع غيره.

https://www.youtube.com/watch?v=7Kh61nqYmks

 

https://www.youtube.com/watch?v=YVEROaVsYdo

     أما  مصاحبة الموسيقى الآلية فإنها إما أن تكون وفق لحنٍ محدد سلفًا بالفعل وإما أن تكون ارتجالاً. حالة اللحن المحدد سلفًا هي الأخرى لها أكثر من احتمال، فإما أن يكون اللحن ينتظم النص مع أداء الآلات كما في أغنية الإيراني (محسن نامجو) التي أوردها الأستاذ شريف حسن في مقاله كذلك، وإما أن يكون اللحن للآلات فقط فيما يشبه الخلفية للتلاوة كما في المقطع الصوتي من فيلم (بابا عزيز) الوارد في نفس المقال.

     في تجربة (بابا عزيز) لم يحدث تلحين للقرآن، وإنما وُظِّفت التلاوة مع الخلفية الموسيقية في سياق درامي محدد. ساعد على وضوح هذا الانفصال بين المكوِّنين الموجودين في المقطع الصوتي أن الموسيقى الآلية كانت تعزف تآلفات في سلم صغير (مقابل النهاوند) بينما التلاوة بدأت في مقام (قارجهار – شُورِي) من فصيلة البياتي، وعند قوله تعالى "فتقبل منّي إنك أنت السميعُ العليم"تحولت التلاوة إلى مقام الراست، وهما مقامان من مقامات ثلاثة أرباع التون غير القابلة للهرمنة أو العزف المتآلف في العُرف الموسيقي المستقر.

     أما تجربة (نامجو) فهي تجربة تلحينية بالطبع، فمُرَجّع الآهات في مقام (نهاوند) يسلم الغناء في سور التكوير والمزمّل مثلاً في مقام الصَّبا، مع إسقاط – يبدو عن غفلة – لبداية آية "أو زِد عليه ورتّل القرآنَ ترتيلا"في بناء لحني واضح، وهو بناء يبدو أميَل إلى التناص الساخر parodyمع القرآن، ويصعب أن يخطئ المتلقي هذا، لاسيَّما مع اقتباس المطرب من قصيدة (كلمات) التي شدت بها (ماجدة الرومي)!

     الخلاصة أن محاولة إخراج تلاوة القرآن من طريقة الارتجال/ الأدليب (Ad libاصطلاح موسيقي مختصر من اللاتينية Ad Libitumبمعنى: حسب رغبة المؤدّي) المتوارثة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى اللحن المحدد سلفًا تنطوي غالبا على مخاطر متعلقة بأن يَضرب الموسيقيُّ صفحًا عن القواعد المَرعِية في التلاوة، فضلاً عن سَجن النص في قالب نغمي بعينه مما يُضعف الأثر الوجداني لتلقي القرآن.

تعضِّد هذه النقطةَ الأخيرةَ دراسةٌ قام بها مجموعة من الباحثين في جامعة (أرهوس) بالدنمارك وتتعلق بنتائج الفحص بالرنين المغنطيسي الوظيفي لمراكز المخ المسئولة عن المشاعر أثناء الاستماع إلى مقطوعاتٍ في السلم الصغير وتآلفات وتنافرات نغمية مختلفة لدى عينة بحث مكونة من موسيقيين وغير موسيقيين:

https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/16597801

ومن نتائج الدراسة أن التأثر الوجداني بالمقطوعات المستمَعَة كان أقوى في حالة انعدام نية تعلُّم التتابعات النغمية وتذكُّرها، وهو ما ينعكس بوضوحٍ على موضوع مقالنا، حيث قد يؤدي اللحن المحدد للقرآن إلى ضعف التأثر الوجداني به لأن اللحن يقدَّم بصفته منجزًا فنيًّا قابلاً لتكرار الأداء عددًا لانهائبًّا من المرات، وبالتالي يوجِد اللحن عَقدًا ضمنيًا مع المتلقين، بمقتضاه يعملون واعين وغير واعين على حفظ اللحن. في تقدير كاتب هذا المقال، يتنافى هذا على مستوىً أعمق مع الحديث الشريف الوارد في صحيح (مسلم): "تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسُ محمدٍ بيَدِهِ لَهُوَ أشدُّ تفلُتًا من الإبِلِ في عُقُلِها". بالطبع فإن المعنى الشائع للحديث يتعلق بحفظ النص القرآني، لكنه يحتمل كذلك أن الأثر الوجداني للقرآن بدوره أشد تفلتًا من البعير في عقاله، وقد أُرِيدَ له ذلك من البداية ليكون هذا دافعًا إلى تعاهُده من قِبَل المؤمنين به وتجديد علاقتهم الوجدانية بالنص المقدس على نحوٍ مختلِفٍ في كل تلاوة.

 

ثالثًا – الهارموني والكونترابنط:

      ربما يحدثان بشكل معقد إذا اعتمدنا تزاوج الموسيقى الآلية مع التلاوة، أو أبسط من هذا إذا تعلق الأمر بمجموعات من القراء تقرأ في تآلفات نغمية في المقامات القابلة للهرمنة (العجم والنهاوند والكرد والحجاز وفروعها ومشتقاتها الخالية من ثلاثة أرباع التون)، أو في أكثر من خط نغمي مختلفة ومتزامنة. من الصعب الحَجر على مثل هذه التجربة قبل أن تحدث! في تقديري أنها يمكن أن تخرج بصورة طبيعية من المقارئ التي تُعقَد في المساجد الكبرى إذا أَولَت دراسة المقامات الموسيقية قدرًا من الاهتمام، لكن سيظلّ أثر مثل هذه الخطوة على الخشوع وعلاقة المستمع بالنص القرآني ومُرادِه محل خلاف بالطبع.

 

كلمةٌ أخيرة:

     في تقدير كاتب المقال، يمثل سعي بعض الموسيقيين من آنٍ لآخر لتلحين القرآن وجهًا من أوجُه الصراع اللطيف تارةً الخشن تارةً بين الدين والفن، بنفس القدر الذي يمثل به محاولةً من الفن (لخدمة) الدين، وربما أكثر. ففي مقابل وجهة النظر الفقهية الإسلامية التي تحرّم الممارسة الموسيقية على إطلاقها، يحاول الفنانُ بَسطَ سلطانه على أخص خصائص الدين ليؤكد وجوده واستعلاءه. وعلى صعيدٍ آخر، يمثل هذا السعي القديم الجديد – حيث يُروَى أن (إسحاق الموصلي) حاول تلحين القرآن وتصدى له الإمام أحمد بن حنبل -  مسيرةً طبيعيةً للفن الذي لا يعرف الحدود ولا يعترف بالعوائق ويحاول أن يستقدم كل مفردات العالَم إلى مملكة الوجدان التي يعلن نفسه حاكمًا لها ولا يرضى مشاركة الدين فيها! ومن منطلق ماركسي تمامًا في التحليل، وإذا ذهبنا مع (ماركس) إلى أن الدين والفن مكوِّنان في البنية الفوقية لكل مجتمع، فإن الفن باحتفائه بالجمال وانطلاقه دون حدود يُعَد قاطرة كل حضارة بشرية إلى المستقبل، بينما الدين بقيوده وتركيزه على الأخلاق (بصفتها قِيَمًا سلبيةً تنبع من تجنُّب الشر أساسًا) والخيط المحوري فيه والذي يحتفي بلحظةٍ ماضيةٍ بصفتها مرجعيةً لفهم كل شيء ومقياسًا لكل تصرف إنساني، فضلاً عن درجةٍ ما من القصور الذاتي تبدو مهمةً لتُوصَفَ أيُّ مجموعةٍ من المعتقدات ووصايا السلوك بأنها دين، لكل هذه الخصائصِ يُمَثّل الدينُ كابحًا قويًّا لمسيرة الحضارة ومحاولةً لإبقائها على حالها الراهنة بقدر الإمكان. الشاهد أن توقعي هو أن تستمر محاولات تلحين القرآن رغم تحفظي عليها مع فريق المتحفظين! وذلك أن مسيرة الفن – التي هي مسيرة الحضارة – تفترض ذلك، ربما في محاولةٍ من الفن لتجاوز النص القرآني (بإخضاعه لقواعد الفن يفقدُ خصوصيتَه التي يتغني بها المتدينون من أمثال كاتب ها المقال، وفي هذا بحد ذاته انتصارٌ للفن).

     يتعلق هذا التجاوز بما أجترئُ على أن أُسَمِّيَه (أثر البرواز Frame Effect)، وأعني به قدرة بعض الإجراءات المحددة المرتبطة بالممارسة الفنية على أن تصبغ كل ما يقترب منها بصبغة الفن وتجعله قابلاً للنقد بصفته فَنّا. في الحقيقة اشتققتُ هذا الاسم من ظاهرة اللوحة التشكيلية البيضاء أو المحتوية خطًّا لونيًّا واحدًا لا يفصح عن أية معالم. هذه (اللوحة) بتأطيرها في بروازٍ تتحقق لها (الفنّية) بشكلٍ ما وتصبح موضوعًا للنقد التشكيلي. وقُل الأمر نفسه في الورق الأبيض المُدرَج في كتابٍ يحمل اسم (ديوان شِعر). في موضوعنا يقوم أداء الآلات الموسيقية في مصاحبة التلاوة بالمعادل الموسيقي لهذين المثالَين ويمهَد لـ(أنسَنَة) النص القرآني، ومِن ثَمَّ محاولة تجاوُزِه.

................

محمد سالم عبادة

10 ديسمبر 2017

نُشِرَ في موقع (منشور) بتاريخ 14 ديسمبر 2017

رابط المقال على الموقع:

https://manshoor.com/authors/mohamed.salem.obada/





    

 

 

كسر الحائط الخامس: تأسيس سُلطة الممثِّل

$
0
0

 


     ربما يذكر كثيرون هذا المشهد من فيلم (رصيف نمرة 5) للراحل (نيازي مصطفى) من إنتاج عام 1956، حيثيواجهالشاويش خميس (فريد شوقي) المعلم بيومي (زكي رستم) في المسجد بعد أن يفرغ الأخير من الصلاة، بأن يقدِّم إليه مسبحته المنفرطة دليلاً على كشفه أمر تورُّطه في قتل زوجته، وحين يحاول المعلم بيومي الهرب من المواجهة بأن يقوم ليصلي ركعتين لله، يقطع (فريد شوقي) عليه صلاته قائلاً: "لأ لأ لأ، دانا عاملها قبل منّك"، في إشارة إلى مشهد من فيلمه (جعلوني مجرمًا) للراحل (عاطف سالم) من إنتاج عام 1954، حيث يهرب من إلقاء القبض عليه بالصلاة في المسجد.

https://www.youtube.com/watch?v=uQ_XQj6La-I         

     أن يُحِيلَ الممثلالجمهور إلى أعماله السابقة، فهذا التصرف واحد من تخريجات مصطلح (كسر الحائط الخامس)، باعتبار هذا الحائط المعنوي يفصل بين العمل الحالي والأعمال السابقة. جديرٌ بالذِّكر أن المصطلح امتدادٌ للمصطلح الأقدم الأشهر (كسر الحائط الرابع) حيث يكسر الممثلون في المسرح (أو السينما أو التليفزيون) الحائط الوهمي الذي يفصلهم عن الجمهور ويخاطبونه في إشارةٍ إلى الطبيعة الخيالية للدراما ولشخصياتهم.

     في الحقيقة فعلها كثيرون، في كلِّ مكانٍ في العالَم بالتأكيد! قد يكسر أحد الممثلين الحائط الخامس لزميله، مثلما فعل الممثل (الطفل آنذاك) أوستن أوبرايان في فيلم (بطل الأكشن الأخير Last Action Hero) في حديثه مع (أرنولد شفارتزينيجر)، حيث أشار إلى (فريد مراد الإبراهيم) بعد خروجه من الكادر بأنه "قد قتل موتسارت"، مستدعيًا بذلك دور (الإبراهيم(في شخصية الموسيقار (أنتونيو سالييري) في فيلم (أماديوس Amadeus) الذي أُنتِج عام 1984، أي قبل (بطل الأكشن الأخير) بتسع سنوات.

https://www.youtube.com/watch?v=5egsTEUS17s     

     ومثلما فعل (عادل إمام) في مسرحية (الواد سيد الشغال) أثناء حواره مع (عمر الحريري) حيث ذَكَر دور (الحريري) في (ألف ليلة وليلة) مجسِّدًا شخصية الملك (كهلان).

https://www.youtube.com/watch?v=G4iJQ87Y304

     يأتي كسر الحائط الخامس أكثر اتّساقًا مع فكرة الخروج عن النص، وذلك أنّه من الصعوبة بمكانٍ أن نفترض أن الكاتب المسرحي أو كاتب السيناريو في الأمثلة السابقة وضع في نصِّه هذه الإحالات الواضحة إلى أعمالٍ سابقةٍ للممثلين، إلاّ إن كان يكتب وفي ذهنه أن (فريد شوقي) و(مراد الإبراهيم) و(عمر الحريري) تحديدًا هم من سيقومون بتلك الأدوار. الأقرب إلى طبيعة الأمور أنَّ الإحالة حدثت عفوًا وبشكلٍ تلقائيٍّ تمامًا أثناء تصوير (رصيف نمرة 5) و(Last Action Hero) وكذلك في (الواد سيد الشغال).

     في كتابه (ازدهار وسقوط المسرح المصري) يستعرض الناقد المسرحي الراحل (فاروق عبد القادر) ثلاث مراحل هامّة مرّ بها المسرح المصري في تقديره، أولها مرحلة التكوين قبل يوليو 52 (حيث مسرح نجيب الريحاني ويوسف وهبي وعلي الكسّار)، ثم مرحلة الازدهار (في خمسينيات ومعظم ستينيات القرن العشرين) ثم السقوط منذ النكسة إلى زمن انتهائه من هذا الكتاب في أواخر السبعينيات. ما نلاحظه بسهولةٍ رغم أنّ (فاروق عبد القادر) لا ينصّ عليه صراحةً، هو أن الناقد الكبير في استعراضه هذا لم يتوقف طويلاً (هو لم يتوقف إطلاقًا إن لم تكن الذاكرةُ قد خانتني) عند أسماء أبرز الممثلين الذين قامت على أكتافهم النهضة المسرحية التي يتحدث عنها في الخمسينيات والستينيات، بينما في مرحلة التكوُّن (التي أدانها بشِدّة واعتبر بريقها التاريخيَّ بريقًا زائفًا) ومرحلة الانهيار أفاض في سرد أسماء الممثلين الذين حققوا إيراداتٍ استثنائيةً للمسرح التجاري على خلفية نصوصٍ ضعيفةٍ أو سطحيةِ التناوُل في تقديره.

     الشاهد من هذه الملاحظة أنّ الممثلين يتوارَون خلف النص أو يذوبون فيه تمامًا في الدراما الجيّدة من وجهة نظر (فاروق عبد القادر). فمسرحيات (ألفريد فرج) و(ميخائيل رومان) و(صلاح عبد الصبور) و(عبد الرحمن الشرقاوي) – رغم حملة (فاروق عبد القادر) على هذا الأخير لأسبابٍ خارجةٍ عن موضوع هذا المقال – أذابت المؤدِّين على خشبة المسرح تمامًا، بينما أتاحت النصوص الأكثر سطحيةً صعود نجم الثلاثي (فؤاد المهندس) و(شويكار) و(عبد المنعم مدبولي) في المسرح التجاري.

     نعود من استطرادنا الطويل إلى مسألة كسر الحائط الخامس. في تقديرنا أنّ إمكانية حدوث هذا الكسر تختلف باختلاف الوسيط الذي تُعرَض من خلاله الدراما، كما تختلف حسب مدى شهرة المؤدِّين وجماهيريتهم. في السينما والتليفزيون حيث تُعاد المشاهد مرّاتٍ ومرّاتٍ حتى تنضبط كما يراها المُخرج، وحيث ينفصل المؤدُّون عن الجمهور مكانيًّا وزمانيًّا، تقلُّ فرصة الخروج عن النص إجمالاً، وتقل بالتالي فرصة كسر الحائط الخامس. أمّا في المسرح حيث العلاقة بين المؤدّي والمتلقّي أوفر حظًّا من الحميميّة، وحيثُ مردود الجمهور من الاستحسان والتصفيق قريبٌ للغاية من الممثلين، تزداد بالطبع فرصة الخروج عن النص، ومعه كسر الحائط الخامس.

     إلاّ أنّ عامل شهرة الممثلين يظلّ مُحَدِّدًا بالغ الأهمية في احتمال حدوث هذا الكسر، فمن نافلة القول أنّ ممثلاً ناشئًا حديث عهدٍ بالكاميرا أو ممثلاً مغمورًا أفنى حياته على المسرح دون أن يحظى بالجماهيرية لن يجد رصيدًا من الأعمال المعروفة عند الجمهور يُحيلُه إليه من الأساس.

     وهناك عاملٌ آخَر شديد الأهمية ويرتبط بعامل الشهرة، هو حضور الكاميرا وإمكانية تسجيل العرض. بإمكاننا أن نتخيل مئات المرّات التي صعد فيها ممثلو (الواد سيد الشغال) خشبة المسرح ولم يُشِر فيها (عادل إمام) إلى دور (عمر الحريري) في (ألف ليلة وليلة)، لكنّ حضور الكاميرا مرّةً واحدةً فقط كفيلٌ بإغرائه بهذا الكسر.

     ما يحدث في كسر الحائط الخامس أشبه بأن يكون معادلاً موضوعيًّا من ناحية الممثِّل لنشر الأعمال الكاملة لمؤلّفٍ مسرحي. الممثل في هذا الكسر (يَنشُر) بالفعل سِجِلَّ أعماله السابقة أمام المتلقِّين داعيًا إياهم بشكلٍ غير مباشرٍ إلى إجلال مشواره الفنّي وتقدير ظهوره أمامهم.

    يمكننا أن نرى في هذا (الكَسر) شكلاً من أشكال انتقام محترفي التمثيل لأسلافهم الممثلين الذين جسَّدوا آلاف الأدوار على المسرح منذ (إسخيلوس) و(سوفوكليس) و(يوريبيديس) و(أريستوفانس) اليونانيين إلى ما قبل اختراع التصوير السينمائي وتصوير الفيديو! هؤلاء الأسلاف هم من أعطَوا النصوص المسرحية لحمَها الحقيقيّ الذي شاهدها به جمهور العصور الغابرة، دون أن يكون لهم نصيبٌ من المجد الاستثنائيّ الذي حظِيَ به كتّابُ الدراما، فمجدهم في الحقيقة انتهى بموتهم، ولم يبقَ منهم إلا القليل من الحكايات المتناثرة هنا وهناك في سطور المؤرّخين.

     أمّا وحوش التمثيل (الكاسِرَة) التي ظهرت مع مقدَم تصوير السينما والفيديو، فلها أن تُخَلِّد اسمَها بكل الطرُق أمام الكاميرا، ولا يمكن في الواقع الحَجر على هذه الطرُق.

     بالطبع يمثّل هذا قيمةً سلبيةً لدى قامةٍ من قامات النقد المسرحي كالراحل الكبير (فاروق عبد القادر)، تنضافُ إلى تهافُت النصوص وسطحيتها المحرضة على الخروج عليها في الأداء في وجهة نظره، لكنّ هذا لا يغيّر من الواقع شيئا. نحن أمام مسرح (الممثل) في مواجهة مسرح (المؤلِّف). في الحقيقة لا يتبني كاتبُ هذا المقال رأيَ (فاروق عبد القادر) بصورةٍ تامّةٍ ولا يرى تلازمًا محتومًا بين مسرح (الممثل) والانهيار، بقدر ما يعنيه رصد الظاهرة ومحاولة فهمها على الوجهِ السالفِ بيانُه.

      ختامًا، نتذكّر رأيًا عابرًا للشاعر والمسرحي الكبير الراحل (صلاح عبد الصبور)، أورده في مقدمةٍ لمسرحياته الشِّعرية، حيثُ يُبدي أسفَه على خسارة المؤلف المسرحي المعاصر دورَ المُخرِج لنصوصه على خشبة المسرح. في تقديرنا أنّه ربما ليعود المؤلفُ المسرحي (وكاتب السيناريو بالتبعية) إلى مكانة ما قبل الكاميرا، فعليه أن يتجاوز طموح (صلاح عبد الصبور) في الإخراج إلى الظهور في لحم الدراما كممثل. منذ أكثر من أربعة قرونٍ، لم يكن لـ(شيكسبير) أن يحلم بكل هذا المجد لو كان قد بقيَ مجردَ ممثلٍ في فرقةٍ مسرحية، حتى لو كان أعظم ممثلٍ في عصره. أمّا لو عاد (شيكسبير) إلى الحياة بعد الكاميرا، فربما لم يكن ليجد نفسه مضطرًّا لكتابة حرفٍ واحدٍ مادامَ ممثلاً جذّابًا تلاحقُه العدسات!

محمد سالم عبادة

24 يناير 2018

نُشِر هذا المقال على موقع (منشور) في 29 يناير 2018 

رابط المقال:

https://manshoor.com/art/breaking-fifth-wall-acting/        

      

زمن القلش! - هل هو عُطلٌ في ماكينة الكلام؟!

$
0
0

 https://www.youtube.com/watch?v=H5I_DNMtknI

     ربّما ليست هذه أقدم قلشة في تاريخ السينما المصرية كما يقول عنوان المقطَع على يوتيوب. لكنّها على كلّ حالٍ تصلح مقدمةً لهذا المقال بشكلٍ اعتباطيٍّ تمامًا.

     في كتابه العلامة (الضحك: البحث في دلالة المُضحِك Le Rire. Essai sur la signification du comique) يَخلُص الفيلسوف (هنري برجسون) إلى أنَّ تحوُّلَ الحياة إلى نظامٍ آليٍّ هو أصل الإضحاك في كل أنواعِه ومهما تعددت طرائقُه ومواقفُه. ما يحدُث في مقطع الفيديو السابق هو أن (محمد رضا) يُحوِّل مجرى الكلام اتّكاءً على تشابُه كلمتين هما (دهب) بمعنى الذهب (المعدن النفيس) و(ذهب) الفعل الماضي. الطبيعيّ أن يتصفَ الكلامُ بالحيوية والانسياب التلقائي تبعًا للموقف، وهو ما يحدث في المشهد حتى تقول نيللي الجملة الأخيرة، ثُمّ نكتشف مع جملة "دهب مع الرِّيح"لمحمد رضا أنّ هناك آليّةً كامنةً في الكلام كانت تنتظر من يَكشف عنها. هذه الآليّة تعبّر عن نفسها من خلال فقدان الكلام لوظيفته الاتصالية وكأنَّ (آلةَ) الكلام – لا الكائن الحي المسمَّى (كلامًا) – تعطَّلت في هذه اللحظة!

     هكذا تتحدد طبيعة القلش! عُطلٌ يَحدُث في ماكينة الكلام يلفِت انتباهَنا إلى أنها ماكينةٌ وليستَ كائنًا حَيًّا كما ظننّاه. وبهذا يصبح القلش نوعًا شديد الخصوصية من النكتة. فالنكتة المعتادة تستخدم الكلام كوسيط لنقل مشهد – يمكن أن ينقُلَه المسرح أو السينما أو غيرُهما من الوسائط – ينبُع فيه الإضحاك من آليّةٍ نكتشفُها في تيار الحياة عبر موقفٍ محدّد (مثل موقف: الغبي اللي دخل امتحان فطلع التاني، حيث ينكسر المنطِق وتتعطل طبيعة الأمور في تآمُر غريب لإثبات غباء بطل النكتة). أمّا في القلشة فلا يوجدُ مشهدٌ يُحاول القلاّش أن يستحضرَه أمام خيالِنا، وبهذا يصبح الكلامُ مادةَ القلشة ولحمتَها وسداها، لا مجرّد وسيطٍ لنقل موقفٍ متخَيَّل.

     ولهذا قد تطول النكتة وقد تقصُر حسب الموقف المتخَيَّل فيها، أمّا القلشة فالطبيعيُّ أن تكون شديدة القِصَر، حيث العُطل يحدث في وظيفة الكلمة الواحدة داخل الجُملة. بالطبع يوجد شكلٌ هجينٌ من مادّة الإضحاك يجمع النكتة التقليدية مع القلشة، مثل النكتة القديمة البايخة "مرّة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاي"، وفي الغالب تميل مثل هذه النُّكَت إلى القِصَر الشديد ولا تتمتع بقوّة الإضحاك التلقائيّة التي يتمتع بها القلش. ويَلحَق بهذه الموادّ الهجينة نمَط خاصّ من النُّكَت المُحَمَّلة بالتساؤلات اللُّغَوِيّة، مثل النكت التي ظهرَت في تسعينيات القرن العشرين بين شباب الجامعة في مصر، ومنها:

"– شايف الـsubstitutionاللي واقفة في البلكونة؟!

  - يعني إيه بلكونة؟!".

     عودًا إلى برجسون، يقترحُ كتابُه المُشارُ إليه في بداية المقال دورًا أخلاقيًّا للضحِك، ففي تلقِّي مسرحيةٍ كوميديةٍ كـ(البخيل) لموليير مثلاً، نضحك من فُقدان (آرپاجون) بطل المسرحية مُرونةَ الحياة وتحوُّلِه ضمنيًّا إلى آلةٍ مهمتُها الحفاظ على المال بكل الطرُق، وفي هذا الضحك عقابٌ افتراضيٌّ لخصلة البُخل، وبهذا يصبح الضحكُ وسيلةَ المجتمع للحفاظ على حيويته ككُلٍّ وحيوية أفرادِه.

     إذا قفزنا من هذا الاقتراح إلى طبيعة القلش كما بَسَطناها منذ قليلٍ، فسنشعر بالحيرة أمام ظاهرة الضحك من القلش. القلاّش يقف على الكلمات ويجرّدها من مرونتِها بمحض إرادته ليُضحِكَنا، فأيُّ عقابٍ في الضحك هنا؟ وما مردودُ الضحكِ في إعادة الحيوية إلى الكلمات؟!

     ينقذُنا من مأزق هذا السؤال فيلسوفٌ آخَر هو (سارتر)!  

     في كتابه (ما الأدب؟ Qu'est-ce que la littérature?) يَبسُط (سارتر) عقيدتَه بخصوص الفَرق بين الأنواع الأدبية السردية (من رواية وقصّة ومسرح) من ناحيةٍ، والشِّعر من ناحيةٍ أخرى. عنده أنّ السَّردَ بالضرورة مُلتَزِمٌ ووثيقُ الصِّلة بالسياقاتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ والتاريخيةِ لكاتبِه، وبالتالي فهو (دالٌّ على شيء)، بينما في الشِّعر – كما في الفن التشكيلي والموسيقى الخالصة – يصبح العملُ نفسُه هو (الشيء) محلّ التأمُّلِ والتأويلِ الجماليّ. ويصف (سارتر) الشاعرَ بأنه يعيش خارج اللغة، ولا يستخدمُها بالطرُق التي اصطلح الآخَرون على استخدامها بها، وإنما ينتزعُ المفردات من سياقِها المتعارَفِ عليه ليُبدِعَ لها سياقاتٍ بديلةً جديدةً، وهو بهذا (يَخدُم) اللغةَ في مقابل الروائي الذي (يستخدمُها). وفي هذه العقيدة الفلسفية نجد عند (سارتر) أصداء من الفيلسوف المثالي الإيطالي (بندتّو كروتشه) الذي اعتقدَ أنَّ الشِّعر أسبَق في الوجود من النثر، على اعتبار أنّ النشاط الإنساني الأول في إطلاق أسماء جديدةٍ على الموجودات أدخَلُ في الشِّعر منه في النثر.

     صحيحٌ أنَّ هذه النقطةَ عند (سارتر) انتُقِدَت كثيرًا على اعتبار أنَّ المثال الشِّعريَّ الذي تأمَّلَه  ليَخرُجَ بهذه التعميمات كان شِعرَ الرمزيين الفرنسيين من (فيرلان) إلى (فاليري) خاصةً، وهم المشهورون بانتزاع المفردات من سياقاتها اللغوية المعتادة، إلاّ أنَّ للتعميم وجاهتَه رغم ذلك، فحتى في أكثر النصوص الشِّعرية تماسُكًا من ناحيةِ المَشهدية تظلُّ مقاومةُ الشاعر لإغراء الإخلاص لجمال اللغة المحض أضعفَ من مقاومة الروائي والكاتب المسرحي!

     الشاهدُ مِن تأمُّلِ هذه التفرقة بين الشعر والسرد عند (سارتر) أنَّ ما يحدث في القلش أقرب ما يكون إلى ما يحدث في الشِّعر! حين يرُدّ (محمد رضا) على (نيللي) في مقطع الفيديو قائلاً "دهب مع الريح"، لا يَنصُبُ أمامَ عينِ خيالِنا مشهدًا بعينِه، وإنما يُخلِص لِلُّغَة في ذاتِها ويُخَلِّصُها من حالة الوسيطيّة لتُصبحَ هدفَه الوحيد. لا يعود هناك شكلٌ ومضمونٌ لمادة الإضحاك، فالشكل هو المضمون، تمامًا كما في الموسيقى الخالصة، وفي الشِّعر كذلك عند (سارتر) ومَن قال برأيِه!

 

     بعيدًا عن هذا التأمُّل الفلسفي لظاهرة القلش، لن نخسر شيئًا إذا راجَعنا مادة (قلش) في (لسان العرب)، لنجد أنّ المفردةَ الوحيدةَ المتولِّدةَ من هذه المادة هناك هي (أَقلَش)، ويعرِّفُها ابنُ منظور صاحب اللسان بأنها "اسمٌ أعجميٌّ وهو دخيلٌ، لأنه ليس في كلام العرب شِينٌ بعد لامٍ في كلمةٍ عربيةٍ مَحضة، إنما الشيناتُ كلُّها في كلامهم قبل اللامات". أمّا في قاموس المعاني فنجد في تعريف كلمة (قَلاّش): "اسم علَمٍ تُركِيٌّ معناه الداهية المحتال، وورد كذلك في اللغتين الفارسية والكُردية بمعنى التافه، العاطل المحتال".

     شخصيًّا، لا أعرفُ إن كانت مفردة القلش - قبل أن تكتسب في السنوات الأخيرة معناها الذي ندور حولَه في هذا المقال – كانت تُتَداوَل بعيدًا عن التعليق على مباريات كرة القدَم، حيث اللاعب (يقلش) الكرة إذا خرجت من ركلتِه في غير الاتجاه الذي أرادَها فيه. اصطدمتُ بالمعنى الجديد للمرّة الأولى في لقاءٍ مع صديقٍ – ربما بعد 25 يناير – وصفَ ما أفعلُه بتلقائيّةٍ بأنه (قلش)، واستخدم جملة "انت قلاّش؟ ويتحب تاكل جُلاّش؟"لأعرفَ فيما بعد أن (أحمد مكي) قالها في فيلم (طير انت).

     المهم أنّ هذا الاستخدام الجديد للمفردة، والذي يَستَحضِرُ دائمًا مَشهدَ اللاعبِ الذي يَركَلُ الكُرةَ فلا تطاوعُ إرادتَه، يوقعُنا في مفارقةٍ دالّةٍ، مفادُها أنَّ الفِعل الحافلَ بالقصديّةِ المتمثّلَ في انتزاع الكلمات مِن سياقِها الطبيعي وإفقادِها مرونتَها، يوصَفُ بمفردةٍ ترتبطُ في خيالِنا باللاقصدية والاعتباط (في عصيان الكرة لقدم اللاعب)! هل هي بالفعل مفارقةٌ دالّة؟! ربما نعودُ إلى دلالتِها بعد قليل!

     قفزًا إلى ما قبل ظهور هذا المعنى مباشرةً، نجد أنّ (القفشة) كانت هي المفردة الدالّة على سرعة البديهة وخِفّة الدَّم لعقودٍ طويلةٍ عند المصريين خاصة. فكثيرون يتحدثون عن قفشات أم كلثوم وقفشات كثير من المشاهير. والقفشُ في (لسان العرب) يُطلَقُ على النكاح والأكل في شِدَّةٍ كما يُطلَق على الجَمع، والأقرب للمعنى المقصود هنا هو الجَمعُ أو الاصطياد، فالقفشَجي – كما اعتاد المصريون تسميتَه – هو ذلك الذي يصطاد التفاصيل التي يغفل عنها الآخَرون وينسج حولَها نكتةً تُحيلُ المستمعين إلى موقفٍ مضحكٍ متخَيَّل، ونتمسّك بهذا التعريف حتى ولو خلَطَ بعضُ الناس بين القفشة والقلشة كما في الرابط التالي!

http://www.arablite.com/2017/11/02/%D9%82%D9%84%D8%B4-%D8%A3%D9%85-%D9%83%D9%84%D8%AB%D9%88%D9%85-%D9%87%D9%84-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D9%82%D9%81%D8%B4%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA-%D8%A8%D8%AA%D8%B6%D8%AD%D9%83-%D9%81/

     نقطتان بخصوص القفشة مهمّتان هنا: الأولى أنّها تَستخدِمُ اللغةَ كوسيطٍ لاستحضار مضمونٍ مشهديٍّ متخَيَّل، لا كما في القلشة، والثانية أنّ الأسلافَ سمَّوا من اشتُهِر بهذا الفعل: (قفشَجي)! المقطع (جي) له ظروفه التاريخية لأنه يدلّ على النسَبِ للحِرفةِ في اللغة التركية التي تأثرت بها العاميةُ المصريةُ وكثيرٌ من العامّيّات العربية لظروفِ وقوعِ كثيرٍ مِن الأقطار العربية تحت الحكم العثماني. وهو بهذا يَفتَرِضُ أنّ (القفشجي) يَمتَهِنُ (القفشَ)، فكأنه يتكسّبُ به، والشاهدُ هو القصديّة الّتي توحي بها التسمية.

     أمّا (القلاّش) فهي مجرد صيغة مبالغة من (قَلَشَ) – ذلك الفعل المستحدَث – لا تفترضُ في ذاتِها قصديّةً من أي نوع، فربما يكون هذا القلاّش مريضًا ولا يستطيعُ فكاكًا من دافعٍ مبهَمٍ لديه يحثُّه على مواصلة القلش!

     نعودُ هنا إلى المفارقة التي أرجَأنا الحديثَ عنها منذ قليل. هنا ترتبط استعارةُ مفردةِ (القلش) من ملاعب كرة القدم (حيثُ تعصي الكرةُ قَصْدَ اللاعب)، بالتواطؤ المجتمعي على اختيار صيغة المبالغة – المحايدة بخصوص القصدية أو عدمِها – لتسمية فاعل القلش، فلم نجد كثيرين يسمُّونَه (قلشَجي) مثلاً على غرار (قفشَجي)!

     لا أحبُّ أن أبدُو قافزًا من مقدماتٍ بسيطة إلى نتائجَ هائلةٍ غيرٍ مناسبةٍ للمَقام، لكن يبدو لي أنَّ لهذا التآمُر اللاواعي على إظهار هذا الفعلِ - الحافلِ بالقصديّة والمُدَمِّرِ للُّغة كوسيطٍ للتواصُل من أجل الإضحاك – بمظهر الفعل العبثي اللاإرادي، علاقةً وثيقةً بتزايُد إحساس مجتمعاتِنا بالعبثية. ربما تكون العبثية سياسيّةً ومجتمعيّةً عند الغالبية العظمى من الناس، وربما تكون عبثيةً كونيةً عند قِلَّةٍ منهم، إلاّ أنها هناك حاضرةٌ بالتأكيد!

     ختامًا، أزعُم أنّ ظاهرةَ تفشّي تعاطي القلش في المجتمَع تؤهِّل القلش كظاهرةٍ جَماليّةٍ لدخول حلبة المنافسة مع الرواية والدراما في الجدَل النقدي العربي الذي أدارَه أستاذنا د.جابر عصفور بمقولته (زمن الرواية) وأستاذنا د.حسن عطيّة بمقولته المضادة (بل هو زمن الدراما). فالقلش مِن ناحيةٍ ليس بعيدًا عن الشِّعر إذا تأمَّلناه تأملاً فلسفيًّا كما فعلنا استنادًا إلى رؤية كلٍّ من (كروتشه) و(سارتر)، وهو من ناحيةٍ أخرى أكثر ارتباطًا من الروايةِ والدراما والشِّعرِ نفسِه بواقع الحياةِ لأنّه يُولَدُ لحظيًّا وتلقائيًّا في أكثر الحوارات يوميّةً وعاديّةً، وهو أخيرًا لا يعدو كونَه فَنًّا بما فيه من الموهبةِ القابلةِ للتدريب والصَّقل والعمَل وبقدرتِه المشهودةِ على الإضحاكِ كالكوميديا الدرامية وربما أكثر في بعض المواقف. ربما هو أقرب إلى الفنونِ الزائلةِ الآنَ كالجرافيتي، لكن مَن يدري؟ ألا يمكن أن نجد مشروعًا اليوم أو غدًا لجمع قلشاتٍ أضحكَت الناس كثيرًا في كتاب؟ أنثولوچيا لأهمّ القلاّشين في مصر مثلاً؟! مَن يدري؟! ربما تتكرّس قريبًا مقولةُ (زمن القلش) بشكلٍ رسميّ!

 

محمد سالم عبادة

14 مارس 2018

نُشِر على موقع (منشور) في 21 مارس 2018

https://manshoor.com/life/comedy-pun-egypt/

 

       

سقوط دولة الفوازير: فكرة من فلسفة الدِّين!

$
0
0

 

* بماذا تُخبرُنا اللغة؟!:

     تُخبرُنا الجولة السريعة في معاجم اللغة العربية بأنّ الجذر اللغوي (فَزَرَ) –وهو جذر كلمةِ فازورة (أو فَزُّورة) بمعني لُغزٍ أو أُحجِيَة- يرتبط دائمًا بالكَسر أو الشَّقّ، ما يَفترض أنّ المتلقّي حين يهُمّ بحَلّ الفازورة إنما يَكسِرُ قشرتَها وصولاً إلى المعنى. وبتطبيقِ مبدأ الاشتقاق الكبير الذي أخذَه فيلسوفُ اللغة العربية (أبو الفتح عثمانُ بنُ جِنّي) عن أستاذِه (أبي عليٍّ الفارسيِّ) وطوَّرَه ونماه في كتابه العُمدة (الخصائص)، يمكننا أن نضع أيديَنا على علاقاتٍ وفيرةٍ بين الكلمات المبنية بهذه الحروف الثلاثة (الفاء والزاي والراء)، فكلمة (فَرَزَ) مثلاً تحملُ معنى تمييز المجموعات الجزئية عن بعضِها البعض، وصولاً إلى (الفِرْز) بمعنى القطعة. وكلُّ (فَزرٍ) أو كسرٍ يَنتُجُ عنه مجموعةٌ من القِطَع أو (الفُرُوز)، فكأنَّ الفِعلَين (فَزَرَ) و(فَرَز) متّصلان برابطٍ خفيٍّ لا يصعُبُ أن نكشفَ عنه. وقُل مثلَ ذلك في الجذر (زَرَفَ) بمعنى اقتربَ مُسرِعًا، فهو يتجاوبُ مع فكرة الإنجاز الموجودة في كُلٍّ من (فَزَرَ) و(فَرَز)، وكذلك (زَفَرَ) بمعنى (أخَرَجَ نَفَسَه)، فكأنَّ الإنسانَ حين يَزفِرُ يكسِرُ كيانَه الذي يبدو متماسكًا لِيُخرِجَ معنى حياتِه ملخَّصًا في النفَس، أو هو (يَفرِزُ) هذا النَّفَسَ الذي (يَزفِرُه) كما يَفرِزُ العَرَق. وهكذا تتجاوب معاني التباديل والتوافيق الصادرة عن مجموعة هذه الحروف الثلاثة، وهذا هو جوهر نظرية الاشتقاق الكبير لابنِ جِنِّي!

     هل ابتعدنا كثيرًا عن موضوع الفوازير؟!

* حلاوة الرُّوح:

     في فوازير (ماونتن فيو) لرمضان 1439ه/ 2018م القائمة على النجمين ماجد الكدواني ودنيا سمير غانم، لا نصادف الكثير من الجهد التمثيلي من ناحية الكدواني ودنيا، فالممثلان المتمتعان بشعبيةٍ كبيرةٍ -والمشهود لهما بمقدرة أدائية محترمة وخفّة ظِلٍّ موفورة وحضورٍ آسِرٍ أمام الكاميرا- لا يُخرِجان من طاقتهما الإبداعية إلا أقلّ القليل. سيناريو الحلقات السبع الموغلة في القِصَر يتلخّص في أنّ الكدواني ودنيا يظهران في المقدمة بشخصيتِيهما الحقيقيتين، باعتبارهما ضيفين في مهرجان سينمائي إيطالي (ربما يكون مهرجان فينيسيا باعتباره الأشهر)، وتضطرُّهما الظروف لأن يستقلاّ موتوسيكل بكابينة للّحاق ببرنامج المهرجان، وتتلف فرامل الموتوسيكل فيتعرضان لحادث يُفقِدُهما الذاكرة، ويكتشفان في جيوبهما ميداليتي آي-سيتي I-Cityوهو أحد المشروعات العقارية لشركة ماونتن فيو، ومن خلال الحلقات السبع يُكشَف عن مزايا سبعٍ لهذا المشروع، والفزورة هي استخلاص المزايا من الحلقات. وجائزة الفزورة الواحدة إيصال بمائة ألف جنيه تُخصَم من إجمالي قيمة الوحدة السكنية حين يتعاقد الفائز على شرائها، وصولاً إلى الإيصال الأعظم بمليون جنيه، يُمَثل الجائزة الكبرى للفوازير. 

    ربما يمثل هذا الظهور الخاطف للفوازير وسط حمّى المسلسلات الرمضانية شيئًا أقربَ إلى حلاوة الرُّوح بالنسبة لتقليد فوازير رمضان الذي بدأ في الإذاعة المصرية مع آمال فهمي وسامية صادق عام 1960 لينتقل سريعًا إلى التليفزيون في العام التالي، ويشهد طفراتٍ متعاقبةً مع بطولات ثلاثي أضواء المسرح ثُمّ نيللي ثم فؤاد المهندس وسمير غانم وشريهان مرورًا بعبد المنعم مدبولي ويحيى الفخراني مع صابرين وهالة فؤاد وفوازير الكاريكاتير مع الإعلامية سوزان حسن، ووصولاً إلى نادين ونيللي كريم.

     مسألة سقوط دولة الفوازير تُناقَش في الإعلام المصري كلَّ عامٍ تقريبًا مع دخول رمضان، ويُرجِع كثيرون سبب هذا السقوط إلى عوامل بعينِها، ربما أكثرُها تردُّدًا في هذه المناقشات ارتفاعُ الميزانية المتوقَّعَة لإحياء هذا التقليد التليفزيوني الذي يعتمدُ على مزيجٍ من فنون الاستعراض والموسيقى والدراما وغيرِها، فضلاً عن نضوب مَعين المواهب الجبّارة التي قد تضارع موهبتَي نيللي وشريهان تحديدًا في جمع الغناء والأداء الحركي إلى التمثيل إلى خفّة الظِلّ، أو تضارع مواهب الشعراء والموسيقيين ومصممي الرقصات ومصممي الملابس والديكور والمخرجين وكتّاب السيناريو الذين صنعوا مجد دولة الفوازير من الستينيات إلى تسعينيات القرن الماضي.  

     بشكلٍ شخصيٍّ لا أرتاحُ لحصر الأسباب فيما سبق ذِكرُه. يوجد سببٌ آخَر بسيطٌ ومباشِرٌ قد ينساه المناقشون لهذا السقوط، هو بُطلان موضة الفوازير. لكن يبقى السؤالُ وراء هذا السبب الساذَج بدَورِه: لماذا بَطَلت موضة الفوازير؟!

*قفزةٌ إلى فلسفة الدين:

     ربما مِن أهمِّ إسهامات فيلسوف الأديان الروماني مِرتْشِيا إلياد Mircea Eliade (1907-1986) فِكرة تَجَلّي المُقَدَّس Hierophanyالتي تعني تلك الظُّهورات التي تنسبُها النصوصُ المقدسَة والأساطيرُ إلى الإله (أو الآلِهة) والملائكة والكائنات العُلوِيّة الغيبية، والتي تغزو فيها عالَمَنا/ عالَم الشهادة المُدَنَّس. وتتأسس الأديانُ إجمالاً على هذه الفكرة. وفي رأي (إلياد) فإنّ تجلّي المقدَّس هو الذي يؤسس العالَم وجوديًّا، فهو الذي يمنحه قيمةً وتوجُّهًا وغاية. يقول إلياد في كتابه (المُقَدَّس والمُدَنَّس The Sacred and The Profane) ما معناهُ إنّ العالَم المدنَّس للخبرة اللادينية على حالتِه النقيّة لا يمكن تقسيمُه إلا بشكلٍ هندسيٍّ حياديٍّ بارد، فبِنيَتُه الداخلية غير قادرة على خلق أيّ تمايُزٍ قِيمِيّ Qualitative Differentiation، ومِن ثَمَّ فهو لا يُعطي الإنسانَ أيَّ نموذجٍ سلوكيٍّ للاقتداء. ويُعضِّد إلياد هذه الفكرة بفكرة العَود الأبدي في الممارسة الدينية Eternal Return، والتي تختلف عن مفهوم العَود الأبدي الفلسفي (تكرار حدوث العالَم عددًا لانهائيًّا من المرّات)، فالعَود الأبدي الذي يقصده إلياد في فلسفتِه هو ذلك المُعتقَد لدى المؤمنين بدِينٍ ما، أنهم يصبحون قادرين على المشاركة في الأحداث الأصلية لتجلّي المُقَدَّس في دينِهم من خلال اتباعِ طقوسٍ معيَّنة.

     بالنسبة للحالة الإسلامية، يحتلُّ رمضان موقعًا مركزيًّا مهمًّا في مفهوم تجلّي المقدَّس، فالثابِتُ إسلاميًّا أنَّ الظهور الأول لمَلَك الوحي جبريل للنبي محمد –صلى الله عليه وسلَّم- كان في رمضان، وبالتحديد في ليلة القَدر. ولِذا يحتفل المسلمون بالشهر بطقوسٍ تطهُّريّةٍ أهمُّها الصوم والصلاة وقراءة القرآن والصدقة، ويتكثّف هذا السلوك الإسلاميُّ في العشر الأواخر من رمضان تحرِّيًا لذِكرى ليلة القَدر التي يُمنَحُ بركتَها من يُعينُه الله على أن يسمُو بسلوكِه إلى درجةٍ يرضاها (فهو بشكلٍ ما أو بآخر يصبح مشاركًا في الحدَث الأصلي لتلقّي الوحي القرآني، انطلاقًا من رأي إلياد). وفي الحقيقة، يصبح هذا الشهرُ المقدَّس إسلاميًّا قادرًا على إعطاء المعنى للزَّمَن نفسِه بهذا التمييز الذي يُحيط به في الموروث الإسلامي، فالسنة القمرية التي تشبه أيامُها بعضَها -ولا يميّز الإنسانُ منها وقتًا على غيرِه- تتوقف لمجيء رمضان، ويلتفت المسلم لحقيقة مرور الزَّمَن وانقضاء العُمر بالتالي، من خلال طقس الصوم بمراقبته ميعادَي الإمساك والفِطر يوميًّا، فضلاً عن ارتقاب بداية ونهاية الشهر، كما يتحدد له في رمضان النموذَجُ السلوكيّ المطلوبُ الاقتداءُ به على مدار الحياة.

* نعودُ إلى الفوازير!

     يبدو أنّ ارتباطَ الفوازير برمضان في مصر على الأقل أقدَم من ظهور الإذاعة والتليفزيون، فكما يحكي (إدوارد لين) في كتابه (المصريون المُحدَثُون)، كان أهلُ الريف يتحلّقون في رمضان حول الحكّائين ليسردوا حكاياتِهم مشفوعةً بالفوازير البسيطة. الفزورة باعتبارِها لغزًا تقليدٌ إنسانيٌّ بالطبع، متجاوزٌ لحدود الجغرافيا، لكننا مازلنا نلمس -مع ما نشهده من سقوط موضة الفوازير التليفزيونية هذه الأيام- بقاء هذا التقليد في أشكاله البسيطة في بعض الصحف والمجلاّت، فضلاً عن ممارستِه حتى في بعض مساجد القاهرة بعد صلاة التراويح! هل لهذا الارتباط علاقةٌ بالمقدمة المعجمية لمقالِنا، التي تكشفُ عن أنّ حل الفازورة هو التنقيبُ عن المعنى؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، فهل يُلقي هذا ضوءًا على مركزية رمضان في الممارسة الإسلامية باعتباره مانحًا المعنى للزَّمَن وبالتالي للعالَم كُلِّه؟

     في تقديري أن هذا الارتباط بين الفازورة ورمضان وتمحوُر الاثنين حول فكرة منح المعنى، كل هذا حاضرٌ في اللاوعي الجمعي Collective Unconsciousللجماعة المسلمة التي كرَّسَت تقليد الفوازير الرمضانية في هذه البقعة من العالَم، تمامًا كما تفترض نظرية الاشتقاق الكبير -التي ذَكَرنا طرَفًا منها في بداية المقال- حضورًا لذلك التراسُل بين معاني تباديل وتوافيق المادّة الصوتية الواحدة –أو الجذر اللُّغَوي- في اللاوعي الجمعي للجماعة العربية الأولى التي اصطلحَت على وضع اللغة.

     فلماذا إذن سقطت الفوازير؟ أو لِنَكُنْ أكثر تحديدًا: لماذا سقطت موضة الفوازير التليفزيونية باعتبارها نوعًا خاصًّا هجينًا من الفن التليفزيوني مميِّزًا لهذا الشهر؟

     يبدو لي أنّ تبنّي الإذاعة والتليفزيون لتقليد الفوازير الرمضانية منذ الستينيات كان ينطوي في داخلِه على عمليتين تبدُوان متناقضتين. أُولاهما هي علمنة الدِّين Secularization of Religionبمعنى تحويل المناسبة الدينية إلى مناسبة دنيوية مرتبطة بطقوس احتفالية معيَّنة، وهذه العملية هي الأوضَح لدى قطاعٍ عريضٍ من أثِمّة المساجد مثَلا. نلاحظ هذا في دأَبِهم القديم المتَّصِل إلى الآن على حَضّ المُصَلّين على اعتزال التليفزيون ومقاطعة برامجِه في رمضان. العملية الثانية التي لا ينتبهُ لها هذا القِطاع من المجتمع على الأقلّ هي عمليةٌ في الاتجاه المضاد، بمعنى تديين المجال الدنيوي، وانسحاب المعنى الذي يمنحُه رمضان للزَّمَن على برنامج التليفزيون، فما يَحدُث بالفعل هو أنّ نمطًا خاصًّا من الدراما والاستعراض وغير ذلك ممّا يكوِّن فنّ الفوازير يميّز برنامج التليفزيون في هذا الشهر.

     في ضوء هذه الرؤية، يبدو سقوط دولة الفوازير انكماشًا لذلك المعنى الذي يمنحُه رمضان للزمن لدى صانعي برنامج التليفزيون، وبمعنىً أدَقّ، يبدو الأمرُ تراجُعًا لسطوة الدِّين وهيمنتِه على تفكير المشتغلين بالفنّ. ما حدث في العِقد الأخير مواكِبًا لانفجار عدد قنوات التليفزيون الفضائية هو انفجارٌ مماثِلٌ في عدد المسلسلات التي تخصص عرضَها الأول لشهر رمضان، في مقابل انكماشٍ واضحٍ للفوازير. صحيحٌ أن فكرة تخصيص العرض الأول لرمضان تُعَدُّ بِدَورِها شكلاً من أشكال تديين الفنّ أو المجال الدنيوي، لكن بالتأكيد بدرجةٍ أقلّ من تخصيص فنِّ بعينِه لهذا الشهر لا يُعرَضُ إلاّ خِلالَه. نستطيعُ أن نعبِّرَ في أمانٍ عن هذه العملية باعتبارِها ازديادًا في عَلمنة رمضان في مقابلِ الانكماش في تديين الفنّ.

     ربما نلمسُ شواهِدَ أخرى على هذه العلمنة في انكماش نسبة المسلسلات المصرية المهتمّة بتاريخ العُصور الإسلامية السابقة ممّا يُشارُ إليه بالمسلسلات الدينية. كذلك فإنّ حلاوة الرُّوح التي أشَرنا إليها سابقًا في حديثِنا عن فوازير ماونتن فيو لهذا العام، هي في الحقيقة فوازير تستهدفُ شريحةً عُليا مميَّزَةً في المجتمع، فمن نافلة القول أنّ المهتمّين بحلّ هذه الفوازير هم من يملكون ثمن شراء الوحدات السكنية الممتازة لمشروعات ماونتن فيو ويرغبون في الاستفادة من الخصم الذي تقدمه الفوازير. هذا في مقابل تراث الفوازير الرمضانية الطويل الموجَّه لكل قطاعات المجتمع دون تفرقةٍ في أغلب الأحيان. يمثل هذا بدوره شكلاً صُلبًا من الرأسمالية لا يهتمُّ كثيرًا بمفاهيم الخير والصدقَة والتكافل التي كانت ترتبط قديمًا بتقليد الفوازير التليفزيونية والإذاعية.

     ختامًا، يبدو أنّ سقوط فنِّ مهتمٍّ بفكرة الكشف عن المعنى كالفوازير يمثّل اتجاهًا عامًّا في المجتمع إلى فقدان الثِّقة في حقيقة وجود المعنى. ورجوعًا إلى فلسفة إلياد، يجسّد هذا بدوره انكماشًا يائسًا لسطوة الدِّين بصفتِه مانِحَ المعنى لفضاءات الزمان والمكان للموجود البشري. هي درجةٌ قاسيةٌ من العلمنة، التي يعتبرُها فلاسفةٌ متباينون في مواقفهم إزاء دور الدِّين في المجتمع -مثل ماركس من ناحيةٍ وماكس فيبر من ناحيةٍ مضادة- عمليةً تسير في اتجاهٍ واحد: العلمنة ثم مزيد من العلمنة، وهكذا إلى النهاية.

 ........................

محمد سالم عبادة

16/6/2018

...................

نُشِرَ في موقع (منشور) في 2 أغسطس 2018.

https://manshoor.com/art/end-of-tv-fawazeer-era/ 

Viewing all 94 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>