Quantcast
Channel: Mohamed Salem Obada
Viewing all 94 articles
Browse latest View live

مسوَّدة لقراءة في التجربة الشعرية لغادة خليفة - (تقفز من سحابةٍ لأخرى - تسكب جمالها دون طائل)

$
0
0


- ملاحظة أنّ رسم الأحرف النهائية للكلمات الأخيرة في الفقراتِ أو في القصائد يحتفظُ عمدًا بالتشكيل كما لو كانت الفقراتُ لم تنتهِ أو أنَّ القصائدَ لم تنتهِ بالفعلِ، وينطبق هذا على ما تفعلُهُ (غادة) أثناء الإلقاء في كثيرٍ من الأحيان .. وهي حالةٌ قرآنيةٌ بشكلٍ ما ، حيثُ يُفترضُ في قراءة القرآن أنَّ القارئَ لن يتوقفَ عن القراءة ، وحين سينتهي سيبدأُ في حلزونيةٍ يعبرُ عنها الحديث: "اقرأ وارتقِ ورتِّل، فإنَّ منزلتَكَ عند آخرِ آيةٍ تقرأُها."الحالُ هكذا مع (غادة) ، فاسترسالُ التشكيلِ في كثيرٍ من المواضعِ يفترضُ نهمًا أبديًّا للمزيدِ من التجربة .. ببساطة ، (غادة) تبتلعُ اللحظات بشكلٍ مستمرٍّ وتكادُ تُنهي نصوصَها مرغمةً ، لأنها في حالةِ صعودٍ مستمرٍّ نحوَ أفقٍ غير محدّد .. توجد قراءةٌ أخرى محتملة لهذا الأمر وهو أنَّ مسألة التسكين المرتبطة بالرّوِيّ بشكلٍ ما أو بآخَر ، تمثّل في وعي (غادة) أو لا وعيها – اللهُ أعلم – ارتكانًا إلى موروث الرّوِيّ المرتبط بسلطة العمود والقالَب التقليدي ، فهي تحافظُ على حال الاضطرابِ والثورة حتى آخر حرفٍ في التجربة .. بمعنى أنّها تمضي مع فرضية (النثرِ) إلى آخرِها ..

- قصيدتُها (نسيانٌ متعمَّد) التي تلخص – في رأيي – رؤيةَ (غادة) لذاتِها .. احتفاؤها بالحالة الطفولية التلقائية في النصف الأول من القصيدة قبل أن (تسقُطَ) ، ثم يخنقها البكاء ، ثم تتناسى هذه الخبرة الفرِحَة بأن تغسل وجهها وتغرقه في المساحيق ، ربما يعني أنّها تشفق من مستقبلٍ ستُضطَرُّ فيه إلى أن تكونَ أقلَّ تلقائيةً مما هي عليه .. ليس اعتباطًا أنَّ هذه القصيدةَ وحدَها تذكرني باثنتَين من أجمل قصص الأطفال وأقربِها إلى قلبي .. (ثلاث ريشاتٍ) ، و(الأرنبُ الحكيم) .. في الأولى تكونَت لديَّ بداياتُ إدراكٍ لكُنهِ الأنوثةِ ، حيثُ تسيرُ البطلةُ الطفلةُ في طريقٍ جميل ، ثم تهبُّ الريحُ فتُطيرُ قبعتَها كما تُطيرُ فستانَها إلى أعلى ، فتتركُ القبعةَ ذات الريشاتِ الثلاثِ لتطير ، بينما تمسكُ بفستانِها لتكبَحَ حركتَه التلقائية .. أذكرُ أني سألتُ أبي وأنا بعدُ لم أتجاوز الخامسة .. لماذا لم تفعل العكس .. وكان ردُّهُ بسيطًا ومتوقَّعًا جدّا!
  في القصة الثانية، يقنعُ الأرنبُ شعبَ الفِيَلَة بأنّ القمرَ غاضبٌ لأنهم شربوا من بحيرتِهِ وأثاروا صورتَه المنعكسةَ على سطحِها .. (الأرنبُ داخلَ القمرِ يبتسمُ لها) .. حالةُ الحكمة والرضا المُدَّخَرَةُ في البعيدِ الذي لا يُطال .. تعبيرٌ آخَرُ عن الاحتفاءِ بالطفولة .. (غادة) ..

-  ملاحظةُ أنّ النصوص ذات المعمار الواضح في الديوان الأول أكثرُ منها في الديوانِ الثاني .. قصيدةٌ مثل (نسيانٌ متعمَّد) وأخرى كـ(غير ملومين) في الأول من أفضل الأمثلة على هذا المعمار المتماسك .. ولا يكاد يكون بين نصوص الديوان الثاني إلا بضع قصائد ذا المعمار .. ليس في الأمر حكمٌ قيميٌّ من جانبي .. أنا فقط أسجلُ الملاحظةَ وأحاول أن أستكنهَ ما وراءَها .. ربَّما هو هروبٌ من الوعي في الديوان الأول إلى اللاوعي في الثاني ، وهو ما كنتُ نوهتُ به في مداخلتي المتواضعة أثناءَ المناقشةِ الأولى لهذا الديوان ، حيثُ أعربتُ عن تصوري أن (غادة) تعتمدُ تقنيةَ التداعي الحر في الكتابة بشكلٍ أساسيٍّ، ربما لتهرب من سلطة وعيها بالفعل .. وأرى أنَّ هذا يتَّسِقُ مع عنوانَي الديوانَين .. فالأولُ رغمَ أنه مقتطعٌ من قصيدةٍ واضحةٍ مفزعةٍ تتنبّأُ فيها (غادة) بمصيرِها وتُبدعُ الـEschatologyالخاصّ بها ، إلا أنه يكرّسُ حالةَ البهجةِ والحضور التي تحكم النصف الأول من القصيدة (تقفزُ من سحابةٍ لأخرى) .. حتى العنوانُ يذكرني بلعبةٍ أخرى لكنها لعبة (أتاري) هذه المرّة ..!
أمّا العنوانُ الثاني (تسكبُ جمالَها دونَ طائل) ، فيكرّسُ حالةً من اليأس والاعترافِ بالفشل وبالعبث ..
تجرُّني هذه المسألة إلى موضوعِ التراتب الزمني لإصداراتِ المبدع ووعيه بعلاقة إصداراتِهِ ببعضها ، كما أنَّ له علاقةً بعلاقة العنوان بالنّصّ وأسبقية أيٍّ منهما على الآخر .. أتصوّرُ أن إدراك (غادة) لهذه العلاقة بين ديوانَيها جاءَ ربما بعد أن أنجزَت الثاني بالفعل .. لكن ، ماذا لو أنَّ مبدعًا ما كان لدَيه مخطَّطٌ لإصداراته وموضوعاتِها قبل حتى أن يشرَعَ في كتابتِها؟!
هل هذا الوعي القبليُّ (وهو وعيٌ بالذاتِ بشكلٍ ما) يبعِدُ الكاتبَ من دائرةِ الإبداعِ بدَعوى أن الفنَّ تلقائيٌّ إلى أبعد الحدود؟ أنا أعني تحديدًا حالة (كريم الصياد) .. وبالمثل ، هل اختيارُ العنوان قبل كتابة النص يخرج الكاتب من هذه الدائرة بدعوى أنه يحجرُ على أفكاره مقدَّمًا؟ شخصيًّا لا أرى ذلك ..
(ليس لديّ حكمٌ قيميٌّ جاهزٌ أيضًا فيما يتصل بأفضلية أيٍّ من الكتابة الواعية وغير الواعية .. أراهما في النهاية خيطَين ينضفران بشكلٍ محتومٍ في كل كتابةٍ ، ويكاد يكون من المستحيلِ أن نقطع بسطوة أحدهما على الآخَر خارجَ النص .. فرويد كرّس (اللاوعي) وقلب التراتبَ الأفلاطونيَّ حين بسطَ هيمنتَه على الوعي ، كما فعل (نيتشه) في تصوره عن أسبقية (الصيرورةِ) على الوجود .. ثم جاء (دَريدا) لينسِفَ الأسبقيات ويكرّس سيولةً شاملة !)

- في قصيدتها (نبوءةٌ لن تتحقق) أو (فيرونيكا تقرر أن تعيش): أنا لم أقرأ رواية (پاولو) .. لكن (غادة) بهذا العنوان تسفِّهُ مسعى القصيدةِ بنفسها .. (سيتركونها تعيشُ بجنونها)، لكنَّ هذا ببساطةٍ لن يحدث .. إنها حالةٌ تشبهُ (صورة دوريان غراي) الكتابَ المقدِّسَ للفنِّ ، الذي يسفِّهُ الفنَّ وينسفهُ من جذوره في ذات الآن ..
- في قصيدتها (مرآة) .. تُكَذّبُ (غادة) أصلََ الإهداء في الديوان الأول: "إلى كلِّ من علّمني أن أتكئَ على ذاتي .. وأن أحترمَ طريقتي في فهمِ العالَم". السؤالُ هو: ألا تحتاجُ التجربةُ الصوفيةُ إلى ضبطٍ ما؟ السؤالُ مطروح ..
- خطوةٌ للخلف .. قصيدة (ثبات) .. لا يمكن وصفُ كتابةِ (غادة) بأنها نسوية .. القصيدة تحتفي بالرجل العنكبوت! الرجلُ الذي يمارسُ رجولتَه طيلةَ الوقت بينما الفريسةُ مستكينةٌ (ثابتةٌ) تنتظرٌ أن يجدلَ خيوطَهُ حولَها ويُتِمَّ صيدَها .. لا تريدُ (غادة) ثورةً في الحقيقةِ على ما هو كائنٌ ، بقدر ما تفضَحُ الحالةَ الرّاهنة .. تعرّيها أمام العِيان لكنّها تظلُّ أسيرتَها ..
Ghada is not a feminist!
ويتأكد هذا في نصِّها (عنوسة) الذي تحاول فيه أن تقتنص قدرًا من الحرية دون أن تقلِبَ الوضعَ القائم أيضا ..
- (وهمٌ دافئٌ) .. دعيني أكونُ جزئيًّا كما كان يحلو لأسلافنا من القراء!! صورةٌ بارعةٌ بكلِّ المقاييس (ماذا تفعلُ لامرأةٍ تنسجُ ثوبَ زفافٍ من خيطٍ وحيدٍ يتدلى من كُمِّ قميصِك؟) في مقابل تعبيرٍ لا أجدُ مدخلاً لفهمه على الإطلاق (عن زاوية الضياعِ بعينيك) .. هذا التراوُحُ بين معقوليةِ الصُّوَر لا يترك لديَّ سوى إحساسٍ ببداية تسرُّب (التداعي الحر) إلى الكتابة ..
- محاولةٌ أخرى لتوثين الفن في قصيدتها (الأربعاء) المهداة إلى (عمر جهان والمجموعة) .. إلى هذا الحدِّ يمكن أن يكون الفنُّ هو الحقيقة .. أتصور أن النصوص التي تخرج فيها (غادة) خارج إطار رؤيتها للعلاقة مع الرجل هي النصوص الأكثر واعديَّةً بتطوُّرٍ تعبيريٍّ في مستقبل كتابتِها .. ربما لأنها النصوص الأندر لدَيها ..
- وفي رأيي أنَّ أجملَ ما قرأته لـ(غادة) هو نصُّها (غراب السطح) .. إنه نصُّها الذي وددتُ لو كنتُ كتبتُه .. كما أتمنى لو كنت قد كتبتُ غراب إدجار آلن پو!
- من اللافت للانتباه حرص (غادة) على إفراد الصفحات الأخيرة لديوانَيها للوحاتها المحتفية بالأوجُه .. لماذا لم يلحق وجهٌ ما بكل نصٍّ على سبيل المثال؟!
أتصوَّرُ أنَّ الأمرَ كذلك لأنها لا تريدُ معادلاً بصريًّا للنصوص ولا لتيمة الديوان الرئيسة بقَدر ما تشيرُ من طرفٍ خفيٍّ إلى رغبتِها الدفينةِ في الصمت ، رغم كلِّ هذه الثرثرة ، أو بعدَها .. الصمتُ هو حالةُ الكمالِ والامتلاء والتطابق مع الذات التي تَنشُدُها (غادة) من وراء كل هذا .. ولا يتيحُ الصمتَ فنٌّ كذلك الذي يحتفي به .. التشكيل .. ولماذا دائمًا كانت اللوحاتُ بالحبر الجافِّ تحديدًا ، رغم أنّ (غادة) تشكيليةٌ متمرسةٌ تعرف التعامل مع معظم الوسائط إن لم يكن كلها؟ أتصوّرُ أنَّ لهذا علاقةً بعدم قابليةِ الوسيطِ للمحو .. بخلاف ألوان الخشب مثلاً ، سيكونُ الصمتُ هنا أبديًّا .. بقاءٌ يقتربُ من المطلقية .. ولماذا وجوهٌ فقط؟ لأنَّ هذا هو مشروع (غادة) حين تخرج من إسار الرجل .. الناس .. والناسُ وجوهُ الناس .. وهذه الوجوه تنبتُ حولها وفيها دائمًا كائناتٌ صغيرةٌ: إما نقطٌ تكوّنُ بؤرًا كما في الوجه الأول في الديوان الثاني ، وإمّا قطعٌ مستقيمةٌ حول العينين والأنف كما في الثاني ، وإمّا زخارفُ بيزنطيةٌ كما في الثالث الذي أحبُّهُ كثيرًا بعينَيه اللتَين لا تعرفان البؤبؤ كتماثيلِ اليونانِ ، وبتلك الزخارف التي تُعيدُني إلى (جوستاف كليمت) والـArt Noveau .. إنه الوجهُ الأخلدُ لأنه لا ينظرُ إلى شيء .. تعرفين يا (غادة)؟ هو يفتقدُ للدفءِ تمامًا لتفاصيلهِ هذهِ ، ولهذا فهو الأخلد! الوجهُ الرابعُ (نيجاتيف) مهولٌ لمن قبله ومن بعده .. مجردٌ من كل التفاصيل .. ربما ليرسُمَ القارئُ له التفاصيلَ التي يراها تناسبُ ذائقتَه .. لا تنسى (غادة) كتشكيلية أن تمنحَنا بعضَ المساحة لكي نرسم!! الوجهُ الخامس كاتبٌ بالإيحاء! أعني أنّ الريشات النابتةَ في جوانبه تشيرُ إلى استغراقِهِ في الكتابة، ولذا يبدو الأعمقَ حزنًا، وهو خالٍ من الألوانِ أيضًا لأنه أفرغَ ألوانَهُ بدورِهِ على دفتره .. اللوحة السادسةُ هي المنظرُ الجانبيُّ الوحيد .. لا يظهر النصُّ الكلاميُّ إلا في هذه اللوحة ، وهو هنا سطور أغنية Backstreet Boys .. هو الوجهُ الأكثرُ انعزالاً لأنه لا ينظرُ إلينا .. ينظرُ في فراغه الخاص ، ولهذا نبتت فيه كلماتُ أغنية الوِحدة، وأعشبَت أيضًا !! اللوحةُ السابعةُ رجلٌ معيَّنُ الوجهِ لا يعبأُ بوجودِ (غادة) وينبتُ من رأسهِ هوائيٌّ محترَمٌ كقرنَي استشعارٍ لا علاقةَ لهما بما تريدُهُ (غادة) من آدمية .. والجه الأخير (غادة) ، وجهُ الغلاف (غادة) ..!
- إصرار (غادة) على إدراج نصوصٍ لا تحملُ عنوانًا نصّيًّا بل رقمًا من (1-9) ، وعدمُ إدراجها في الفهرس حتى ولو بأرقامها يوحي يوجود Cryptexعلى غرار تلك الألغاز المنتشرة في رواية (شفرة دافنتشي) لـ(دان براون)! تتبُّع هذه النصوص التسعة يشبه الدورانَ في حلقةٍ مفرغَة .. يتوسطُها النص رقم (5) الذي يحتفي بالوهم ويقدسُهُ، أعني وهمَ الوجود في حضرة رجلٍ يصطادُ الشاعرةَ بصمتِهِ دون نطقه (تغازلُني الآنَ دون أن تنطق) ، وهو ما يبدو أن الشاعرة تبحثُ عنه: صمتٌ يغنيها عن كل هذه الثرثرة ، وهو يتّسقُ مع الركون إلى الوجوه الصامتة في نهاية الديوانين.
لكن أربعةً من النصوص قبل هذا ومثلَها بعده تعترفُ بالفشل والعبث وتركن إلى الثرثرة تمضيةً لوقت الانتظار الطويل .. ربما كان هذا هو السياق!
- من نافلة القول أن نعيد القول نعيده ونعيده في الارتباك اذي تعانيه الذات الشاعرة في علاقتها بالرجل ، وهذا ربما يتضحُ أكثرَ ما يتضحُ في نصّي (إلى رجلٍ بلا اسمٍ) و (رغبةٌ في الرقص) ..
- من واقع مداخلتي السابقة كذلك ، أستعيرُ تعليقي على نص (خيالٌ مسكون) .. هو مسكونٌ لأنه ملتبسٌ طيلةَ الوقت .. توجد حالةٌ من الـRoleplayingتملأ النص .. تبادل دور الفريسة والصياد بين الذكر والأنثى أرى أنه أثرى النص جدًّا ..
- اختيار اللغة السينمائية في تجربة تستلهم فيلمًا سينمائيًّا تقنيةٌ تستحق التوقفَ عندها .. كنت انتظر تعقيدًا ما في حبكة النص ، اتكاءًا على عنوانه الذي يشير إلى لغز رياضي ميكانيكي شهير اخترعه المجري (أرنو روبيك)، وعلى اللغة السينمائية المتقاطعة مع فيلم حقيقي يجسد معادلاً ما لحياة الذات الشاعرة .. النص جميل بالطبع .. ربما نتظرتُ منه أن يكون أسرع إيقاعًا ليكسر البطءَ الحزين الذي تصفه الشاعرةُ في بطلتها وفي الفيلم .. ربما!
- مازلتُ أكرر: نص (كابوس التمام) هو الأكثر استسلامًا بين نصوص الديوان للتداعي الحر ، ربما هو كذلك لأنه يحكي كابوسًا حقيقيًّا .. رغم أني أفتقد لترابطٍ يقيمُ معمارًا مميزًا في النص، إلا أن شواغل مثل التجربة الصوفية والـgender identityوالعلاقة بالرجل تتضح في فقراتٍ ومفرداتٍ بعينِها .. للنص هذا الرُّوحُ الپانوراميُّ أيضًا كما أسلفتُ من قبل، ولأنه ينتهي بـlocationخارجي تبدو فيه السماء ونجومها والقمر ثم تبتلع النيران الصور ، فهو يذكرُني بشكلٍ ما بفيلم La Dolce Vitaلفيلليني .. هو للتمام لأنه يجمعُ قصاصاتِ الشواغل المؤرقة للذات الشاعرة ، ربما كلَّها .. وهو كابوسٌ لأنها قصاصاتٌ لا تكتملُ أيٌّ منها في لوحةٍ قائمةٍ بذاتِها، ولأنّ النار تأكل الصور المتراصةَ إلى جانبِ بعضِها في النهاية فيبدو الأمرُ غيرَ قابلٍ للحل .. أحب هذا النص رغم ارتمائه في حضن التداعي الحر إلى أبعد الحدود .. ربما راديكاليتُهُ المفرطة هي السببُ في ذلك!



قراءةٌ في مجموعة (الرجال –y) لكريم الصياد

$
0
0


  لا أدري كيف أبدأ!
المشكلةُ أنّ مداخلي للتعرُّضِ لمقاربةِ عملٍ أدبيٍّ ما كانت غالِبًا تحومُ حولَ الشذَراتِ المعرفيةِ المنتشرةِ في هذا العمل .. أعني إحالاتِهِ إلى غيرِهِ بما يفتحُ أفُقَ النصِّ على ما سبقه وما عايشَهُ من نصوصٍ أدبيةٍ وغيرِ أدبية .. وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ لأن مجموعة (الرجال-y) تتكئُ على زخمٍ معرفيٍّ مهولٍ وإحالاتٍ لا حصرَ لها .. من أين أبدأ؟ رُبَّما أسهمَ في هذه الحيرةِ أنني لم أقرأ المجموعةَ مرةً واحدةً أبدا! ورُبَّما أسهمَ فيها كذلك صداقتي لـ(كريم الصياد) ومَسّي لمنطلقاتِهِ الفكرية وتأثُّراتِه .. كنتُ ألتمسُ من كلِّ هذا أن يعينَني على تقديم قراءةٍ ممنهجةٍ ، لكن يبدو أنَّ الرياحَ تأتي بما لا تشتهي السفنُ بالفعل!
  دعنا نبدأ من الواجهة .. العنوان .. فكّرتُ أن أرجئَ التعرُّضَ للواجهة إلى النهايةِ لأستكشفَ منطقها من داخل العمل ، لكنَّني انزلقتُ إلى حيرتي السابقِ ذِكرُها ..
.  .  .  .  .
 * ما الرِّجالُ Y؟! :

  تُحيلُنا الفقرةُ المطبوعةُ على الغلافِ الخلفيِّ للمجموعةِ ، والمقتبسةُ من القصةِ الأخيرةِ التي تحملُ الاسمَ ذاتَهُ ، تُحيلُنا إلى فيلم (X-men) .. في الفيلم ، تنتابُ الطفراتُ الشريطَ الوراثيَّ الإنسانيَّ لتفرزَ رجالاً خارقين ، بشكلٍ غير معقولٍ وغير علميٍّ كما تقولُ الفقرة .. بينما في القصةِ التي بين أيدينا ، يتميزُ غزوُ الطفراتِ بالعشوائيةٍ المطلقة ، فتفرزُ رجالاً ذئابًا ورجالاً حِملانًا ونساءًا فراشاتٍ ، إلى آخر الاحتمالاتِ اللانهائية من المسوخِ التي – بحسب كلام الفقرة – تشيرُ إلى "حالةٍ من (السَّخْطِ) البيولوجيِّ العامّ."
      X .. ذلك الحرفُ اللغز .. يستخدمه الأنجلوساكسون للدَّلالةِ على الافتقارِ إلى تعريف ، كما في المعادلاتِ الرِّياضية ذات المجاهيل ، حيثُ الرمزُ الذي يطلَقُ على المجهولِ الأولِ دائمًا هو X .. ويستخدمونَهُ للإشارةِ إلى المحورِ الأفقيِّ في الرسومِ البيانيةِ ، فهو معادلُهُم للمحورِ (السِّينيِّ) في اللسانِ العربي .. وللدَّلالة على التَّميُّزِ وخرقِ العادة ، كما في X-men، وكما في تصنيفِ الأفلام X-rated (الأفلام التي تعرض لقطاتٍ جنسيةً صريحة) .. وهو أخيرًا – وليسَ آخِرًا – الاسمُ الذي ارتضاهُ علماءُ الوراثةِ لأحدِ الصِّبغِيَّين الجنسيين ؛ XY .. وهو الصِّبغِيُّ (الكروموسوم) الذي لا يمكن أن تقومَ حياةٌ بشريةٌ بدونِه .. فهو موجودٌ في الذكر والأنثى ، لكن مع وجود Yفي الذكَر ، ووجود Xآخَر في الأنثى ..
  وبالرُّجوعِ إلى كلماتِ القصة الأخيرةِ المفتاحيةِ في المجموعة ، فإنَّ الرَّاويّ البطلَ العالِمَ يعتنقُ نظريةَ (إمپيذوقليس) عن العَود الأبدي .. العالَمُ يتأرجحُ أبدًا بين حالتَي المجالِ والإعصار ؛ بين السيادةِ التامةِ للتجاذبِ الطبيعيِّ بين الموجوداتِ ، والسيطرةِ الكاملةِ للتنافُرِ بين هذه الموجودات .. وكلا الحالَتين النقيتين لا تسمحُ بوجود الحياة .. ففي حالةِ الفيلم X-men، فإنَّ النظريةَ تفترضُ وصولَ العالمِ لحالةٍ وسطى من الاتِّزانِ بين النقيضين ، نتجَ عنها ظهورُ الرجالِ الخارقين ذوي (الحياةِ) الكاملة .. أمّا في الرجال-y، فالعالمُ بسبيلِهِ إلى الوصولِ إلى قطبِ المجالِ (سيادة التجاذب التامة) ، ولذا تظهرُ المسوخُ المشارُ إليها آنفًا (الرجل الثعبان والرجلُ العنكبوت والرجلُ القنفذ) ، فكلٌّ منها كان في المرحلةِ السابقةِ مباشرةً كائنين متمايزين ، اندمَجا بفعل التجاذبِ الحتمي في كيانٍ واحد ..
  في (الرجال-y) لا حياةَ هنالك .. (الرجالُ Y) لا تنطوي أشرطتُهم الوراثيةُ على الصبغيِّ Xواهبِ الحياة .. إنهم Yمجرَّدة .. مجردُ مسوخٍ لا حياةَ لها .. وهم بعكس الرجال X، يمثلونَ جنوحًا إلى القبح .. (سَخْطٌ) بيولوجيٌّ حقيقيّ .. بينما تُعبَدُ الأنثى صاحبةُ الحياةِ الكاملة XX، ويقتربُ منها الرجالُ X، يتمرّغُ في وحلِ الطبيعةِ الرجالُ Y .. وحالةُ (السَّخْط) هذه هي حالةٌ من (السُّخطِ) كذلك بضَمِّ السين .. كراهية .. تنافرٌ مسيطرٌ أو تجاذبٌ قاتل .. ويفسِّرُ هذا أن نمضيَ مع (إمپيذوقليس) في نظريته التي تجعلُ من الحب والكراهية مرادفين للتجاذب والتنافر يحركان العالَمَ بين قطبَي المجالِ والإعصار ..
  هكذا تتضِحُ أرجوحةُ الكلماتِ Word Play/ Punالتي يعتليها عنوانُ المجموعةِ الفريد ..
  لا يمكننا – بصددِ الحديثِ عن العنوانِ – إغفالُ النبرةِ المتعاليةِ التي يعتنقُها .. مجرَّدُ الإصرارِ على تسميةِ القصةِ والمجموعةِ كلِّها باسمٍ يحتفي بحرفٍ إنجليزيٍّ يُكَرِّسُ رؤيةً متعاليةً للعالَم ، خاصةً أنّ لغة الكتابةِ عربيةٌ كما هو واضح! الإنجليزيةُ لغةُ العالَم ، ولغةُ من لا لغةَ له ، كما يقولُ (كريم الصّيّاد) نفسُهُ على لسانِ المستشرقِ السويديِّ/الشيطان في روايتهِ الوَمضيَّةِ (مقشَعِرّات) التي يُفترَضُ صدورُها قريبًا ضمنَ كتابه (صِدام الحفريات).
  ولهذا فتبنّي حرفِها الشيطانيِّ Yيمثلُ -بشكلٍ ما- نقطةً متعاليةً على الظّرفِ الحاليِّ للحياةِ بكلِّ ما يعنيهِ هذا من محليةٍ ووقتية .. لماذا Yحرفٌ شيطانيّ؟ لما ذكرناهُ آنفًا من التضادّ القائم بينه وبين Xفي الوعي الجمعيِّ ، الرياضيِّ وغيرِه ، ولسببٍ آخر .. إنه المعادلُ الصَّوتِيُّ للسؤالِ الشيطانيِّ الذي تدورُ عليهِ المعرفةُ بأسرها: Why?
لماذا؟!
  هكذا يشيرُ (كريم) إلى الهَمِّ الإپِستِمُولوجيِّ الذي يُؤرِّقُهُ وهو واقفٌ خلفَ مجموعته القصصية .. نعم ، أرى الكون ذاهبًا آيِبًا بين الإعصارِ والمجالِ بلا بدايةٍ ولا نهاية .. أرجوحةٌ ترتكزُ على محورٍ واحدٍ هلاميٍّ شيطانيٍّ اسمُهُ التغيُّرُ .. فلماذا؟؟ لماذا كلُّ هذا؟؟ السؤالُ باكٍ ، وقاسٍ ، وباردٌ إلى درجةٍ لا تحتملُها العينُ ، ودموعُهُ ليستَ شفافةً كدموعِ الأسئلةِ المشغولةِ بقصص الحبِّ ، وليست دمويةً قانيةً كدموعِ الأسئلةِ المشغولةِ بهمومِ الوطن ، لكنَّها سوداءُ قاتمةٌ ، لأنَّها ... دموعٌ ملعونة ..
 
  ختامُ قولِنا على العنوانِ ، ما علاقةُ قصص المجموعةِ به؟ أعني لماذا تُصَدَّرُ به المجموعةُ دون غيره من عناوين القصص الخمسَ عشرةَ المحتواةِ فيها؟
  تحتفي القصصُ كلُّها بالمسخ (السَّخط) على حد تعبير (كريم) في الفقرةِ المذكورةِ أولا .. ففي (الترسيب) يتحولُ المريضُ بين يدَي طبيبِهِ إلى (بسكويت) هشِّ يأكلُهُ النمل ، وفي (روتيلاّ ديورا) تتحولُ الأمُّ إلى حشرةٍ أو يحدثُ العكسُ ، وفي (علاء الدين) يتحوَّلُ الهيكلُ العظميُّ لطالب طبٍّ مات بالسرطانِ إلى طالبِ طبٍّ يدرسُ عليهِ التشريحَ (أو العكس) ، و في (تجربة د.فانٍ) يتحولُ الجعرانُ إلى قلبٍ والقلبُ إلى وحشٍ مخيفٍ والمُخُّ (الرُّوحُ) إلى كائنٍ مستقلٍّ بعيدًا عن جسد صاحبه .. وهكذا وهكذا إلى آخر قصص المجموعة .. ولذا كان العنوانُ الذي يُكَرِّسُ فكرةَ المسخ في صراحةٍ هو الأنسبَ لعنونةِ هذا الكتاب ..
.  .  .  .  .
  * التَّشَبُّع / التَّشَبُّح ، ولا جدوى المعرفة :

  في رأيي أنَّ هذا واحدٌ من أهمِّ المحاورِ التي يدور عليها القَصُّ في هذه المجموعة .. ولأبدأ بـ(لا جدوى المعرفة)..
  في مقابل السؤال المعرفيِّ الذي يتساءلُ عن الغاية ، والذي قلنا أنَّ العنوانَ يتّحدُ به
Why?
يوجدُ تراكمٌ معرفيٌّ جزئيٌّ في كلِّ قصة .. تبدأ القصةُ المفردةُ بمجموعةٍ من الملاحظاتِ تثيرُ لغزًا ما ، وتتجمَّعُ الخيوطُ في يد البطل /الرّاوي رويدًا رويدًا، وقرب النهايةِ يكتملُ حلُّ اللغز .. لكنَّ النهايةَ لا تقبعُ أبدًا عند حلِّ اللغز .. بل تتجاوزُهُ إلى وقوع الكارثة ..! فالكارثةُ حتميةٌ في حكاياتِ (كريم) ، ولا يُغني حذرٌ من قدَر! دائمًا يُدركُ البطلُ / الراوي الآليةَ التي من خلالِها تتشكلُ الكارثةُ ، لكنَّهُ دائمًا أيضًا يقفُ عاجزًا إزاءَ تمام حدوثِها .. فالمعرفةُ وازديادُ المعرفةِ وازديادُ ازديادِها تبدو القيمةَ الإيجابيةَ الوحيدةَ في عالم (كريم) القصصيّ هنا (متعةٌ مستقلةٌ عن النفع) ، لأنها في النهايةِ لا تُسمنُ ولا تُغني من جوعٍ ، بل يقفُ هو مكتوفَ اليدينِ أمام النهاية المفزعة .. هذا ما يحدثُ مثلاً في (علاء الدين) حيثُ يكتشفُ طبيعةَ الهيكلِ العظميِّ الملقى أمامَه ، لكنَّهُ يُصرِّحُ لنفسِهِ ولنا في يأسٍ مُقَدَّس:
"من قالَ إنني سأنجو لمجرَّدِ أنني أعرف؟!"
وهو عينُ ما يحدثُ في (تشرنُبروف) حيث يعرفُ البطلُ الرّاوي المنقسمُ على ذاتِهِ (والفُصامِيُّ طبقًا لإشاراتِ الصفحةِ الأخيرةِ من القصة، حيث يبدو أنَّ هلاوسَهُ تتجسدُ أمامَهُ وتذوبُ شخصيتُهُ في شخصيةِ الجسيم تحت الذّرّيّ الذي اكتشفه) ، أقولُ إنه يعرفُ ما سيحدثُ للبشريةِ جَرّاءَ هذا الاكتشاف ، وهو كارثةٌ محتومةٌ بدأت مبشراتُها بحادث (المفاعل النووي) في تشرنوبل .. لكنَّهُ لا يملكُ فكاكًا من هذا المصير .. بل لم يبقَ أمامَهُ سوى الاستسلامِ للاسكيزوفرينيا ..
  ولأنَّ المعرفةَ تبقى مِن بعدُ قيمةً وحيدةً لأنّها المعادلُ الموضوعيُّ الوحيدُ المتبقّي للمتعة ، رُبَّما لا يروقُ هذا القَصُّ الثائرُ مجتمَعًا موغلاً في التمسُّكِ بأهدابِ مقولاتِ السابقين وأفعالِهم (فالنَّهَمُ المعرفيُّ ثورةٌ لا تهدأ) .. إنها الورطةُ الكبرى ، متمثلةً في أنَّ (كريم) يذهبُ بالفنِّ في تصورِهِ المثاليِّ (قيمةٌ مطلقةٌ تحيلُ إلى ذاتِها ولا ترجو التزلُّفَ إلى الأخلاقِ أو ما سواها من دوائر الممارسة الإنسانية) إلى أبعدِ مدى .. ولهذا فنُّهُ اغترابيٌّ أصيلٌ عبقريّ ..
المهم ..
  نعودُ إلى اصطلاحنا (التشبُّع / التشبُّح) .. رُبَّما يذكرُ بعضُنا المسرحيةَ العظيمةَ (الأشباح) لهنريك إبسن .. بختامِها يدركُ البطلُ أنَّهُ مجرَّدُ شبحٍ لأبيه (والمعنى مجازيٌّ) من منطلَقِ أنه يكرر أخطاءَهُ طيلةَ الوقتِ ، بل ويتحمَّلُ نتائجَ ممارساتِهِ فكأنَّهُ امتدادٌ غيرُ فاعلٍ له .. يُدرِكُ أنه غيرُ قادرٍ على الفعل .. وهنا مبعثُ الرعبِ الوجوديِّ الذي يجعلُنا نقشَعِرُّ في نهاية تلك المسرحية .. في قصص المجموعة التي بين أيدينا ، يحدثُ مثلُ ذلك .. لا يتجسَّدُ الشبحُ إلاّ مع تمام المعرفة .. فالبطلُ في (روتيلاّ ديورا) لا يُدرِكُهُ الرعبُ الوجوديُّ الكاملُ ولا يدركُ موقفَهُ الشبحيَّ إلا حين (يتشبَّعُ) بالمعرفةِ بسلوك الحشرة الحمراء الجافية التي تُظهِرُ سلوكًا عدائيًّا تجاهَ أولادِها .. والبطلُ في (علاء الدين) لا يدركُ أنَّه (مثلَ بطلِ أشباح إبسن) يكرر حياةَ صاحب الهيكلِ الجاثمِ أمامَهُ إلا مع تشبُّعِهِ بمعرفة (علاء الدين) وسيرة حياتِه .. وهكذا .. وكما يتبيّنُ من هذه الفقرةِ من مقاربتنا ، فالأمران متشابكان للغاية : التشبُّعُ بالعرفة يؤدي إلى تشبُّحٍ حقيقيٍّ ، عندَهُ يدرِكُ البطلُ الشبحُ لا جدوى المعرفة ..
.  .  .  .  .
  * الذاتُ مركزُ العالَم ، ونسويةُ الثورة :

  بين أيدينا خمسَ عشرةَ قصةً ، كلُّها محكيةٌ بطريقة الشخصِ الأول : الرّاوي / البطل .. وهذا يعكسُ رؤيةً ذاتيةً للعالَمِ تستحضِرُ (فِشْتَه Fichte) طيلةَ الوقت .. فلأنَّ موضوعَات الحكاياتِ متعاليةٌ على اللحظة والمكانِ ورُبَّما الظرف التاريخيّ ، كما أنّها متعاليةٌ على السياقِ العامّ للأدب في هذه البقعةِ من العالَم ، بل وهي متعاليةٌ على السياقِ العامّ للخيالِ العلميِّ بما هو ارتماءٌ في حضن أحد القطبَين للتصور عن المستقبل : يوتوپيا أو ديستوپيا، أقولُ: لكلِّ هذا ، كانت الرؤيةُ الشخصيةُ مناسبةً كمرجعٍ للحَكي .. إنها مثاليةٌ ذاتيةٌ ، لا تُبَشِّرُ بشيءٍ ، لكنَّها ترصُدُ حدوثَ الكارثةِ ريثَما تخلُقُها ..
  لكن لنا ثلاثٌ وقفاتٍ عند حديثِنا هذا :
- الأولى عند قصة (الشبكية) .. وأعُدُّها النموذجَ الأقصى للاعتدادِ بهذه الذاتيةِ وهَدمِها في ذاتِ الآن .. الدكتور (هوركهايمر) الألمانِيُّ الذي يلتقي البطلَ في مصحةٍ نفسيةٍ بـ(لندن) يقولُ لبطلِنا: "لكنَّ شبكيَّتَك تملكُ هذه الخاصيةَ الفريدةَ على التخليقِ المادّيّ."إنَّ البطلَ يرى كائناتٍ غريبةً ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ ويحكي للناسِ عن هذا ، فيُكَذبونه ويُودَعُ هذه المِصَحَّة ، ثم يلتقي به (هوركهايمر) طبيبُ العيون بالصدفة ، ويأخذ عينةً من نسيجِ شبكيتِهِ ، ويختفي تمامًا بما يُنذِرُ بعبثيةٍ الأمرِ برُمَّتِه ، ثم يعاودُ الظهورَ ويأخذ البطلَ من يده ليُرِيَهُ الكائناتِ التي خلَّقتها شبكيتُهُ وهي تمرحُ كبيرةً في الحجرةِ المقابلةِ ، بعد أن استنسخ خلايا تلك الشبكية الملعونة وفردَها على الحائط !!
  لكنَّ هذا الخَلقَ الخاصَّ يثبتُ لنا في نهاية القصةِ أنَّهُ قادرٌ على جلب الكارثة .. فشبكيةُ البطلِ تختزنُ دورَ شطرنجٍ حاميَ الوطيسِ كان قد لعبه مع أحد الممرِّضين في المصحّة ، والطابياتُ تكتسحُ لندن ، ورأسُ الملك الصّليبيُّ يبدو وسط الغبار ، وهذه هي (المرحلةُ قبل الأخيرة) كما يقول البطل لطبيبه ، قبل أن يأتيَ الله!
  لماذا (لندن) تحديدًا؟!
  ما من إجابةٍ قاطعةٍ بالتأكيد .. لكن .. هل لأنّها ذلك المكانُ الذي مزَّقَهُ صراعُ اللاهوتيين الكاثوليك والپروتستانت يومًا ما ، وسالت الدماءُ فيهِ أنهارًا ، قبلَ أن يزهدَ اللهَ ويُفاخِرَ العالَمَ بأعلى كثافةٍ لـ(اللاإلهيين)، وبينهم مُبَشِّرُو (اللاإلهيةِ) الأشهر ، مثل (ريتشارد دوكنز) و(ستيفن هوكنج)؟
  إذا صدقَ هذا الاحتمالُ ، فإنَّ تجلِّيًا – هو الأعمقُ – لمفهوم (التشبُّع / التّشبُّح) الذي طرحناهُ قبل قليلٍ يتبدّى هنا .. إنَّهُ التشبُّعُ بالقدرة على الخَلق ، حتى يشعر الإنسانُ في النهايةِ بتشبُحِهِ أمامَ قدرةِ الإله ، كما لو كانَ هذا المريضُ اللامريضُ الراوي البطلُ قد تحوَّلَ بتوسُّطِ العلمِ إلى إلهٍ مُؤَقَّتٍ يصدقُ عليه قولُ (پول فاليري):
"في نهاية العالم ، يقولُ اللهُ لنفسه : لقد كان حُلمًا طويلا". وهو تَجَلٍّ يتجاوَبُ والآيةَ القرآنيةَ :
  "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يتفكَّرُونَ."الآية 24 من سورة (يونُس).

- الوَقفةُ الثانيةُ مع قصة (تشرنُبروف): حين يحكي للرَاوي العالِمُ غيرُ المُعيَّنِ (الذي يشارُ في النهايةِ إلى أنه تشرنوبروف نفسُهُ) عن قصة الاكتشافِ الكارثيِّ ، فيقول:
"لقد اكتشف جسيمًا جديدًا بهذه البساطة، لكنه لاحظَ ما عليهِ من مسلكٍ غريبٍ يختلفُ كلَّ الاختلافِ عن بقيةِ الجسيماتِ تحت الذَّرِّيَّة، كان أكثرَ عشوائيةً في حركته ، بل ويَثبُتُ في مكانِهِ إلى درجةٍ يمكن معهارصدُهُ، ثم يتحركُ بسرعاتٍ متفاوتةٍ ، كان لا يخضعُ لأيِّ قانونٍ فيزيائيٍّ معروفٍ ، ولا غير معروفٍ ، ولا فيزيائي."
  بإزاءِ هذه المثاليةِ الذاتيةِ التي تنبني وتنهدمُ كلَّ حينٍ عبر صفحاتِ المجموعةِ ، يبدو هذا الكشفُ العلميُّ الخياليُّ وعدًا بيقينٍ يبحثُ عنه الكاتب .. من درسَ منّا الفيزياءَ يعرفُ مبدأَ عدمِ التأكُّدِ لـ(هايزنبرغ) ، والذي ينصُّ على استحالةِ الجَزمِ بموقعِ وكتلة ومقدار شحنة أي جسيمٍ على الإطلاقِ لأنَّ الآلياتِ التي يستخدمُها الرّاصِدُ تؤثِّرُ قطعًا على هذه المقادير .. بعدَ هذه الفقرةِ نعرفُ أن (تشرنوبروف) أحالَ البحثَ إلى قسم (المايكروبيولوجي) باعتبارِ أننا نواجهُ كائنًا حيًّا كامنًا داخل الذّرّة .. ثم يشيرُ إليه (تشرنوبروف) في نهاية القصة بعد أن تحرر من عِقالِ الذَّرَّةِ بصفتِهِ إلهًا وثنيًّا متوحشا .. نحنُ أمامَ كاتبٍ يحاولُ جاهدًا الإمستكَ بيقينٍ ما ، وهو على وعيٍ دائمٍ باستحالةِ هذا ، لكنَّهُ يشتهي لمسَ هذا اليقينِ ، ولو أدّى به إلى كارثة .. الكارثةُ تبدو محتومةً مع الإيغالِ في الذاتيةِ واستحالةِ اليقينِ ، فلِمَ لا نستقبلُها بعد يقين؟؟! رُبَّما يكونُ اليقينُ تتويجًا للذة المعرفةِ في النهاية!

-الوقفةُ الثالثةُ مع قصة (الشرنقة) .. لا يتخلّى كريم عن الرّاوي البطل هنا ، لكنَّهُ يجعلُهُ راويةً بطلة .. ومن المُلاحَظ أنَّ هذه هي القصةُ الوحيدةُ التي لا تنتهي بكارثةٍ بين قصص المجموعة ، بل تنتهي بنصرٍ ثَورِيّ ..
  إنّ (شهرزاد) الرَاويةَ البطلةَ عُضوَ الخلية الشيوعية السرية ، متزوجةٌ من (يسري باشا أبو الفتوح) رأسماليِّ مصنع النسيج ، وتخونُهُ وتتواطأُ عليه مع الرفاقِ ، فتضع صناديقَ ديدانِ القَزِّ في غرفةِ نومِهِ وتغيبُ عن الغرفة أسبوعًا ريثَما تنسجُ الديدانُ شرنقةً حولَ الرأسماليِّ المَقيتِ وتُخفيهِ تمامًا عن الوجود !!
  وبين أحاديثِ الرفاقِ نميزُ الكلامَ عن خطرِ (الإخوان) وانقلاب (المنشيفيك) ، كما نلمحُ نبوءَةَ (شهرزاد) بسقوطِ الألقاب .. ألا يُذَكِّرُنا هذا بمصر صبيحةَ انقلابِ (23 يوليو)؟!
 رُبَّما هو سيناريو بديلٌ عن الانقلابِ العسكريِّ ، تحدثُ فيه ثورةٌ شيوعيةٌ حقيقيةٌ تُطيحُ بالرأسماليةِ العتيدةِ وتُرسي ماركسيةً جديدة .. وهو سيناريو مستقبليٌّ كذلك باعتبارِ أنَّهُ ما مِن ألقابٍ سقطت بالفعل منذ ستين عاما! إنّها القِصَّةُ الوحيدةُ التي تظهرُ فيها الأيديولوجيةُ السياسيةُ واضحة .. ومِن خلالِها يقدِمُ (هيثم) أحدُ أفرادِ الخليةِ الشيوعيةِ نقدًا حادًّا للماركسيةِ اللينينيةِ السوفييتيةِ التي أوغلَت في جِذريَّتِها وسلفيَّتِها حتى سفطَت من تلقاء ذاتِها (وهو ما يدعَمُ السيناريو المستقبليَّ وليسَ سيناريو صبيحة 23 يوليو) ..
  هل هذه نسويةٌ يتبنّاها (كريم)؟ .. صحيحٌ أنَّ البطلةَ تقفُ في النهايةِ مكتوفةَ اليدينِ أمامَ الشرنقةِ العالمية التي ينسجُها عمّالُ النسيج / الديدانُ للعالَم ، لكنَّ نصرًا ما وربيعًا محتملاً يبدوان في الأفق ، ولا ننسى أنَّ آخِرَ جملةٍ في القصة : "ومن حولِهِ وفوقَ رءوسِ العُمالِ حلّقَت أسرابٌ هائلةٌ من فَراشاتٍ عملاقةٍ ذاتِ ألوانٍ زاهيةٍ ، جميلةٍ جدّا." .. البطلةُ الأنثى كانت الوحيدةَ بين أبطالِ المجموعة القادرةَ على الفعل ، ومن ثَمَّ على التغيير ، رغم ارتباكِها المؤقَّتِ قربَ النهاية .. يبدو أنَّ الأنثى ليستَ جمالاً مطلقًا فَحسبُ كما يفترض عنوانُ المجموعة ، لكنَّها كذلك ثورةٌ كامنةٌ محتملَةٌ دائما ..
.  .  .  .  .
* دائريَّةُ الزَّمن:
  وهو محورٌ هامٌّ للقَصِّ في بعض قصص المجموعة .. ونعني به تبنّي ذلك التصوُّر أنَّ الزمنَ لا يمثلُهُ خطٌّ مستقيمٌ ، وإنّما دائرةٌ مغلقةٌ تتصلُ لحظاتُها فلا نعرفُ لها بدايةً من نهاية .. أو هو كما يُنسَبُ القولُ لابنِ عربيٍّ : "مكانٌ سائلٌ ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد." .. وهو تصورٌ يلتقي بنسبيةِ (أينشتاين) ..
  يتجلّى هذا التصورُ كأروعِ ما يكونُ في قصةِ (أپاسيوناتا) .. العنوانُ يشيرُ إلى سوناتا الپيانو الثالثة والعشرين لبيتهوفن ..
  الرّاوي كما نعرفُ من حديثهِ مع شخصيةِ (فرانتس شوبرت) الموسيقار الشهير تلميذ (بيتهوفن) ، صحافيٌّ في صحيفةٍ تُدعَى (المداراتِ الجديدة) ، رأى (شوبرت) تنهمرُ دموعُهُ وهما في حفلٍ يعزفُ فيه (بيتهوفن) سوناتتَه ..
فقرّرَ أن يسألَهُ عن رأيه في السوناتة ، فاقتادَهُ (شوبرت) إلى حانةٍ ما ، وقصَّ عليه قصةَ تأليف (بيتهوفن) لهذه السوناتةِ التي لا يعرفُها أحدٌ إلا (شوبرت) بزعمِه .. يحكي (شوبرت) عن أستاذهِ أنَّه – بعكس ما يشيعُ من أنّ تاريخ بداية تأليفه لهذه السوناتة كان عام 1804 – بدأ في تأليفِها عام 1796 ، قبل أن تظهرَ عليه أولى أعراضِ الصَّمَم .. وبعد أن وضع الحركةَ الأولى منها في ليلةٍ وأوى إلى فِراشِهِ ، أقلقه من نومه في منتصف الليلِ أن يسمعَ السوناتةَ تُعزَفُ بالكاملِ في بيته .. نهض من فراشِهِ واتجهَ إلى حيثُ الپيانو ، ليجدَ (بيتهوفن) آخَرَ يشبهه تمامًا لكنَّهُ يكبرُهُ سنًّا وحجمًا ويفوقُهُ أناقةً منهمكًا في عزفِها!
  نعرفُ تدريجيًّا أنَّ (بيتهوفن) آمنَ تمامًا بقول (فيثاغورَس) أنَّ الموسيقى هي القانونُ الذي يحكمُ العالَم ، وشاء القدَرُ أن يَسمعَ شذرةً من هذا القانونِ أثناءِ نزهتِهِ الخلويةِ بجوار النهرِ غداةَ تأليفِهِ للسوناتة ، فيُخمِّنَ الباقي .. وبفعلِهِ هذا فتحَ البوابةَ الخفيةَ التي من خلالِها قابلَ في بيتِهِ في هذه الليلةِ (بيتهوفن) الشيخ ، و(بيتهوفن) الرَّضيعَ ، و(بيتهوفن) المراهقِ ، وغيرَهم .. لقدَ كسرَ استرسالَ الدائرة ، كسرَ استرسالَ الزَّمَن فرأى دائريتَهُ بعينيه!
  إنَّ المسألةَ كشفٌ يشبهُ الكشفَ الصُّوفِيَّ .. اطّلاعٌ غيرُ متعمَّدٍ على الغيب .. لكنَّ الصُّوفِيَّ الفنّانَ يواجهُ العقوبةَ / القَدَرَ على رهافةِ حسِّهِ ، فالـ(بيتهوفنون) المجتمعونَ في البيتِ في هذه اللحظةِ النادرةِ من الحياةِ يقررونَ أن يسلبوا (بيتهوفنَ) اللحظةِ المتعينةِ سمعَهُ ، لئلاّ يغلقَ البابَ ويعيدَهم إلى الظلام! إنه معنىً متفلِّتٌ مراوغٌ شاعريّ .. كيف يمكنُ أن يحدثَ هذا؟ نكادُ نبكي ونحنُ نرى (بيتهوفن) الطِّفلَ في ركن قاعةِ الپيانو يضعُ رأسَهُ بين كفيهِ صارخًا: "أنا أكرهُ الظَّلام."لقد كان محبوسًا في لحظتِهِ لا يستطيعُ مغادرتَها حتى فتحَ (بيتهوفن) عام 1796 البوابةَ وسمحَ له بالعبور .. إنَّهُ الفعلُ الذي ينتصرُ للحنين .. النوستالجيا تنتصرُ على الحتمية .. أنا ابنُ التاسعةِ والعشرينَ سأعيشُ جنبًا إلى جنبٍ مع أنا ابنِ الخامسةِ وأنا ابنِ الرابعةِ والخمسينَ (إن أدركتُ هذه السِنَّ بالطبع) ، وهكذا !!
  ولأنَّ القصةَ موسيقيةٌ جدًّا ، فالكارثةُ (الصَّمَمُ) لا تأتي مرةً واحدةً كنقطةٍ ، أو كسكتةٍ مفاجئةٍ على المدرَّجِ بلغةِ الموسيقى ، لكنَّها تنفرِشُ على مساحةٍ زمنيةٍ تبدأُ منذ تلك الليلةِ الفريدةِ حين يُصدِرُ (بيتهوفن) الشيخُ حُكمَهُ ويوافقهُ (البيتهوفِنون) ونفاجأُ بـ(بيتهوفن) اللحظةِ المتعيِّنةِ يستصرخُهُم: "ماذا تقولونَ عليكمُ اللعنة؟"فيرفعونَ أصواتَهم: "هل تسمعُنا؟"، وتستمرُّ الكارثةُ في التشكُّلِ والصَّمَمُ في الاستيلاءِ على (بيتهوفن) – مسيحِ الموسيقى – حتى يرحلَ عن عالَمِنا ، كما لو كانت سنواتُهُ منذ هذه اللحظةِ تخضعُ لاصطلاحِ diminuendoأو decrescendoالموسيقيِّ (تتجهُ نحوَ الخفوت والتلاشي) ..
 ثمَّةَ كارثةٌ أخرى في القصةِ تقترحُها الصفحةُ الأخيرةُ منها .. وذلك حين يسألُ الراوي (شوبرت) في استخفاف:
-"وموتسارت أيضًا زارَهُ موتسارت طفل ومراهق وشابّ وشيخ؟"
فيجيبُهُ (شوبرت): "بل وامرأةٌ أيضًا."
فيسخرُ الرّاوي:
- "هاها .. وامرأةٌ كذلك؟!"
فيقولُ (شوبرت) مُغضَبًا قبل أن يترُكَه:
- "إنَّ لكلٍّ منّا في ذلك العالَمِ كافةَ التنويعاتِ البشريةِ الممكنة، هناك (بيتهوفن) امرأةٌ لكنَّها لم توجَد بعد، ويومًا ستظهرُ في هذا العالَم، .......".
هي هذه الجملةُ الأخيرة .. لماذا يُقرِّرُ (شوبرت) أنَّ هناك (موتسارت) امرأةً زارَت (موتسارت) ، بينما لم يحدث هذا مع (بيتهوفن)؟
  موسيقى (موتسارت) لها ذلك الطابَعُ الطفوليُّ الناعِمُ الأملسُ الذي يظلُّ مع الأنثى بعد اكتمالِ أنوثتِها .. أمّا موسيقى (بيتهوفن) فهي احتفاءٌ بما يتأبّى على الاحتواء .. إنّها ذلكَ اللاركوعُ ، الانتصابُ الذُّكورِيُّ الذي يخرقُ الطبيعةَ إلى الفَنّ .. الموسيقيُّ (بيتهوفن) رجلٌ من (الرجالِ – Y) .. وهو رُبَّما يكونُ المَثَلَ الوحيدَ بينهم على إمكان تحققِ الجمالِ مع اكتمالِ الرجولة .. إنه المثلُ الأعلى الذي قصَّرَ عنه بقيةُ الرجال – Yفأصبحوا مسوخًا شائهة .. ولهذا لم تظهر له امرأة .. فإن ظهرَت ... فإن ظهرَت فهي الثورة .. الكارثةُ اللاكارثة .. ستحلِّقُ الفراشاتُ العملاقةُ على الرؤوس ، وستلتفُّ موجوداتُ العالَمِ القديمِ في شرنقةٍ عملاقة ..
هاه؟ ألا يُحيلُنا هذا إلى قصةِ (الشرنقة) من جديد؟
  فإن تذَرَّعنا أخيرًا باللاهوتِ المسيحيِّ في استكناهِ (بيتهوفن) ، كان علينا أن نذكر أقانيمَ الموسيقى الثلاثةَ : (باخ) بتأسيسيّتِه وموسيقاهُ الثريةِ الملونةِ التي تشبهُ الرُّوحَ القدُسَ في جلائها وغموضِها ، و(موتسارت) بمحاكاته التامة للطبيعةِ فكأنَّهُ يقفُ بالفنِّ موازيًا لها ولا نقطةَ تقاطُعٍ بينهما فهو (الآبُ) الذي رفضَهُ (سپينوزا) ، و(بيتهوفن) بموسيقاهُ التي خرقت هذه الطبيعةَ وأسّسَ لملكوتٍ جديدٍ ، فكأنَّهُ (الابن) !

سرقنا الكلامُ عن (أپاسيوناتا) ، ولا يخفَى أنَّ سببَ ذلكَ موقعُها المركزيُّ من قصص المجموعةِ ، والمبنيُّ على مركزيةِ (بيتهوفن) بين الرجالِ – Y..

  نعودُ إلى استعراضٍ سريعٍ لدائريةِ الزمنِ في بعض قصص المجموعة :
- في (القوقعة) ثمةً لعنةٌ تتوارثُها بناتُ سلالةٍ ما!
  (فادية) الأمُّ (فعلَت ما فعلَته منذ عشرة أعوامٍ) كما في افتتاحيةِ القصةِ بشكلٍ غامضٍ ، فتسبّبَت في غرقِ أبيها بينما تضعُ يديها على عينيه وتختبرُهُ – وهي بنتُ الرابعة –"أنا مين؟!"، ثم يلتصقُ بها يقينٌ ما على أنَّ حيوانًا قشريًّا يعيشُ في أذنِها ، وتطلبُ مساعدةَ طبيبٍ نفسيٍّ يعالجُها ويحيلُها إلى طبيب الأذن والأنف والحنجرةِ ليثبتَ لها أنَّ ما تراهُ خارجًا من أذنها أمام المرآةِ وتعتقدُ في وجوده محضُ هلوسةٍ وضلالة ، ثم يتزوَّجُها الطبيبُ النفسي.
  و(فادية) الابنةُ كما نعلمُ في نهايةِ القصةِ تسببت في تعثُّرِ أبيها في حديقةِ الفيلاّ – وهي في الرابعةِ كذلك – ليموتَ متأثرًا بعَثرتِهِ ، وتعتقدُ أنَّ حيوانًا رخويًّا يشبه (الحلزونَ) الذي يعيشُ في الحدائقِ يسكنُ أذنَها ، وتطلبُ مساعدةَ طبيبٍ نفسيٍّ آخر (د.محمد شوكت) يحيلُها إلى طبيب الأنف والأذن والحنجرةِ عينِهِ ليثبتَ لها أنَّ ما تراهُ وتعتقدُهُ هلوسةٌ وضلالة ، ونعلمُ من مذكراتِ طبيب الأنف والأذن والحنجرةِ أنَّ (د.محمد شوكت) ينوي الزواجَ من (فادية) الابنة !!
  قصةٌ شبيهةٌ بهذه توجدُ بينَ الأعمالِ الكاملةِ لـ(إدغار آلن پو) ، وهي (موريلاّ) ، حيثُ ترثُ (موريلاّ) الابنةُ لعنةَ (موريلاّ) الأمِّ ، ولكن بطريقةٍ مختلفة ..
  ثمةَ دائريةٌ كامنةٌ في الزمنِ في مثلِ هذا النوعِ من الحبكة ، ولذا فاسمُ القصةِ (القوقعة) لايشيرُ إلى قوقعةِ الأذنِ الداخليةِ لـ(فادية) الأمِّ ، بقدر ما يشيرُ إلى حالةِ الدورانِ في الزمنِ والمتاهةِ القائمةِ في تكرارِ الأحداث ..
- في (علاء الدين) كما أسلَفنا القَولَ ، يدركُ الراوي البطلُ ، طالبُ الطبِّ ، أنّ الهيكلَ العظميَّ الذي يذاكرُ عليهِ التشريحَ هو هيكلُهُ العظميُّ ، وهذا من واقعِ نوعيةِ الكسورِ التي يعانيها في جمجمتِهِ وساقيهِ ، ويعانيها الهيكلُ كذلك ، باإضافةِ إلى سيرةِ حياةِ (علاء الدين) طالب الطبِّ صاحب الهيكل الذي مات قبل بضعةِ أعوامٍ وتكرهُ الممرضة .. لا ندري متى يبدأ الحدثُ ومتى ينتهي .. إنه لا يبدأُ .. ولا ينتهي !!
.  .  .  .  .

* أسماءُ الشخصيات ..
  في بعض القصص لا توجد أسماءٌ محددةٌ للشخصيات .. لكننا نصطدمُ بأسماءٍ دالّةٍ في بعضِها الآخَر ، ولنستعرض بعضًا منها هنا:
 - في قصة (علاء الدين): الاسمُ الذي اختاره الراوي البطلُ طالبُ الطبِّ للهيكلِ الذي اشتراهُ بشكلٍ (اعتباطيٍّ) هو (علاءُ الدين) .. يُحيلُ هذا الاسمُ إلى الشخصيةِ الأسطوريةِ الموجودةِ في تراثِ الحكيِ العربيِّ ، مرتبطةً بالمغامرة والأهوالِ والانتصارِ في النهاية .. لكنَّ (مغامرةَ) علاء الدين هنا مغامرةٌ قدريةٌ لم يَختَر أن يخوضَها ، كما أنَّه لن يحقق فيها نصرًا من أي نوع .. سيموتُ بالسرطانِ بعد أن يصابَ في حادثِ سيارةٍ ، ليتحولَ إلى هيكلٍ عظميٍّ يقتنيه ويدرسُ عليهِ طالبُ طبٍّ آخرَ سيلاقي نفسَ مصيرهِ ، وربَّما كان هو نفسه (علاء الدين) .. إنه يدورُ في مكانِهِ ، معاقبًا على جُرمٍ لا يدري ما هو .. وهو يعرفُ كنه العقابِ ويعرفُ المصيرَ لكن لا فكاك ..
- في قصة (تجربةُ د.فانٍ) نجدُ ذلك الاسمَ السِّحريَّ للطبيبِ الساحر (فانٍ بن عبد العزيز) .. إنَّهُ يستلُّ قلبَ الراوي / البطلِ من صدرِهِ ، ويضعُ مكانَهُ جعرانًا ، ليضعَ القلبَ في محلولٍ ما حتى يكبر ويشيرَ وحشًا ، وبينما هو يفعلُ ذلك يلقي على مسامعِ البطلِ قصيدةَ نثرٍ يقولُ فيها:
"سأريكَ عالمًا أكثرَ أملاً .. سأريكَ عالمًا الأرضُ فيهِ كرةٌ وتسبحُ فيه حول شمسِ ، والشمسُ حولَ شمسٍ ، والشموسُ حولَ لُبِّ الكون .. وأنا وأنتَ جلطتان .. نسدُّ شريانَ الكونِ فيخبو ضوءُ النجوم .. نسري في شريانِ الكونِ ، فيعودُ الضوءُ إلى العالم."
  ويتذكَّرُ البطلُ هذا فيقولُ لنفسه: "بل إنه يصرفُ الناسَ عن عمودِ الشعرِ وراحَ يُنشِدُهُم شعرَهُ المنثورَ القبيح."
  نحن أمامَ طبيبٍ ساحرٍ يقدمُ لبطلِنا المعرفةَ بينما يسلبُهُ قلبَهُ عنوة .. هكذا يكشفُ له حقائقَ الفلَكِ في قصيدة نثرٍ ، ثُمَّ يُطلِعُهُ على حقيقتِهِ الحقيرةِ وينفي عنه تضخُّمَ أناهُ ومركزيتَها الزائفةَ (وأنا وأنتَ جلطتان ......) ، ويُبَشِّرُهُ بفتحٍ معرفيٍّ إن هو أسقطَ عنه حجابَ الأنا (نسري في شريانِ الكونِ فيعودُ الضوءُ إلى العالَم."
  ولأنَّهُ يفعلُ ذلك ، ولأنَّه يسرفُ الناسَ عن عمودِ الشِّعر (اللوغوس) ويتلو عليهم قصائدَ النثرِ المتحررةَ من المركز والشكلِ والنظامِ ، فهو الشيطان ..
أو ..:
  رُبَّما هو ابنُ الشيطان .. الشيطانُ مُنظَرٌ ، واسمُهُ (عزازيل) كما نعرفُ من أدبياتِ الديانات السماوية .. أمّا هذا فـ(فانٍ) بنُ (عبدِ العزيز / عزازيل) .. هو فانٍ لأنَّهُ ليسَ إلا التجسُّدَ الإنسانيَّ للشيطان .. إنه بعثُ الأسطورةِ وموتُها معًا .. هو الـÜbermenschالذي بشّر به (نيتشه) .. وريثُ الشيطانِ والإلهِ معا .. ولهذا أيضًا حرَّرَ البطلَ من جسدِهِ / قيدِهِ في نهايةِ القصة ليفعلَ ما يحلو له ويمارسَ طفولةَ حياتِهِ السوپرالجديدة (فيلعب مع الأولاد في الشوارع) ..!
- في (القوقعة) : نجدُ أنَّ الأمَّ والبنتَ صاحبتَي اللعنة تحملان الاسمَ نفسَهُ (فادية) .. ويالَهُ من اسم! هذا الاسمُ بكلٍّ ما يحملُهُ من التضحيةِ ونُكرانِ الذاتِ والفِداءِ ، يقفُ على السطورِ ضاحكًا ضحكةً خبيثةً مما تفعلُهُ صاحبتاهُ الأمُّ والابنةُ ، رُبّما رغمًا عنهما .. يتقشَّرُ الاسمُ عن المُسَمَّى مرتينِ في قوقعةٍ زمنيةٍ لعينة ، فلا يترُكُ إلا عبثًا ضاحكًا في يأس ..
- في (الشرنقة) : للبطلةِ الراوية اسمٌ أسطوريٌّ هي الأخرى .. إنّها (شهرزاد) .. انتزعَها (كريم) من أحضانِ (شهريار) في (ألف ليلةٍ وليلة) ، واستغلَّ ميراثَها الحَكَوِيَّ في الليالي الألفِ ، ليجعلَهاراويةَ قصتِهِ المختارة .. واستغلَّ ثورتَها المحتملةَ طيلةَ الليالي الألفِ - والتي وجدَت متنفَّسًا في فعلِ الحكيِ الذي تؤجِّلُ بهِ فناءَها وتؤكِّدُ به وجودَها ليلةً بعدَ ليلةٍ – ليُخرجَها إلى رحابةِ المشاركةِ في الفعلِ ، فهي التي خدّرَت مشاعرَ الرأسمالِيِّ الذكورِيِّ المتسلِّطِ المستغلِّ (يسري باشا أبو الفتوح) ، وهي التي وضعت صناديقَ دود القزِّ في غرفة نومه .. ما أهمَّ عبارتَها حين تقولُ لقائد الخلية الشيوعية: "كلهم يعرف علاقتي بك يا عبيد .. وأنا في نظرهم مناضلة .. كلُّ شهرزاد مناضلةٌ بالفِطرة."إنها عبارةٌ مفتاحيةٌ لفَهم ما تنطوي عليه هذه الأنثى من ثورةٍ ؛ محتملةٍ قبل القصةِ ، وواقعةٍ في القصة ..
- في (أپاسيوناتا): يحكي (شوبرت) للرّاوي عن الـ(بيتهوفنين) الموجودين معًا أمام الپيانو في الليلةِ الموعودة .. فيقول: (لودفيج الوليد الباكي – لودفيج الشاب – لودفيج المراهق) .. استخدامُ الاسمِ الأولِ لـ(بيتهوفن) يوحي بتلك الحميميةِ النادرةِ مع شخصِهِ ، والتي نجدُها في غير هذا العمل في قليلٍ من الآثارِ الأدبيةِ المحتفيةِ ببيتهوفن ، ومن بينِها (البرتقالةُ الآليةُ) لـ(أنتوني بيرچس) ، حيث يشيرُ البطلُ دائمًا إلى بيتهوفن باسمه الأول .. تلك علاقةٌ خاصةٌ بين (كريم) وبين (بيتهوفن) ..
- في (موعد قبلَ الميلاد): تكادُ تكونُ دلالةُ التوأمتَين مباشرةً فهما (يُمنى) و(يُسرَا) .. فـ(يُمنى) هي الفتاةُ التي ضحّى الطبيبُ بأختِها (يسرا) لكي تولدَ حيةً ، ويقابلَها الرّاوي البطلُ ويُحِبَّها ، قبل أن يعرف بأمر أختِها التي احتفظت بها الأسرةُ في مرطبانٍ جنينًا مكتملاً لم يُؤذَن له في دخول الدنيا حيّا .. (يُمنى) هي ذلك الوَعيُ المُخترَقُ بالكاملِ ، مخترَقٌ حتى الثُّمالةِ بكيانٍ غائبٍ حاضرٍ هو (يُسرا) .. حين يباغتُ الرّاوي الجنينَ المحفوظَ في المرطبانِ داخلَ حجرةِ النوم المظلمةِ ، يتجمَّدُ مذهولاً أمامَ المرطبانِ ويصفُ لنا جنينًا مبتسمًا ابتسامةً غامضةً تقصدُهُ ولا تقصدُهُ ، وتعقدُ ساعدَيها على صدرها كالموناليزا .. هي هكذا لأنّها تجسّدُ سطوةَ اللاوعي المتناهيةَ على (يُمنى). كيانٌ خافٍ جَلِيٌّ ينتقمُ لمصيرِهِ وهو ميت!
- في (الشبكية): يأتي اسمُ طبيبِ (العيون) الذي يأخذُ عينةً من شبكية البطل ويستنسخُها ويفحصُها : (هوركهايمر) ، وهو اسمُ الفيلسوفِ وعالم الاجتماعِ الألمانيُّ الشهيرُ المنتمي إلى مدرسة (فرانكفورت) ، وهو أهمُّ مؤسسي (النظرية النقدية) وصاحبُ كتاب (كسوفِ العقل) الذي يستعرضُ من خلالِهِ تصوُّرَهُ عن انتقالِ الفلسفةِ الغربيةِ عبرَ تاريخِها من العقلِ الموضوعيِّ إلى العقلِ الذاتيِّ إلى العقلِ الأداتيِّ حيثُ تصلُ فكرةُ (الصدقِ) في الأخيرِ إلى أقصى ما يمكنُ أن تصلَ إليه من اعتمادِ التفضيلِ الشخصيِّ والانعتاقِ من التصوراتِ المطلقة وما كان يعتبرَ (حقائقَ موضوعية) .. رُبَّما لهذا المُنجَزِ الفكريِّ استخدمَ (كريم) اسمَ الرجلِ هنا .. فطبيبُ العيونِ في القصةِ سينحو بذاتيةِ الوجودِ إلى أقصاها ، فيُعطي مسوِّغًا لأن تتجسَّدَ على أرضِ الواقعِ أكثرُ تصوراتِ البطلِ / الرّاوي شخصانيةً وذاتية .. إنه اللحظةُ الفارقةُ التي عندها تتحولُ الرغبةُ المكبوتةُ في الخلقِ ، إلى خَلق ، ومن ثَمَّ إلى كارثة !!
- في (بئر لَملَم) : ليسَ من قبيلِ المصادفةِ أنَّ الشابَّ الملعون (المنطويَ على قدرٍ لا بأسَ بهِ من الأصالةِ الذاتيةِ) اسمُهُ (إسماعيل) ، وأنَّ أمه (هاجَر) .. (إسماعيلُ) الذي رُزِقَته أمُّهُ على كِبَرٍ يقلِبُ النظرةَ الإسلاميةَ لـ(إسماعيلَ) النبي عليه السلام .. فالأخيرُ غلامٌ طائعٌ للأبِ ، يستسلم لسِكّينِهِ أثناءَ الذبحِ طالما أنّ الآمِرَ الله .. أمّا الأولُ فهو يتناولُ المقدساتِ بالسخريةِ طيلةَ الوقتِ ، يعصي أمه حين تستجدي منه الطاعة والعودةَ إلى الله .. وهي ليست فقط (هاجَر) زوجَ (إبراهيم) وأمَّ (إسماعيل) عليهما السلامُ ، بل هي (إيزيسُ) الإلهةُ المصريةُ مُحبطَةَ المسعى .. جمعت (إيزيسُ) فُتاتَ زوجِها (أوزيريس) المبعثرةَ من الدلتا إلى النوبة ، وأعادت إليه الحياة بسحرِها وغنائها ، فعادَ النورُ إلى العالَمِ ، وحبلَت منه بـ(حورِس) .. أمّا الحاجّةُ (هاجَر) / إيزيسُ قصتنا ، فمحكومٌ عليها بإخفاقِ محاولاتِها لجمعِ قطع الزجاجِ التي تحولَ إليها ابنُها وإعادةِ الرُّوحِ إليها .. ولا يفوتُنا هُنا أن نذكُرَ التأثُّرَ الواضحَ في هذه القصةِ بفيلم (دوني داركو) .. فمشهدُ الحاجّة (هاجَر) بشَعرها الأشيبِ المهوَّشِ وملابسِها الرثَّةِ وهي تحفِرُ الأرضَ بحثًا عن شيْ مجهولٍ في بداية القصةِ يُعيدُنا إلى
Grandma Death
أو الجَدّة (موت) التي تبحثُ كلَّ يومٍ في الفيلم عن رسالةٍ لا تصلُ أبدًا ، ومشهدُ الجزءِ من السقفِ الذي ينهارُ في حجرةِ (إسماعيل) يُعيدُنا إلى ذاتِ المشهدِ في حجرةِ (دوني داركو) .. القصةُ تجمعُ خيوطَها من هذه المصادر الثلاثةِ (قصة هاجر والنبي إسماعيل – أسطورة إيزيس وأوزيريس – فيلم دوني داركو) ، ورُبَّما ممّا وراء ذلك!
- في (الموت قيصريًّا) : تلك القصةِ المتأرجحةِ بين الحلم والواقعِ ، نجدُ (إسماعيلَ) آخَرَ هو الشيخُ الملتحي الذي يعملُ في المَذبَحِ مع الرّاوي البطل .. إن مهمتَهُ تنحصرُ في شق الذبائحِ وتقطيعِها بالمنشار الكهربي المستدير .. يصفُ الرّاوي بسمتَهُ بأنها (هلاليةٌ) تبدو كلما أوشكَ على شق الذبيحة .. الشيخُ (إسماعيلُ) معادلٌ موضوعيٌّ لرغبةِ الرّاوي / البطل في الانتقامِ من اليهود الصهاينةِ على بَقر بطن أمه بالسونكي قبلَ أن تلدَه .. وهو رمزٌ إسلاميٌّ حتى النخاع ، من لحيته التي تلفُّ وجهه المكتنزَ ، إلى اسمه المرتبطِ بجد نبي الإسلام عليهما الصلاة والسلامُ وأبي العرب ، إلى بسمته الهلاليةِ بما للهلالِ من مكانةٍ في الوعي الجَمعيِّ الإسلامي ..
.  .  .  .  .

* الاشتباكُ مع المأثورِ الإسلامي:
  وهو محورٌ أوضحُ من أن نبينَه .. لن يخفى على القارئ في إيماءاتنا السابقةِ ، كما لن يخفى على قارئ المجموعة بالطبع .. وهذا الاشتباكُ يتراوَحُ بين الثورةِ والهدمِ والقلبِ من ناحيةٍ ، وبين التسليمِ المؤمنِ من ناحيةٍ أخرى ..
  - ففي قصةِ (بئرِ لَملَم) مثلاً ، كما أسلَفنا القولَ ، يقلبُ (كريم الصياد) التصور الراسخ في الوعي الإسلامي عن (إسماعيل) ليخلق (إسماعيلَ) جديدًا ثائرًا ملعونًا محكومًا عليه بسرطان الزجاج!
  يُعيدُنا هذا إلى سُورةِ الأعرافِ حيثُ يصفُ القرآنُ حالَ المكذبين بالله: "إن في صُدورِهِم إلا كِبرٌ ما هم ببالِغيه."
  إنه هذا الكِبر .. (إسماعيلُ) القصةِ التي بينَ أيدينا ، الفتى العاصي المتأبّي على أوامرِ اللهِ ، تصيبُهُ لعنةٌ ما هي إلاّ تجسيدٌ لمجازِ حالِه .. فالزجاجُ كيانٌ مسلوبُ الماء ، لا يقبلُ الانثناءَ ولا التشكيل ، ومآلُهُ إلى الانكسار .. وهو ما يحدثُ بالفعل!
- وفي قصة (الموت قيصريًّا): تنبني القصةُ على الحديث النبويِّ الواردِ في صحيح مسلمٍ : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله . إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ." .. ويكادُ الحدثُ الواردُ في هذا الحديثِ أن يكونَ من أركانِ علم آخِر الزمان
Eschatology
في الإسلامِ بمعظمِ أطيافِهِ من السلفيةِ الأرثوذكسيةِ إلى الصوفية .. والاشتباكُ هنا ينتهي إلى تسليمٍ مؤمنٍ بالمأثور ، حيثُ يقعُ الأخُ الأصغرُ المولودُ لأمٍّ يهوديةٍ على المنشار الكهربيِّ ليموتَ بجراحِهِ ، رغم إصرار أمِّهِ على أن تبعث بخشب أثاث البيتِ كله من الخارجِ (من ألمانيا) ، ليكون مصنوعًا من خشب الغرقد! القصةُ تحتفي بحبكةِ المؤامرةِ ، والثغرةِ المزروعةِ داخلَها ، التي تمكّنُ الطرفَ المُتَآمَرَ عليه من الانتصارِ في النهاية ..
- في قصة (اللؤلؤة .. أو ذرَّةُ رمالٍ من سِجِّيل) ، يأخذ الاشتباكُ شكلَ التسليمِ التدريجيّ كذلك .. فالكاتبُ المزعومُ للنَّصِّ (أشواعُ بنُ دارع) مترجمُ (أبرهةَ) الحبشيِّ إلى العربيةِ ومنها ، يروي قصة مداهمةِ الكعبةِ ولقاء أبرهة بعبد المطَّلِبِ ، ثم ينطلقُ منها لمذكراتِهِ بعد العودة إلى (أكسوم) ونمو اللؤلؤةِ داخلَهُ وداخلَ زوجتَيه ، حتى يصل في السطرِ الأخيرِ من القصةِ إلى أن يقول رغمَ آلامه وإصابته بالشلل التام: "لكنني كنتُ سعيدًا .. ورَبِّ الكعبةِ كنتُ سعيدا"!
  إنَّ (أشواعَ بن دارعٍ) هو المعادلُ الموضوعيُّ للرَّجُلِ – Yالذي تحلُّ به اللعنةُ ، ثُمَّ يُشفَى منها تدريجيًّا ، ويستقبلُ موتَهُ سعيدًا عائدًا إلى الحالةِ المعياريةِ السليمةِ من المَسخ والسَّخط ، وهي حالةُ (الرَّجُلِ) فقط .. وليسَ الرَّجُلَ – Y !

*   *   *   *   *

كان هذا غيضًا من فيضٍ عمّا يمكن أن يزخرَنا به خمسةَ عشرَ نصًّا بديعًا ، احتوتها هذه المجموعة .. وأزعمُ أنَّ ثراءَ هذه المجموعةِ يتركُ كُلَّ من يتعرَّضُ لمقاربتِها شاعرًا بالعجز والتقصير وهو يكتبُ عنها .. أعترفُ بأنَّني أتعمَّدُ الانتهاءَ من تدوينِ ملاحظاتي عن المجموعةِ هنا ، وأنَّ في هذا كثيرًا من العَسف .. لكن ، ما يشفعُ لي ، هو أنني أتناولُ نصوصًا بهذه الثراءِ ، هي بالتأكيدِ أهمُّ من محاولةِ مبتدئٍ دائمٍ مثلي .. واللهُ من وراء القصد!





  

Hggi

$
0
0


آتٍ وَئيدًا إلى أقصايَ من أقصايْ   مُخَبِّئًا مِلءَ أكمامي خَواءَ الفاي!
يا بِذلَتي، خَبِّريني مَن أنا .. أأنا   مملوكُ أيبكَ أم أقطايَ؟ أم أقطايْ؟!
راجَعتُ خَطَّيْ جَبيني ، عَلَّ تَذكِرةً   تُبينُ لي وِجهتي ، لكن سَها خَطَّايْ
تُراقِصُ الناسَ رُوحي وَهْيَ حائرةٌ   شرقيةُ النَّغَمِ الغربيِّ .. جَلَّ الرَّايْ!
سُكُّوا على ما لِتَوِّي قُلتُهُ ثَمِلاً   القِرشُ والنّاهِدُ ابنُ المُرتَقَى حَظّايْ
رَسَمتُ قِرشَ حشيشٍ فوقَ دائرةٍ   لم أدرِ أنَّ دُخانًا سوف يَغشَى الپايْ
وبينما تَركُضُ الأرقامُ مُسرعةً   إلى اليَمينِ ، وقَلبي مُمسكٌ بعَصايْ:
إذ باسَني عَبديَ الحاسوبُ في لُغَتي   سُبحانَ سُبحانَ ، هذا إتش چي چي آيْ
فلَمْ يَسَعني كتابٌ أو مُدوَّنةٌ   أو صَدرُها .. لا سماواتي ، ولا أرضايْ
وضَعتُ شِقّي على حُلمٍ يُراوِدُني   فطارَ في الحُلمِ حتى سِدرتي شِقّايْ
!
محمد سالم عبادة
22 مارس 2012

تذكـُّرُ كلِّ ما لم تقـُله - من ديواني (طقوس التَّبرُّم) - تحت الطبع

$
0
0



هي ناهضةٌ أو ستَجلِسْ ..
وجهُها ليس يُفصِحُ إلا عن الـْ...!
قُبِلَ الراجِلُ الراكِبُ السائرُ الآن أو ما قُبِلْ ...
وأنا صَدِئٌ مُتَكَلِّسْ ..
بل أحبكِ ،كنتُ ومازلتُ ، لا تحسبي فِقرةً حُذِفَتْ ،
إنني صادقٌ لا أدلِّسْ ..
بل أحبكِ ملءَ السماواتِ والأرضِ والشيءِ مِن بعدُ حيثُ تُريدينَهُ ،
سمعَ اللهُ مَن حَمِدَهْ !
هي جاريةٌ سيدَةْ ..
وأنا سَيِّدٌ مُغرَمٌ بالتَّذَلُّلِ مُثرٍ ومُفلِسْ ..
وهَوايَ الأورُبِّيُّ لا أتكلَّفُهُ ،
أتقبَّعُ في تُؤَدَةْ ...
ثم أسعى إلى صفحاتِ كتابٍ لَهُمْ ،
أتأوَّلُ ما قاله بَطَلي ، ثُمَّ أُبلِسْ !
اعترضْتُ مَضاءَ حماقتِها فإذا وجهُها ليس يُفصِحُ إلاّ ...!
كَثُرَ الوَردُ في خَدِّها حين قَلاّ ...
الدَّجاجاتُ لا ينتظِرنَكِ سيِّدتي ،
قد طَعِمنَ مع المَرَدَةْ ...
أطعِمِيني أنا ، طفلَكِ الرَّاهِنَ الواهِنَ المُستغيثَ ،
قُتِلْ !
شاربي لم يَطُرَّ وشاربُهُم ،
آهِ ،
شاربُهُم قد فُتِلْ !!
هي ناهضةٌ أو ستجلِسُ ،
أُمسي وأُمسي وكُلُّ فِراشٍ سيُصبِحْ ..
كلُّ ما لم تَقُلهُ تَمَلَّكَني بَغتَةً ،
يالمَعبديَ المترنِّحْ ...
ألفَحُ المرأةَ الأوليةَ نارًا ،
فتركنُ هَونًا إلى ريقِها وتُحَمحِمُ مُبتَرِدَةْ ...
كنتُ أنظُرُ قُربَ الخِتامِ إليها ،
أُسَبِّحْ ..
وجهُها .. ليسَ يُفصِحْ !

...
2008 

لماذا صوتي لخالد علي؟ أو: لماذا سكتُّ دهرا .. ونطقتُ كُفرا؟!

$
0
0


لماذا صَوتي لخالد علي؟
أو:
لماذا سكتُّ دهرا .. ونطقتُ كُفرا؟!
·       مقدمةٌ قصيرةٌ منفلتةٌ من المنطق:
في المسرح اليوناني القديم ، ظهرت تقنية الإله الخارج من الآلة Deus ex Machinaأي الحدث أو الشخصية الخارجة عن سياق الحكاية ، والتي تغير مجراها بالكامل .. مشهد انتخابات الرياسة في مصر لا يختلف كثيرًا ، فيد الإله التي ستغير كل شيءٍ هي ما يسمى بالمجلس العسكري. التربيطات والصفقات فوق كل شيءٍ بالتأكيد ، ولا يمكن تصوُّر أن يشرف المجلس العسكريُّ على انتخابات رياسةٍ (تهمِّشُ دورَهُ في صناعة القرار، أو تحدُّ من استقلالية ميزانيتِهِ وتعاليها على مراجعة وتدخل الپرلمان، أو تحاسب أعضاء هذا المجلس على ما يُعتبرُ من وجهات نظرٍ كثيرةٍ انتهاكاتٍ ارتُكِبَت بحق الشعب المصري خلال ما يسمى بالفترة الانتقالية، حين يصل أحد المرشَّحين إلى منصب الرئيس) دون أن يتدخلَ هذا المجلسُ العسكريُّ في وصول شخصٍ بعينِهِ إلى هذا المنصب ، بأي وسيلةٍ ممكنةٍ، وبينها ما يتواردُ عن تزوير بطاقاتٍ مدنيةٍ لأفراد الجيش والشرطة، أو حشد أهالي المجنَّدين والضباطِ للتصويت لصالح مرشَّحٍ بعينه، أو عقد صفقاتٍ واضحةٍ أو ضمنيةٍ مع كل المرشَّحين. ولهذا، فإن قراري بشأن التصويت لمرشَّحٍ بعينِهِ لا يعني أنني أعلِّقُ آمالاً عِراضًا عليه أو على غيره إن وصل إلى كرسيِّ الرياسة .. وإنما أنا أنزلُ إلى الشارع وأدلي بصوتي من منطلَق ممارسةِ المتعة الصافية المتعالية على التبرير العقليِّ أساسًا ، لأنَّ كل هذا عبث .. وأحبُّ أن أنوِّهَ مقدَّمًا إلى أني لن أتعرضَ لبرنامج مرشَّحي المفضَّل أو أيٍّ من المرشَّحين ، لأن البرامج متشابهةٌ كما يعرف الجميع ..
·       نقاطٌ هامةٌ في اختياري لخالد علي:
1-             ضعفُ الكاريزما: لا أحبُّ أن أغمط حقَّ الرجل .. لكن يبدو أنَّ الكاريزما – مع ذاتية الحكم عليها – هي جِماعٌ لعدة عوامل تبدو تافهةً لكنَّها توجهُ الرأيَ العامَّ في اختيار مرشَّحٍ على حساب آخَر .. في أمريكا مثلاً نجد أنَّ ناخبًا غيرَ مُسيَّسٍ قد يختار في عامٍ مرشَّحًا جمهوريًّا ، وبعد ذلك بأربعة أعوامٍ مرشَّحًا ديمقراطيًّا ، استنادًا إلى الانطباع الذي وصله من أداءِ أحدهما كرئيسٍ بالفعل في الفترة السابقة ، وإلى البرنامج أحيانًا ، وإلى الكاريزما في معظم الأحيان .. لست متخصصًا في التواصل غير اللفظي، لكن أزعمُ أنَّ عواملَ من قبيل مواجهة العين Eye Contact
وخامة الصوت Pitch of Voiceوحركات الأيدي ، بالإضافة إلى منهجية عرض وجهات النظر وحتى شكل وجه المرشَّح وربَّما توزيع الشَّعر في وجهه وبنيته الجسمية : كلُّ هذا العوامل تخلق الكاريزما .. في رأيي أنَّ (خالد علي) حظُّهُ من هذه العوامل قليلٌ ، رغم حبي للرجل على المستوى الشخصي والانتخابي .. لماذا إذن أنتخبه بعد هذا؟؟ لكي أكسِرَ حالةَ الرئيسِ الإله/الفرعون/الأب المتجذرة في الوعي الجمعي المصري (قال الفنان هاني رمزي في حديثٍ تليفزيوني: احنا مش محتاجين عقل يحكمنا .. احنا محتاجين قلب يخاف علينا!) ، وليصبحَ الرئيسُ مجردَ تُرسٍ في ماكينة (ليست هي ماكينة الإله المشار إليها آنفًا بالتأكيد) .. ربما هو ترسٌ كبيرٌ ، لكنه ترسٌ في النهاية .. دولٌ كثيرةٌ ذات نظامٍ رياسيٍّ كالذي كان قائمًا لدينا لا يُحاطُ فيها الرئيسُ بكلِّ هذه الهالة ولا تدبَّجُ في مدحه وتكريسه الأغاني .. فلماذا لا يكونُ ترسا؟! هذا مع ملاحظةِ أنَّ صلاحياتِ الرئيسِ المنتخَب غيرُ معروفةٍ إلى الآنِ ، وأننا نقامرُ على ورقةٍ مجهولةٍ بالأساس ..
2-             تاريخ الانحياز للمهمَّشين: رغم تنويهي بأني لن أتعرَّضَ للبرنامج الانتخابي ، فسأستندُ فقط إلى تاريخه القصير كمدافِعٍ عن حقوق المهمَّشين في هذا المجتمع ، وهو شيءٌ يمكن للمهتم أن يراجعه على صفحته الرسمية على الإنترنت .. صحيحٌ أن لمرشَّحين آخرين تاريخًا نضاليًّا محترمًا في أكثر من اتجاهٍ ، لكني أزعم أن تركيز (خالد علي) على قضايا المهمَّشين يتمتع بفرادةٍ لا تُجحَد .. المهمَّشون هم معظم الشعب المصري في النهاية .. أذكرُ عنوانَ خبرٍ في مجلة (المُصَوَّر) ، في عددٍ طالعته مع أبي بينما كنا جلوسًا في (جروپي) حديقة الحيوان منذ أكثر من سبعة عشر عامًا: "ربع مليون طبيب مصري تحت خط الفقر" .. ماذا عن الطبيب المصري الآن؟؟ الطبيب المصري ليس هو المهمَّش .. وأنا في النهاية لا أهتمُّ كثيرًا بأي إحصاءٍ يصدر عن جهةٍ إحصائيةٍ مصرية .. تعلمتُ ألاّ أهتم .. أنا فقط أخرجُ صباحًا لأقفَ في محطة الأتوبيس منتظرًا ما يذهبُ بي إلى (قصر العيني) طالبًا ، أو (أحمد ماهر) طبيبًا ، أو (جامعة الأزهر) طالبَ ماچستير ، لأشمَّ رائحةَ روثِ الغنم الرابضة تحت إمرة الراعي البورچوازيِّ الصغير عند المحطة ، ولتبدَهَني صورةُ رجلٍ مسنٍّ أو طفلٍ أو امرأةٍ في منتصف عمرها تعبثُ في أكوامِ الزبالة القريبة والمتناثرة ، علَّها تجدُ إفطارَها ..
3-             لستُ صادرًا في هذا الاختيار عن رومانسيةٍ ثوريةٍ تستدعي شعراءَ أوربّا في عام الثورات في 1848 .. فأنا لستُ رومانسيًّا بالمرَّة .. يعرف هذا قليلون يقرأون ما أكتبه ، ويعرفه أصدقائي المقرَّبون الذين سمعوني أتجشَّأ بعد (شوربة العدس) .. كما أنني لستُ ثوريًّا، وأعترفُ بهذا .. لم أنزل إلى ميدان التحرير طيلة ثمانية عشرَ يومًا إلا يومَين .. وليسَ وراءَ هذا إلا الكسلُ أو اليأسُ في معظم الأحيان .. وهي طبيعةٌ لا يصعبُ تغييرُها على من يمتلكُ الإرادة .. لكنَّ لي تفضيلاتي الشخصيةَ فيما يتصل بقضاء وقتي .. ولا أعتقد أنها ستتغيرُ في الأمد القريب .. المهمُّ أنني أرشِّحُ (خالد علي) لسببٍ أكثر جذريةً من الرومانسية الثورية .. فإنني مصداقًا لشعارِ حملته الانتخابيةِ الموازية : اعتبرته اخويا! الرجلُ أكملَ الأربعينَ بالكاد .. ربما خبرته الإداريةُ ضعيفةٌ ، لكنني أفترضُ وجودَهُ وسطَ (مؤسسةٍ رياسيةٍ) متكاملةٍ وطاقِم مستشارين .. كما أنني مهتمُّ بفكرة الترس إلى أبعد الحدود .. أنا أحبُّ التروسَ في الحقيقة!!
4-             القاف: (خالد علي) لا ينطق القافَ سليمة .. وهذا من أسرارِ ترشيحي إياه .. (خالد علي) لا يشبهُني .. ربما يمثل (خالد علي) بقافِهِ المحتفيةِ بالضعفِ ، وملامحه الموغلةِ في الدقهليةِ الطيِّبةِ التي أحبُّها : أقولُ ربما يمثلُ نقطةَ تطورٍ حقيقيةً في مسار الفكر السياسي المصري .. لن يتولى (خالد علي) الرياسة ، وفرصه منعدمة .. ولكن هذا لا يعنيني! (خالد) يمثل انهيارَ مركزية الرئيس في نظام الحكم .. خطوةُ باتجاهِ اللاسلطوية Libertarianism .. أنا لستُ لاسلطويًّا أصلاً ، لكنَّ وصولَ مجتمعٍ ما إلى التكيف مع اللاسلطوية يعني تقدمًا إنسانيًّا في رأيي .. أنا مجردُ خادمٍ للقدَر .. وكذلك (خالد علي) .. ولن تقومَ الساعةُ إلا على شِرار الناس .. هه! أعرفُ أنها مسألةٌ محيِّرة .. لكن من قرأ عن الجماعات الدينية اليهودية التي ترفضُ قيامَ إسرائيل الدولةِ بشكلِها الحاليِّ وترفضُ الهجرةَ إليها من منطلَقِ أنَّها تحايُلٌ على كلمة الربِّ ، يعرف ما أعنيه .. الاستسلامُ للقدَر . الاستسلامُ للتاريخ .. من قرأ كتاب الدكتور (رشاد الشامي) عن (القوى الدينية في إسرائيل .. بين تكفير الدولة ولعبة السياسة) ، يدركُ ما أعنيه!
5-             لماذا ليس أبا الفتوح تحديدًا: يراهن البعضُ على (أبو الفتوح) باعتباره قادرًا على مواجهة العسكر وتحجيمهم في حالةِ إذا ما لقيَ تأييدًا شعبيًّا كاسحا .. وأنا لم أستطع أن أرى ذلك لسببٍ هامٍّ هو تصريحاته المهادنةُ للعسكر .. لا يعني هذا أنَّ الآخَرين لم يهادنوا العسكر .. التربيطاتُ فوق الجميع .. لكن حتى إذا نجح (أبو الفتوح) في تحقيق حلم النخب الثورية ، فإنه سيكونُ بذلك ضد النقاءِ الثوري ، الذي لا أدّعي الدفاعَ عنه لأنه غير ممكن التحقق في ظلِّ حنَقِ الكثرة الكاثرة من الشعب المصري على نفس هذه النخب الثورية! أعني أنَّهُ سيثبتُ پراجماتيَّته إن فعل .. فهل الپراجماتيةُ عيبٌ في السياسة؟ بالطبع لا .. لكنَّ التباسَ مواقفِ الرجلِ وتاريخَهُ الإخوانيَّ (مع ما يتميز به الإخوان من تبدُّلٍ سريعٍ في القراراتِ حسبَ المصالح التي لا يعلمُها إلا اللهُ جلَّ وعلا ، ثم فضيلةُ المرشد وأعضاء مكتب الإرشاد) لا يجعلاني واثقًا تمامًا في قدرته على إنجاز هذا الفعل الحاسم مع العسكر .. هذا مع محبتي الحقيقية لشخص الرجل ، بشكلٍ يصعب تبريره ، لكن ربما يكون مرجعُ هذا إلى نظرته الأبوية الحانية ونبرة صوته المُحتَوِية ..!

·       سيناريوهات بديلة:
1-   لو كنتُ في ديمقراطيةٍ راسخةٍ كأمريكا: والدستور قائمٌ يحدد صلاحيات كل سلطةٍ في نظام الحكم .. إذن لاخترتُ صاحب الكاريزما الأعلى ، ومعه نائبه بالطبع .. في رأيي ، هما (حمدين صباحي) ، ونائبه (الدكتور سليم العوّا) .. لن يستطيع الرئيسُ إساءة استخدام تلك الصلاحيات لوجود ضوابط دستوريةٍ وعُرفيةٍ عتيدة .. لم أرفض (حمدين) لقوميته العربية ، أو لخوفي من تكراره التجربة الناصرية أو لانتمائه إلى الناصرية .. فالمرجعيةُ لا تُخيفُ مهما كانت (إلا إذا انطوَت بحكم بنيتِها على انغلاقٍ تنظيميٍّ ومبالغةٍ في المكيافيللية) .. الأفكار تتطور .. ولا يمكن استنساخ تجربةٍ مضى على تحققها أكثر من أربعين عاما .. التاريخ لا يعود للوراد ، وظروف اليوم غير ظروف أمس .. لكنّي ببساطةٍ ، لا أريدُ إلهًا على كرسي الرياسة .. أنا مسلم! وصديقي المسيحيُّ مسيحيّ!! لدينا عباداتنا بالفعل .. عذرًا أستاذ (حمدين) ، لكنك بالفعل مضيءٌ أكثر مما ينبغي .. هذا رأيي .. ولك أيها القارئ النادر أن تقذف به في بالوعة العوالم المتوازية .. إذن فلماذا (العوّا) نائبًا؟؟ تذكَّروا نواب الرؤساء في أمريكا .. عادةً يميلون إلى البدانة ، وهم أسَنُّ من الرؤساء ، وهم الأكثر منهجيةً في عرض أفكارهم ، ولهم منجزهم الفكريُّ أحيانًا .. لهذا هو (العوّا) !! رغم أن هذا سيغضِبُ الكثيرين.
2-    لو كنت في ديمقراطيةٍ راسخةٍ أخرى كإسرائيل: لانتخبت الدكتور (عبد المنعم أبو الفتوح) دون تفكير .. في إسرائيل ، منصب الرئيس شرفيٌّ ، ونظام الحكم پرلماني .. والدكتور (أبو الفتوح) له هذا القَبول لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب .. فضلاً عن كونه خرّيج قصرالعيني .. وهو هذا الأبويُّ في هيئته ، وأنا حقيقةً أحبه على المستوى الشخصي (تاني!!) .. وكفاية انه ذاكر باطنة ..
3-   لو كنتُ أكثرَ رضًا مما أنا عليه: لاخترت (أحمد شفيق) بالطبع .. هذا الخطابُ الفارغُ ، الذي سقط منه النحو سهوا .. الرجل لا يقول شيئًا تقريبًا .. وهذه هي فضيلةُ الصمت .. أسعى إلى الوصول إلى هذه المرتبة من الرضا ، التي أعودُ فيها إلى اللوغوس .. إلى الصمت.
              

قداسٌ أسود يصدر قريبًا عن دار كلمة

$
0
0






لا أمرُها
بل ما شاءَت الصُّدَفُ
حَلَّ الظلامُ العظيمُ
والسُّدَفُ !

فأشعلَت مُوجِباتِ حَيرتِها
فلم يُفِدها في الظُّلمةِ النَّجَفُ !

عُيونُ أطفالِها
تَرى شَذَراتٍ
لا تَراها عُيونُها الخَزَفُ ..

مَوتى بسَمتِ الأحياءِ
يَنطَلِقونَ
في وَقارٍ ، وتَصفُرُ الغُرَفُ

ويَقصِدُون البِيانَ قِبلَتَهُمْ
ويَدمَعُ البيتُ
كلما عَزَفُوا

لا تَصفِقِي البابَ
إنهم سَكَنوا
في حَلقِهِ ، ثُمَّ صَرَّ إذ رَجَفُوا

لا تَشرَبي في الإنجيلِ
فالصَّفَحاتُ :
لن تَرَيْ غيرَ أنهُم .. نَزَفُوا !!

من تجربتي (الآخرون) - ديواني (قدّاسٌ أسود)
يصدر قريبًا عن دار (كلمة) للنشر

زَيد .. من ديواني (قميصي هذا) - تحت الطبع مع (الناشر) ومجلة (أنهار) الأدبية بالكويت

$
0
0
زَيْد
في (زيد بن عمرو بن نُفَيل) الذي تحنَّفَ في الجاهلية على دين (إبراهيم) الخليل، وهو والدُ (سعيد بن زيد) أحد العشرة المبشرين بالجنة، و قد قال فيه رسول الله صلى اللهُ عليه و سَلَّم: "يُبعَثُ زيدُ بنُ عمرٍو يوم القيامة أُمَّةً وحدَه" ..

(1)
سَنامُ الأمرِ أن تَعلُو سَنامَ الشَّوقْ ..
وألا تُسْلِمَ النَّاقُوسَ في عَجَلٍ لأوَّلِ ضارِبٍ تَلقاهُ في الصَّحْراءْ ..
فإنَّ الطِّفلَ حِينَ يَمَلُّ لُعبَتَهُ
يَشُبُّ عن احتِمالِ الطَّوقْ ..
و تِلكُمْ غايةُ اللُّعبَةْ ...!
(2)
أيَلفِظُني حَشَا (مَكَّةْ)؟!
أأغرُبُ عن وُجُوهِ الآلِ دُونَ وَداعْ؟؟
أنا مَن كُنتُ فيها عَينَ مَجلِسِها
فثَمَّ أمِينُ صُحبَتِهِ وثَمَّ فتىً وثَمَّ مُطاعْ ...
أكابِدُ مِثلَ كُلِّ بَنيكَ (إسماعِيلُ)،
أبسُطُ ذِلَّتي لأبي:
"أحِدَّ النَّصلَ و افعَلْ ما أُمِرتَ بهِ"
فيزرَعُ فيَّ زُبدَةَ حُلمِهِ / شَكَّهْ ..
ولكنِّي جَهَرتُ بما أكابدُهُ،
فلم يَستَمرئُوا جَهري
فعَنّي الناسُ مُنفَكَّةْ ...
سأسلُكُ فوقَ ظهرِ الشوقِ مُبتعدًا
لعلَّ مُبَعثِرَ الأركانِ يَهدي عبدَهُ شِعبَهْ ..
(3)
سَنامُ الأمرِ أن تَخلُو بكلِّ (حِرَاءْ) ..
فتسمَعَ كيفَ تَصْطَرِخُ النوازِعُ فِيكَ
كَيفَ تَمُورُ
كيفَ سُيوفُها وكُؤوسُها يُقرَعْنْ ..
ولَم تَكُ – زَيدُ – تَرجُو غَيرَ وَجهِ مُبَعثِرِ الأركانِ،
ثُمَّ اجْتاحَكَ الإسراءْ ..
فَوَاصِلْ واضرِب الناقُوسَ ،
لا تَسكُنْ؛ أبَيتَ اللَّعْنْ ..
فتِلكَ الخُطوَةُ الصَّعبَةْ ...

(4)
هَزِيمُ اللهِ يُرعِدُني، و أُفْقِي مُبهَمٌ وَجَهِيمْ ..
ولَولا الغَيمُ خاتَلَني لكُنتُ شَرِبتُ شُربَ الهِيمْ ...
أهِيمُ مُحَرَّقًا، وأعُودُ بَردًا سالمًا، فأهِيمْ ...
وأُقسِمُ لَم أُرِدْ، لكنْ
كَذلكَ دِينُ إبراهِيمْ ..

(5)
سَنَامُ الأمرِ أن تُرجَعْ ..
وأن تَقتاتَ نُبلَكَ: بينما هُم نُوَّمٌ تَهْجَعْ ..
فَذَرهُم لِصْقَ أرضِهِمُو، أمَا لَكَ في السَّمَا مَضْجَعْ؟!
ألا اخْفِضْ نَبْلَكَ الرَّعناءَ،
صَمتُكَ بينَهُم أشجَعْ ..
ألا لا فُضَّ صَمتُكَ يا صَمُوتُ
وفُضَّت الجَعبَةْ ...!

(6)
دَعَوتُ اللهَ ألاّ يَهدِيَ الباقِينَ مِن خَلفِي إلى لَحْدي ...!
فإني ساجدٌ أبدًا،
و مُستَنِدٌ كَذاكَ لِبَيتِهِ المَعمُورْ ...  [1]
سأبعَثُ أمَّةً وَحدي ..
فإني قد سَمِعتُ نوازِعَ الأرواحِ وَهْيَ تَمُورْ ...
سَمِعتُ مُقَوِّمَ الأركانِ يَهزِمُ
فالدُّنا خَرَفٌ إزائي
والسَّما مَزمُورْ ...
وأبقاني
وقال مُضاحِكًا إيَّايَ:
"يَنسَى المُبتَغِي رُعبَهْ" ..!

(7)
سَنامُ الأمرِ ألا تَستَخِفَّ الأمْرْ ..
تَسَنَّمْ شَوقَكَ المَيمُونَ
لكِنْ لا تَنَمْ للشَّوْقْ ..
فإنَّ الأمرَ- هَاكَ النُّصحُ – يُنبِتُ في يَدَيكَ الجَمْرْ ...!
تَرَقَّبْ ظُلَّة ً مِن فَوْقْ ...
هُنالِكَ
قد تَرَى الكَعبَةْ ...!
2007






 [1] يُروى في أثر (زيد بن عمرٍو) أنه في أواخر حياته كان يُرَى مسندًا ظهرَه إلى الكعبة وهو يقول للقرشيين :"والله ما منكم أحدٌ على دين إبراهيم إلاّي" ..

مَرثِيَّةٌ لغِطاءِ الرَّأس

$
0
0

راحةُ الأبِ أينَ اختَفَتْ؟
لا أراها تُرَبِّتُ رأسَ الغُلامْ
كان نسجُ الطواقي فضيلةَ مَن سبَقُونا،
كأنّي أرى رجُلاً في ثلاثينِهِ
شَدَّ مِن بِركَةِ الذِّكرياتِ يَدًا حانِيَةْ
وتأمَّلَها ثُمَّ راحَ يُفَصِّلُ مِن لَمسِها ما يُحيطُ بهِ رأسَهُ
وَهْوَ يَذرَعُ حارتَهُ الفانِيَةْ
مَدَّ خَطَّ العُمُرْ
لِيَكونَ استواءً لطاقِيَّةٍ سيُغَنّي الشيوخُ الخُلُودَ
إذا ما رأَونِيَ ألبسُها وأمُرّْ
وزرعتُ على جانبَيهِ العِضاهَ،
زرعتُ السَّمُرْ
لا يَفوتَنَّكَ الشّوكُ عقربُ ساعةِ هذي الحياةِ
وتوأمُ ما يَتراءَى لكم مِن قُطوفِكُمُ الدّانِيَةْ

فاعتمرتُ العِمامَةْ
وتذكّرتُ راحةَ أرواحِ مَن طَرَّزُوا بالمُوَشَّحِ أشواقَهُمْ،
واعتمرتُ العِمامةَ يا سادَتي ثانِيَةْ
ثُمَّ حطَّت يَمامةْ
عندَ مَفرِقِ أيامِيَ المُشفِقاتِ وأيّامِيَ الجانِيَةْ!
واعتمرتُ العِمامةَ لمّا سَبَى أُذُنَيَّ الكلامْ

كان طربوشُ قاهِرَتي قانِيًا كدماءِ المظاليمِ
حينَ تُراقُ على صفحاتِ الشّوارِعِ،
كان النّبيذِيُّ مثلَ شَرابٍ أتى في جُيوبِ الخواجاتِ
رغمَ أُنوفِ الزُّجاجاتِ،
كان حلالاً لِمَن قد تَحَنَّفَ،
ليس على الحَنَفِيِّ مَلامْ!
إنني ساهِرٌ ليلَكُم يا أفَندي ..
إنّما حَيرَتي في اختيارِ المكانِ،
فمِن أينَ أبدأُ؟
كلُّ مكانٍ هنا هو زهرةُ رَندِ ..
سوفَ أصحَبُ نحوَ النهارِ رِفاقَ الكِفاحِ،
شيوخَ الصُّحُونِ المليئةِ،
أصحابَ هذي الحوانيتِ،
والعاشقينَ،
وغانيةً تستقِلُّ بزَندِي ..
فإذا جَنَّ ليلٌ
فإنّ طرابيشَ قاهِرَتي ستُضِيءُ الظَّلامْ

لم يَكُن مَن تَقَبَّعَ فيما مَضَى مُغرِبا
رُبّما كان يَحمِلُ (لندن)/ (باريسَ)
كي تأكُلَ الطيرُ منها،
ولكنّهُ لم يَزَلْ شادِيًا مَشرِقِيَّ الغِنا مُطرِبا
إمبراطُورَتي القُبَّعَةْ
لم تَغِبْ شمسُها عن جدائلِ رأسِي،
ولكن توارَتْ
وظَلَّ شُعاعٌ لها يتراقَصُ بينَ يَدَيَّ لِكَي أتبَعَهْ

عَرِيَ الرأسُ
والناسُ:
لم يَعُد الناسُ يستمرِئُونَ فضائِلَ مَن سبقُوهُم،
ولا يستبيهِم كلامٌ
ولا يزدَهيهِم حَلالٌ
ولا يأبَهُونَ لِطَيْرْ
عَرِيَ الرأسُ
لم يَعُد الناسُ يلتفتونَ لِهَيبةِ تلكَ السّماءْ
بَيدَ أنِّيَ بِي يا صَديقي أَذًى مِلءَ رأسِي،
فهل ستُشارِكُني في شَعائرِ لُبسِ الغِطاءْ؟!
............................. 
محمد سالم عُبادة
الأربعاء 1/5/2013
نُشِرَت في (أخبار الأدب) بتاريخ 23 أغسطس 2015

قراءة في رواية (كلام) لمحمد سالم عبادة - للشاعرة الصديقة/ دعاء فتوح

$
0
0


الإبداع إناء يمتلئ بالمعنى، و"كلما افترق عمّن يتحدثون لغته، ظل بلا لسان، وإن كان لديه ألف صوت"مثلما قال مولانا جلال الدين الرومي، فوجب على العمل الإبداعي الذي يطمح إلى البقاء أن يتحدث بلغات عدة تتناسب مع تنوع مستويات تلقيه الذي يختلف باختلاف المتلقي.

(كلام) رواية للشاعر والقاص والروائي محمد سالم عبادة. تحمل في طياتها سمة الكلمة التي يختلف فهمها وتأويلها باختلاف طريقة تلقيها، فهي نموذج مثالي للنص الذي يوحي بأكثر مما يقول صراحة!!

بعد قراءتي الأولى لها غرقت في موجة ضحك هستيري لا أعرف سببه، فأنا أمام أربعة شخوص منقسمين إلى أربعة فصول، كل فصل يحمل اسمًا لواحد منهم بمصاحبة كلمة أو أكثر:

أولاً/ مختار (ترنيمة)
ثانياً/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)
ثالثاً/ نادر (اقترب المقت)
رابعاً/ عادل (وهبتُ لنصل فأسيَ أمَّ رأسي)

في حوالي مائة صفحة من القطع الصغير وبلغة مكثفة للغاية، تعرف أنهم ثلاثة أطباء ومتخصص في علم الاجتماع يعملون في مجالات مختلفة، وهم شعراء يكتب كل منهم نوعًا مختلفًا من أنواع الشعر، تعرف ذلك من نماذج صغيرة لأبيات شعر قُرئت في أمسية جمعتهم، فهم أعضاء جماعة أدبية تسمى (كلام)، ويحبون جميعاً (رحاب) التي لم تظهر إلا كصورة منعكسة في حدقة عين كل واحد منهم لتعكس ذاته. عند فشلهم جميعا بالارتباط بها، تنتهي الرواية بانتحارهم!!

فلماذا أضحك إذاً؟!
أبحث في عقلي عن أحداث الرواية الرئيسة، فلا أجد غير يوم الأمسية الشعرية، الذي نعيشه أربع مرات مختلفة باختلاف رؤية كل واحد منهم لذلك اليوم العارض!!

أعود مرة أخرى لآخر فقرة في الرواية فأجد (عادل) يحدث نفسه قبل الانتحار:
"اليوم.. (كلام) أنثى.. (كلام) لا يُفعَّل.. أنا أنثى.. طبنجة ليس لها من الفعل إلا ماسورتها.. حشوت خزانة المسدس.. أنا عارية تماما.. ها أنذا.. أفتح صوت الكمبيوتر لآخره.. أضحك كما لم أضحك من قبل..
We are the champions
الماسورة تدغدغني.. وأضحك.. سأضغط الزناد، وأتوقف عن الكتابة.."

من الواضح أن تلك الماسورة كانت تدغدغ نفسي، لهذا كنت أضحك مثل (عادل)!!
أدرك الآن أن عقلي يحتاج إلى قراءة أخرى لفهم الأبعاد (النفسية/ الاجتماعية/ الثقافية) لهم.

·       الأبعاد النفسية

في الفصل الثالث يوجد مفتاح فهم الأبعاد النفسية لكل شخصية من الأربعة، (نادر) أستاذ علم الاجتماع المتعالي، والذي أمقته فعليا، وأسعد كثيرا بانتحاره –يُشعرني بلزوجة عرق صيف وجب التخلص منها بحمام بارد!- يُلقي محاضرة عن أسباب الانتحار وفق وجهة نظر (دور كايم)*(1)، فنحن أمام شخوص رسمها الكاتب منتحرة بالفعل، فكل واحد منهم يمثل نموذجا من نماذج (دور كايم) الأربعة، و(رحاب) ما هي إلا رمز لعلاقة كل واحد منهم بالمجتمع الثقافي:

أولاً/ مختار (ترنيمة)، انتحار أناني:
فهو يحب رحاب كما يحب الله، ولكنه لا يقترب منها أو يتفاعل معها، حب لا يعرف سبل التواصل، فهو ذلك المسرع في صلاته لكي يلحق بحلقة ذكر صوفية ليتواصل فيها مع الله!!. كما أنه يشعر بانعدام انتمائه لمجتمعه الذي يأخذ جوانب عدة هي (الله/ رحاب/ صديقه المقرب نادر)، يقول مختار قبل انتحاره:
"اليوم سقط آخر في الحضرة بجواري.. لن يصيبني الدور أبدا."

ثانيا/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)، انتحار إيثاري:
ينغمس (صلاح) في التجريب (الجنسي/ الثقافي) على مستويات عدة من المجتمعات (رحاب (وسط ثقافي)/ دينا (وسط العامة)/ سارة، وجورو ناناك (أوساط ثقافية وأدبية غربية)) ولكنه نهم وشره لا يستطيع التوقف، يكتب صلاح:
"الإثم وردة ذهبية/ نصلها يجرح سكون الكون الرتيب/ لكنني لا أستطيع أن أستمر في امتصاص رحيقها.."

فيضحي بعلاقته بـ(رحاب/ الوسط الثقافي) عندما يدرك أنها ستكون أفضل مع صديقه الأقرب (عادل). فيقول (صلاح) موجها حديثه لـ(عادل):
"أنت تنتمي لنفس المجتمع الذي تنتمي إليه (رحاب) يا (عادل).. تشارك فيه كواحد من أبنائه البررة وتغترف من نهر تقاليده، لكنك تفعل ذلك بوعي مطلق بقصوره الذاتي وتخلفه.. ستكونان معا زواجاً مثالياً إن قُدِّرَ لعاطفة ما أن تولد بينكما..)

ثالثا/ نادر (اقترب المقت)، انتحار فوضوي:
يحدث تحول عنيف في حياة نادر بزواجه من (رحاب)، فهو يفتقد الوازع الأخلاقي، وتزوجها فقط لأن شكل جسدها بدا له جميلا من الخلف!، فهو يراها سطحية وغير جديرة به، وعند محاولته الولوج فيها، يخفق في إقامة علاقة جنسية معها، فيتضاعف إحباطه وينتحر.

رابعا/ عادل (وهبت لنصل فأسي أم رأسي)، انتحار مصيري:
فهو يحب الأنثى للأنثى لدرجة أنها تتلبسه فعليا، فلا يستطيع الفكاك من الانصهار النفسي معها ليصبح هو (أنثى/ رحاب) فيصبح عبدا، وعبوديته تلك عائقا يقف أمام زواجه منها.
يقول (عادل) بعد غضب (رحاب) منه: "كانت غاضبة مني للغاية.. لا أطيق ذلك يا (رحاب).. أنا عبدك الطفل.. أنا مكسور بين يديك.."

·      الأبعاد الاجتماعية والثقافية

في فهمنا السابق للأبعاد النفسية، كان الكاتب قد ألقى لنا بوجهة نظر (دور كايم) في سياق أحداث الرواية وكأنها معلومة عارضة، ولكننا اكتشفنا أنها كانت كقطع (بازل) صغيرة عند تجميعها نرى صور واضحة لأسباب انتحار كل واحد من أبطال الرواية، فأنت أمام رواية تفاعلية، تريد من قارئها تجميع قطع (بازل) تخلق في كل محاولة لترتيبها عالمًا جديدًا يساعد في بناء تأويل جديد لعوالم شخوصها..
فهل تركت الأبعاد الاجتماعية والثقافية دون قطع (بازل) خاصة بها؟

بعد بحث خلف تاريخ كل كاتب أو مفكر تأثرت به إحدى الشخصيات تجد نفسك أمام:

أولا/ مختار (ترنيمة)، انتحار أناني، معادل موضوعي:
لشخصية (فيرتر) الذي ينتحر حين يكتشف أن قصة حبه باءت بالفشل، في أحداث رواية (آلام فيرتر) للروائي الألماني (جوته).

ثانيا/ صلاح (الإثم وردة ذهبية)، انتحار إيثاري، معادل موضوعي:
لشخصية الفنان التشكيلي الفرنسي (جوجان)، الذي اتخذه (سومرست موم) بطلا لروايته (قمر بستة بنسات) والتي أتى ذكرها بشكل عارض في الرواية، مثل (آلام فيرتر)!
فرائد الرمزية الآن (جوجان) تعرض لنقد شديد من معاصريه من النقاد والفنانين،  بسبب رفضه لمدرسة التجسيم الإغريقية، وسعيه للموائمة بين الواقع والخيال، وفشل في محاولة انتحاره  يناير 1898!!

ثالثا/ نادر (اقترب المقت)، انتحار فوضوي، معادل موضوعي:
لشخصية الفيلسوف الألماني (شوبنهاور)، الذي عُرِف بالعدمية والتشاؤم، فكان يرى الحياة شرًّا مُطلقا.

رابعا/ عادل (وهبتُ لنصلِ سيفيَ أُمَّ رأسي)، انتحار مصيري، معادل موضوعي:
لشخصية الشاعر والروائي الانجليزي (أوسكار وايلد) -صرح الكاتب بوجود الشبه بينهما بشكل مباشر- الذي حظي بتشجيع ومحبة معاصريه، ولكنه نُبذ وسُجن بسبب حكم المجتمع عليه أخلاقيا لـ(مثليته الجنسية)، ودافع وقتَها (وايلد) عن نفسه:
"إن الأعمال الفنية لا يمكنها أن تكون أخلاقية أو غير أخلاقية، هي فقط تكتب بشكل جيد أو بشكل سيء."

·      رمزية المجتمع

لا نستطيع فهم أبطال رواية (كلام) بمعزل عن رؤيتهم الخاصة عن المحفز والدافع  الرئيسي في الرواية لانتحارهم (رحاب/ أو مجتمعهم الثقافي)، أنت أمام ثلاثة أنواع من المجتمعات، لا نتعرف عليها بشكل واضح إلا من خلال أكثر الأبطال انفتاحا على العلاقات، بكلمات بسيطة منه يمكننا التأويل إلى ما لا نهاية، يقول (صلاح): "الحب ضفيرة من الروح والعقل والجسد"، ونكتشف رؤيته لرموز تلك المجتمعات (دينا/ رحاب/ سارة)، فنجد أن:

- دينا/ مجتمع العامة (بيضاء كالثلج-الروح/ بضة كالقطن-العقل/ ثرثارة كالمرأة-الجسد)
- رحاب/ مجتمع المثقفين (بيضاء كالسحاب-الروح/ بضة كالبالون-العقل/ ثرثارة كالماء-الجسد)
- سارة/ مجتمع غربي (بيضاء كالورق-الروح/ بضة كالدفتر-العقل/ ثرثارة كالقصائد-الجسم)

·      المفارقة أساس البناء

المفارقة هي الأساس الفعلي الذي اتكأت عليه السمات الشخصية لأبطال الرواية:

(مختار)
- شكله/ "جسد مترهل وكرش واسع وأرداف مكورة في تمام مضحك!"، إلا أن روحه تشبه الشتاء القارص الذي يصطك في بعضه من الألم.
- منجزه الأدبي/ "ربما أنا أغزر أصدقائي إنتاجا وأكثرهم تنوعا.. إلا أنني الأقل جماهيرية."
- مهنته/ "مشكلة حقيقية أن يداهم الروماتزم طبيب الروماتزم فيضطر إلى اعتزال مرضى الروماتزم!"

(صلاح)
- هو من طبقة اجتماعية عالية، وعلاقته بمجتمع البسطاء (دينا) تبدو ظاهريًّا تعاطفًا ومساندةً له، فيبحث لها عن عمل فيجعلها خادمة له، ثم يستغلها جنسياً.
- نظريا يبدو كفصل ربيع يزهر في حياة مجتمع البسطاء (دينا) فيقول:"أحاسيس البسطاء يجب أن تظل أفضل من أحاسيس النخبة.. وتصوراتهم يجب أن تظل أكثر مباشرة من تصورات أولئك.. ما يسميه (مختار) (نشازاً) في أصوات هؤلاء المطربين، يسميه عشاقهم (بحة).. وما يعتبره (نادر) سطحية في التناول اللحني وحتى في الكلمات، هو عين بساطة هؤلاء.. أما (عادل) فهو يتفهم هذا رغم أنه لا يحبه..".
ثم نجده يقول عندما فضلت (دينا) البقاء في المنزل وعدم حضور الأمسية الشعرية: "رائعة (دينا).. تعرف مكانها كما ينبغي.. وتتركني وشأني!"، فهذه هي وجهة نظره الحقيقية عن تلك الطبقة.

(نادر)
- يتعالى على رحاب ويتهمها بالسطحية ولكنه يتزوجها.
- يتزوج رحاب بسبب شكل جسدها الذي يعجبه، ولكنه يفشل في إقامة علاقة جنسية معها.
- يتعالى على عقلية مجتمع البسطاء ويرى أنه يعيش في طوره "الثيوقراطي"من أطوار الحياة العقلية، وينتحر على صوت الأغنية الشعبية "هنروح المولد".

(عادل)
- طبيب نساء، وسيم ولطيف كنسمة خريف دافئة تجتذب الفتيات الجميلات من سنه، ولكنه فعليا يتساقط جنسيا كأوراق الشجر فيميل إلى الكبيرات في السن.
- يحب ماهية (رحاب) وكونها أنثى، وليس رحاب بذاتها لذلك يريد أن يَكُونَها!!
- ينتقد أخلاق العبيد ويكون مثالاً فجًّا لها في علاقته برحاب!!

·      الخلاصة

أنت أمام رواية شاعر استفاد تمام الاستفادة من لغة الشعر المكثفة، وكان قديراً في توظيف مخزونه الثقافي عن تيار الوعي الثقافي بأوربا في القرن التاسع عشر، فنجده بوعي أو بدون وعي، قد أحالنا لتلك الحقبة التاريخية من تاريخ الأدب الإنساني.
وعلى غرار (إبْسِن) وضع في نصه فجواتٍ دلاليةً وجب على القارئ مَلؤُها، عن طريق المزيد والمزيد من العصف الدماغي!!

أنت فعليًّا أمام مقطوعة موسيقية تتحدث لغاتٍ عِدّة، فيمكنك تأويلها في (كلامٍ) متحرك ليبقى حياً.

"كلام"رواية صدرت عن دار نشر (أكتب) 2013، وحائزة على المركز الثاني بمسابقة الساقية 2013، والجائزة الثانية بمسابقة نادي القصة لنفس العام.
__________________________________

*(1) (إميل دور كايم، 15إبريل 1858 - 15نوفمبر 1917)، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث وأول من قال بأن الانتحار يأتي كظاهرة اجتماعية، بعكس ما كان شائعا بأنه ظاهرة نفسية.
 ...................................

نُشِرَت هذه القراءة في عدد الأحد 18 أكتوبر 2015 من (أخبار الأدب) المصرية تحت عنوان (مقطوعةٌ موسيقيةٌ تتحدثُ لغاتٍ عِدّة).

ومضاتٌ من الوعي (قراءةٌ في المجموعة الروائية: صِدام الحفريات، لكريم الصياد)

$
0
0
رواياتٌ وَمضيّة .. كذلك أراد كريم الصياد هذا التصنيف لهذه الثلاثية المجموعةِ في كتابِه .. واكبَ ظهورَ هذا الكتابِ في النصف الأولِ من عام 2012 إعلانُ صاحبِه اعتزالَ الأدب بشكلٍ شبهِ مُؤقَّتٍ لرؤيتِه أنّ الوسط الأدبيّ المصريَّ غيرُ ملائمٍ لنوعيةِ ما يكتبُهُ من أدَب .. نحنُ أمامَ ثلاثِ رواياتٍ (وَمضِيّةٍ) هي بترتيبِها في الكتاب: (مُقشَعِرّات – صِدامُ الحفريّات: أركيولوچيا الأرضِ والسماء – الحَراشيف) .. كلُّ الروايات مكتوبةٌ بطريقةِ الفصول القصيرة المُرَقَّمَة المُعَنونَة بعناوين فرعية ..
الروايةُ الأولى (مقشعِرّات) يتبادلُ فيها البطولةَ مع الرّاوي شخصٌ غيرُ محدَّدِ الهُوِيّة يقولُ عنهُ في الفصلِ الأولِ (القهوة السويدية) إنه عرفه في أحد المؤتمرات الدولية و"لم يَعرف أحَدٌ الدولةَ التي كان يمثِّلُها" .. في إحالةٍ بلاغيّةٍ إلى المكتوبِ في كُتب السّيرة النبوية عن إبليس حين حضرَ اجتماعَ القُرَشِيّين للائتمارِ بالنبي .. ثُمّ إنه يصِفُ فعلَه بقولِه: "كان يصمت حتى ينتهي سيجاره متأملاً ما يخلقه من عوالم الدخان التي تمتد دون أيدٍ في الفراغ"في إحالةٍ مقلوبةٍ إلى الآية: "والسماءَ بنيناها بأيدٍ وإنّا لَمُوسِعُون". فهو خالِقٌ دونَ أيدٍ، دون قُوّةٍ، وربّما دون قصدٍ مسبَّقٍ، وربّما خَلقُهُ بالدخانِ هكذا تأكيدٌ لنظريةِ الصُّدفةِ في نشأةِ العالَم من طرفٍ خفِيّ .. المهمُّ أننا أغلبَ الظنِّ إزاءَ الشيطان في هذه الرواية .. تدريجيًّا عبرَ هذه الروايةِ الأولى يتخلّصُ الكاتبُ من جِلدِهِ الذي يبدأُ في القُشعريرةِ حين يأكلُ في الفصل الثالث (الشجرة) من الشجرةِ المحرَّمَة التي هي الفنُّ والمرأة .. يقولُ له الرجلُ الذي اتفقنا على أنه الشيطان: "سأعرف أنك أكلت من المرأة حين تلطّخك الأجنّة. وأنك شربت من السيمفونية حين تبللك الدموع. وأنك سكنت القصيدة حين يقشعرّ جلدك كالصوف المنفوش. حين يبدو عليك كمعطفٍ. حين يبدو عليك كمعطفٍ ليس معطفَك.". في الفصل الخامس (الثالوث) يدورُ حوارٌ بين الكاتب والبحر/ العالَم حول جدوى وكُنه العلاقةِ بين ثنائياتٍ هي: الكاتبُ والبحر/ الكاتبُ والمرأة/ الكاتبُ والشيطان، يختارُ الكاتبُ في نهايتِه أن يحتفظَ بعلاقتِه بالشيطانِ أمام البحر وأن تختفيَ المرأة: "فليكن هو هو .. وأنت بحرًا .. وأنا-يا بحر-طفلاً". وطفولتُهُ مع الشيطانِ تعني أنّ هذا الأخيرَ رمزٌ على تساقُطِ الأساطيرِ والأفكارِ المسبّقَة والانفتاحِ على العالَم واختبارِ الفروضِ بصددِ الوصولِ إلى الحقيقة .. ربما يكونُ هو الفلسفةَ ذاتَها باعتبارِها بحثًا دءوبًا عن الحقيقة .. يتعلّمُ الكاتبُ القشعريرةَ من الشيطانِ باعتبارِها أُمَّ اللغاتِ ويصبحُ حوارُهُ مع البحر من خلالِها .. بعد ذلك يتساقطُ عنه المزيدُ من جلدِهِ، مرّةً في صورةِ المرأةِ التي يريدُها ومرّةً في صورة القصيدة الموزونة التي يورِدُها في فصلٍ بعنوان (ديوان في رواية) يتلوهُ فصلُ (نقد) يسمعُ فيه تعليقَ الشيطانِ على القصيدة: "القوافي تخدش في الجلد كالأظافر لكنها لا تنغرس فيه، اترك الأظافر مرتشقة في جلد المستمعين أفضل"، و"أقترح عليك أن تدع بحور الشعر وتتعلم أنهاره، فتربتها أكثر خصوبة حول المصبّات وما يليها من أذن وُسطَى وداخلية".
الروايةُ الثانيةُ (صِدامُ الحفريات: أركيولوچيا الأرض والسماء) تحاولُ أن تختزِلَ التاريخَ الإنسانيَّ بما فيه من نشوءِ المجتمعات وتكوُّن السُّلطة ونشوءِ الدين وفكرةِ القداسةِ، وطبيعة الصّراع بين الطبقاتِ فيما بعدُ وتكوُّن علاقاتِ القُوّة – كما يفهمُها فوكو دونَ إشارةٍ صريحةٍ له – من خلالِ تدشينِ المعنى بالكلمةِ المكتوبة .. والرّاوي هنا في بعضِ الفصولِ يكونُ الكاتبَ نفسَه أو مجموعةً غيرَ محددةٍ تعبّرُ عن نفسِها بصيغة المتكلمين، ويبدأ ظهورُهم في الفصل الثاني (العهد) حيثُ يقولون: "ها نحن جئنا يا أنبياء .. الأرض عذراء. ونحن جميعًا سنصير من أبنائها". ويلجأُ الكاتبُ في عنونةِ بعض الفصولِ إلى ما يشبهُ الألعابَ البديعيّة القديمةَ لكن في ثوبٍ ساخرٍ جديدٍ ينتهِكُ تاريخَها الساذَجَ في الحقيقةِ .. وذلك كما في الفصل العاشر (عَدَن) الذي يشيرُ به إلى الجَنّة إشارةً واضحةً (رغم سكونِ الدّالِ في اللفظة المعجمية الأصلية)، ثُمّ الحادي عشر (نَدَعْ) ولا أعرفُ لها معنىً مباشرًا إلا (نَترُك) أو (نتخلّى) .. يقولُ في العاشِر بلسانِ المتكلمين المشارِ إليهم: "حديقة صغيرة ذات شجرة واحدة ستكون أجمل .. ستكون أرحب .. ستكون أشهى من كل ما سيصنع الناس من حدائق .. من كل ما سيجرب الناس من شهوات .. ستكون كذلك محرمة". حيثُ يعقّبُ المتكلمون بأنّ هذه الحديقةَ وهمٌ كبيرٌ سيتلهى به البشَر طيلةَ حياتِهم .. أما في (ندَع): "حتمًا ستجد وسط هذا الجوع ما تطعم به طفلها، بحثت كثيرًا حتى وجدتْ ساقها". فهو هنا يسرِدُ مصيرَ امرأةٍ يتتبعُها منذُ بداية الرواية ذاهبةً إلى فَناءٍ وعدَمٍ لا مَخرَجَ منهُ إلى وجودٍ ثانٍ، محاولاً فضحَ وهمِ الجَنّة الذي حدثَنا عنه المتكلمون بهذا المِثال .. والروايةُ ناضحةٌ بالنيتشوية .. فمحاولةُ الكاتبِ تتبُّع ظهور مفهومي الخير والشرّ وعلاقتهما ببقاء النظُم الاجتماعية مستقرّةً وإبقاء من في السُّلطة على مصالحهم يذكِرُنا بآراءِ (نيتشه) في (ما وراءَ الخير والشّرّ) وفي غيرِه من مُنجَزِه الفكريّ .. كما يشيرُ من طرفٍ خفيٍّ بين الفينةِ والفينةِ إلى الكائناتِ السوپر المتعالية على الأعراف والتقاليد المجتمعية وأخلاق العَبيد من مفهومٍ نيتشويٍّ كما في قوله: "إن الطيور التي تطير لن تحسدنا على أجنحتنا ولن يسحرها تحليقنا .. أما الطيور التي لا تطير فستؤمن بالسحر والحسد"وكما في فصل (ديك الحظيرة): "إذا أردتم أن يكفر الناس بأبطالهم.. اجعلوهم يؤمنون بالشيطان .. لا نعرف ما الشيطان .. أنا نفسي لا أعرف .. فليكن شيئًا ما, وستصبح البطولة لا شيء".
في الرواية الثالثة (الحراشيف) نستطيعُ أن نميِّزَ أركيولوچيا أخرى يبسُطُها لنا الكاتب، ولا نبالِغُ إذا قُلنا إنها أركيولوچيا (كريم الصياد) الشخصية .. وربّما يبدو أنّ تنامِيَ الأحداث الروائيَّ التقليديّ هو أوضحُ ما يكونُ في المجموعةِ هنا .. يخبرُنا (كريم) في الفصل الأول القصير –في لمحةٍ (ميتا-سَردِيّة)- بأنه يكتُبُ فصول هذه الرواية في الثواني التي يُغفِي فيها أمامَ مصادرِ مذاكرتِه لرسالتِه العلمية .. كثيرٌ من الفصول معنوَنٌ بأسماءِ أعلامٍ في التراثِ الفكري العربي الإسلامي: ابن رشد, ابن حزم، ابن سينا، الزركشيّ، ابن عربيّ .. وكلٌّ منهم يكونُ له تجسُّدٌ – أو فلنَقُل: تنَزُّلٌ – في أحداثِ الرّواية التي تقعُ في حارةٍ في السيدة زينب .. ثَمّ عسكَرٌ خياليّون يمثّلون تهديدًا دائمًا لأهل الحارة .. وهم غيرُ محدّدي الهُوِيّة مبدئيًّا .. وزمَنُ الرّوايةِ دَوّامِيٌّ حُلُمِيٌّ رائحٌ غادٍ في التاريخ .. ابنُ رُشد يصبح (رشدي) صاحب ورشة الأرابيسك، وابنُ سينا يصبح شيخًا سيناويًّا وابنُ عربيّ يصبح رجلاً ببذلة قديمة وطربوش جالسًا دائمًا في مكتبٍ يكتظّ بالكتُب ومنهمِكًا في فهرسة وتدوين كل شيء .. نعرفُ أنّ جماعةً سِرّيّةً تسمى (الحراشِف) تتكون لمقاومة الغزاة أو العسكَر الذين استوطنوا الحارةَ وهم – بخلافِ أهلِها – لا يفهمونَ شيئًا عن فنون العمارة ولا الموسيقى ولا النقوش الإسلامية، وأنّ زعامةَ هذه الجماعة تئولُ من أحدِ هؤلاء الأعلام إلى الذي يليه، حتى تصِلَ – بين مَن تصِلُ إليهم – إلى أم كلثوم ثُمّ عبد الوهّاب ثُم محمد عفيفي مطَر .. ونعرفُ أنّ نجاحاتِ الحركةِ في المقاومة تتوالى ولا يوقِفُها إلاّ زلزالُ 12 أكتوبر عام 1992 (وهو ما أحالَني بشكلٍ شخصِيٍّ إلى رؤية أسامة أنور عكاشة في مسلسل أرابيسك) ..
الخلاصةُ أننا بإزاءِ محاولةٍ لمعرفةِ حقيقة الهُوِيّة العربية الإسلامية الإنسانية منذُ نشأةِ الحضارةِ المسمّاةِ بهذا الاسمِ إلى الآن، وتصوُّرٍ للتياراتِ الفكرية التي دافعَت عنها وجددت دماءَها وفتحَتها على الإنسانيّة، في مقابلِ هؤلاء (العسكر) غير المحدَّدِين والذين ربّما يُقصَدُ بهم الجامدون الذين سعَوا إلى السلطةِ وإخضاع الناسِ بقتل تجلياتِ هذه الحضارة .. والاسمُ الذي اتخذته هذه الجماعةُ لنفسِها دالٌّ جِدًّا في اتجاهَين على الأقل .. أولُهما الحِرصُ المستميتُ على الدفاعِ عن الهوِيّة، وثانيهِما التمترُسُ بطبقاتِ الوعي والفكر الضاربةِ في طولِ التاريخ العربي الإسلامي كأنّها الحراشِفُ بالفعل ..
انتهاءً، فإنّ فصولَ الروايات الثلاثِ تتأرجَحُ بين الشِّعريّة الطافحةِ كأننا أمامَ قصائدِ نثر، والتماسُكِ النسبيّ في سياقِ الحدَث الروائي .. المجموعةُ جديرةٌ بالقراءة وإعادة القراءة في الحقيقة، وهي حُبلَى بمزيدِ إلهاماتٍ وأظنُّها كفيلةً بإدارةِ الكثيرِ من الجدَل حولَ عددٍ رهيبٍ من الأسئلةِ يبدأُ بمستقبَل الشكل الروائيّ، ولا ينتهي بإعادةِ الحَفر في مفهومِ الهُوِيّة.

نُشِرَت في عدد الأحد 27 مارس 2016 بـ(أخبار الأدب) المصرية
          

سارتر

$
0
0

إجَّاصَتانْ ..
تتدلَّيانِ مِن السماءِ كما هُما إجَّاصَتَينِ ، فلا هما في صَدرِ مُلهِمَةٍ ،
ولا تتدليانِ مِن الكِتابَةْ ..
كَرَبَ المُمَزَّقُ يَعتَلِي مِزَقَهْ !

وأنا : حِمارٌ ليس يَحمِلُ هذه الأسفارَ ، مُبتَهِجٌ ، ولاتُغريهِ مَسكَنَةُ الأتَانْ ..
وحَوَافِرِي تَسفِي التُّرابَ بِرَقصَتي ، إيقاعُها بينَ انكِساراتِ الرَّتابَةِ والرتابَةْ ..
نَغَمُ الوُجودِ مُبارِزٌ نَزَقَهْ ...!

فإذا التقى بِفَمِ الخِتانِ فَمُ الخِتانْ .. :
فلَسوفَ يبرَأُ كلُّ إثمٍ مِن مَتابِ أبيهِ آثِمِهِ ، فَوَا أَبتَاهُ ما أرجَى مَتَابَهْ !
واللهُ لَم يَسلُبْهُ ما رَزَقَهْ !!

وأكادُ أذكُرُ حِينَ قَطَّبَتا لَنا في السُّحْبِ ، واسمُ إشارةٍ يَلهُو ، كأنَّهُما اللَّتَانْ ...
شَتَّانَ بَينَ الحالِ يومَئِذٍ وتلكَ الحالِ يومَ تدلَّتا إجَّاصَتَينِ كما هُما ،
هذا ، فَمَن مِنكُمْ سَيَبسُطُ لي عِتَابَهْ ؟؟

رَسَخَ البَيانُ وسهمُكُمْ خَزَقَهْ ؟!
كَرَبَ المُمَزَّقُ يَعتَلِي مِزَقَهْ ...
إجَّاصَتَانْ ...!
...............
محمد سالم عبادة
2008
نُشِرَت بمجلة الهلال المصرية في عدد يونيو 2016

لغز الاستثنا .. من ديواني (دروس في العربي)

$
0
0

عَلَيّا انّي اصيد كل طير كل طير
سِوا بْشَرّ طالع غُناه أو بخير
ما يِنفَدش من بُندقِيتي سِوى
أبابيل تعشش ف جامع ودِير!

بسِقط اللِّوَى، أو فِ أرض اللوا
بيطلَع غُنايا ف بياتي النَّوَا
ما تسمعش منّي نشاز ما عدا
صدى للنشاز القوي، جاك أوَا!

أنا برُبع تون اشتريت زئرِدة
وكبَّرتها ف صابحة وف مسعِدَة
ما كَشِّتش من نصبِة التخت إلاّ
امّا راح زمن الباشا والكَتخُدا!

مافيش عِلّة زي الطرَش، أغبى عِلّة
تغور سفسطات السكون المملَّة
وإن كنت بالصمت مُغرَم، فحاشا
وكلاّ، اتِهام زُور ومن غير أدِلَّة!

أنا كنت يوم كتخُدا وصِرت باشا
وأصبحتُ مِن بعدُ بُؤرِة عفاشة
ما يجليش حياتي مقام ما خلا
صَبا زمزمة ف جُبّ مربوط بِشاشة!


ما ترقيني يا بنت بالصهللة
بـ(إيه العبارة)، بْجُفون مُسبَلَة
قالت لي: رقيتك بـ(لا شيءَ) غير
حَدَرجا بَدَرجا ف زمان البَلَه!    
محمد سالم عبادة
الجمعة 8/6/2012
من ديواني (دروس في العربي) الفائز بثانية مسابقة (أخبار الأدب) لشِعر العامّيّة في 2015

............. نُشِرَت في عدد يوليو 2016 من مجلة (المجلّة) الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب                    

كل القوارير .. قراءة في كتاب (كل البنات حلوين) لكاتبات موقع (نون)

$
0
0

من مزايا كتُب المقالات المُجمَّعة لكُتّابٍ متعدّدين (الأنثولوجِيّات) أنّها تقدّمُ وجبةً دسِمةً لِهُواةِ الإحصاء! أعني مَن تسلَّطَت عليهِم – مِثلي – جِنّيّةُ الإحصاء يومًا ما فظَنُّوا أنّهم سيُفنُون أعمارَهم في تقديمِ القرابينِ لها من بُطونِ الكتُب ومِن بينِ سُطورِ صفحةِ العالَم، ثُمّ شُغِلُوا عنها فظلّتْ قابعةً في زاويةٍ مظلِمةٍ من وعيِهم، تنتظرُ قُربانًا مناسبًا لتَظهَرَ إلى النُّور كُلَّ عِدّةِ أعوام!
     لا أمهّدُ بالأرقامِ لدراسةٍ أسلوبيّةٍ مقارِنةٍ كعادةِ الأسلوبيّين، لأني لستُ منهم بحُكم التخصُّص. وإنما أمارِسُ لَعِبًا حبيبًا إلى نفسي مع نُصُوصِ هذا الكتاب ..
     أولُ ما يبدَهُنا الغِلافُ من تصميم (هاني صالح) حيثُ يقدّم صورةً فوتوغرافيّةً لأثوابٍ من القماش المنقوش بألوانٍ نسائيّةٍ مبهِجةٍ متراصّةٍ فوقَ بعضِها، فيما يُعَدُّ في رأيي معادلاً بصريًّا مبتَكَرًا لموضوع الكتابِ وعنوانِه ..
     يضُمُّ الكتابُ الصادرُ حديثًا عن دار (الشروق) اثنين وستّين مقالاً لسِتٍّ وعشرين كاتبةً، وكاتبٍ واحدٍ هو (لاري نبيل).. (آية خالِد) المحرِّرَة في موقع (نُون) الذي استضاف كُلَّ هذه المقالات قالت في المقدّمةِ إنّ عنوانَ الكتابِ وُلِدَ في جَلسةٍ استضافها الموقِعُ وتحوَّلَ من مجرّد (إفّيه) مأخوذٍ مِن أغنيةٍ شهيرةٍ (كل البنات بتحبّك) لـ(حسام حسني) إلى شِعارٍ لحَملةٍ قامَت بها كاتباتُ الموقِع للثورةِ على القوالبِ النمطيّةِ المُعَدَّةِ سلَفًا للجَمالِ في المرأة/ البنت .. كُتِبَت المقدّمةُ بالعامّيّة، كما كُتِبَ ثلاثةٌ وثلاثون مقالاً بالعامّيّة، وخمسةٌ وعشرون بالفُصحى، وأربعةٌ بمَزجٍ منهما .. (ريهام سعيد) أغزرُ الكاتباتِ إسهامًا بسبعةِ مقالاتٍ منها سِتّةٌ بالعامّيّة وواحدٌ بالمَزج .. بعدَها كُلٌّ من (حنان الجوهري) و(ياسمين عادل) بخمسةٍ لكلٍّ منهما .. بين مَن جمَعن مقالات الفصحى إلى العامية (غادة خليفة) و(رانيا منصور) وكِلتاهُما شاعرة .. لـ(غادة) مقالٌ بالفصحى من أصل ثلاثة مقالات، ولـ(رانيا) واحدٌ من أصل اثنين .. مقالُ (غادة) الفصيح (في ممرّاتِ الجَمال) يُشبهُ شِعرَها جِدًّا: فِقراتٌ مُرقَّمَةٌ قافِزَةٌ بين أحداثٍ تقعُ في أماكنَ مختلِفةٍ يربِطُ بينَها هاجِسُ اكتشافِ الذّاتِ، وهُنا تحديدًا من زاويةِ الأنوثةِ وعلاقتِها بالجَمال .. كذلك جاءَ مقالُ (رانيا) الفصيح (أربعةُ أشياءَ تتنفّسُ بها المرأةُ وتَذبُلُ دُونَها) فِقراتٍ مُرَقَّمَةً تتناولُ كلٌّ منها (شيئًا) من المُشارِ إليها في العنوان، والقصيدة/ المقال يُخاطِبُ الرَّجُل/ الحَبيبَ بشكلٍ لا لَبسَ فيه، وهو ما يُحيلُ قارئَ المَقالِ فورًا إلى شِعر (رانيا) المنشورِ في غير هذا الكتاب ..
     كما استُقِيَ عنوانُ الكتابِ من أغنيةٍ، جاءت المُدخَلاتُ الثقافيّةُ للكاتباتِ – مِن أفلامٍ وأغانٍ وأعمالٍ أدبيّةٍ - واضحةً تمامًا في كثيرٍ من المقالاتِ بِتَرَدُّدِ إشارتِهِنّ إليها .. مثلاً (رنا حسين) أشارت إلى فيلم (المرايا) و(غادة خليفة) إلى (أنا حُرَّة) و(ساندرا سليمان) إلى (فتاة المصنع) و(حنان الجوهري) إلى (صايع بحر) لفظًا و(هستيريا) بشكلٍ ضمنيٍّ حين تماهَت مع (عبلة كامل) في دور (وِداد) في ذلك الفيلم حيثُ قالَت: "أنا ممكن ولا آكُل ولا أشرب ولا أنام بس الراجل اللي أحبه يطبطب عليّ وكِدَهُوَّنْ، ويقول لي سلامة رِجلِك من الوقفة يا وداد"، وقارنَت (ياسمين عادل) بين فيلمَي (تيمور وشفيقة) و(الباب المفتوح) من حيثُ موقفُ الرَّجُلِ من المرأةِ في كِلَيهِما.
     أمّا على صعيد الأغاني، فقد أشارَت (سمر طاهر) إلى (قوم اقف) لـ(بهاء سلطان)، وضمنيًّا إلى (عينك) لـ(شيرين عبد الوهاب) حين تماهَت مع السَّطر (عينك على اللي رايحة واللي جاية)، وأشارَت (إسراء مقيدم) إلى (الزهور زي الستات) لـ(محمد فوزي)، و(دينا فرَج) إلى ShowerلـBecky G، و(ساندرا سليمان) إلى فرقة (محيي الدين بن عربي) وغنائها أبياتَ (رابعة العدوية) الشهيرة في الحُبّ الإلهي، و(ريهام سعيد) إلى فريق Spice Girls، و(ياسمين يوسف) إلى (بلد البنات) لمحمد منير ..
     على صعيد الإشاراتِ الأدبيةِ، أشارت (ساندرا) كذلك إلى قصيدةٍ لـ(إبراهيم البجلاتي)، و(مي فتحي) إلى (تنسى كأنكَ لم تَكُنْ) لـ(محمود درويش)، و(حنان الجوهري) إلى رواية (شنغهاي بيبي) لـ(ويهوي چو) والمجموعة القصصية (وارقص) لـ(سهير صبري)، و(رزان محمود) إلى رواية (الباب المفتوح) لـ(لطيفة الزيات)..
      وأخيرًا، امتازت (حنان الجوهري) بالإشارة إلى أحد إعلانات اللبن البودرة في مقالها (مش عايزة هدية عيد أُم يا فريدة)!
     وفي الحقيقة لم يأتِ تفاعلُ الكاتباتِ مع هذه المُدخَلاتِ دائمًا متعلّقًا بمسألة جَمال المرأةِ إيجابًا وسَلبا .. وهذا ببساطةٍ لأنّ هُمومَ هذه المقالاتِ تراوحَت بين الالتزام بهذا المِحوَر إلى أقصى حَدٍّ كما في مقالاتِ (رزان محمود) الثلاثةِ التي صُدِّرَ بها الكتابُ، والابتعادِ عنه إلى آفاقٍ مختلفةٍ قد تتعلّقُ بمسألة الرّضا عن العالَم والتصالُح مع القدَر كما في (سونار وسخّان 40 لتر) لـ(ريهام)، أو العلاقة بالله كما في (وشكوتُ للهِ أنَّ التُّرابَ يُحزِنُني) لـ(دينا فرَج) ..
     وإجمالاً فقد تراوحَت المقالاتُ بين الهَمّ النِّسويِّ الصِّرف (وهو ما يستحوذُ على مُعظَم المقالات) والخروجِ منه إلى الإنسانيِّ العامّ .. في (إنّهنّ حتمًا لا يتنفّسنَ هُناكَ) تتأمّل (دينا فرَج) ما تسمّيه (ميكانو الطوب الأحمر) في إشارةٍ إلى العماراتِ المتراصّةِ على جانبَي الطريق الدائريّ غيرَ حافِلَةٍ بحقوقِ قاطنيها في أقلّ القليلِ من مساحةِ الخصوصيّة أو أقلّ القليل من الجَمال .. تُصَدّرُ لنا همًّا إنسانيًّا حين تتأمّلُ معاناةَ هؤلاء القاطنين مع محيطِهم الأسمنتيّ، لكنّ التفاصيلَ دائمًا تتعلّقُ بامرأةٍ ما، ولا تَخرُجُ إلى حيّز الرِّجال إلاّ في سياقِ طفولةٍ تلعبُ الكُرَةَ أو زوجَين يقلقان من تنصُّتِ الجيرانِ إلى علاقتِهما الحميمة، فيَظهَرُ أنَّ هَمَّ المَقالِ نِسوِيٌّ بالأساسِ وإن اختبأَ خلفَ رحابةِ الإنسانيّ ..
     على عكسِ هذا النموذجِ جاءَ مقالُ (رضوى أسامة) الموسومُ (لماذا لا يُشبِهُ العالَمُ أصدقاءَ أبي؟)، حيثُ تَخرُجُ من خبرةِ طفولتِها الخاصّةِ إلى تأمُّلٍ يتعلّقُ بمعاملَة الأطفالِ إجمالاً- ذكورًا وإناثًا دون تفرقةٍ- وإسهامِ البالغين في تكوين صورتِهم الذِّهنيّةِ عن أنفسِهم ..
     نعودُ إلى المحورِ الأساسيِّ للكِتابِ، فنكتشفُ أنّ للمراحلِ العُمريّةِ المختلِفةِ في حياةِ المرأةِ أنصِبَةً محدّدةً من دفاعِ هذه المقالاتِ عنِ عالَمِيّةِ جَمالِ المرأة .. فَـ(انتبهوا، إنهم يسرقون طفولةَ أبنائنا) لـ(هدى الرافعي) و(أنا جميلة يا تيتة) لـ(رَزان) مثلاً يتعلّقانِ بأنَّ (كُلّ الطِّفلات حلوين)، و(سيبيها تشيل شنبها) لـ(سارة عابدين) يتعلّقُ بأنّ (كل المراهقات حلوين) مع تركيزِه على مسألةِ الاتّساقِ في تربيةِ الأبناء، بينما (مناخيرِك المنفوشة تدُلّ على أنوثة طاغية) لـ(ياسمين عادل) – والذي تتناصّ في عنوانِه مع جُملة (فؤاد المهندس) الشهيرة في (مطاردة غرامية) – يتعلّقُ بأنّ (كُلّ الحوامل حِلوين) .. وأخيرًا نجدُ (موت فاتن وحياة صباح) لـ(سمَر طاهِر) يؤكّدُ ضمنيًّا على أنَّ (كُلّ المُسِنّات جميلات) ومِن حقِّهِنّ أن يمارِسن الحياةَ كما يحلو لهُنّ ..
     التيّارُ العامّ للمقالاتِ هو ضربُ عرضِ الحائطِ بمقاييس الجَمال المُرَوَّجِ لها إعلاميًّا لصالِحِ أنماطٍ جسديّةٍ أُخرَى، ويبلغُ هذا ذِروتَه في مقالاتٍ مثل (فتيات إفريقيا الجميلات الممتلئات) لِـ(رَزان) و(أصل أنا مش عاملة ريچيم) لـ(إنچي إبراهيم) حيثُ يزدري المقالان النمطَ الجسديّ الشائعَ وصفُهُ بـ(الصحّيّ) أو (اللائق طبّيًّا) بكلّ تفاصيلِه، فيما يمكن وصفُهُ بالإرشاد الصّحّيّ المقلوب! هي موعظةٌ طبيّةٌ خاطئةٌ (سياسيًّا) كما يقولُ الأمريكيّون politically incorrect!
     أخيرًا يمكنُ بَسطُ المقالاتِ على مُنحنىً بيانيٍّ مِحورَاهُ هما (نقدُ الجَسَد) و(نَقدُ الرُّوح) .. بالطبعِ لا تخلو مقالاتُ نقدِ الجسَد من إشاراتٍ إلى الرّوح، والعكسُ صحيحٌ، ولا يمكن ألاّ يكونَ الأمرُ كذلك في الحقيقة .. ما أسلفناهُ من أمثِلةٍ يُرَكِّزُ معظمُه على (نقد الجسَد) بالفِعل، وإن كنتُ أرى واجبًا أن أُنَوِّهَ ببعض المقالاتِ التي عبَّرَت في جَمالٍ استثنائيٍّ عن صداقةِ الكاتبةِ وجَسَدِها .. ربّما أهمُّها المقالُ الافتتاحيُّ لـ(رَزان) (أنا جميلة يا تيتة) في فقرةٍ تبدأُ "جسَدي .. هنا قلبٌ تحمَّلَني حتى في أيامٍ صعبة"وتنتهي "هنا شَعرٌ يَحتاجُ القليلَ من الرِّعاية"، ومعَه (رسالة إلى جسمي) لـ(مَيّ فتحي) باكتنازِهِ بتفاصيلَ دقيقةٍ في تطوُّرِ وعي الكاتبةِ بجسدِها وصولاً إلى مرحلة عمليّة (تدبيس المَعِدَة) وما بعدَها .. وثالثُهُما (سِرُّ العلاقة الحميمة) لـ(ياسمين عادل) حيثُ اقتحَمَت مُحَرَّمَ الجِنسِ محاولةً تقديمَ فهمٍ مُغايرٍ لطبيعةِ العلاقة، يُعبّرُ عن جزءٍ منهُ قولُها (يا بَختُه اللي فيوزاتُه تبقى راكبة على فيوزات جوزُه)! وهو قولٌ -على خِفّةِ دمِهِ- يذكِّرُني شخصيًّا بشَرح أستاذِنا أستاذِ أمراضِ الذُّكورةِ بقصرِ العيني الدكتور (أشرف فايز) للحديث النبويّ "خيرُ متاعِ الدنيا المرأةُ الصالِحة"حيثُ يرى أنّ المقصودَ "صالحةٌ لهذا الزوجِ تحديدًا، كالقُفلِ والمفتاح، وليس صلاحَ الصلاةِ والصومِ والعبادات رغمَ أهميتِها".
     أمّا (نقدُ الرُّوح) فرُبّما أبرزُ أمثِلَتِه مقالُ (كاميليا حسين) (أخطر ستّ قابلتها) الذي تعكفُ فيه على تأمُّلِ الشعور بالذَّنب و(عُقدةِ النقصِ، كما كان يَحلو لألفريد آدلر أن يُسَمِّيَها). تقول في نهايته: "باصطاد كل الكلام السلبي اللي باسمعه من الناس وأغزِل منّه لعنة أعلّقها في رقبتي عشان ما اخطّيش خطوة"معبِّرَةً عن أزمةٍ وجوديّةٍ حادّةٍ تسكنُ وَعيَها، ولا نُعَقِّدُ الأمورَ إذا قُلنا إنّ موضوعَ هذا المقال/ التّدوينة هو (نَقدُ نقدِ الذّات)!
     كذلك مقال (امتى بقى هاحِسّ بالرّاحة) لـ(مَيّ فتحي) يعبّرُ عن قلقٍ وجوديٍّ أصيلٍ إزاءَ كُلِّ مظاهرِ الحياةِ، ولا يبدو منه مَخرَجٌ لدى الكاتبةِ إلاّ النسيانُ .. أن تَنسَى وتُنسَى، متماهيةً مع العذراءِ (مَريَم) في أزمتِها الوجوديّة كما عبَّرَت عنها الآيةُ القرآنيّة "يا لَيتَني مِتُّ قبلَ هذا وكنتُ نَسيًا مَنسِيّا" ..
     انتهاءً، هذا الكتابُ فرصةٌ للإطلالِ على فكرِ وإبداعِ مجموعةٍ من الكاتباتِ المصريات الشابّات، والوقوفِ على طبيعةِ موقفهنّ من أبرزِ القضايا النسويّةِ قاطبةً، وهي بالتأكيدِ قضيّةُ ماهِيّة الأنوثةِ بحدّ ذاتِها، وكيفَ صاغتها الممارسةُ البشريّةُ المجتمعيّة، وكيفَ يطمَحنَ إلى تغييرِها .. لا نجدُ ثورةً جِذريّةً في الحقيقةِ في ثنايا الكتابِ على الوجودِ أو على التصوُّر الدينيّ عن دور المرأة، رغم الإشاراتِ المتناثِرةِ عن الضيقِ بقولبةِ الأنثى بواعزٍ من نُصوصِ الدِّين .. بل نجدُ (نهلة النمر) في (بنت مسترجلة في مجتمع محتاج يسترجل) تقولُ: "المرأة زي القارورة اللي هي الزجاجة في رقّتها، لكن كمان من خصائص الزجاج إذا انكسر إنه يكون حادًّا وجارحًا"، وهو ما يَشِي برِضًا تامٍّ عن الوصفِ النبويّ الشهير للمرأة، وإن كان يقدّمُ تفصيلةً جديدةً فإنّها لا تَخرُجُ عن أن تكون اجتهادًا جديدًا في فهم النّصّ، بعد التسليمِ بصحّتِه ..
........................... 
محمد سالم عبادة
27 سبتمبر 2016
نُشِر في (أخبار الأدب) بعنوان (كتاب ضد مقاييس الجَمال المُرَوَّج لها إعلاميًّا) بتاريخ 16 أكتوبر 2016

ظاهِرُهُ ثورةٌ وباطِنُهُ سُكون: قراءةٌ في ديوان (لُغَةُ النُّور) للشاعر محمود عبدالرازق جمعة

$
0
0

ربما انتبهَ الفنان (أحمد الجنايني) إلى السُّكون الذي يشغلُ عُمقَ نصوص هذا الديوانِ الصادرِ عن سلسلةِ (كِتابة) بهيئةِ قصور الثقافةِ مطلعَ هذا العامِ، رغم محاولةِ الشاعرِ تصديرَ صورةٍ ثائرةٍ للمتلقّين عبرَ أدواتٍ تعبيريّةٍ مختلفةٍ سنستعرضُ بعضَها لاحِقًا، ولهذا اختارَ صورةَ الغلافِ تلك الفتاةَ الجالسةَ في استكانةٍ مرتديةً ملابسَ محتشمةً، وهي كما هدانا البحثُ لَوحةٌ للفنّان الصينيّ المعاصر (يِي زيانمِنْ) ..
     أولُ ما يُطالِعُنا من نصوصِ الديوانِ الإهداءُ "إلى لغةٍ خلقناها وشمسٍ لا غُروبَ لها .. وحُلمٍ لم يزَل غَضًّا كطفلٍ بالفؤادِ لَها" .. وهو مقطعُ يختزِلُ في جماليّاتِه ومستوياتِ تأويله المحتمَلَةِ طبيعةَ ما سنلتقيهِ من جمالياتٍ واحتمالاتِ تأويلٍ في نصوصِ الديوان، فالشاعرُ يعتمدُ آليّاتِ البلاغةِ العربيةِ التقليديةِ لتشكيلِ نَصِّه، حيثُ التشبيهُ والاستعارةُ حاضرانِ بيانيًّا بكثافةٍ، والجِناسُ التامُّ بين آخِرِ البيتَين لا تُخطئُهُ الأذُنُ ولا العَين .. ونلاحظُ أنَّ إحالاتِ الضميرِ المستترِ (نحنُ) في قولِهِ (خلقناها) تتسمُ بقَدرٍ من الغموضِ فلا نعرفُ ابتداءً هل (نحنُ) المُشارُ إلَينا عاشقانِ خَلَقا لغةً خاصّةً بهما، ممّا يستتبعُ أن تنسحِبَ الجُمَلُ اللاحقةُ على العالَم الحميميّ لهذين العاشقَين، فالشمسُ شمسُ علاقتهما والحُلمُ حبُّهما المتجددُ مثلاً، أم أنَّ (نحنُ) تشيرُ إلى المجموعِ الإنسانيِّ فيكونُ المقصودُ تواضُعَ البشرِ على اختلاقِ اللغةِ، ممّا يستتبعُ أنَّ الشمسَ قد تكونُ ما يسطعُ من معرفةٍ تتجددُ بتجددِ إمكاناتِ اللغةِ، والحُلمَ قد يكونُ تحقيقَ تواصُلٍ يقينيٍّ بين البشرِ واضعي اللغةِ لينتفيَ سوءُ الفهمِ وتصلَ البشريةُ إلى جنّتِها المعرفيةِ الموعودةِ مثَلا .. وربّما المقصودُ مزيجٌ من هاتين الإحالتَين بتوابعِهما، وربّما هو شيءٌ رابعٌ لم تُفلِح هذه القراءةُ السريعةُ في اقتناصِه!
     ننخرِطُ في مواصلةِ القراءةِ فنعرفُ أنّنا أمامَ ديوانٍ مُخلصٍ للعَروضِ، احتوى ثلاثةً وعشرينَ نَصًّا تشملُ الإهداءَ، منها سبعةُ نصوصٍ عموديةٍ والباقي تفعيليّ .. استحوذَ البحرُ المُتدارَكُ على نصيبِ الأسَدِ بتسعةِ نصوصٍ منها سِتّةٌ في الصورةِ الأبسطِ الأسرَعِ من المُتدارَك (الخَبَب) بتفعيلتِها (فَعِلُنَ فَعِلُنْ) .. وفي رأيي المتواضعِ كانت هذه هي الآليّةَ الأوضحَ التي اعتمدَ عليها الشاعرُ في تصديرِ الصورةِ الثائرةِ المُشارِ إليها آنِفًا، بما اعتادَهُ المتلقُّون من قَرن هذا الإيقاعِ الموغلِ في السرعةِ بالمضمونِ الثَّورِيّ في الشِّعر العربيِّ المعاصِر، لاسيّما عند (نزار) و(دنقُل) مثَلاً .. لكن عند تأمُّلِ القصائدِ المصوغةِ على هذا الإيقاعِ في الديوانِ نجدُ أنّ رُوحًا محافِظًا بشكلٍ عامٍّ يتخللُها ويهيمنُ عليها .. ففي (على هامشِ الأسطورةِ) مثَلاً يحاولُ الشاعرُ أن يُسائِلَ المقولاتِ الدينيةَ فيما يتعلَقُ بمسألةِ الجَبرِ والاختيارِ على نطاقٍ أوسعَ وبرؤيةٍ أشملَ ممّا جرَت العادةُ عليهِ، فالاختيارُ قائمٌ ظاهريًّا إلاّ أنّ النظرَ إلى الظروفِ التي تدفعُ الآثِمَ لاختيارِ الإثمِ وإلى تركيبِ النفسِ المُعَقَّدِ يَجعلُ من الاختيارِ والجَبر وجهَين لعُملةٍ واحدةٍ: "ما ذنبُ النفسِ اللوامةِ؟ ماذا فعلَت كي تتحمَلَ إصرًا ليس لها دخلٌ فيهِ؟ كانت يدُها مغلولةً، امتدّت كفُّ النفسِ الأمّارةِ بالسُّوءِ ففعلَت، قلبَت ذاكَ الباطِلَ حَقًّا، جعلَت ذاكَ الحَقَّ جرائمَ لا تُغتفَرُ ... إلخ". لكنَّ هذه المُساءَلَةَ ليست ثورةً جِذرِيَّةً بقَدرِ ما هي محاولةٌ يائسةٌ للفَهم يعرِفُ الشاعرُ أنها محكومٌ عليها بألاّ تَصِلَ إلى إجابةٍ: "وحدَكَ تَدريهِ يا رَبّ .. وحدَكَ تعرفُ كُلَّ تفاصيلِ الدَّرب .. وحدَكَ تُدرِكُ كيفَ ابتدأت تلكَ الحَربْ .. وحدكَ تعلمُ كيفَ الفرَجُ وكيفَ الضِّيقُ وكيفَ الفَكُّ وكيفَ الكَربْ ...إلخ".
     كذلك في (قلبي البَلُّورِيّ) نجدُ رسالةَ حُبِّ تتذرَّعُ بكلِّ المُعتادِ من تفاصيلِ علاقاتِ الحُبِّ وما دأبَ الشُّعراءُ على وصفِهِ، ولا يعني هذا أنَّها رسالةٌ غيرُ ممتِعةٍ لقارئها، لكنّ المُتعةَ متًصِلَةٌ هنا بتاريخِ قصائدِ الحُبِّ الحديثةِ والمعاصِرَةِ كما نعرفُها فهي تدورُ في فلَكِها على مستوياتِ البيانِ المختلفة: "قلبي البلُّورِيُّ العالِقُ في سلسلتِكِ يُقسِمُ لي في كلِّ مناسبةٍ من غيرِ مناسبةٍ أن لا قبلَكِ أن لا بَعدَكْ/ قلبي البلُّورِيُّ العالِقُ في سلسلتِكِ لا يتأنّى في الحُبِّ وأخشى في بعضِ مطبّاتِ الدُّنيا أن يَعلُوَ يَعلُوَ، أن يتهاوى يتهاوى، أن تُفلِتَ سلسلتُكِ من مرآةِ السيارةِ ذاتَ مساءٍ تسقُطَ عنها، يسقُطَ منها، يتحطمَ، يبعُدَ عن عينيكِ وخديكِ وشفتيكِ ولا يلثمَ وردَكْ".  
     نموذجٌ ثالثٌ لما نتحدثُ عنه هو قصيدةُ (لستُ اللهَ) التي يحاولُ الشاعرُ فيها مساءلةَ الحُزنِ والوجعِ الإنسانيِّ عن جدواهُما: "ما شأنُكِ أيتُها الآهْ؟ كيف تجيئين مُحَمَّلَةً كُلَّ خبايا النفسِ وتنطلقين سريعًا من قاعِ الوجعِ إلى أعلاهْ؟"ثُمَّ يستعرضُ نماذجَ من الندمِ المصطبغِ بالآهِ: "ندمَ نبيٌّ وقفَ طويلاً بينَ حُطامِ الرُّوحِ على رُؤياهْ/ ندِمَ صبيٌّ ناجٍ من نصلِ الخنجَرِ – حاول وهو رضيعٌ أن يسعى بين الحَجَرَينِ – على مسعاهْ ...إلخ"ليخرُجَ منها إلى وجعِهِ الخاصِّ: "خرجَت من قلبِ حناجِرِهم بلغَت قلبي/ حفرَت لي أخدودًا لا يُبصَرُ في دَربي/ وأنا مازلتُ على عهدي صَبًّا مفتونًا بالدنيا ...إلخ"إلى ختامِ القصيدةِ "ظلمٌ ألاّ تغفلَ عيني وأنا لستُ اللهْ" .. فالعنوانُ قد يشي بثوريّةٍ وجوديّةٍ ما، يُعضِّدُ ترقُّبَنا لها إيقاعُ القصيدةِ (الخَبَبُ)، لكن في الحقيقةِ هي زفرةٌ مكتومةٌ أو نفثةُ مَصدُورٍ كما يُقالُ، فخلفَ الظاهرِ الساخطِ باطنٌ ساكنٌ من الرثاءِ لحالِ النفس.  
     ولأنّنا بإزاءِ شاعرٍ مخلِصٍ للوَزن الشِّعريِّ، نتوقفُ عند مقطوعةٍ عموديّةٍ من أربعةِ أبياتِ مصوغةٍ في البحر البسيط - وهو بخلافِ اسمِهِ واحدٌ من البحور المُرَكَّبَةِ من تفعيلتَي مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ – وهي (عصفورتان): "قلبي تحوَّلَ عُشًّا في لظى العَيشِ/ عيناكِ عُصفورتانِ احتلّتا عُشِّي.. عيناكِ في الحُبِّ قُرآنانِ رُتِّلَتا/ على فؤادي بلا حفصٍ ولا وَرشِ .. عيناكِ طاقاتُ نُورٍ والظَّلامُ أنا/ لأجلِهِنّ على جَمرِ الهوى أمشي .. فأختفي حينما أدنو بقُربِهما/ عَجِبتُ من سعيِ قلبي حاملاً نَعشِي". في خبرتي الجماليةِ الشخصيةِ تبلغُ متعةُ القراءةِ هنا ذِروتَها حيثُ يسمحُ طولُ الشطرِ الشِّعريِّ مع توقّفاتِهِ المرتبطةِ بالرَّوِيِّ لشاعرِنا أن يرتِّبَ أفكارَهُ وينتقِلَ في سلاسةٍ من فكرةٍ إلى التي تليها، كما تشحذُ توقُّفاتُ الرَّوِيِّ التي ألزمَ بها نفسَهُ – بارتضائِهِ الكتابةَ في قالَبِ العَمودِ – خيالَهُ لالتقاطِ لحظاتٍ من الصُّوَرِ البيانيّةِ لم يكُنْ له أن يلتقِطَها لولا هذا الالتزامُ الجَمالِيّ .. فالصورةُ الأخيرةُ لقلبه ساعيًا حاملاً نعشَهُ دلالةً على اتحادِهِ الصُّوفيِّ الكاملِ بمحبوبتِهِ – وهو ما يصرّحُ به صدرُ البيت (فأختفي حينما أدنو بقربهما) – هذه الصُّورةُ هي وليدةُ إخلاصِهِ لرويِّ الشِّينِ المكسورةِ مع طبيعةِ الإيقاعِ التي حملَتهُ على أن يصوغَ مفرداتِ صورتِهِ على هذا النَّحو .. وفي تقديري المتواضعِ ينمُّ البريقُ المُلاحَظُ في ختامِ تلك المقطوعةِ بالتحديدِ على أننا أمامَ شاعرٍ أكثرَ إخلاصًا للعمودِ الشِّعريِّ وأعمقَ انتماءً إليه من شِعرِ التفعيلةِ الحُرّة، حتى ولو جاءَ مُعظَمُ قصائدِ الديوانِ الذي بين أيدينا تفعيليّا ..
محمد سالم عبادة
أكتوبر 2016
نُشِرَت في صحيفة (أخبار الأدب) المصرية بتاريخ الأحد 25 ديسمبر 2016


عُكّازُ التأويل: قراءةٌ في كتاب (السيرةُ الذاتيةُ لعُكّاز) لأحمد حسن أبي إلياسين

$
0
0
  
   "اللهمّ فقّههُ في الدّينِ وعَلِّمهُ التّأويلَ". كذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلّمَ لابن عبّاسٍ وهو طِفلٌ كما جاءَ في الأثَر. وهي دعوةٌ ربّما لن نجدَ لها مثيلاً في دعاءِ النبيّ للمسلمين الأوائل، ممّا يشي بأهمّيّةٍ كبيرةٍ للتأويلِ كان النبيُّ يستشرفُها ويَرجو أن يحوزَها ابنُ عمِّهَ الذي عَهِدَ بهِ أبوهُ إليه. اهتمّ التراثُ الإسلاميُّ كثيرًا بمسألة الفرق بين التفسيرِ والتأويل، فتناولَها السيوطيُّ في (الإتقان) والشوكانيُّ في (البرهان في علوم القرآن) وغيرُهما، وذهبَ أكثرُ المُنَظِّرين إلى أنّ التفسيرَ أكثرَه في جلاء الألفاظِ والتأويلَ أكثرَه في جلاء المعاني .. وإذا شئنا مقاربةً أخرى لهذا الفرق، فربّما يكونُ مناسبًا أن نستعينَ بمصطلَح البلاغيّ العظيم عبد القاهر الجُرجانيّ (المعاني الثواني) أو (معنى المعنى)، حيثُ يهتمُّ التفسيرُ مثلاً في آيةِ سُورةِ النّجم "تلكَ إذًا قسمةٌ ضيزَى"ببيانِ أصلِ الكلمةِ الغريبةِ الأخيرة، بينما يذهَبُ التأويلُ إلى مناسبةِ غرابةِ الكلمةِ لاستنكارِ القرآنِ تلكَ القِسمةَ (على ما ذهبَ الشعراويُّ رحمَهُ اللهُ وغيرُه إليه). هذا للتبسيطِ الذي يكادُ يكونُ مُخِلّاً وعلى من يريدُ الاستزادةَ أن يعودَ إلى عديدِ المصادرِ التراثيةِ المهتمةِ بهذا الفارق. لكنّ ثمّةَ ما يمكنُ أن نختمَ بهِ هذه الفقرةَ من أقوالِ التراثيين وهو جديرٌ بالذِكرِ لطرافتِه، وأعني أنّ الجذرَ اللُّغَوِيَّ (فَسَرَ) بما يعنيهِ من كشفٍ هو مقلوبُ جذرِ (سَفَرَ) المستعمَلِ في  قولِك: "سَفَرَت المرأةُ"أي كشفَت وجهَها، ولهذا علاقةٌ بنظريةِ الاشتقاقِ الكبيرِ عند (أبي الفتح عثمان بن جِنّي) صاحب (الخصائص).
     اهتمّت المصادرُ الغربيةُ كذلك بالتفرقةِ بين التفسير Exegesisمن حيثُ هو استخراجٌ للمعاني من النصوصِ، لاسِيَّما المُقدَّسَةَ (القيادةُ إلى الخارجِ هو معنى الأصل اليونانيّ للمفردة)، والتأويل/الهرمنوطيقا Hermeneuticsبما هُو اجتهادٌ في فهم النصّ بتعلقاتِه بالحاضر (المفردةُ اليونانيةُ مشتقّةٌ من اسمِ (هرمِس) رسولِ الآلِهة)، وربّما يكونُ كاشفًا أن نستعينَ بتعريفِ وظيفةِ الهرمنوطيقيّ كما أوردها الفيلسوفُ الكنديُّ المعاصر (چان كروندان) في كتابه (مقدمةٌ في الهرمنوطيقا الفلسفية): "الرسالةُ الإلهيةُ تُستقبَلُ بالضرورةِ بقدرٍ من الشّكّ الضمنيِّ في صِدقِها. وهذا الالتباسُ هو ضربٌ من الجُنونِ يُلِمُّ بمستقبِل الرِّسالة. فقط الهرمنوطيقي (الشخص الذي يمتلكُ طريقةً عقلانيةً في الفهمِ) يمكنُهُ أن يميِّزَ صدقَ الرسالةِ مِن كَذِبِها". وأخيرًا فهناك التحشِيَةُ (وهي مجردُ ترجمةٍ ركيكةٍ مِن قِبَلي لمصطلح Eisegesisالذي يعني التفسيرَ مع فرضِ القناعاتِ القبلِيّةِ للمُفَسِّر على النّصّ، والأصلُ اليونانيُّ للمفردة يعني القيادةَ إلى الداخل، ومبرّرُ ترجمَتي المقترَحةِ هذه ما تستتبعه المفردة العربية من إدخالِ مادةٍ جديدةٍ إلى متنِ أخرى قديمةٍ أو حَشوٍ، رغمَ أنّ معناها المُتعارَفَ عليهِ عربيًّا يشملُ التفسيرَ دون شُبهةِ التعنُّت في لَيّ عنُقِ النّصّ).
     استدعَت هذا التقديمَ بفِقرَتَيهِ ندوةُ مناقشةِ الكتابِ الذي نحنُ بصدَدِه، والتي عُقِدَت برابطة الأدب الإسلاميّ وكان أستاذُنا أ.د.حسام عقل أحدَ المناقشين، وطرحَ مشكلةَ تجنيسِ هذا العمَل، بينَ السّيرةِ الذاتيّةِ والتفسيرِ والتأويلِ والتحشيةِ على النص القرآنيّ (والأقربُ إلى تصوُّري أنه عنَى بالتحشيةِ المفهومَ المستقِرَّ للمفردةِ في التراثِ العربيّ)، وخَلُصَ إلى أنّ العملَ هو مزيجٌ مِن هذا كُلِّهِ ومتروكٌ للأجيالِ المُقبِلَةِ أن تُسَمِّيَه .. ربّما يَطرَحُ اختيارَ (السيرةِ الذاتيّة) عنوانُ الكتابِ (السيرةُ الذاتيّةُ لعُكّاز) فضلاً عن إيرادِ المؤلِّفِ أحداثًا تعرّضَ لها بنفسِهِ أو تعرّضَ لها معارِفُه. لكنّ مقدمةَ الكتابِ تشرحُ لنا مرادَهُ المباشِرَ من العُكّاز حين يقول: "لقد مشيتُ طويلاً في سورةِ الضحى، أنفقتُ عكاكيزَ حِبرٍ .. أكثرُ من عكازٍ توكأَ عليّ وهشَّ بي على غنمِ الاتجاهات"، وكذلك في فقرةٍ قُربَ ختامِ الكتابِ ينصحُ فيها مَن يحاولُ مثلَهُ تَلَقِّيَ القُرآنِ أن يستعينَ بقلَمٍ لتقييدِ طيورِ الإشاراتِ القرآنيةِ، مستشهِدًا برمزيّةٍ يكتشفُها هُوَ لهُدهُدِ سليمانَ في سورةِ (سبأ) ورمزيةِ الكتابِ في أمرِ سليمان: "اذهَب بكتابي هذا فألقِهْ إليهِم". فمقصودُهُ من العنوانِ إذَن أقربُ إلى تتبُّعِ مسلَكِهِ الرُّوحِيِّ خلالَ إنجازِهِ هذه القراءةَ القرآنية مصاحِبًا قلمَه. ولا يفوتُنا أنّ أحدَ التفاسيرِ المُكَرَّسَةِ في الوعي الجمعيِّ الإسلاميِّ –أعني القرطُبِيّ- أدرَجَ فيه صاحبُهُ أحداثًا شخصيّةً مرَّ بها، يَحضرُني منها قولُهُ في تفسيرِ آية سورة الإسراء: "فإذا قرأتَ القرآنَ جعلنا بينكَ وبين الذين لا يؤمنون بالآخِرةِ حجابًا مستورا": "ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مِثلُ هذا. وذلك أني هربتُ أمام العدو وانحزتُ إلى ناحيةٍ عنه، فلم ألبثْ أن خرجَ في طلبي فارسان وأنا في فضاءٍ مِن الأرض قاعدٌ ليس يَسترُني عنهما شيءٌ، وأنا أقرأُ أولَ سورةِ يس وغيرَ ذلك مِن القرآن; فعَبَرا علي ثُمّ رجعا من حيث جاءا وأحدُهما يقولُ للآخَر: هذا دَيبَلَة; يَعنون شيطانا. وأعمى الله أبصارَهم فلَم يَرَوْني". والشاهدُ أنّ إدراجَ (أحمد حسن محمد) لأحداثٍ عايشَها في متنِ قراءتِهِ لا يُخرِجُها في رأيي المتواضع عن الإخلاص لدائرةِ التفسيرِ والتأويل.
     يَحسُنُ بنا أن نؤكِّدَ أنّه لا تأويلَ دون المرور على التفسير، فالتأويلُ أشبهُ بقراءةٍ ثانيةٍ أعمقَ للنصّ تحاولُ استكشافَ شبكةِ علاقاتِ عناصرِه ببعضِها ومن ثَمّ اكتناهَ بِنيَتِه. وهذا ما يحاولُهُ بدأبٍ كاتبُنا. ويعضِّدُ هذا أولُ خصائصِ مُنجَزِهِ الذي بين أيدينا، والتي سنستعرضُها في عُجالَةٍ لضيق المقام:
1-             تراسُلُ آياتِ القرآنِ في وعي الكاتب. أعني كُلَّ مقتضياتِ المفردةِ (تراسُلٍ) مِن إرسالٍ واستقبالٍ وإعادةِ إرسال. مثَلاً مقدمةُ سورةِ المُدّثِر مع آية (والضُّحى) حيثُ يقولُ: "إن كان الضحى ساعةَ عملٍ، وعملُ النبي هو أن ينذِر القوم فيمنحهم طاقة (قمفأنذر)، وأن يتزّود بطاقة إيجابية بدلَ التي يفقدها في عملية شحنه للْآخرين)وربك فكبر) ومقاومتهم لهذا الشحن بطاقة سالبة يهاجمون بها النبي، وأنيتخلص مما علق به من طاقاتهم السلبية أثناء نقل طاقتهِ الإيجابية إليهم (وثيابَكَفطهر) ...إلخ". وكذلك مقدمةُ (المُزَّمِّل) مع (والليلِ إذا سَجَى): "حيث يأمر الله نبيهأن يقيم الليل (قُم اللَّيلَ إِلاّ قَلِيًلا * نِصَفه أَو انْقص مِنهُ قَلِيًلا * أَو ِزْد َعلَيِه َوَرتّْل الْقْرآن تَرتِيًلا(،لماذا؟ (إِنَّا َسنُلِقي َعليَك قَوًلاً ثَقيًلاً)، وفي الليل فيما يبدو مسار طاقات كونيسماوي عجيب يجعل عملية الشحن الديني أقوى وأشد أثرًا (إِن نَاشئَةَ اللَّيل ِهي أشدُّ وَطْئًا وأَقْومُ قِيًلا)، فاشحن طاقتك واستعدّ للضحى وما فيه من شغلٍنبوي محتاجٍ إلى طاقة كبيرة.وهنا يمكن أن نقرأ )َوالُضحى*َواللّيل إِذا َسجى) في سورة نزلَت بعد فترة انقطاع الوحي الثانيةبطريقة دلالية تحتوي على سورتين نزلتا بعد فترة انقطاع الوحي الْأولى". وهذا التراسُلُ يقتضي معايشةً استثنائيّةً من الكاتبِ لنصوص القرآن الكريم، تذكّرني – مع فارق عُمق التلَقّي- بحديث الشيخ الشعراويّ عن شيوخ الكتاتيب وتوجيههم تلاميذَهم لإدراك متشابهات القرآن والتمييزِ بينها بمفاتيحَ حروفيّةٍ بالغةِ الدِّقّة.
2-             الإغراقُ في شاعريّةِ الأسلوب، ونحنُ هنا إزاء شاعريّةٍ خاصّةٍ بـ(أحمد حسن محمد) الشاعر حاصد الجوائز (ولعلَّ أشهرَها جائزةُ البابطين للإبداع الشِّعريّ التي كان أصغرَ الفائزين بها منذُ إنشائِها، عن ديوانه (مدينةٌ شرقَ الوريد) عام 2010)، حيثُ الصُّورةُ مُرَكَّبَةٌ إلى أقصى درجاتِ التركيب فمِن مقدمتِه (فاتحةُ التلقّي) يقول: "وتحت ظلِّ سنبلةٍ قرآنيةٍ أخرجتُ من زوّادتي قريةً ورغيفَين بسطتُها أمامي بحجمِ قصيدتين من شِعري القديم، مَرّ بي ضالٌّ قديمٌ يرتدي بعض ملامحي ويكلمني بصوتي". وكذلك في فقرةٍ معنونةٍ باستفهامٍ استنكاريٍّ (اللهُ يريدُ أن يعذّبَكَ؟ وأمثلةٌ أخرى) يقول: "فلا تكن جنينًا رخًوا، وامتص مايمكنك من عظام التجربِة، فلكلِّ حَملٍ نهايةٌ، وحين تولد من رحم التجربِة، لابُد أن تكون قويِّا وأن تكون قد حصلتَ على خبرة جنينية جيدة تجعلكتجتاز كل اختبارات الحمل القادمِة بثقة،لتولَد أقوى وأصفى ضحكةً كأي طفل قوي وسيم".
3-             درجةٌ من درجاتِ القطيعةِ المعرفيّةِ مع تراثِ المعرفةِ الإنسانيةِ الغربيةِ، تتجلّى في اتهاماتٍ مُضمَرَةٍ أحيانًا وصريحةٍ أحيانًا لمباحث الوجود والمعرفة والألوهيةِ في الفلسفةِ الغربيةِ بالتسطيح، ومثلها موجَّهة إلى علم النفس الذي تقَعَّدَ في صورتِهِ الحاليّةِ المكرَّسَةِ حولَ العالَمِ في أوربّا وأمريكا. يواكبُ هذه الاتهاماتِ دعوتُهُ المتكررةُ إلى نشوءِ علمِ نفسٍ إسلاميٍّ أو قرآنيٍّ يتأسسُ على قراءةٍ متجددةٍ للقرآن. كما يواكبُها شكلٌ من أشكالِ التعميمِ المتسرِّعِ أحيانًا في إلصاقِ معتقَدٍ بعينِه بطائفةٍ بعينِها كما في حديثِهِ عن تناسُخِ الأرواحِ واعتقاد (الفلاسفةِ) فيه. ربما هو مجازٌ مُرسَلٌ علاقتُهُ الكليّة فأطلقَ اللفظةَ وأرادَ بعضَ الفلاسفة! لكن على أيةِ حال، علينا أن نتخيلَ موقفًا افتراضيًّا يقرأ فيه أحدُ دارسي الفلسفةِ المعاصرةِ في أوربّا هذا العملَ ليصطدمَ بهجومِهِ المُلمِح المُصَرِّحِ على الفلسفة والمشتغلين بها، مع ملاحظةِ أنَّ الفكرَ الإسلاميَّ (أعني الذي وصلَ إليه مفكرون مسلمون) قد يتشابَهُ بدرجاتٍ متفاوتةٍ مع أفكارِ فلاسفةٍ غربيين، وللمسلمين مرتكَزاتُهم القرآنيةُ في فكرِهم ذلك (كتشابُهِ إبطالِ ديفيد هيوم لمقولةِ السبب والنتيجةِ مثَلاً مع ما يقولُ به الأشاعرةُ المسلمون واتخاذِهم هذا الإبطالَ ذريعةً لفهمِ عدم احتراق إبراهيم بالنار، وكذلك تشابه ما وصلَ إليه الباحثُ نفسُهُ من تحليله لموقف المجيء بعرش بلقيس إلى سليمان حين قال: "هذا من فضل ربّي ليبلوَني أأشكُرُ أم أكفُرُ"مع النتيجةِ التي ساقَها (سارتر) في (نظريةٌ عن الانفعالات) مِن أنَّ التعبيرَ الجسديَّ عن الفرحِ هو ضربٌ من السِّحرِ يعوّضُ به الشخصُ الفَرِحُ كسلَهُ عن القيامِ بمهماتِه المترتبةِ على الموقف المُفرح، فهُنا سليمانُ أدركَ حقيقةَ الموقفِ الابتلائيَّةَ ولم يَنسَقْ إلى السِّحر!)، فصحيحٌ أنّ سياقَي هذه الأفكارِ الغربيَّ والإسلاميّ مختلفان، إلاّ أنّ هذه التشابهات قد تمثّلُ مُنطلَقًا للحوار مع الآخَر، لاسيّما أنّ القرآن مُتَعالٍ على الشرقِ والغرب كما قد نلمحُ من آيةِ (اللهُ نُورُ السماواتِ والأرضِ) من سورةِ النُّور! وربّما في هذا التَّتَرُّسِ بالنصِّ القرآنيِّ في مواجهةِ تياراتِ المعرفةِ الإنسانيةِ المختلفةَ امتدادًا لمفهومِ الولاءِ والبَراءِ عند التيار السلفيِّ الإسلاميّ (وهذا المفهومُ في حقيقتِه ما هو إلاّ صيغةٌ رياضيةٌ بسيطةٌ لبيانِ انتماء العناصر إلى المجموعاتِ المختلفة!). لكن قد تكونُ هذه الدرجةُ من القطيعةِ المعرفيّة هامّةً لعكوفِ باحثِنا على النصّ القرآنيِّ يهذا الإخلاص، وربّما لولاها لما أتحفَنا بقراءةٍ عميقةٍ كهذه تَثري طَيفَ المعرفةِ الإنسانيّةِ المُتنوِّعْ.
4-             بخلافِ النقطةِ السابقةِ نجدُ الكاتبَ مُغرَمًا بأدبياتِ المعرفةِ التجريبيةِ الغربية، فيُكثِرُ من استخدام الاصطلاحات التركيبية المستخدمة بكثرةٍ في العلوم البحتة والتطبيقيّة في صيغتِها الغربية كقولِه "سَنتي-يُتم"، "مفتاحٌ أكسيجينيٌّ في باب سورة الضحى (عائل)"، "السلّم الكهرو-استكباري"وغيرها كثير، ممّا يُذَكِّرُني بكتاب "اغتصاب مفكري ما بعد الحداثةِ للعِلم"للفيزيائيّ والرياضيّ الأمريكيّ (آلان سوكال) والفيزيائي وفيلسوف العلم البلچيكي (چان بريكمونت)حيثُ ينتقدُ اجتراءَ نُقّادِ الأدبِ والفلاسفةِ على اصطلاحات العلم التجريبي بطُول الكتاب! فبعضُها موفَّقٌ في موضعِه وبعضُها ربّما ساقَه للسخريةِ، ولكن هي ظاهرةٌ جديرةٌ بالتسجيلِ على كلّ حال!
5-             دعوةُ الباحثِ إلى الفرديّةِ في تلقّي النصّين القرآنيّ والنبويّ. هو يقفُ بالمرصاد لكلِّ ما مِن شأنِهِ إحاطةُ محاولاتِ السابقين بهالاتِ القداسةِ ومأسَسَتُها ومصادرةُ الحقّ في الاجتهاد. وهو يقفُ في هذا موقفًا قريبًا من مفكّرين معاصرين متفاوتي الحظوظ من الجِدّيّة، لكنّه يشترطُ على الباحثينَ لضمانِ وصولِهم إلى نتائجَ ألاّ يكون قُصاراهم إثارةَ الأسئلة، وإنما عليهم أن يبحثوا بأنفسهم عن إجاباتٍ لها، وإلاّ فستكونُ نتيجةُ نشاطِهم الأوَّلِيِّ هي الهَدمَ بالتأكيد، والهَدمُ – حين يتعلّقُ الأمرُ بالنصوص المركزيةِ في الإسلام – يعني مباشرَةً رفضَ كل حديثٍ اتفقَ المحدِّثُون على نسبتِه إلى النبي إذا لم يوافق النظرةَ الأولى لدى الباحث، وصولاً إلى رفضِ نبوةِ النبيِّ نفسِه ومِن ثَمّ رفضِ القرآن جُملةً وتفصيلا.
6-             ترتبطُ هذه النقطةُ بالثالثةِ (نقطة القطيعة المعرفية). أعني هُنا حرصَ الباحثِ على تقديمِ مُنتَجٍ مفاهيميٍّ إسلاميٍّ في مقابلِ كثيرٍ من المفاهيمِ الرائجة عالَمِيًّا، فهو يقترحُ بديلاً عن (تناسُخ الأرواح) الشائعِ في دياناتٍ ومذاهب مختلفةٍ مفهومًا يسمّيه تقريبًا (تناسُخَ الذاكرةِ الجسديّة) يتعلّقُ بالسلاسلِ الغذائيّة المعروفة في البيولوچي، ويتمحورُ حولَ اكتسابِ الآكلِ صِفاتٍ من جسدِ المأكول، ويمضي خُطوةً بهذا الاقتراحِ ليفسّرَ بهِ مثَلاً وصفَ القرآنِ للمُعاقَبين بالنارِ في الآخِرةِ وحديثِهم فيها. يعترفُ الباحثُ بأنّ دلائلَهُ نقليّةٌ عن سلَفٍ كابنِ خلدونَ الذي فسَّرَ طبائعَ الشعوبِ بطبيعةِ ما تأكلُه، فضلاً عن طرائقَ معينةٍ في فهمِ الحديثِ النبويّ. يبقى الاقتراحُ في الحقيقةِ مُثيرًا للخيال، وتحديدًا الخيالَ العِلميّ في ظلّ صعوبةِ إثباتِه أو نفيِه بطُرُق العلمِ التجريبيّ المعروفةِ حالِيّا.
7-             درجةٌ من الپراجماتية الدَّعَوِيّة لا يمكنُ إغفالُها، ونعني بها استغلالَ الباحثِ وحشدَهُ لكلِّ إمكانياتِ النّصّ القرآنيّ في الدعوةِ للتحلُّقِ حولَ مائدةِ الإسلام، وربما تكونُ بعضُ هذه الإمكانياتِ عارضةً وليست أصلِيّةً من منظورٍ ما. المثَلُ الأبرزُ هو استعانتُهُ برَسم حرف الثاء الذي تنتهي به آخِرُ كلماتِ سورةِ الضحى (فحَدِّثْ) حيثُ يرصُدُ مشابهتَه لطبَقِ فاكهةٍ مُقَدَّمٍ إلى مُتَلَقّي السورة. وهو رصدٌ متماشٍ جدًّا مع سياقِ قراءتِه للسورة رغم أنّ رسم الثاء بنقاطها الثلاثِ أمرٌ طرأ على رسم الحروف العربية مع نصر بن عاصمٍ وسِواهُ كما يقولُ التاريخ.
8-             الربطُ الدائمُ الذي ينجِزهُ الباحثُ بينَ القرآنِ وبينَ حقلَي التنميةِ البشريّةِ والتربية. هنا نزعةٌ پيداجوجيةٌ أراها مُحَقِّقةً للمفهومِ الواضحِ من قولِ الله تعالى في القرآن: "إنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي للّتي هِيَ أقوَمُ".
9-             نزعةٌ صوفيّةٌ ربّما لن يسمّيَها الباحثُ بهذا الاسم، إلاّ أننا نلمحُها في تقاطعاتٍ لقراءته مع أدبياتٍ في التصوفِ الإسلاميّ، على غرار ما يُورِدُهُ من رمزية الطيور في قَصَصِ إبراهيم وسُليمان مثَلاً، وفي رُؤاهُ الشخصيّةِ وحوادثِ واقعِه، مع (منطق الطَّير) لفريد الدين العطّار النيسابوري، وكذلك ما يركِّزُ عليه من الجَوهَرِ الحِكمِيِّ لمواقفِ الأنبياءِ في القرآنِ مع (فُصُوصِ الحِكَم) لمُحيي الدينِ بن عرَبيٍّ، حيثُ هناك نجدُ فصوصَ حِكَمٍ موسويّةٍ وسليمانيةٍ وغيرَها. 
     في النهايةِ نحنُ أمامَ وعيٍ مختلفٍ في طريقةِ تلقّيهِ للنص الإسلامي المركزيّ، وهو مختلفٌ بما تستوجبُهُ الكلمةُ من اختلافٍ عن طرُقِ الإسلاميين التقليديةِ المُكَرَّسَةِ تراثيًّا، وطُرُقِ العَلمانيّين المتفاوتةِ الحظوظ مِن الاجتراءِ على هذا النصِّ إلى حدِّ الاستهزاءِ به والسّلام. ولهذا كُلِّهِ فهي محاولةُ تَلَقٍّ جديرةٌ بالقراءةِ والاشتباكِ معها، وتحريكِ الماءِ الآسِنِ في الفكرِ الإسلاميّ.

محمد سالم عبادة

4 ديسمبر 2016
نُشِرت في عدد يناير 2017 من مجلة (عالَم الكتاب) المصرية

أزمتا الوجود والمعرفة - قراءة في ديوان (الناس انصاص) للشاعرة دعاء فتوح

$
0
0
واجهتُ صعوبةً في تصدير هذه القراءة بفقرةٍ مقتبسَةٍ من إحدى قصائد الديوان تحاولُ أن تلخّصَ مزاجَه العامّ وتنقُلَ أجواءه إلى القارئ، وربما مرَدُّ هذه الصعوبة إلى رؤيتي لهذا الديوان ككُلٍّ يصعب فصلُ جزءٍ منه وتقديمُهُ باعتباره نموذَجًا لمحتواه الشِّعري. الديوان هو الثاني في المسيرة الشِّعرية لصاحبته (دعاء فتوح)، وقد تُوّج بأن كان ضمن القائمة القصيرة لجائزة (أحمد فؤاد نجم) لشعر العامية في موسم 2016.
     بعد الإهداء صدَّرَته الشاعرةُ بمقطع يحاول أن يمسك بتلابيب المحتوى حيث تقول: "مين يختشي مِ الصبح؟ وهوَّ بيعكِس الضّلّ اللي كان في القلب ساكن؟؟"وتقول: "وجد المحبين مختزَل في لحظة الاحتواء ثم.. الارتواء والطرح". في تقديري أنّ السؤال الأول فيه تكريسٌ للكتابة باعتبارها (صُبحًا) يُظهِر إلى عالمِ الوجود بالفعل ما كان مجرد احتمالٍ (موجودٍ بالقوّة) متأرجحٍ بين وعي الكاتب ولاوعيِه. أمّا الجملة الثانية ففيها إحالةٌ إلى شاعرية رحلة اكتشاف الذات ومحبّةِ العالَم، والظلم الذي يختزل الوَجدَ في لحظة ذروة النشوة. وسنجدُ خلال تتبُّعِنا لمسار الديوان أصداءَ هاتين الإحالتين.
     ينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام: (نيجاتيف) و(ألوان رصاص) و(بديهي). في (نيجاتيف) اختارَت أن تفصل بين كل قصيدتين بمقطع مكثَّف ربما يمثل مرحلة انتقال بين جوّي القصيدتين، فمثلاً بين قصيدة (توازي) حيث تقول: "زاوية فاضية. تعليق منظَّم للصُّوَر. أختار لحلمي برواز زتوني. إلخ"وفي القصيدة التالية (نُص صورة) تقول: "أدخُل من نُص حكاية غيري أضيَّع نُصّ حكايتي. أخرُج من نُص حكاية غيري لوحدي. إلخ"، بينما يقول المقطع بينهما: "أرسم لوشّك پورتريه. أغمض عيني واتملي تفاصيل. أمسّد بروحي ع الملامح. تتجسد تاريخ". هنا يتوسطُ المقطعُ المكثَّف المسافةَ المضمونية – إذا جاز التعبير- بين تأمُّل المشهد في حياد في القصيدة الأولى والتورُّط فيه من قريبٍ في القصيدة الثانية.
     المهم أن هذا القسم من الديوان يشير من خلال قصائدِه إلى رحلة الشاعرةِ للبحث عن ذاتِها بشكلٍ ما أو بآخَر، فتارةً ينطلقُ هذا البحثُ من تورُّطِها في أسطورة الآخَر كما في بقية (نُص صورة): "أغرس أحاسيسي ف أرض حزينة. أتشكل وصف جديد. أتعرى بصدق حقيقتي، ميتغيرش الجوهر. يتزود عمري تاريخ مشحون. لما أسِد فراغ اللحظة بجهد. أتفاعل حُب. أتعلم حق وجودي. ما استناش بكرة. فاخرج من نُص حكاية غيري، ما اخافش". وتارةً ينطلقُ من محاولة الاتّصال بدَور الأنثى المستقِرّ في الوجدان الجَمعي، وهو هنا دور الحَكّاءة في (ألف ليلة وليلة) كما في قصيدة (طينة نيّة): "أبويا مات وسابني بيت واقف على عمدان حكايتي. جميلة خالص سيرة البنت ف حكاوي (ألف ليلة وليلة). حكّاية بنت الإيه. بتفهم ف التسالي والونس". إلى أن تقول: "البنت أصل المُعضلة ومُعادلة التصحيح". وتارةً ثالثةً ينطلق البحث عن الذات من حياةِ الشارع بين الرفاق كما في (سقف الشوارع مختلف): "أنا وانتو والمشاريب على المتيسره يُمناه. ثقافة الدواليب نفتحها عَ الأسفلت، ومحاولة أني أخرج وأغير عدسة المعنى البرىء. للشارع الأكثر براءة واتساع. خلّا التفاوض مُستمر. لمسك الخيط. لاستكمال حقيقى للى مش عارفاه". وربما تتوقف هذه الذات المرتحلة في بحثِها عن نفسِها لتتأمّل طَورًا من أطوار تشكُّلِها كما في قصيدة (زي كل الناس): "كل لحظة تكنولوجيا جديدة. تكسِب الحياة تعقيد. تعقيد. يستهلك ملامحي ف لعبة البنت الجميلة. باستقامة القامة اللي تبرز تفاصيل الجمال ف اتجاهين متعاكسين! تعقيد يحوّلني سكن فاضي، مُتاح، مُنهك، غريب عني. يتكلف لحصد إعجاب الجميع". أو لتتأمّل موقفَها إزاءَ أشباح الماضي كما في (وِش سعيد): "مشيوا ف هدوء. ما فضِلش من صوت الوداع غير قلب أطرى من احتمال المشي. وحدي. أهز منديل للي فات. واطلع من عنيا عيال يتشعبطوا علي طرف منديلي اللي كان لسه وحيد. وأتملي بضحك السكك".
     أما قصيدة (استغُمّاية) فهي تمثّل بالفعل تلخيصًا لهذه الحركة الأولى (بلغة الموسيقى الكلاسيكية) من الديوان (نيجاتيف) حيث تقول: "مشروع وجودي سِرّ مرهون بالمواقف"إلى أن تختم القصيدة: "فاطلَع كما وِلدِتني رُوح الأسئلة". هنا ترصُد الشاعرة تخَفِّيَ وجودِها في مواقف حياتها المتتابعة، ومطاردتَها لهذا الوجود فيما يشبه (الاستغُمّاية) بالفعل. باختصارٍ، هنا يصل انشغالُها بالسؤال الوجودي/ الأُنطولوچي إلى غايتِه.
ينتهي هذا القسم بقصيدة (سِلُويتّ) وهو خيالُ الظّلّ وقد فضّلت التعبير عنه بالكلمة الأوربية لطيفة الوقع على الأذُن. هنا تتأملُ ضرورةَ صيرورةِ الذاتِ خلالَ الرحلة واستعصاءَها على الثبات، فتبدأ: "عُمري ما خُضت ف يوم تجربتي لحد الآخِر"/ "دلوقتي باقابل نفسي ف وسط طريق/ أحكي عن بنت اتصالحت ويّا الضحكة"إلى أن تقولَ لمُخاطَبِها: "فاستنّى شوية عشان نتفسَّر"في إشارةٍ إلى حالةِ الإلغاز التي تكتنفُ الموجودَ البشريّ وأنّ حَلّها يكمُنُ فقط في الرِّحلة، لتقول انتهاءً: "تجربتي تلوّن جلدي. ترُصّ ف نفسي رصيد. تغيير السكة بديهي. فاللحظة الفايتة ما بترجعش".
     في القسم الثاني (ألوان رصاص) يستمرّ توسُّط المقاطع المكثفَة بين القصائد في إخلاص لفكرة التلَطُّف بوعي المتلقّي فيما يبدو! هنا يكتنفُ صورةَ الذاتِ تجسُّدٌ ووضوحٌ كأنها اكتست ألوانًا بالفعل. صحيحٌ أن اللون الأولَ كما يشي عنوانُ القصيدة الأولى (رمادي)، لكنّه يبدو مرحلةً لابُدَّ منها في عملية الاكتساء بالألوان بعد النيجاتيف. في القصيدة الأولى تسليمٌ بالعجز عن المعرفةِ التي تصبو إليها روحُها: "ما باملكشي زوايا جديدة للرؤية. روحي ضيقة. مش باتساع المعرفة والناس". أما في القصيدة الثانية (وربّي جلاه) التي تبلُغ فيها الغنائية سقفَها في هذا الديوان (الغنائية كما أفهمُها في معناها الواسع هي الاحتفاءُ بالصورة الشعرية التي لا تدَعُ مُجَرّدًا لا تُلبِسُهُ جسدًا ملموسًا، والاحتفاءُ بالموسيقى الخارجية الظاهرة، فتكاد هذه القصيدةُ تكونُ الوحيدة المنتظمة على عَروضٍ شِعريٍّ واحدٍ لا تخرجُ عنه إلى سواه ولا إلى اللاوَزن، وهو هنا عَرُوضُ البَحر الوافر بتفعيلته المريحة (مُفاعَلَتُنْ/ مفاعِيلُنْ))، فيبلغُ الاحتفاءُ بالحياةِ سقفَه أيضًا ليواكبَ القالَبُ الفَحوَى ويواكبَهما معًا العنوانُ، حيث (تنجلي) جمالياتُ شِعر العامية المصرية بمتكآتِها على جماليات البيان العربي في هذه القصيدة: "باقول لك إيه: تجيش نضحك على النكتة اللي شايلينها ليوم ضيقة؟!/ ساعات الضيقة يسبقها أجل حاسم/ خلاص نفرح مادام العمر مش دايم/ خلاص نفرح ونبقى نحوّش الأحزان"إلى قولِها: "فكل ما فينا بيشابي على قَدْرُه/ ويشبه قَدرْه مسعى يداه/ ودعوة فجر بتوصّل لقلبي رجاه/ وأنا في الدنيا دين معلوم/ ورزق لغيري كان مكتوم/ وربّي جلاه".
     تستمر حالة الاحتفاء بالحياة/ قَبُول القدَر/ الاكتساء بالألوان في قصيدة (وجهة نظر): "في الحقيقة المِشّ دُودُه مِنُّه فيه/ قبول الناس لأقدارهم لُغز مُعجِز". لكن يبقى أنّ الوجودَ متحققٌ دائمًا بطريقةٍ ما في هذا القسم الثاني/ الحركة الثانية من الديوان، ولذا تَفرَغ الشاعرة في قصيدة (ناقص حِتّة) للسؤال المعرفي/ الإپستمولوچي وتحاول أن تُبدِع نظرية المعرفة الخاصةَ بها حين تقول: "هاحكيلك عن عيني حكاية. طول عمري بادوّر على حاجة توسع ضيقها. من ضيقها كنت بشوف الناس انصاص. أجزاء مفصولة بجمعها في عقلي لأشخاص. منضاف على روحهم تفاصيلي فبقيت احتاس. بطّلت أجمع تفاصيلهم واكتفي برحابة ضيق العين. فعرفت بأن الناس بتشوف في العادي انصاص. ظاهر معكوس في عيون الناس!". بالتأكيد لا يمكننا أن نفهم من (العين) مجرَّدَ العضو المنوطِ به الإبصار، فالظاهرُ أنها عينُ الإبصار وعينُ العَقلِ معًا. الشاعرةُ تحكي لنا عن قصتها مع الحواسّ والعقل كوسيلتين لإدراكِ العالَم، ووعيها في لحطةٍ ما بأنّها تُسقِطُ مِن ذاتِها تفاصيلَ على ما تتوهمُ أنها تُدرِكه، وتسليمها في النهاية بقصور الإمكان البشريّ عن الفهم الكامل للعالَم "واكتفي برَحابة ضيق العين". وهذه المفارقَة في (رحابةِ الضيق) لم تتأتَّ لها إلا بعد إدراكِ القصور الفطريّ في وسائل الإدراك، حيث يترتّب عليه أن تسمحَ لعين خيالِها بأن يُكمِل النقص كما يحلو له، وأن تقنعَ بما يفعلُه الخيال، أو تسلّم أمرَها لبارئ الإدراك كما يحدثُ ضمنًا في قصيدة (وربّي جلاه). ربّما يذكّرُنا هذا البيتَ المنسوب إلى لإمام عليٍّ بن أبي طالبٍ كرّم اللهُ وجهَه: "العَجزُ عن درَكِ الإدراكِ إدراكُ/ والبحثُ في سِرِّ ذاتِ السِّرِّ إشراكُ".
     تختمُ الشاعرةُ القسم الثاني بمقطع "مخلوقة من ربكة المفاهيم. ما بين صح وغلط باعيش إنسان. أظلم عشان أطهر روحي من وصمة الأنبيا. أشوف حجمي الحقيقي. أنحني للحق". ثّم قصيدة (مافيش حُسن) حيث يقول مطلعُها: "نفس هوسي الأزلي بالخلود. هو اللي خلاني قررت أتحول مصاص دماء. فأعيش على نفس الدم الفاسد". هنا عودةواعية إلى النيجاتيف بارتباك أسئلتِه ولا تَحَدُّدِ موقفِها الوجوديّ فيه. وهي تقررُ أن هذه العودة تشبُّثٌ منها بالحياة (نفس هوسِها بالخلود)، فربما كان تحقق الوجود وقبول القدَر المعرفيّ بعد ذلك إيذانًا باكتمال الرحلة ومِن ثَمّ الموت!
     لكن ما يستوجبُ النظر في عنوان هذا القسم الثاني هو اختيارُها لألوان (الرصاص) تحديدًا! هل هي مصادفةٌ إبداعيةٌ أم أنّ هناك قصدًا واعيًا؟ في تقديري أنّ هناك سببين ربما يتأرجحان بين وعي الشاعرة ولاوعيها، أولُهما قابليةُ ألوان الرصاص للمحو، وهو ما تحرصُ عليه في ختام هذا القسم كما تسلّمُ بأنّ المحو هو المصيرُ المحتومُ حتى في ذروةِ انتشائها بالحياة في (وربّي جلاه): "عشان الرحلة بتخلّص أكيد ف ميعاد/ فيران بتقرقض الأيام". وثانيهِما سببٌ ألصَقُ بانطباعاتي الشخصيةِ ولا أستطيعُ معه ادعاءَ موضوعيةٍ من أي نوع! وهو سببٌ يتعلقُ بدفءٍ ما، موجودٍ في ألوان الخشب، لا يقتربُ منه إلا دفءُ ألوان الشمع مثلاً! ربّما!
     القسم الثالث والأخير (بديهي) يمثّلُ تخارُجًا من خصوصية جوّ الديوان إلى تكرار الحياة اليومية العادية، لكنه يستبقي من حالةِ الكتابةِ الانتشاءَ بفكرة الحرية: "أسكر من كوني حُرة/ حتى لو حريتي متر*متر". في (معضلة بكرة) تأمُّلٌ ساخرٌ مريرٌ لموقفِ توريثِ أزمة الوجود للأبناء: "وبعد ما ركبنا جميعًا في السفينة/ اكتشفنا إننا نسينا باقي المخلوقات ع الأرض غرقانة/ وعليه مش فاضل عشان نحيا/ سوى أجسادنا ننهش فيها/ فقررنا نجيب ف ولاد عشان نقتات عليهم"! ثم تختم شاعرتُنا الديوان بقصيدة (ف بيت الراحة سِر) حيث تبدأها: "تلاعبني عشرة كوتشينه؟"وحين يحتدم اللعب "ممكن استأذن ثواني لحد بيت الراحة وارجع؟/ في الطريق مش عارفة ارتّب جوه مخي ازاي افوز"ولدى العودة من بيت الراحة: "في اللحظة دي شُفت الورَق من زاوية تانية مُربِحة/ والورق قدامي بقى مكشوف". في تصوُّري أن هذه قصيدةٌ محوريةٌ لفهم المنطلَق الإبداعي للشاعرة ورؤيتها لوظيفة الكتابة، فثَمّ دلالةٌ لاختيار هذه القصيدة بالذات ختامًا للديوان. الظاهرُ أنّ حالة الكتابة بكل تشابكاتِها أقربُ في استسرارِها إلى (بيت الراحة) حيث يتخلص الوعي من فضلاته الزائدة عن حاجته وتطفو الأفكار الملتبسةُ بسحر القلَم إلى سطح الوعي و(تترتّب الأوراق) باصطلاح الكوتشينه! وربما يتراسلُ هذا التصورُ مع مقطعٍ بينيٍّ سابقٍ: "قال لو حابب تعرف حد بجد/ فتش ف زبالته تلاقي حقيقته/ لو دوّرت بصدق ف حاجة رميتها/ حاشُوفني كويس؟!".
     يبقى في النهايةِ أن نتوقفَ عند عنوان الديوان الذي اختارته الشاعرة من بؤرة إحساسها بأزمة المعرفة (الناس انصاص)، ليقِفَ عنوانًا مخاتلاً قد يَشي بأن هذا ديوانٌ بسيطٌ عن الناس، بينما هو في الحقيقةِ ديوانٌ معقَّدٌ متشابكٌ عن النفسِ، مُحيلٌ إلى ذاتِه، لا يتيحُ جمالَه في تقديري لكل عابر سبيلٍ أو طالبِ متعةٍ سريعة، ويفتحُ كنزَه لطالب الجَمال الصبور.
محمد سالم عبادة
2 فبراير 2017   
نُشِر في صحيفة (أخبار الأدب) بتاريخ الأحد 19 فبراير 2017

سِفرُ أمثالِ اللاّمُقَدَّس .. قراءةٌ في المجموعة القصصية (طَرحُ الخَيال) لأحمد سمير سعد

$
0
0


     أولُ ما يستوقفُنا في هذه المجموعة عنوانُها بالطبع. استعارَه القاصُّ فيما يبدو من تعبير (طَرح البَحر) الذي يعني في اللسانِ المصريِّ تلك الأرضَ التي تعلو على ضفة النّيل وتَخصُبُ بتوالي (طَرحِ) النّهر الطَّميَ عليها. وهذه الاستعارةُ هي في جوهرِها تأمُّلٌ لفعلِ الكتابة ذاتِه، وربّما تمثّلُ إشارةً إلى أدَبٍ واعٍ بذاتِه، أو (ميتا-سَرد) metafictionكما يحلو لنّقادِ ما بعدَ الحداثَةِ أن يُسَمُّوه. قسم القاصُّ مجموعتَه قسمَين، فالأوّلُ الأكبر (خيالٌ حُرٌّ يَكتُبُ خواطِرَه ويُلِحُّ عليها)، والثاني (طرحٌ لم يُشكِّل يابِسَة). الأوّلُ يشتملُ على اثنَي عشرَ نَصًّا متراوحةِ القِصَر، يُقدّمُ لكلِّ نصَّين أو ثلاثةٍ بمقدمةٍ تصِفُ أرضًا هي بعضُ طَرحِ الخيالِ تمتازُ بخصائصَ معيَّنةٍ تميّزُها عن غيرِها من الأراضي المحتواةِ في هذا القسم، وهذه العنايةُ بالتبويبِ والوَصفِ والتقديمِ للنصوصِ في القسمِ الأوّلِ هي تَجَلٍّ للإلحاحِ الّذي يعبِّرُ عنه عنوانُ القسم. أمّا القسمُ الثّاني فهو أقربُ إلى فعلِ كتابةٍ منعكِسٍ على ذاتِهِ صراحةً، فالكاتبُ يستبطِنُ ذاتَهُ (الكاتِبَةَ) ويحاولُ أن ينقُلَ إلينا تصوُّرَه عنها، وعن العالَمِ وعلاقتِهِ به من خلالِها، في نَصٍّ حُرٍّ يتماسُّ بشكلٍ ما مع السِّيرةِ الذّاتيّةِ الأدبيّة. وحُرِّيَّةُ هذا النّصّ حُرّيّةٌ مُطلَقَةٌ في الحقيقةِ، لا يَحُدُّها (إلحاحٌ) كذلك المُشارِ إليه في عنوانِ القسمِ الأوّل، ولِذا فهو كما يصِفُهُ عنوانُهُ: "طَرحٌ لم يُشَكِّل يابسة".
     قَصَصُ هذه المجموعةِ يجنَحُ في جُملتِه إلى عالَم الأمثال parables، حيثُ الأشخاصُ غُفلٌ من الأسماءِ إلاّ قليلاً، وربّما لا تَظهرُ الأسماءُ إلاّ في القصة الأخيرة (الذِّكرَى)، ففيها (زكيّة الراقصة – عليّ اللص – محسن المبطون – علاء الإسكافي – سعدون الحشّاش – منصور صاحب الكاس – الواد سعيد الأفندي ابن محمود الفرّان – حسين الهجّام – يونس كبير التّجّار)، وكلُّهم إلاّ الأخيرَ يمثّلون المهمَّشين المغلوبين في القصّة. فإذا كان الاسمُ يخلُقُ حالةً من الحميميّة بين المتلقّي والشخصيّةِ في العملِ الأدبيّ، ويمهّدُ لاحتمالِ توحُّدِ المتلقّي معها، فإنّ هذه القصّةَ ربّما تشيرُ إلى انحيازِ القاصِّ إلى المهمَّشين، بينما إغفالُهُ المتعمَّدُ للأسماءِ في غيرِها يُحيلُ شخصياتِهِ الأخرى إلى ظواهِرَ عقليّةٍ مجرَّدَةٍ لا لَحمَ ولا دَمَ لها، ويضعُها بأدوارِها النموذَجِيّةِ عامدًا أمامَ عينَي القارئ ليَصدِمَهُ بلاإنسانيّتِها ويُحَرِّرَهُ من إمكانِ التعاطُفِ معها، فيفتَحَ إمكاناتِ حُكمِهِ العقليّ وتساؤلاتِهِ الفكريّةِ أمامَها بلا حدود.
     كذلك تجدُرُ الإشارةُ إلى تقاطُعِ هذه النصوصِ أسلوبيًّا مع النصوصِ المقدَّسَة على أكثرَ من صعيد. فأوّلاً، لا يَخفَى أنَّ الأمثالَ أداةٌ شائعةُ الاستخدامِ في نُصوصِ الدياناتِ الإبراهيمية، فهي في التوراةِ (المَشَليم) mashalimالّتي يقولُ بعضُ شُرّاحِ التوارةِ إنّ سليمانَ – عليه السلامُ – اخترعَها ولولاهُ ما فُهِمَت التوراة! وهي في الكلام المنسوب للمسيح عليه السلامُ في الأناجيل، وهي في القرآنِ وفي التراثِ الصُّوفِيِّ بغزارة. وثانيًا يعمَدُ القاصُّ إلى استقصاءِ الوَصفِ وإيرادِ تصنيفِ ما يصفُهُ من موضوعاتٍ والإطنابِ بتناوُلِ الصُّورةِ والحدَثِ من كلِّ زواياهُ، ويفعلُ هذا بشكلٍ مُطَّرِدٍ، ففي قصّة (الديكتاتور) يتباهَى الرَّجُلُ بچيناتِه النقيّة التي أورثت بدنَه تراكُمَ العيوبِ الخِلقيّة، يفاخِرُ بـ"إصبعه الزائد وشفته المشقوقة ولسانه الملتصق بالحلق وأنفه الأفطس و....إلخ"فيما يستغرِقُ سِتَّةَ أسطُر، وفي (البلاء) "خلالَ أسبوعٍ واحدٍ كان قد رأى رءوسًا يسكنُها البَقُّ وأخرى الجَرادُ، بعضُها ينقرُ فيها غِربان وبعضُها يرتعُ فيها الذُّباب، بومٌ اتخذ بعضَها أعشاشًا، ...إلخ"، وفي (تطوُّر): "ثُمّ كان تنوعٌ بيولوچيٌّ وسلالاتٌ عديدةٌ, البعض استطال فمه واتسع فكّاه، بعضهم طوّر غددًا لعابيةً تحقِنُ السُّمّ، البعض تكلّست أنسجتُه وتصحّرَت أعضاؤه ... إلخ"فيما يستغرِقُ صفحةً ونصفَ الصفحة! وأخيرًا في (الذكرى): "فقراءُ المدينة ومقطوعو الأرجُل ومبتورو الأذرُع والعِميان.... إلخ"في إيرادٍ لأصنافِ المهمَّشين يذكِّرُنا بآياتِ البيانِ التشريعيِّ المدَنيِّ في القرآنِ كالآية: "ليس عليكم جُناحٌ أن تأكلوا من بيوتِكم أو بيوتِ آبائكم أو بيوتِ أمهاتكم ....إلخ". والمتابعُ لأدَب كاتبِنا لن يُخطئَ تواتُرَ هذه السِّمَة في مُنجَزِه، فهي كذلك في مجموعته (الضئيل صاحبُ غِيّة الحمام) بكثافةٍ تصِلُ إلى غايتِها في (حكاوي المزيّن). في تقديري أنّه يحاولُ أن ينفُخَ الرُّوحَ في فكرتِهِ بالِغةِ العُمقِ والتجريدِ، فتنفتحُ التفاصيلُ وتتكاثَرُ حتى تغلِّفَ هذه الفكرةَ التي يَشعُرُ هُوَ بنفاسَتِها، فتصبحُ كلؤلؤةٍ ثمينةٍ مختزَنةٍ في صدَفَةٍ سميكةٍ عسيرةِ الاختراقِ من التفاصيل. هو لا يريدُ لفكرتِهِ أن تَطرحَ نفسَها على الطريقِ لكلِّ قارئٍ عابرٍ، مُؤثِرًا نُخبويّةً نبيلةً بذلك في الحقيقة.  
     المقدّمةُ الأولى تتحدثُ عن "أرضٍ بزغت بعد أن ذهب الطوفان، غيرَ أنها لم تُقَدَّ من ماءٍ وطين، هي زَبَدٌ يَغلي ويفورُ وينشأُ ويَفنى"، فكأنّ أمامَنا عَودًا أبديًّا نرى منه حَلقةً واحدةً في قصّتين/ أو مَثَلَين بالأحرى، وهي أرضٌ "كالكونِ جُفاءٌ يذهبُ به العصفُ والبرودة، فقط ستكونُ أَلقَةً لامعةً تُفَتِّتُ الضوءَ لعناصره وتمزجُ ألوانَه...". هي إذَن حلقةٌ من البَهرَج الزائفِ القائمِ على حافةِ هاويةٍ من الفناء/ اللاّمَعنى. في القصة الأولى يفاجَأ (الدكتاتور) بقَزَمٍ يدّعي أحقيّتَه بالمُلكِ عليه، ولا يحتملُ وجودَه فيقفزُ عليه في النهايةِ ونُدرِكُ أنّه راكمَ إلى عيوبِهِ النقيّةِ المتوارَثَة عن أجدادهِ عيوبًا اكتسبَها من القزَم. هنا النّقاءُ دافعٌ إلى الاستعلاء واستمراءِ السّلطة، والنّقاءُ ما هو إلا نقاءُ عيوب، واستمراءُ السُّلطة كان الدافعَ الوحيدَ إلى تفاعُلٍ حقيقيٍّ مع الآخَر/ القزَم، والتفاعُلُ كان السبيلَ الوحيدَ إلى الهُجنَة، التي عزّزّت السلطة! ربما يحاولُ (أحمد سمير) أن يَقدَحَ في سُلطَة النصوص، بادئَ ذي بَدءٍ، فما النصُّ إلا مراكمةٌ للعيوب وما هو إلاّ سُلطَةٌ محدودةٌ في يد صاحبِها/ النّاصّ. في القصة الثانية (توحُّد) يحاولُ (سمير) أن يقدَحَ في النّاصّ بعدَ أن قدحَ في النصّ! فالبطلُ يعتزلُ مجتمعَه و"يشكّلُ عالمَه على هواه، يملؤه بظلالٍ على شاكلتِه، يسلخُ من وجهه آلافَ الأشخاص...إلخ"لكنّه في النهاية "رأى كلَّ ما صاغَ صدىً لصوتٍ لم يَصدُرْ، ظِلاًّ باردًا لحقيقةٍ لم توجَدْ"، فاكتشفَ أنه "خيالٌ ثنائيُّ الأبعادِ بلا عُمق، يوشكُ أن يتلاشى في ظلامِ غرفتِه الباردِ وإن حاولَ إشعالَ اللهبِ والمقاومة". هنا نجدُ خالقَ النصّ وقد أدركَ أنه ما خلق إلاّ وهمًا كبيرًا وأنه كذلك وهمٌ كبيرٌ يقف على حافة اللامعنى. القصتان في الحقيقةِ بسطٌ لفكرةِ البهرَج القائم على حافة الهاوية في المقدمة الأولى، كما لو كنّا إزاءَ صدىً لمفهومِ الخواء عند (دريدا) وغيرِه. هي محاولةٌ لتسفيهِ الكتابةِ لدى الشُّروعِ فيها!
     المقدمة الثانيةُ ترددُ الدوجما الأساسية التي تتغنى بها الأولى مِن أنّ هذه الأرضَ بهرَجٌ زائلٌ مفطورٌ على الفَناء، لكنّها تضيف وتؤكّدُ أمرًا آخَرَ وهو "محاولةُ هَباءٍ لاختراعِ معنىً والوصول". القصّةُ الأولى (الشفيف) تقدّمُ بطلاً شيخًا، مَيزتُهُ في حيادِهِ إزاءَ الآخَرين فهو لا يؤذي أحدًا ولا يضمرُ شرًا لأحدٍ، وكلُّ ما عدا ذلك من كراماتِهِ مردودٌ عليه، فصلاةُ الاستسقاءِ التي كانَ إمامَها والتي انهمر المطرُ بعدها لينهي أشهُر الجفاف، كان قد صلى قبلها صلاتَين لم تُسفِرا عن شيء، وقِس على ذلك حوادثَ أخرى. لم يُرفَع وليًّا وغيرُهُ رُفِع، وهذه جُملةٌ مفتاحيةٌ في فهم القصة. البطلُ ماتَ وقُيِّضَ له من يورثُ ذِكرَهُ لأحفادِه. وكأنَّ الأخلاقَ هنا تتأسسُ على الشكِّ لا على الإيمان. نحنُ أمامَ ولايةٍ إنسانيّةٍ لا ربّانيّة، أقصى ما تطمحُ إليه أن تظلَّ راغبةً في الرّبّانيّةِ دون تأكُّدِ وصولِها إليها. إنها محاولةٌ لاختراعِ المعنى كما تقولُ المقدّمة، وكفاها شرفًا أنّها محاوَلَة! وهذا المضمونُ مع العنوان (الشفيف) يُذَكّرُني مقطوعةً شعريةً لـ(كريم الصياد) في ديوانه الأول (الأمرُ): "أغرقُ في الماءْ/ ما جاءَ نبيٌّ قبلي إلاّ ومشى فوقَ الماءْ/ لكن معجزتي غَرَقِي/ غَرَقي حتى عُنُقي/ ذَوَباني في عُمقي/ لِيَعودَ الماءُ شفيفًا بنقاءٍ بنقاءٍ بنقاءْ!". فهنا أيضًا ولايةٌ – أو ربما نبوةٌ – إنسانيةٌ تطرحُ جانبًا إرثَ المعجزاتِ وتحتفي بالانغماسِ في الطبيعة وسلوك درب الإنسانية. ونعرفُ أنّ القاصَّ والشاعرَ زميلان في جماعة (سيميا) الأدبية التي تأسست عام 2006، فلا نستبعدُ أن يكون مُنطَلَقُهما الفكريُّ واحدًا، أو هما منطلَقان متقاربان على الأقلّ.
     في القصّة الثانية (حقول الذُّرَة) نجدُ أوصافًا مهولةً لحقولٍ "ابتلعَت خمسة جيوشٍ نظامية/ نموتُ فيها من البردِ ببطونٍ منتفخةٍ من أكل حبّات الذُّرة النيئةِ وقلوبٍ أعطبَها الجَزَع/ في العُمقِ منها ذئابٌ جائعةٌ وجانٌّ يتجسّدون ليلاً". في تصوُّري أننا إذا تتبّعنا ظواهِرَ هذا النّصّ القصصيّ، إلى عنوانِ المجموعةِ المتّكئِ على تعبيرٍ مصريٍّ (طرح البحر)، فلن نكونَ مخطئين إذا قُلنا إنّ اختيارَ الذُّرَةِ هنا يتكئُ كذلك على تداعياتٍ ولوازمَ لهذا المحصولِ الحقليِّ متجذِّرةٍ في الوعي المصريّ، أهمُّها القدرةُ على الإخفاءِ ومكمنُ الخَطَرِ الدائمِ الذي لا يُؤمَن، فالمصريون يقولون (لَبَد له في الدُّرَة) بمعنى (كَمَنَ له في الخفاء)، وهذا بالطبع راجعٌ إلى طبيعة النباتِ وحقولِه! هنا – في تقديري – ثَمَّةَ إشارةٌ إلى كُلِّ ما هو غيبٌ ومُستَعصٍ على التجربةِ البشريّة الحسّيّة المباشِرة. يحدثُنا القاصُّ عن ضرورةِ هذا الغيب المكنونِ "غيرَ أنَّ الأعوادَ كانت دائمًا سِترًا للعُشّاقِ إذا ما أرادوا خلوةً على ألاّ تُطيلَ المُكثَ"، وعن خطَرِه في الوقت نفسِه "مأوى لعصاباتٍ شتّى وقُطّاعِ طُرقٍ ونصّابين وشيوخ منصر ولغيلان وأشباح غير مرئيةٍ تتسترُ بالليل وتخطفُ عيالَنا"فالغيبُ ميدانُ المتكلمين والمتفلسفين والمؤمنين والملحدين وشِجارِهم الدائبِ الذي يُدّوِّخُ الوعيَ البشريّ ويتخطَّفُ الناس! يحدّثُنا عن طفيليةِ الغيبِ وشيطانيتِه "أعوادُ الذرة كنبتِ شيطانيٍّ بزغت في حقول القمح وبين أشجار الفاكهة، أزاحت بلاطات المنزل وأقامت ساقها وسطَ البيت وفي الفِناء"فهو عالَمٌ لا يمكنُ إثباتُ وجودِهِ بالتجربةِ الحسّيّةِ كما لو كان يفتقرُ إلى الأصالة الوجوديّة للوهلةِ الأولى! كما يتحدثُ عن الحَلّ الجِذريِّ الذي يقضي على حقولِ الذرةِ/ الغيب "جذوة لهب وكيروسين تُنهي كلَّ شيءٍ وتنقذُنا"فهو العِلمُ التجريبيُّ، وربّما هو الوضعيّةُ المنطقيّةُ إن تابَعنا شَطَطَنا المُبَرَّرَ! القصةُ تَطرحُ الحَيرةَ الوجوديّةَ بين الاستسلامِ للغيبِ والرغبةِ في تمزيقِه "أخشى حقلَ الذُّرَةِ ومخلوقاتِه ووحوشَه، وتُرعِبُني نباتاتُه الشيطانية، وأخافُ الموتَ محروقًا أو مخنوقا"، وتُسَلِّمُ في النهايةِ بأنَّ العلمَ التجريبيَّ براديكاليتِه موشِكٌ على الانتصارِ فيما بدأه، وعمّا قليلٍ سيُعاني الجنسُ البشريُّ تكاليفَ انتصارِه "ألسنةُ اللهبِ الوليدةُ لن تلبثَ أن تتكاثَرَ وتنمو وتناطحَ السحابَ، الدخانُ يَملأُ كُلَّ الكونِ ويَفيضُ، يَصرَعُ نباتاتِ الذُّرةِ ويخنُقُنا". هو إذَن مَثَلٌ يتجاوبُ مع محاولةِ اختراعِ معنى، ومحاولةِ الوصولِ المحكومةِ بالفَشَل!
     المقدمةُ الثالثةُ تقدمُ أرضًا "سألَت سموًّا ورفعةً لكنّها قُدّت من ذاتِ مادّة الأرض: معجونَ طينٍ وخطايا وحديدٍ ولهَب"، وبعد أن تسامَت "سقطَت هي وسقطتُ أنا" .. نستمرُّ في شططِنا المُبَرَّر ونقولُ هو تقديمٌ للنصِّ الطامحِ في امتلاكِ سُلطةِ اليقين وطُمأنينتِه، والمحكومِ عليهِ بالبقاءِ في الحَيرَة. القصةُ الأولى (الابنة) تقدّمُ أبًا يحاولُ حمايةَ ابنتِه بمنحِها الحكمةَ والبصيرةَ لكنّه يُدرِكُ أنه لم يملك اليقينَ يومًا، بل "احترقت عيناهُ منذُ بدأ النظرَ إلى أبعدَ مِن قدمَيه". هو صدى الحيرةِ الأصيلةِ التي تحملها إلينا المقدمةُ الثالثة. القصةُ الثانية (البلاء) تبدأ بوصفِ طربوشٍ مكويٍّ لوالد البطلِ يُخفي تحته الديدان، والمشهدُ يؤرّقُ وَعيَ البطل بعد وفاةِ أبيه .. نتصورُ أنَّ الأمرَ قاصِرٌ على انهيارِ السُّلطةِ الأبويّة وأنّه البلاءُ المقصودُ، لاسِيَّما أنّ الأُمَّ أيضًا لها "ذلك الفأر الرمادي بفمه المقزز وشواربه الطويلة يعتلي رأسَها ويدسُّ ذيلَه في فُتحةِ أذُنها ليَعبُرَ إلى الأخرى". لكن نكتشفُ مع البطل شُيوعَ هذه البَلوى فَـ"خلالَ أسبوعٍ واحدٍ رأى رءوسًا يسكنُها البَقُّ وأخرى الجَرادُ....إلخ"، والجميعُ عاجزٌ عن رؤيةِ ما حَلَّ به "فأبوه لم يرَ الديدان حين نظرَ إلى المرآة"و"لم يرفع أحدُهم يومًا يده ليتحسسَ رأسَه". ونلمحُ ما يشبهُ الخوفَ المرَضِيَّ لدى بطلِنا من أن يكون البلاءُ قد طالَه "لا يكفُّ عن تحسُسِ رأسه في جنونٍ وجزَع". اختيارُ الرأسِ بما هو مسكنُ الأفكارِ وبما هو مجازٌ مُرسَلٌ محتمَلٌ عنها يُرَجِّحُ لدينا أن ثَمّ إلحاحًا على مسألة فُقدانِ الاتَساقِ في المنظوماتِ الفكريّة التي تبدو "مكويّةً"وأنيقةً ومُهَندَمَة! بل إننا نلمحُ احتشادَ السَّلفيّاتِ الفكريةِ المختلفةِ في صراعٍ عبثيٍّ: "الرءوسُ المسكونةُ بالغِربانِ تنضَمُّ معًا وتُفارِقُ الباقين/ كُلٌّ يقصِدُ شَبيهَهُ ولا أحدَ سَليم/ ينتظمون في معارِكَ وتدافُعٍ لا يَنتَهي ولا يَصِلُ لنتيجةٍ أو دَليل". بلاءٌ شاعَ حتى إننا لَنَكتشِفُ أنَّ بطلَنا لم يَنجُ منهُ حين ماتَ ووُورِيَ التُّرابَ "لم يُلاحِظ أحدُهم صفَّ الصراصير الذي غادرَ رأسَه عبرَ عينيه...". الأرؤسُ نصوصٌ فكريّةٌ مَعيبةٌ، كُلُّها سألَ الرفعةَ ولم يَنَلها، تجاوبًا مع مقدمتِنا. أما الثالثةُ (الموت) ففيها الموتُ يتجسّدُ ويتجرّدُ في مراوَغَةٍ تتّسِقُ ودورَه الطبيعيَّ في العالَم، فهو "تارةً يأتي كرائحةٍ محمولةٍ على النسيم"وتارةً "كفارسٍ يلتحفُ الظلامَ والسوادَ"، وسُكّانُ المدينةِ يحاولون صَدَّهُ بتعيين الحراسات حول المدينة، وأشجعُهم يرُدُّه عن المدينةِ لكنَّه يموتُ، فكأنَّهُ لم يَصُدّه فقد نالَ الموتُ منه! إذا مضَينا في تأويلِنا المحتمَل، نكونُ أمامَ النصوصِ التي تحاولُ الخُلودَ وتَدَّعيهِ ويَطالُها الموتُ في النهاية .. الخلودُ بعضُ الرفعةِ المشتهاةِ في المقدمة، وهو مُحَرَّمٌ على النصِّ كحُرمتِه على النّاصّ!   
     المقدمةُ الرابعةُ تقدّمُ لنا أرضًا واعيةً بذاتِها، مرّت برِحلةٍ نُضجٍ تشبِهُ في بِنيتِها الثلاثيّةِ جَدَلَ (هيغِل)، فهي أوّلاً "مسّها الغُرورُ فظنّت أنَّ كلَّ أرضٍ تلمسُها أو تُبحِرُ عبرَها تتغيرُ عناصِرُها ويُعادُ بناؤها لتصيرَ نسخةً واعيةً منها"كحالِ مثاليّة (فِشتَه Fichte) الذاتيّة، حيثُ الوعيُ الشخصِيُّ هو الذي يُشَكِّلُ العالَم، وثانيًا "ضربَها الاكتئابُ واليأسُ فرأت في باطنِها زَبَدًا يَذهَبُ جُفاءً، تمُرُّ سلامًا على كلِّ أرضٍ بلا ذكرى أو بلاغٍ أو أثَر"فيما يشبهُ من بعيدٍ مثاليّةَ (شِلِنغ Schilling) الموضوعيّةُ حيثُ لا دخلَ للوعي الشخصيِّ في تشكيلِ العالَم بل الأشياءُ في ذاتِها ناطِقةٌ عن نفسِها، وإن كان يشوبُ هذا الشَّبَهَ حالٌ من اليأسِ لا يوجَدُ عند (شلنغ) بنزعتِه التصوُّفِيّةِ المُحِبّة للعالَم، فهو يأسٌ مبعثُهُ أنَّ حديثَنا عن النصوصِ باعتبارِها أراضِيَ وعن الأشياءِ باعتبارِها نصوصًا، فهنا وعيٌ بعجزِ القارئِ أمامَ انغلاقِ النصوصِ/ الأشياءِ على ذواتِها دون أملٍ في معرفتِها على حقائقِها .. وثالثًا وأخيرًا "فطِنَت إلى أنَّ الأرضَ تتغيرُ فقط بتغيُّرِ وعيِها بها فتبسّمت وانتشت وأزهرَت حكاياتٍ وعوالِم"، فهي المرحلةُ الأخيرةُ، مرحلةُ التركيبِ synthesisمن الموضوع ونقيضِه كما جاءا في المرحلتين الأولَيَين، فيما يُشبِهُ تَجَلِّيًا لمثاليةِ (هيغل) المُطلَقَة الناشئةِ عن تفاعُل الذاتِ والموضوع، وهي مرحلةٌ تُحيلُنا مضمونيًّا إلى مفهومِ تعدّدِ القراءاتِ بتعدّدِ القُرّاء للنصّ الواحدِ في النزعةِ التفكيكيّة، حيثُ كلُّ قراءةٍ مُصيبةٌ ومُخطئةٌ في آنٍ، كما تُشيرُ الجُملةُ الأخيرةُ في هذه المقدمة "وعاشت على هذا الخيالِ والمُعتقَد"، هما هنالك إلا خيالٌ ومعتقدٌ في النهاية، وكلُّ خيالٍ مُصيبٌ ومُخطئٌ في آن! القصّةُ الأولى (تطوُّر) ترصُدُ مصيرَ كائنٍ لم يستطع أن يخوضَ مثلَ رحلةِ النُّضجِ المذكورةِ في المقدمة، والتي تتجسّدُ هنا رحلةَ تطوُّرٍ بيولوچيٍّ للكائنات تحت ضغط الحاجة، فآلَ أمرُ سلالتِهِ إلى الفَناء في قسوةٍ كونيّةٍ لا ترحمُ مَن يتحجَّرُ وعيُه .. القصةُ الثانيةُ (اغتيال) هي خصومةٌ مع الموتِ نخالُها صدىً شائِهًا عَمدًا لقصة (الموت)، فهنا لا يطمحُ البطلُ إلى الخلودِ والانتصارِ على الموتِ ابتداءً لكنَّه فقط يريدُ معركةً عادلةً مع الموتِ وهو يعرفُ أنه مهزومٌ لا محالة، وينهزِمُ بالفعلِ أمامَ الموتِ المُصِرِّ على النذالةِ حتى مع النصوصِ/ الأشخاص المُصِرَّةِ على النُّبل، لكنّه حينَ يسقطُ ميتًا يسقطُ منتشيًا وهو يقولُ الشِّعر من قلبِهِ الملَّوثِ بالشِّعر، فكأنه ظفرَ بنصيبٍ من النُّبلِ وحظٍّ من الخُلُودِ حينَ أدركَ يقينيّةَ هزيمتِه وتواضعَ أمامَ حقائقِ العالَم القطعيّة. ولذا فإنّ العنوان هنا (اغتيالٌ)، فالبطلُ لم يَمُت إلا غيلةً إذا نظَرنا إلى حِدّةِ وعيِهِ وإصراره على النُّبل، كما أنه أدركَ نصيبًا من اغتيالِ الموتِ في الحقيقةِ حين انتزعَ لنفسِهِ بعضَ الخلودِ وهو يقولُ الشِّعر. القصةُ الثالثةُ (كابوس) تقدمُ لنا وعيًا لا يستطيعُ مقاومةَ توحُّشِ ذاتِه، فهو يُصَوِّرُ العالَمَ كيفما يتراءى له، ويدَعُ العالَمَ المُتَصَوَّرَ يَقتُلُهُ في لُغزٍ من ألغازِ الوُجود! تبدأُ القصةُ ببطلٍ يعاني كابوسًا يوميًّا تهاجمُهُ فيه الثعابين وتكادُ تقتلُه، ونعرفُ أنَّ البلدةَ كلّها "أصابَها ذاتُ البلاء، كلٌّ تجسَّدَ له أسوأُ مخاوفِه، غير أنّ هناك زوجين قتلتهما العقارب، رجُلاً قضكَ عنقَه ذِئبٌ ....إلخ". نحنُ أمامَ (شيُوع بَلوى) كذلك الذي في قصة (البلاء) وكأنّ هذه صدًى شائهٌ عَمدًا لها كذلك! لكنّ البلوى هنا ليست في انعدامِ اتّساقِ المنظومات الفكرية الذي لا يبدو لصاحبِ المنظومةِ نفسِه، بل هي في مخاوفَ ونقائصَ يتصورُها المرءُ نفسُهُ تتضخمُ من حولِهِ حتى تكاد تقتله، وهذا لا يحدثُ إلاّ مع وعيٍ متوحّشٍ بالضرورةِ، ينعكسُ على ذاتِهِ حتى يقتُلَها، وفي هذا رَجعٌ لرحلةِ النضجِ التي خاضها الوعيُ في المقدّمة الرابعة.
     المقدمةُ الخامسةُ والأخيرةُ تقدّمُ أرضًا "سألت تفرُّدًا، غير أنها بعد أن دارت الحياةُ على سطحِها وشهِدت نباتاتِها الجديدةَ كُلَّ الجِدَّة، أردكت أنها مهما اجتهدت وأبدعَت حبيسةُ ذاتِ الكيمياء والمعادلة، بلا أيِّ قدرةٍ على النفاذ من حدود السماواتِ والأرض". هنا ختامُ رحلةِ استكشافِ ما (يَطرَحُهُ) الخَيالُ من أراضٍ/ نُصوص .. يتناصُّ القاصُّ مع آيةِ سورةِ الرحمن لفظيًّا "إن استطعتم أن تنفذوا من أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفُذُوا، لا تنفُذُون إلاّ بسُلطان"، ليُعلِنَ مضمونيًّا وشكليًّا في آنٍ نهايةَ الرِّحلةِ الدائريةِ بالعودةِ إلى نقطةِ البدءِ، فلا أصالةَ مطلقةً لإبداعٍ وليسَ ثَمَّ إلاّ إعادةُ تشكيل .. القصةُ الأولى (الحكمة) تحتفي بهذا الفَهمِ فتقدّمُ بطلاً تحطُّ الحكمةُ على صدرِهِ في صورة ذبابةٍ زرقاءَ كما أُخبِرَ عنها صغيرًا، أو هكذا تصوَّرَ! نشهدُ تَرَقِّيَهُ من جنديٍّ محاربٍ إلى سرير الإمارة، وجزَعَه حين رأى الذبابةَ الزرقاءَ تحطُّ على كتف صبيٍّ في حاشيتِه، وهو ما دفعَه إلى مطاردتِه حتى قفزَ من الشُّرفة! نحنُ أمامَ (مَثَلٍ) كلاسيكيٍّ ساخرٍ تُفلِتُ فيه الحكمةُ من يَدَي مَن يدَّعي امتلاكَها، ولو أمامَ نفسِهِ فقط .. إنه يدّعي تفرُّدًا ليسقُطَ في شرَكِ تهكُّمِ القطيع، ويقولُ بلسانِ حالِهِ إنَّ كُلَّ أصالةٍ تقليدٌ وكُلَّ إبداعٍ رَكاكة! القصةُ الثانية (الذِّكرَى) تقدِّمُ لنا بلدًا افتراضيًّا يفاجأ فيه المُهمَّشُون المغلوبون يومًا بأنهم أصبحوا السادةَ وقد خلَت لهم البلدة، ليكتشفوا في النهايةِ أنهم كانوا يؤدُّون أدوارَهم كـ(كومپارس) في نفس المسرحيّة الجَمعيّةِ التي تُمَثَّلُ كُلَّ سنةٍ في ذِكرى تولّي (الكبير) حُكمَ البلدة. ربّما يبدو التأويلُ السياسيُّ لهذه القصّةَ هو الأقربَ للذائقةِ العامّة، لأنَّ بعضَ الظواهر اللُّغَويّةِ في هذا النصِّ قد تدفعُنا إلى ذلك، كتجاور "الكنائس قرعَت أجراسَها"و"ميكروفونات المساجد هللت وكبَّرَت"وهو التجاور الشائعُ في تصوير تواطؤ السلطة الدينية مع السياسيّة في تكريس الاستبداد .. كذلك مفرداتُ المعركة والانتصار وأوصاف المهمَّشين وما إلى ذلك، فضلاً عن الخلفيّة الواضحةِ لأحداثِ القصّة .. كلُّها تدفعُنا إلى تبنّي التأويل السياسيّ القريب .. لكن ثَمَّةَ ما يشدُّنا إلى تأويلٍ أكثرَ تجريدًا يتعلّقُ بنَقد السَّعي الإنسانيِّ في جُملتِه، وسعي المُبدِعِ إلى الأصالةِ الفنّيّةِ والفكريّةِ على وجهِ الخصوص، ونعني بذلك المنظومةَ السياقيّةَ التي تشكَّلَت من مجملِ نصوصِ المجموعة، والتي لا أستطيعُ بشكلٍ شخصيٍّ الفكاكَ من إغرائها .. الأبطالُ المُعيَّنون بأسمائهم هنا "لايستطيعون النفاذَ من حدود السماواتِ والأرض"كما أسلَفَت المقدِّمة .. وكما أسلَفنا الحديثَ عن جدوى تعيين الأسماءِ هنا تحديدًا، نضيفُ إلى أنَّ ذلك جاءَ في القصّة الختاميّة لهذا القسم من الكتابِ، ربّما كشكلٍ من الرِّثاءِ لِحالِ هؤلاء الذين لا يمثّلون إلا كُلَّ السعي الإنساني نحوَ الأصالة .. إنهم أنا وأنتَ وهِيَ والجميع.
     القسمُ الثّاني من المجموعة (طرحٌ لم يشكّل يابسةً) نجدُ فيه صدىً لكلِّ الأفكارِ المحتشدةِ في القسم الأوّل، فيما يشبهُ تأريخًا للوعي الشخصيّ لكاتبِنا .. نكتفي بمثالٍ واحدٍ يتعلّقُ بصدى المقدمةِ الرابعةِ من القسم الأوّل .. هنا يقولُ الكاتب: "أولُ ما سقطَت عليه عيني كان صورتي. كانت كافيةً لتملأ كلَّ الكادر. كافيةً لأعبُدَ المعجزةَ فيها". ثُمَّ يقول: "غير أنَّ العالَمَ اتسعَ وتضاءلتُ ثُمّ اتسع أكثرَ حتى تلاشَيتُ". ثم يقول: "غير أني اكتشفتُ أني مازلتُ ساذجًا ذكيّا وبسيطًا"وصولاً إلى قولِه "ساعتَها أكبرتُ كُلَّ الأرضِ وأكبرتُ صورتي التي عادت لتملأ كلَّ الكادر على اتساعِه". هو هنا يجمعُ في صعيدٍ واحدٍ من التحدُّث بصيغةِ المتكلّم عن سيرته الذاتيةِ ما كان قد فرّقَه أمثالاً في القسم الأوّل ..
     ختامًا، نحنُ أمامَ مغامرةٍ سرديّةٍ على أكثرَ من صَعيد .. فهذه مجموعةٌ لا قَصَصيّةٌ إن شئنا الدّقّةَ، لكنَّها سِفرُ أمثالٍ بالِغُ التَّجريدِ من ناحيةِ أفكارِهِ، بالِغُ التَّجَسُّدِ من ناحيةِ أحداثِهِ المتلاحِقَةِ وعنايةِ مُبدِعِه بالتفاصيل .. وبهذا الصَّدَدِ يَحضُرُني جامعو ومقدِّمو قَصَصِ (فرانز كافكا) حين يبدأون كتابَ الأعمال القصصية الكاملة بـ(مَثَلَين افتتاحيين Two Introductory Parables) هما (أمامَ القانون Before the Law) و(رسالةٌ إمپراطورية An Imperial Message) .. بالتأكيد سيَجِدُ سِفرُ أمثالِ (أحمد سمير) ما يستحقُّ الانتباهَ والاحتفاءَ لديهِم! وعلى صعيدٍ آخرَ هذا قصَصٌ يجعلُ من الإبداعِ نفسِهِ موضوعًا له، لكنّه موضوعٌ غيرُ مباشِرٍ في كثيرٍ من الأحيان، فهو أقربُ إلى أن يكون الطبقةَ الأعمقَ من التأويلاتِ المُحتَمَلة للنصوص .. وعلى صعيدٍ ثالثٍ لا يخشى الكاتبُ أن يُدرِجَ في كتابِهِ هذا نَصًّا مستعصِيًا على التصنيفِ المبدئيِّ، وهو القِسمُ الثاني، ليُجمِلَ فيه ما فصَّلَه في القسم الأوّل، ويُسقِطَ على سيرتِهِ فيه ما أسقطَه منها على العالَمِ في الأوّل .. نَصٌّ ثَرِيٌّ يستحقُّ دراسةً أكثرَ تفصيليّةً وتعمُّقًا من هذه الإلمامةِ السريعةِ بالتأكيد.
محمد سالم عبادة

14 أغسطس 2016 
نُشِر في مجلة (عالَم الكتاب) في عدد فبراير 2017 

مِن الغربة وإليها: قراءة في المجموعة القصصية (في بيت مصّاص دماء) لـ(سمر نور)

$
0
0
    
 "يقولونَ إنّ العينَ مرآةُ الرُّوح، وإن صدقَت تلك المقولةُ فالعالَم لا يرى سوى نصف رُوحي في الواقع".
     في هذه الجملة على لسان البطلة في قصة (أذنٌ ترى وعينٌ تسمع) تختزنُ (سمر نور) الغُربة التي تبسطُها في اثنتي عشرة قصّةً هي محتويات هذه المجموعة. إنها الغربةُ التي تتمترسُ بها شخصياتُها في مواجهة العالَم، ثم تقلب هذه الشخصيات لذواتِها ظَهرَ المِجَنّ – كما يقول المثَل العربي – فتعاني هذه الغربةَ ولا تجد منها مفرًّا رغم السعي الدءوب للفرار في الفنّ وعلاقات الحب وفي الدين، وتظلّ شخصياتُ (سمر) متأرجحةً بين الاحتماء بالغربة والفرار منها، إلى أن تتجمع خيوطُ هذه الشخصيات في بطلة القصة الأخيرة (ابنة صانع التوابيت) التي تتصالح مع الفَناء وتستسلم للموت لتكتمل دائرةُ الوجود الإنساني المُغلَقَة بأختامٍ إلهيةٍ لحمتها وسداها الغُربةُ كما عبّر عنها المعرّي: "وهل يأبَقُ الإنسانُ مِن مُلكِ رَبِّهِ .. فيَخرُجَ من أرضٍ لهِ وسماءِ؟!".
     القصة الأولى (غرفةٌ تخصُّ صبري وحدَه) تحيلُني بشكلٍ شخصيٍّ إلى رواية (القمر وسِتة بنسات) لسومرست موم، التي صوّر فيها حياة التشكيلي (بول جوجان) ونقلها إلى اسمٍ مستعار (تشارلز سْترِكْلاند). إننا نجد مشهد البطلة التي ترتاع من حائط الغرفة الفقيرة المنقوش برسومٍ دقيقةٍ شديدة الجمال هنا، ونجدُ البطل الراوي عند (موم) يرتاعُ لنفس المشهد بالضبط، مع فارق أنّ (صبري) نقّاش في بيئة شعبية هجر السعي للقمة العيش إلى العكوف على فنّه في دأبٍ عنيدٍ يذكّرُنا بجُملة (ستركلاند) التي تشبهُ الوسواس القهري: "I have to paintعليَّ أن أرسُم"! الفن هنا جِنٌّ يتلبس البطل حتى يودي بحياته في عُرف المحيطين به، والراوية متماهيةٌ معه تمامًا حتى أن حبل المشنفة المدلَّى من سقف غرفته يطاردها حيثما حلّت، بعد مُضِيّ عشرين عامًا على انتحاره.
     يصبح الفن محاولةً للإمساك باليقين في القصة الثانية (ساندوتش وسيجارة): "الكمان المنفعل يعلو بنعومة فوق صوت الضجيج المتحكم في رأسي. لا أسمعه بالطبع لكنني في احتياج إلى اليقين من أية فكرة تعبر رأسي بين هذا الضجيج المشكوك في أمره"، لكنّ الموسيقى تظل مثيرةً لمزيدٍ من الفوضى في رأس البطلة الراوية في غيبة كلمات الأغنية، ولا يصبح قرارها واضحًا إلا مع نهاية القصة حين تتذكر الكلمات من أغنية فريق (مشروع ليلى): "قوم نحرق ها المدينة ونعمّر واحدة أشرف"حيث تقرر تحدّي كل سلطات القهر مجتمعةً – ضباط القِسم والعريس والأعراف المجتمعية – وتشتري علبة سجائر وساندوتش للفتاتين المحتجزتين في التخشيبة. هذه الحالة من فوضى الموسيقى التي لا تكتسب جسدًا/ يقينًا حقيقيًّا إلا مع الشِّعر تذكرنا بـ(صورة دوريان غرِاي) لأوسكار وايلد، حيث وصف (وايلد) لطبيعة الأفكار التي سيطرت على عقل (دوريان) بعد لقائه الأول بـ(لورد هنري) بأنها كانت واضحةً وضوح الشعر لا فوضويةً كالموسيقى! الشاهد أن اللياذ بالفن هنا كان جوهر الغربة، وكان محاولةً للفرار منها كذلك، اكتمل تمامًا بتجسُّد كلمات الأغنية الثورية في وعي البطلة الراوية.
     القصة الثالثة التي تحمل عنوان المجموعة تستنزل فانتازيا مصّاصي الدماء إلى الحياة الواقعية لرُفقة عددٍ من الصديقات في مطبخ إحداهُنّ، وتحتفي بالغربة من خلال رفض البطلة مبدأ التحول إلى مصّاصة دماءٍ لتحافظ على بقائها، فيتماهى مفهوما النُّبل والغُربة تمامًا في هذه القصة.
    أما في (ثالثهما الديناصور الأخير) فالغُربة ماثلةٌ بقسوتها ونهائيتها حتى في مشروع العلاقة الحميمة مع الجنس الآخَر، فـ(عُمَر) يضع قناع مرَحِه و(ليلى) تضع قناع توهجها، ويصاحب كلٌّ منهما ديناصورًا أخيرًا يحسبُه كلٌّ منهم صديقَه السّرّي الذي لا يراه غيرُه، وهو نفس الديناصور! المدهش في العنوان هو اتكاؤه على الحديث النبوي الذي رواه الترمذيّ وأحمد وغيرهما: "ألا لا يخلُوَن رجلٌ بامرأةٍ إلا كان ثالثهما الشيطان". هنا يترك الشيطانُ مكانَه - بما يرمز إليه من شغَفٍ حسّيٍّ وتمرُّدٍ على المفروض في الوعي الجمعي – للديناصور بما يرمز إليه من انقراضٍ محتومٍ فضلاً عن غربته بعد فناء جنسِه! تمارس الكاتبة شكلاً سرديًّا من أشكال التغريب في نهاية القصة حين تقول: "ففرح ثالثُهما الجالس على مسندي الكرسيين بينهما وفكّر أنه جائعٌ وأنّ الويكيبيديا تقول: (الديناصور المصري من أكلة اللحوم) وأن عليه أن يتعشى الآن، حتى وإن كان ذلك بدماء صديقه وصديقتِه". هنا يتخذ التغريبُ شكلَ كسرِ الإيهام، حيث يلجأ كائنُ الغربةِ هذا   Spinosaurus Aegyptiacusإلى ويكيبيديا ليعرف ما يتعين عليه فعله في ختام القصة! وهو ما يضع المتلقّي في مواجهة النّصّ باعتباره كيانًا غريبًا عنه – فهو يَفصِلُه عن الذوبان في أحداث القصة – مما يحقق الغربة على كل الأصعِدة في النهاية.
     في مواجهة القصة الثانية (ساندوتش وسيجارة) التي تتميز بوضوح مشاهدها بشكلٍ مُغرٍ تمامًا لكُتّاب السيناريو لتحويلها إلى نصٍّ سينمائي، تأتي القصة الخامسة (مقعد في الأوتوبيس) مكتنزةً بالاستدراكات الموضوعة بين أقواسٍ بطول النّصّ، كما في: "تملأُني رغبةُ الانفجار في الضحك (استلقت الشمسُ ضحكًا داخل جمجمتي)"، في مغامرةٍ سرديّةٍ لـ(سمر نور) تنتمي إلى تيار الوعي كما نجدُه عند (فوكنر) مثَلاً، لكنّ الحرص على وضع هذه الاستدراكات بين أقواسٍ يجعلُهُ وعيًا مُرّكَّبًا بشكلٍ واضحٍ، وعيًا واعيًا بذاتِه إذا جاز التعبير، ولهذا لا تصبح مهمة كاتب السيناريو سهلةً في العمل على هذه القصة بالذات، خاصةً مع تعقُّد الأحداث وانتقالاتها الحادّة في الزمان والمكان في جوٍّ كافكاوي معبّر عن أزمة إنسان هذه اللحظة من الحياة ووعيه بحتمية مصيره كما في تنبُّؤ البطل/ الراوي بأنه يومًا ما سيصبح رئيس العمَل ذا الأذن الكبيرة الذي يطارد الفتيات الصغيرات مرءوساتِه ويتندّر به مرءوسوه! يحيلُني هذا إلى تصريح الشاعر (ويستن هيو أُودِن) بخصوص أهمية (كافكا) لتعبيره عن ورطة الإنسان المعاصر، فهكذا تأتي أهمية هذا النص لتعبيرِها من ثنايا جدليةِ شكلها ومضمونها عن ورطة الإنسان المصري المعاصر. يلاحَظ أيضًا أنّ المرّة الوحيدة التي اختارت فيها (سمر) هذا الشكل السردي من تيار الوعي، اختارت لها بطلاً رجُلاً بخلاف بقية قصص المجموعة. ربّما لتخرج بالمتلقي خارج افتراضاته المسبّقة عن إخلاصها لهّمٍّ نسويٍّ ما، إلى رحابة الهمّ الإنسانيّ وضيقِه في الوقت ذاتِه!
     تتواصل المغامرات السردية في (أذنٌ ترى .. عينٌ تسمَع) حيث البطلة الراوية عمياء تستعين بمبصِر ليرافقها في دروس الرقص وهو غير قادر على الرقص. وكذلك في (حفلة بينوكيو) حيث الراوي هو بينوكيو! تحيلنا هذه المغامرات مرّةً أخرى إلى (كافكا) الذي جَرُؤَ على أن يروي قصةً بلسان كلب! في (بينوكيو) تكسر (سمر) الحائط الرابع لتتواصل مع القارئ في بداية النص: "أرجو ألاّ ينزعج الجيران من صوت صفير منغَّم أُصدِره أثناء صعودي تلك البناية القديمة، علَّه يسلّيني ويسلّيكم حتى نصل إلى الهدف". في هاتين القصتين تجثُم الغربة على العلاقة بين الرجُل والمرأة كما في (وثالثهما الديناصور الأخير)، لكنّ (بينوكيو) في الثانية يحُلّ محَلّ الديناصور فيسمعُ الرجُل وقعَ خطواتِه الخشبية يتتبعُه ويصيبه بالصداع. بالطبع تَحضُر ظلالُ الشرط الوجوديّ الغريب لـ(بينوكيو) -كطفلٍ خشبيٍّ يكبرُ أنفُه كلّما كذب- هنا، لتحقن علاقة الرجل والمرأة بكل هذه الغرابة. تدَعُنا (سمر) نخمّن مصير هذه العلاقة في النهاية: "لن تظلَّ جالسةً في مكانِها، ولن يقفَ العُمر كلَّه خلف باب المقهى، الأبواب المُغلقَةُ دائمًا تُفتَح، ومن يرى نفسه في المرآةِ سيرى عالَمًا آخر لو أنه فقط اقتحم الجدار"، لكنّها تفرشُ لنا الطريق إليه بإشارات الخيبة من البداية. يتجاوبُ هذا مع جملةٍ في (أذنٌ ترى .. عينٌ تسمع) ربّما تلخّصُ بها رؤيتَها لوظيفة السرد وما يجبُ أن يكونَ عليه: "كلُّ ما نحتاجُه هو أن ننتشيَ في مساحةِ البوح رغم غياب المعنى، كمن يهوى السيرّ في الطرقات بلا هُدى".
    في القصص الأقصر تبزغ (أقنعةٌ عابرة) وحيدةً بين قصص المجموعة كما لو كانت نهايتُها منحوتةً في سلّمٍ موسيقيٍّ كبيرٍ فرِح! وقعة مرور الدرّاجة التي لوّثت بمياه البِركة الموحلة ملابس الرجُل والمرأة وأضحكت كل من شهدوا الوقعة وأضحكتهما "حتى عادت ملامحهما كما كانت في أوّل لقاء"، هذه الوقعة بمشهدها القصير للغاية تختزن كل الشوق إلى الفرَح الذي حُرِمَته قصص المجموعة.
     في القصة الأخيرة (ابنة صانع التوابيت)، تتحول الموسيقى التي كانت تداعب وعي الراوية في (ساندوتش وسيجارة) وتحاول التعلَّق بها كيقينٍ وحيدٍ ينقذها من السيولة الشاملة، تتحول إلى قُدس الأقداس في المعبد المُخيف، الذي تتوق البطلة الصغيرة إلى رؤيتِه. تدور الأحداث في زمنٍ فرعونيٍّ يهرب فيه الكاهن إلى قريةٍ ما ومعه أسرار التحنيط، ويحلم بأن يلقّنَها الصغيرةَ لتحنطه بعد وفاته وتضمن له الخلود. لكنّه يموت وهي تلقي نفسها بجواره في تابوته مستسلمةً للزوال وهي "تنبض بحياةٍ مؤقتةٍ في انتظار الموت".
     هذه المحاولة الأخيرة الفاشلةُ للهروب من الغربة إلى يقينٍ دينيٍّ متمثلٍ في قدس الأقداس وضمان الخلود، تذكّرُ من قرأ عددًا مِن مسرحياتِ (إبسن) في مجلَّدٍ واحدٍ بخَتمها في مسرحيته (البَنّاء العظيم) التي تجسّد نزوعًا روحيًّا إلى المُطلَق محكومًا كذلك بخيبة المسعى.
     بقي ألاّ نُغفِل جِدّة الصورة عند كاتبتِنا، والتي تُطِلّ من هنا وهناك كما في جُملةٍ من (حفلة بينوكيو): "ولن تشُدَّ وجهها كطبلةٍ تنتظرُ من يطبع شفتيه أو أصابعَه عليها بإيقاع القبلاتِ أو الصفعات". في تقديري أنّ هذا الابتكار البياني يتجاوب مع تيمة الغربة التي لا يُفلتُ من قبضتِها أبدًا قَصَصُ هذه المجموعة. هذا إذا سلّمنا ابتداءً بأنّ كُلّ أصالةٍ غربةٌ في جوهرها. 

محمد سالم عبادة

23 مارس 2017
...................
نُشِر بصحيفة (أخبار الأدب) في 2 أبريل 2017

الإمعانُ في الكتابة: قراءة في المجموعة القصصية (موسيقى لليلة قصيرة) لحاتم حافظ

$
0
0
في مقدمة كتابها المؤسِّس (الميتا-سَرد: النظرية والتطبيق في الأدب الواعي بذاته) تقول (پاتريشيا ووه): "بشكلٍ ما، يتّكئُ الميتا-سرد على نسخةٍ من مبدأ عدم التأكُّد لهايزنبرغ، فحواها أنّه بالنسبة لأصغر الوحدات البنائية المكوِّنة للمادة، تتسبب كلّ محاولةٍ للرصد في اضطرابٍ ما في طبيعة المرصود". وبالتالي فإنه لا يمكن التحقق من وجود عالَمٍ موضوعيٍّ مفارقٍ لعين الراصد.
     هذا ما يتجلى في المستوى الأعقد من السّرد في هذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا. المجموعة هي الثانية لمؤلفها (حاتم حافظ) والتاسعة بين إصداراته المتنوعة بين الرواية والقصة والمسرحية والمقالات البحثية. وليكون كلامنا مفهومًا عن مستوىً ما من السرد فعلينا أولاً أن نبدأ من حيث انتهت قراءة المجموعة: السرد هنا يتحقق في ثلاثة مستويات. أبسطها هو مستوى الواقع، وفوقه مستوى الحلم، وفوق الاثنين – وربما في مكانٍ محايدٍ يراهما معًا ويسخر منهما ومن العالَم ومن السرد نفسه- مستوى الكتابة!
     أما المستوى الأبسط (الواقع) فإنه يوجد بكثافة في قصتين هما (الأربعيني) و(شاي بالنعناع). أهدى الكاتب ثانيتهما إلى الراحل (إبراهيم أصلان)، وفي هذه الثانية فقط يوجد البطل البسيط الذي لا يقف ليفكر في أفعاله ثم ليفكر في التفكير أكثر ممّا (يفعل)! فقط في (شاي بالنعناع) يوجد ما يشبه (الراوي العليم) الذي لم يمنحنا قِصَر القصة فرصةً للاطّلاع على كل ما يَعلَمه. وربما لهذين السببين – وربما لسببٍ آخر لا أعرفه – أُهدِيَت هذه القصة دون سواها إلى كاتبٍ كبيرٍ راحلٍ، لتكون شكلاً من أشكال التواصل مع طريقةٍ راسخةٍ في السرد سلكها الآباء الراحلون كإبراهيم أصلان وخيري شلبي وغيرهما للتعبير عن هموم البسطاء في نصوعٍ يتناسبُ ونصوعَ خبرة هؤلاء البسطاء بالحياة، ولتكون في الوقت ذاته إعلانًا عن تدشين سردٍ جديدٍ في غير هذه القصة، يعتزم الكاتبُ أن يسلُكه بعيدًا عن طرائق الآباء.
    في (الأربعيني) يوجد واقعٌ أيصًا لكنّه واقعُ النخبة المثقفة/ المعقَّدة بالضرورة. العنوان – بما له من دلالةٍ في الوعي الجمعي تفترضُ وصولاً إلى الحكمة واقترابًا من عتبة النبوّة المنصوبة على سنّ الأربعين – يتراسل مع المحتوَى المقسّم إلى عشرة مقاطع متفاوتة الطول، تصف لحظاتٍ مختلفةً من الحوار الدائر على مقهىً بين شخصين ربما يكون أحدهما مجرّد آخر خيالي جرّده الكاتبُ من ذاتِه. المهم أنّ الحوار يصل دائمًا إلى نقطة الاحتفاء بالحَيرة والركون إلى الكآبة: "لا نكونُ أشخاصًا جيّدين لمجرد أننا نفعل أشياء جيّدةً بين الحين والحين"/ "المأساة الحقيقية تتلخص في أن العالَم لم يعد يسمح لنا بأن نستمتع بأوقات اكتئابنا"/ "ليس صحيحًا أن المعصية هي الخطيئة الأصلية، فالأحرى أنّ الوجود نفسه هو خطيئة هذا الكائن"/ "لم تعد حتى الإجابات الصعبة مناسبة للأسئلة السهلة". فهنا اللايقين هو النبوّة المرتبطة بسنّ الأربعين التي وصل إليها البطل، فهي نبوّةٌ غنوصيّةٌ أو سالبةٌ إن جاز التعبير، ربما تمتاح من بئر الإرث الغنوصيّ الحائر الموجود في مدارس التصوّف ولا سيّما الإسلامية (كالدعوة التي ينسبُها ابنُ عربيّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام والتي ترفضُ نسبتَها فِرَقٌ إسلاميةٌ كثيرة : "اللهمّ زِدني فيكَ تَحَيُّرا"). ولا يمكن إغفال تراسل حالة الديالوج القائمة في كل المقاطع مع الدعوة القرآنية للتفكير: "قل إنما أعظُكُم بواحدةٍ أن تقوموا للهِ مثنى وفُرادى ثُمّ تتفكروا"، إذ إنّها ربما تخلقُ في المتلقي استعدادًا للتحاور مع النص وتأهُّبًا لتجريدِ آخرَ مِن نفسه على غرار ما يمكن أن يكون الكاتبُ قد فعلَه.
     مستوى (الحُلم) يضم ستّ نصوص متتالية هي (اتفاق/ خُضرة مدهشة/ الشيء الذي حدث/ إنسانية/ لجنة التحقيق/ الحرب). يعمد الكاتب في الأولَيَين إلى الديباجة الأشهر لسرد الأحلام "رأيتُني..."، ثُمّ يغفلها فيما يتلوهما، لكنّ لوازم أسلوبيةً بعينها، وفانتازيةً صارخةً في بعض الأحداث تُحيلُنا إلى عالَم الأحلام. فمن اللوازم المشار إليها التنكير المصاحب للمفردات الأساسية في الحدَث: "كنتُ وسطَ رحلةٍ ما في الصحراء/ جلستُ أمامَ لجنة تحقيق. كنتُ مديرَ تحرير موقعٍ ما في دولةٍ أوربية/ وجدتُني وسط حربٍ أهليةٍ لا أعرفُ أطرافَها ولا أعرفُ إلى أي طرفٍ أنحاز"وهو ما يضفي إبهامًا حُلميًّا على الأحداث من البداية. أمّا الفانتازية فكما في (الشيء الذي حدث): "حين اتسع مشهد موقف السيارات أمامي فوجئتُ برجالٍ ونساءٍ كثيرين كلهم يمارس الحب وكانوا جميعًا بكامل ملابسهم وأناقتهم". وهو مشهدٌ يذكّرني بالعالَم السينمائي الكابوسي لـ(ستانلي كيوبْرِك). في تقديري أن هذه النصوص هي محاولةٌ من الكاتب للإفلات من قبضة وعيه المفرط بالكتابة (والتي سنتحسسها معًا بعد قليل)، فهو يسلم نفسه لطزاجة الخبرة الحُلمية دون كثيرِ تدخُّلٍ منه فيما يبدو، ويدعُنا نطّلعُ على همومه الشخصية دون أن تُنضِجها نارُ القلَم إذا جاز التعبير، والتي من بينِها بالتأكيد السعيُ للوصول إلى مشترَكٍ إنسانيٍّ رَحبٍ مع المختلفين فكريًّا كما في (إنسانية)، والحيرةُ أمام حماقة الجنس البشري وعنفه المفرط كما في (الحرب)، والهَمّ الوطني الآنِيّ كما في (الشيء الذي حدث) حيث يقول: "لماذا اخترتم للثورة أن تكون في برج الدلو؟ لماذا؟!"إلى غير ذلك مما أدَعُ للقارئ محاولة اكتشافه.
     أما مستوى (الكتابة) أعقد المستويات الذي صدّرنا المقال بالإشارةِ إليه، فهو في رأيي المستوى الغالبُ على هذه المجموعة. يبدأ ضمنيًّا مع القصة الافتتاحية (المساء والسهرة)، حيثُ البطل مصابٌ بمرضٍ يمنعه من مغادرة الفِراش إلاّ قليلاً – ربما لتجنُّب الإصابة بقُرَح الفِراش!- ونشهد تفاعُلَه مع عالَمَين أحدهما حميمٌ تمثَله زوجته التي تساعده على الحركة وتقوم عليه، والآخَر بعيدٌ افتراضيٌّ تمثله المباراةُ التي يشاهدها في التليفزيون. هنا نشهد تفكيره في حدَث إحراز هدف المباراة في اللحظة الأخيرة، واسترساله في تصور سيناريوهات مختلفة لما حدث، وصولاً إلى سيناريوهات تتعلق بأعضاء اللجنة التي وضعت قوانين لعبة كرة القدَم! لسنا أمام بطلٍ بسيطٍ إذَن كما في (شاي بالنعناع)، وأجازف بقول إنه ما من سبيلٍ للاسترسال في تصور السيناريوهات البديلة بهذا الشكل إلا بمصاحبة قلَمٍ وورقة! إنه بطلٌ كاتبٌ وإن لم يكتب حرفًا في هذه القصة، حتى أنّ سيناريوهاته تلك تتقاطع مع حدَث هدف المباراة بشكلٍ لا يخلو من قصدية، فعضو اللجنة الذي "يأتي في اللحظة الأخيرة يرفع يدَه أو لا يرفعها فيتحدد قانون اللعبة كلُّه"هو نفسه اللاعبُ الذي سجّل الهدف في اللحظة الأخيرة من المباراة. ما يميّز هذه القصة عن بقية قصص (مستوى الكتابة) هو نهايتها المتفائلة المحبِّذة للفعل الإنساني، فالبطل الذي يشعر بإثارةٍ حسّيّةٍ تجاه زوجتِه رغمَ مرضِه يستدعي إصرار اللاعب على أن يحاول التسديد في اللحظة الأخيرة فربّما يحالفُه الحظ. يحيلني النص إلى جملةٍ في رواية (الجريمة والعقاب) قالها البطل (راسكولنيكوف): "لو أنّ كُلَّ شيءٍ تُرِكَ للعناية الإلهيةِ ابتداءً لما كان هناك فعلٌ لأي شيء!".
     مع متابعة مستوى (الكتابة) نجد الإحالاتِ إلى نصوصٍ أدبيةٍ عالميةٍ مؤثرةٍ أكثر تجسُّدًا وصراحةً، ففي (الجثّة) يحيلنا القاصّ إلى مسرحية (أميديه/ أو: كيف نتخلَص منها؟) لـ(يوجين أونسكو) في بداية القصة، ويرسم موقفًا مشابهًا لكنه يلفت أنظارنا إلى أن الكاتب البطل هنا يعرفُ من أين جاءت الجثة بخلاف مسرحية أونسكو. في تقديري أنّ هذه الجملة البسيطة تحملُ إشارةً إلى إرهاصات تيارٍ في الكتابة الأدبية/ المسرحية ربما يكون من اللائق أن نسميه (ما بعد العبث)، يتشارك مع تيار العبث في وجود الحدث العبثي، لكنّه بخلافه يُقرّ بمعرفة جذور ذلك الحدث، حيث يتنحى السؤال المعرفيُّ تمامًا (مِن أين؟) ليفسح المجالَ للوجودي (ماذا نفعلُ الآن؟). وفي تقديري أن هذا التيار (ما بعد العبث) هو بالضرورة أقلّ تشاؤميةً كما أنه ربما يحصر العبث في (عبث مجتمعي) قابلٍ للتعامل معه، لا عبثًا كونيًّا فوق طاقة البشر. رجوعًا إلى قصتنا نجدُ البطل "لم يكن بمقدوره استعادة لحظة القتل ولا تذكر التفاصيل/ علينا مشاركته التفكير في الجثة التي لم يعد هو أو نحن في حاجةٍ لوجودها في هذا المكان أو في أي مكانٍ آخر". هو موقفٌ يشبه منطلقات العلاج المعرفي السلوكي حيث المعالِج والمريضُ يبدآن من هنا والآن Hic et Nunc! ثَمّ إحالةٌ أخرى هنا إلى رواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي، كأنّ استمراءَ بطل هذه الأخيرة لقتل المرأة العجوز التي تمثّل في تصوره كيانًا طفيليًّا ضارًا بالمجتمع كان دافعًا لبطل قصتنا لاستمراء قتل صاحبة الجثّة ليكتب عنها قصة! المهم أنّ هناك حالةً من الإيغال في التأمل اللغوي من جانب البطل الكاتب/ القاتل، تضفي حيادًا ساخرًا على الموقف الذي تُفترَض فيه الكارثيّة، ويعضّد هذا الحيادَ بحثُ البطل عن آخرين (زوجته ثم أمّه) ليشاركوه العلم بوجود الجثة في بيته لعلّ هذا يخفف المشكلةَ عن كاهلِه، وهو في هذا البحثِ يمارسُ الكتابةَ أيضًا بشكلٍ ضمني، فإذا كانت الكتابة/ اللغة أساسًا وسيلةً للتواصل، فإن وجود الآخرين ومعرفتهم بالمشكلة هو تواصلٌ مباشر يحاول أن يتغلب على كارثية الموقف هو الآخَر. تخلق هذه الاختيارات من قِبَل القاصّ حالةَ (إمعانٍ في الكتابة) كأن الكتابة بديلٌ عن الفعل، وبالتالي هروبٌ من الاضطرار للفعل.
     هذا الإمعان في الكتابة يحدثُ أيضًا في (فردة حذاء ثانية)، ممتزجًا بظلالٍ من ممارسة البصبصة voyeurismحيث يتابع البطل من خلال نافذته رجلاً يحاول عبور الشارع الخطِر، وهو ما يذكّرني بفيلم (النافذة الخلفية) The Rear Windowبشكلٍ شخصي. هنا نجدُ الكتابة متماهيةً مع رغبةٍ دفينةٍ في نكوصٍ طفوليٍّ إلى رؤية العالَم من زاويةٍ واحدة (مثاليةٍ ذاتيةٍ ما) تجسدها جملة: "وجود الرجُل الآخَر أربك كل التسميات. لم يعد الحق في تسمية الأشياء حصريًّا لهذا الواقف في نافذته شاهدًا على تجربة رجلٍ غريبٍ مع الموت".
     اللعبة الأكبر التي نجد أنفسنا متورطين فيها بين جدران هذه المجموعة ترتسم بين قصص (شارعٌ لا يعبره الغرباء) و(قصة قصيرة أخرى) و(عزيزي السيد حاتم حافظ). عنوان المجموعة هو عنوانٌ للمقطوعة الموسيقية الأشهر بين أعمال موتسارت Eine kleine Nachtmusikأو السيرينادة الثالثة عشرة. هي مقطوعةٌ فرِحةٌ في سلّم (صول الكبير)، وموسيقى السلم الكبير فرِحة الطابَع بشكلٍ أساسي. يحاول بطل قصة (شارع لا يعبره الغرباء) أن يستمتع بها منفردًا لكن زوجته وضيوفه لا يسمحون له بذلك، وحين ينتظر أن يختار ضيفُه موسيقى من مكتبته العامرة يختار أغنية (غريبة منسية) لنجاة الصغيرة، بكلماتها الحزينة الميلودرامية إذا جاز التعبير، ولحن (كمال الطويل) من مقام (النهاوند) وتعريجه على (الحجاز) في جملة (عيون حزينة وبال مشغول) ثُمّ (الهُزام) في كوپليه (بقى لي زمان حبايبي مشغولين عنّي)، مما يجعله واحدًا من أوفر الألحان العربية نصيبًا من الحُزن! البطل الذي لا يستسيغ اختيار ضيفه في سِرِّه، والراوي الذي يشاركه شعورَه هذا يضعاننا كمُتلقّين في قلب مفارقةٍ بين الزهد في الكلام الميلودرامي لأغنية (نجاة) والإفاضة في الكلام والتأمل اللغوي في هذه القصة وفيما سواها. ويظهرُ أنّ هذا (الإمعان في الكتابة) هو محاولةٌ لتحييد الميلودراما المبتذلة التي يفرضها العالَم على القاصّ/ البطل/ صاحب البيت، طالما أن الموسيقى الخالصةَ غيرُ ممكنة!
     يقنعنا القاص كما يقنع بطل قصته بأن سيرينادة موتسارت لها اسمٌ سلوفينيّ، ويبدأ البطل في تخيل سيناريو لعشيقةٍ سريةٍ سلوفينيةٍ لـ(موتسارت) تمشي في جنازته، ويتقاطع هذا السيناريو بشكلٍ غامضٍ مع حكايةٍ فرعيةٍ عن ابنة الضيفين التي تركت منزل أبويها ومات حصانها السلوفيني! نكتشف في (قصة قصيرة أخرى) أن كل ذلك كان خدعةً كبيرةً، فلم يكن هناك اسمٌ سلوفينيٌّ لسيرينادة موتسارت من الأساس (وهي الحقيقةُ التي حيّرتني كقارئٍ مع القراءة الأولى للمجموعة)، وإنما هي وسوسةُ الكاتب لشخصياته، في استرسالٍ صارخٍ للميتا-سَرد، تَبرُز من خلاله نزعةُ اللايقين التي حدّثَتنا عنها (پاتريشيا ووه) في بداية هذا المقال! 
     أما في (عزيزي السيد حاتم حافظ) التي تمثل رسالةً من قارئٍ ما إلى القاصّ، فهناك امتعاضٌ من كاتب الرسالة من السُّلطة التي يمارسها القاص على شخصياته واعترافه بتصليله تلك الشخصيات. وفي ثنايا الرسالة قصةٌ تبدو كأنها قصةٌ لكافكا يرويها الأبُ بدلاً من الابن الثائر. واستنادًا إلى ظاهرة تفكيك السُّلطة البادية في هذه المجموعة (انتهاب خصوصية وحصانة الكاتب/ ثورة الشخصيات على مبدعها/ فضح ألاعيب الكاتب بشكل صارخ)، يمكن أن نقول إنّ هذه الرسالة الأخيرة هي فرصةٌ عادلةٌ يمنحها (حاتم حافظ) للأب ممثل كل سُلطة ممكنة ليعبّر عن وجهة نظره.
     لا يفوتُنا أن نلقي الضوء على ثلاثة أدوارٍ مهمّةٍ تلعبُها المرأة بين أدوارها المختلفة في هذه المجموعة. الأول هو دور المُحَرِّضة المُغوِية في (الجثة) حيث الجارة التي وسوست بشكلٍ ما للبطل أن يقتُل لإيجاد جثة يكتبُ عنها قصةً، وينتظرُ الكاتبُ منها أن توسوس لكاتبٍ آخر بشيءٍ مماثل. وهي امرأةً لا تظهرُ في الحقيقة إلا مرةً واحدةً في نهاية القصة كأنها (هتشكوك) مؤنّثٌ فضّل أن يُتحِفنا بظهورٍ عابرٍ cameo appearanceفي أحد أفلامه! المرأةُ هنا مُخرجةُ المشهد الماكرة!
     الثاني هو دور المرأة التي يتأرجح وجودها بين الحقيقة والخيال، وهي ابنةُ الضيفين صاحبة الحصان السلوفيني/ العشيقة السرّية السلوفينية لموتسارت في (شارعٌ لا يعبره الغرباء). إنها المحور شديد اللطف لدوران أحداث هذه القصة، حتى أنها للطافتها وافتقارها إلى الجسد تذكّرني بمفهوم (الاختلاف المُرجئ) عند (دريدا)! السياقُ يفرض هذا التذكير في الحقيقة، لأنها – كالاختلاف المرجئ في فلسفة دريدا – تمنحُ الأحداثَ حقَّ الوجود دون أن يكون لها هي نفسِها وجودٌ ملموس!
     الثالث هو دور البطلة (نورا) في (قصةٌ قصيرة) حيثُ تبدأ شخصيةً غائمةً ابتكرها القاصّ بديلاً عن شخصٍ ذكَر (عامر)، وتتدرّج في التجسُّد حتى تثور في النهاية على مبدعها (حاتم حافظ) وتقرر لنفسها حق اختيار الملاءة الزرقاء، لتدفع القاصّ إلى أن يدير جدلاً حول حدود الاختيار بينه وبينها وبين الله، وكأننا في نقاشٍ حول مستويات الخَلق، وهو في الحقيقة نقاشٌ يحتدمُ بالضرورة في عالَم الميتا-سَرد كما تُخبرنا (پاتريشيا ووه) وغيرُها. لا يخفى أنّ اسم البطلة يحيلُنا ضمنيًّا إلى مسرحية (بيت دمية) لهنريك إبسن حيث تثور المرأة على وضعها الاجتماعي. أمّا هنا، فإن (نورا) تتجاوزُ ما فعلته في عالَم (إبسن) وتتصالحُ ضمنيًّا مع وضعها الاجتماعي حين تقرر ألاّ تترك الرسالةَ لأمّها وألاّ تهرب من بيت الزوجية، لكنّها تبدأ ثورةً أهدأ، ربما على تراتُبيّةٍ كونيةٍ وجدت نفسها محكومةً بها كشخصيةٍ مخلوقةٍ في قصةٍ قصيرةٍ غُفلٍ من الأسماء (فاسمُها ببساطةٍ: قصة قصيرة)!
     قبل النهاية، تَجدُر الإشارة إلى اختيار القاصّ (سلوفينيا) و(بوليفيا) في قصّتي (شارع لا يعبره الغرباء) و(عزيزي السيد حاتم حافظ). دولتان هامشيتان في النظام العالمي القائم، مع كامل الاحترام لشعبيهما! ربما هو اختيارٌ واعٍ يلفت به الكاتب انتباه المتلقّين للهامش إجمالاً، ويعكس انحيازَه لهذا الهامش.
     ختامًا، هذا عملٌ أدبيٌّ متشابكٌ مُحيلٌ إلى ذاته. يتحقق فيه السرد على مستوياتٍ عِدّة، أبسطها الواقع وأعقدُها الإمعانُ في الكتابة للهروبِ من ضرورة مجابهة الواقع، ورغم سطوة وعي الكاتب بذاته وبموضوعه، يؤصّل لديمقراطيةٍ ما من خلالِ منح السلطةِ التي يقاومُها فرصة التعبير عن نفسها. حاول الكاتبُ أن يستمتع بموسيقى فرِحةٍ لليلةٍ قصيرةٍ، لكنّ ميلودراميةَ العالَم لم تسمح له بذلك، فأمعن في الكتابة، ولم يُبقِ لنا من الموسيقى إلا اسمَها، ماثلاً أمامنا في العنوان!    
................    
 محمد سالم عبادة

11 فبراير 2017
......
نُشِرَت في صحيفة (أخبار الأدب) في 30 أبريل 2017

البساطةُ طريقًا إلى الشيطان: قراءة في رواية (ن=∞ف) لكريم الصياد

$
0
0

* بنية الخيال العلمي وتحققها في الرواية:    
     في تقديري، يتعلق الخيال العلمي دائمًا بدرجةٍ من القفز على الاستحالة المعرفية Epistemic Impossibilityكما يعرّفها منطق الموجِّهات Modal Logic. بمعنى أن الكاتبَ يخطو فوق قضيةٍ مستحيلة الصدق بحسب ما توافر للبشر معرفته حتى لحظة الكتابة. ويتقاطع هذا التصور مع مفهوم (النقلة النوعية) الذي طرحه (توماس كون) في (بنية الثورات العلمية)، وكان يعني به التغير الجذري في التصورات الأساسية والجزئيات التجريبية في نظامٍ علمي ما. يتحقق هذا في الحدَث العلمي الرئيس في روايتنا وهو اكتشاف البطل تركيب الروح باعتبارها (مادة أخرى/ أنيما) أقرب في تكوينها إلى الهواء المذاب في الماء، ويقع تركيبها الجزيئي في خمسة أبعادٍ تشترك في أربعةٍ منها مع مادة عالمِنا المحسوس، ووجودها في بنية أغشية الخلايا الحية، وبالتالي القدرة على التمتع بالخلود لو تحوّل كائن معقد كالإنسان إلى مستعمرة من الكائنات وحيدة الخلية (أميبا عملاقة) تعمل كلٌّ منها على البقاء حيّةً بمفردها بفعل رفع مستوى الأنيما/ الروح في أغشيتِها. تأتي الاستحالة المعرفية من حقيقة أنّ العلوم المتفرعة عن الأحياء تكاد تكون قتلت تكوين الأغشية الحية بحثًا، ولا دليل على صحة هذا الكشف الخيالي من واقع ما وصلت إليه المعرفة في هذا الحقل. وتأتي النقلة النوعية من تصوُّر أنّ كشفًا كهذا يستلزم انحرافًا ما في مسار البحث البيولوجي لا يمكننا الآن التنبؤ بطبيعته.
     أول إشارات الاستغراق في المُناخ العلمي في هذا العمل عنوانه (ن=ف) فضلاً عن القسم الأخير منه المكتظّ بالإثباتات المصوغة في شكل البراهين الرياضية. يبدو هذا الاستغراق طاردًا لشريحة كبيرة من القراء لا تطيق أن تصطدم في رواية – حتى لو كانت من الخيال العلمي – بما يظهر في صورة الحِجاج العلمي الصارم. ويعزز هذا قدرًا من النخبوية في الرواية.
* أسماء الأبطال ولعبة السرد:
     يلفت انتباهنا في البداية اسما البطل (محمد عبد الله) وسكرتيره (محمود جبريل). لا يخفى أنهما يحيلان إلى اسم نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وملَك الوحي في الديانات الإبراهيمية. لا نملك إلا أن نفترض قلبًا يتعمده الكاتب لتراتب الوحي، فالبروفيسور هو النبي والسكرتير هو الملَك، فيما يمثّل انتصارًا من جانب الكاتب للإنسانية المتعينة على الغيب.
     لعبة السرد هنا تقع في ثلاثة مستويات/ أقسام: الأول (اكتشافٌ ما) هو رواية (جبريل) للأحداث، والثاني (أمسياتٌ غيرُ حميمة) مذكّرات (محمد)، والثالث (فلسفة السفر عبر القدَر) هو كتاب (محمد) الواقع بين الاكتمال والنقص.
     اسم القسم الأول بما ينطوي عليه من تنكير يلائم الإيحاء بالغيبية الذي يثيره اسم (جبريل). ويعضّد هذا التصور اختيارُ جبريل لمقولةٍ بعينها لـ(محمد)، يتحدث فيها عن رؤية الفيلسوف (برجسون) للميتافيزيقا باعتبارها "ليست وجودًا مفارقًا بعيدًا فوق العالَم أو وراءه، وإنما وجودٌ حول كل شيء، وكل شيء حوله هالة ميتافيزيقية سُمكها بضعة سنتيمترات"واعتزام محمد أن يكتشف "الطبيعة المزدوجة للحياة: مادة-مادة أخرى"على غرار اكتشاف برجسون، واكتشاف الفيزيائيين "الطبيعة المزدوجة للجسيمات: جسيم-موجة". المعروف من تحوّل (برجسون) من اليهودية بلاهوتها الصارم إلى المسيحية بدوجماها المركزية حيث حلول اللاهوت في الناسوت واتحادهما في كيان المسيح – على خلافات المذاهب في التأويل – يتجاوب ونسقه الفلسفي العام ورؤيته للميتافيزيقا، وهو ما يتجاوب بدوره وانتصار الكاتب للإنسانية على الغيب في اختيار اسم (محمد) للبطولة و(جبريل) للسكرتارية!
     يتحقق هذا التصور بكثافة في أحداث ولغة سرد القسم الأول حيث يقول (جبريل) عن الصحفية الألمانية (أنجربودا) التي ستصبح زوجة (محمد) فيما بعد: "أعترف أنني حين رأيتها تذكرتُ الله"، ويقول عن (محمد): "لقد أصر أن يبهرها بعقلـه المتضخم الـذي يكـاد ينبجس من
جمجمته كما أبهرته بجمالها الذي يكاد ينضـح مـن جلدها، أعتقد أنهنجح إذ كنت ألمحها في المرآة تبرق وتبرق حتى تكاد تضيء دون أنتمسها نار"في إحالة قرآنية واضحة إلى مثَل نور الله في سورة (النور). هنا تمثل المرأة الغيب بنوره الذاتي، كما تمثل استعصاءه على الإدراك في جملة يعلّق بها (جبريل) على نسيان (محمد) اسمها: "إنه ينسـى اسم أي امرأة بعـد نصف دقيقـة، وهو قدير على أن ينسى كل شيء عنها في نصف ساعة".كذلك يتحقق في التناصّ مع أساطير الشمال الأوربي Norse Mythologyفي اختيار اسم (أنجربودا) زوجة (لوكي) إله الظلام الذي تسبب في مقتل إله النور (أودين Odin). ففي الأسطورة يخترق (لوكي) النور/ الغيب، ويعذَّب لأجل ذلك عذابًا أبديًّا، يدفع كاتبَنا إلى الربط صراحةً بينه وبين معادِلاته الموضوعية في الديانات الإبراهيمية وأساطير اليونان حيث يقول: "وهكذا، مسيح مقلوب، بروميثيوس شمالي".
     نعود إلى نقطة الانتصار للإنسانية، وانعكاسها على علاقة (جبريل) بـ(محمد) في الرواية. يقول (جبريل): "صرت أجلس مثله وأتحدث مثله وألتهمطعامي مثله، فلو عرفت كيف يدخل الحمام لدخلت مثله"، ما يذكّرنا بمفهوم السّنّة الجِبِلّيّة في الإسلام، والتي كان أشهر متّبعيها الصحابي (عبد الله بن عمر). نحن أمام علاقة تبعية ممثل الغيب (جبريل) للإنسان/ النبي (محمد)!
     أما القسم الثاني (أمسياتٌ غير حميمة) فيرصد مذكرات (محمد) عبر اعتزامه المرور بتجربة الحَقن بالأنيما/ الرُّوح، ومروره بها بالفعل، وخضوعه للاختبارات الإكلينيكية التي تؤكد نجاح التجربة، ثم استسلامه لوسواس حلمه القديم في الكشف عن سبب اللون الأسود للفضاء - وهي مشكلةٌ عرفها تاريخ علوم الكون بالفعل وتُعرف باسم (مفارقة أُلبِرس Olbers
 Paradox) – ووصوله إلى حلٍّ لها يتمثل في أن الكون يشبه علبةً مغلقةً طُلِيَت حوائطها بالأسود، وعكوفه على بحث إمكانية الفرار من حوائط هذا الكون، وبالتالي الفرار من القدَر، وأخيرًا ظهور الشيطان شخصيًّا في حياته طالبًا منه أن يمنحه الخلود والهرَب من القدَر معه!
     القسم الثالث (فلسفة السفر عبر القدَر) ينطلق من نظرية Mوهي أحدث نظريات علوم الكون، وهي غير مكتملةٍ إلى الآن حتى أن أحد روادها وهو (إدوارد ويتن) يقترح أن يشير الحرف Mإلى السحر أو الغموض أو الأغشية magic/ mystery/ membraneلحين وصول النظرية إلى صياغتها النهائية!
     المهم أن هذه النظرية تقول بأن كوننا هذا ليس الوحيد الممكن فيزيائيًا، بل هناك غيره الذي تشكّل وتلاشى فور ظهوره لأنه غير مستقر. كونُنا سينفجر يومًا ما هو الآخر لأنه يتمدد باستمرار ولذلك يقول (محمد): "هذا الكون الذي نعيش فيه ليس كونًا حقيقيًا.إن الكون الحقيقي في نظر الله لابد أن يكون مســتقرا، وأن يأتيه أمر الله بالفناء من خارجـه، هذا الكون الـذي نحياه مجرد بروفة، نحننعيش على شظيةٍ متخلفة من طَرق مادة الوجود على سـندان الفـراغ. نحن فقاعة نَمَتْ وطَفَت حين غلا الكون الحقيقي غليانًا باردًا فيالعتمة، ومع ذلك فمن حقنا أن نعيش". هنا تبرز نية (محمد) في انتزاع حقّ الحياة الحقيقية بالقوّة. وهنا يبرز تأويل علمي محتمَل للنصوص المقدسة التي تبشّر بالجنة، حيث هي كونٌ بديلٌ تمامًا، حقيقيٌّ تبعًا لرؤية (محمد) الرواية. وهنا أخيرًا – بعد أن مررنا باستعراض (مفارقة أُلبِرس) وحل البروفيسور (محمد) لها -  تبزغ في أذهاننا آيةُ سورة الرحمن: "يا معشرَ الجِنِّ والإنسِ إن استطعتُم أن تنفُذُوا مِن أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفُذُوا، لا تنفُذونَ إلاّ بسُلطانٍ. يُرسَلُ عليكما شواظٌ من نارٍ ونُحاسٌ فلا تنتصِرانِ". ما تسفر عنه المعادلات المستفيضة في هذا القسم هو أنّ النفس يمكن ردّها رياضيًّا إلى الخوف اللانهائي (ن=ف) وهو الخوف من الخوف من الخوف ....، والمعرفة كذلك هي لانهائية الخوف، وس ه (سرعة الهرب من الخوف/ القدَر/ أقطار السماوات والأرض/ الكون الزائف) تساوي صِفر. والخلاصة أنه لابد من إيقاف حركة جزيئات (الأنيما/ المادة الأخرى) لكي تعبر الروح إلى عالمٍ آخر. المفارقة هنا أنّ هذه المعادلة تجعل الإنجاز المتحقق بالفعل لـ(محمد) وهو الخلود في هذا الكون يساوي لاشيء، حيث يكون الخلاص في الموت! إذَن وسيلتنا للعبور إلى الكون الحقيقي هي الروح (التي يصفها محمد في القسم الأول بأنها كاليد داخل القفّاز، تمنحنا الحياةَ كدُمَى)، والسلطان الممنوح لعبور الروح من الأقطار هو الموت، وبهذا تكتمل دائرة بحث (محمد عبد الله) وينتهي – على وجه الحقيقة – بخيبة المسعى، حيث يظلّ عبدًا للقدَر الذي أراد الفرار منه!
     الظهور التدريجي للشيطان في الفصل الثاني بعد نجاح تجربة الخلود ظهورٌ متوقَّع في الحقيقة على خلفية الإنظار القرآني المعروف: "قال ربِّ أنظرني إلى يومِ يُبعَثون. قالَ فإنك من المُنظَرين. إلى يوم الوقت المعلوم"، لكنه يمثل إغلاقًا لدائرةٍ أخرى بدأت باعتناق (محمد) فلسفة (برجسون) في الميتافيزيقا حيث لا تحلّق هذه بعيدًا عن الأشياء وإنما هي حالةٌ موجودةٌ حول كل شيء. ظهور الشيطان – بشكلٍ ما – يدحض هذه الفلسفة، فهاهو الكيان الميتافيزيقي الأوفر حظًّا من الكراهية واقفٌ وجهًا لوجهٍ أمام (محمد)، وليس هو جانبه الشرّير أو أطماعه مثلا! إنها خيبة المسعى هنا أيضا! هذا إذا لم نعتبر أنّ هذا الظهور هلوسةٌ فصامية بدأ (محمد) يعانيها بعد نجاح التجربة، لكنّ موت هذا الأخير بطريقةٍ غريبةٍ (والدخان الأسود يخرج من فِيه) يفترض عنصرًا غير محسوبٍ في تجربة الخلود، ويجعلُنا كمتلقّين أميلَ إلى رفض مسألة الهلوسة الفصامية.
     المدهش هو تذييل القسم الثالث (فلسفة السفر عبر القدَر) برسالة إلى (أنجربودا) يطلب فيها الغفران ويختمها بقوله: "اغفري لنفسِك إذن أنني كنتُ خائفا. وهذا لا ذنبَ لكِ فيه. لهذا أنا لن أنالَ الغفرانَ أبدا". هنا تماهٍ تامٌّ مع الشرط الوجوديّ للشيطان (إبليس) في الوعي الديني، حيث هو كائنٌ أبلسَ بالفعل من الغفران، فضلاً عن تذكيرِنا برمزية المرأة في الرواية كتجَلٍّ للغيب/ النور الإلهي الذي يتوجه إليه البطل بطلب الغفران ويعلن يأسه من القبول.
* النسق الفكري الحاكم للرواية:    
ما يحدثُ في الرواية هو أنّ (محمد) يبحث عن البساطة (تحول الإنسان المعقد في تركيبه إلى أميبا عملاقة وظيفيًّا)، ليحصل من خلالها على الخلود، وحين يصل إليه يقرر أن هدفه ليس ذلك وإنما الوصول إلى الكون الحقّ حيث يتجلى الله برعايته وأنّ ذلك لن يحدث إلاّ بنبذ تعقُّدٍ آخر كامنٍ في طبيعة الكون الذي نعيشه ومعرفتنا به، وبالتالي فقد كان يُفترَض أنّ البساطة هي الطريقُ إلى الله. لكن ما يفاجئنا – رغم تبريرات ظهور الشيطان المُشار إليها آنفا – أنّ البساطة كانت في الحقيقة طريقًا إلى الشيطان. لقد تعالى البطل فوق الحضارة بتعقدِها ليصل إلى الله، لكنه وصل إلى الشيطان بدلاً من ذلك! هنا يمكننا أن نقول إن هذا اختيارٌ واعٍ من الكاتب وليس وليدَ صدفة كتابة. الكاتب أخرج لنا الشيطان ليغير مسار الأحداث ويقلبها رأسًا على عقِب، على غرار الحيلة المسرحية اليونانية القديمة (الإله من الآلَة theos ex machina)، لكن هنا يخرج الشيطان من الآلة (Diaboli ex machina)!
* جنسانية الرواية وعلاقتها بنسقها الفكري:
     ثمة إشاراتٌ جنسانية في الرواية يصعب إغفالها، لأنها وثيقة الصلة باختيار (كريم الصياد) أن ينحاز إلى جانب الشيطان ويُحبِط مسعى البروفيسور (محمد). في القسم الأول يروي (جبريل): "لاحظـتُ كيف صـار يستمع إلى الحركة الثالثة منسيمفونية تشايكوفسكي السادسة"، "حدثني كثيرا من قبل عن هذه الحركة بالذات وهو يرتجف:-المارش الشـيطاني، هـــذه الحركـــة لابُد وأنتصور المارش الذي يقوده الشـيطان إلى الجحيم، إنها موسيقى مخيفة، ومع ذلك قادرةعلى إحياء الجماد"، "إن هذا الرجل- يقول الدكتور عــــن تشايكوفسكي- كــــان وراءالرجل والمرأة لأنه كان شاذًا، فصاربهذا أقرب إلى الشيطان".هنا يرتبط الشذوذ الجنسي بالشيطان بالجنون في النسَق الفكري الحاكم للرواية. إذا تابعنا تصورَنا الذي أسلفناه عن المرأة باعتبارها الغيب أو ممثل النور الإلهي، فإن العلاقة الحميمة للرجل (باعتباره ممثل العقل أو الإنسانية في مقابل الألوهية) بالمرأة تعني إرادةَ هتك حجاب الغيب، وبالتالي مزيدًا من الحضارة وانتصارًا للعقل. وبهذا، تكون العلاقة الجنسية بين الرجل والرجل علامةً على عقلٍ ينتهكُ عقلاً، وبالتالي فهي منذرةٌ بالجنون، وهي تنصُّلٌ من فصل الحضارة بين الدور الجنسي للذكر والأنثى، وبالتالي رِدّةٌ إلى حالةٍ من البدائية/ البساطة. هذا التصور يتجاوب مع المفهوم المعاصر للمتَصل الجنساني sexuality continuumحيث تفترض طبيعة الأشياء انتفاء التقسيم الحادّ للأدوار الجنسية، ولا يأتي الفصل الحاد إلا ناتجًا للاصطلاح المجتمعي/ الحضاري. المعروف عن هذه السيمفونية أنها تُعتبَر في بعض الأوساط تعبيرًا عن بطولة المثلية الجنسية، كما يعتبرها بعض مؤرخي الموسيقى سيمفونيةً ينعي فيها تشايكوفسكي نفسه، وهو الذي قيلت في طريقة موتِه الأقاويل، وأشهرُها أنه مات منتحرًا بعد أن حكمت عليه محكمة الشرف بأن ينتحر، جرّاء تحرشه الجنسي برجُلٍ ما، كما قيل في تأويل برمجة هذه الموسيقى أنها تعبيرٌ عن عواطفه الجنسية المتفجرة الحزينة في الوقت ذاته تجاه (بوب دافيدوف) ابن أخته (ألكساندرا)! أمّا هذه الحركة الثالثة تحديدًا فهي الوحيدة في السيمفونية الخالية من السلالم الصغيرة Minor Scalesفهي بين سلّمَي صول الكبير ومي الكبير، وبذلك فلونُها متحرر تمامًا من الحزن الذي تصطبغ به بقية حركات السيمفونية، كما أنها تُعزف بسرعة شديدة الحيوية Allegro molto vivace. كل هذا يؤهلُها تمامًا لتكون معادلاً موضوعيًّا لاقتراب ظهور الشيطان وانحياز (كريم) له.
     كذلك حين يصرّح (محمد) في مذكراتِه: "إنّ مجدَ ما أنا مقدِمٌ عليه سيمحو كل ما سبقه من أمجاد، كما قال مونترلان Montherlant". الاقتباس من أحد أشهر أيقونات الشذوذ الجنسي في تاريخ الأدب الفرنسي والعالمي، (مونترلان) الذي اشتُهر بآرائه الحادة التي تحط من قدر النساء حتى أفردت (سيمون دي بوفوار) فصلاً بعنوان (مونترلان: أو خُبزُ الاحتقار) من الجزء الثالث (الأساطير) من كتابها النسويّ العمدة (الجنس الثاني) لدراستها!إنه (مونترلان) الذي مات منتحِرًا كذلك بطلقةٍ في الرأس بعد ابتلاع سُمّ السيانيد.
     جماع هذه الإشارات يجعلنا من ناحيةٍ نتوقع انتحارًا ما (وحقيقة المعادلة النهائية هي الانتحار كما قلنا)، ومن ناحيةٍ أخرى يكرس فكرة انتصار الشيطان بشكلٍ ما.
* عن هاجس تصنيف الرواية:
     قُدّر لي أن أطّلع على بروفات غلاف هذه الرواية، وكان التوصيف الأول "مِن أدب الرُّعب". بالتأكيد يتحقق الرعب الوجودي والفيزيقي هنا بكثافة. ثمة مشاهد تتواصل مع إرث سينما الرعب في وضوح. منها مشهد الشيطان ورقبته تميل إلى كتفه ليظلّ في وقفته ساكنًا ساعاتٍ
طويلةً، كما يحدث في مشهدٍ رهيبٍ من فيلم Paranormal Activity، وحدَث تشوه ابنة البطل في رحم أمها يشبه بشكلٍ ما تشوه الوليد في فيلم Rosemary's Baby. الرعب هنا نتيجةٌ لصدمة الخارق للمألوف. الأحداث التي يصعب أن نتوقع ما يليها تصيبُنا عادةً بالرُّعب والرغبة في إنهاء الموقف برُمّته.
* التواصل مع منجَز الكاتب خارج الرواية:
     ختامًا، نزيح قليلاً الجدار الخامس – بلغة أهل المسرح – بين كاتب روايتنا وبين أعماله السابقة. نجدُ استمرارًا لفكرة اليأس من الغفران/ خيبة المسعى إلى الله في قصيدته (الفرقة الناجية) من ديوانه (منهجٌ تربويٌّ مُقترَحٌ لفاوست): "عن جميع الناس أنّي لن أرَىٰ اللهْ/ لن أراهُ أبدًا
حتى إذا قامَ الجبلْ/ وإذا شقتْهُ آبادُ المللْ/ وإذا صار ترابًا نثرتْهُ الريحُ يومًا في المُقلْ/ وإذا ظل قرونًا يكتملْ/ وإذا قيلَ له: كنْ، فامتثَلْ/ لن أراهُ، لن أراهُ أبدًا في أيّ مرآهْ!"، وهو مقطعٌ مكتنزٌ باللوعة الوجودية، يتجاوب مع مضمونها شكلُها الإيقاعي حيث تمتدّ تفعيلة الرمَل (فاعلاتُن) مع لفظ الجلالة وما يوافقُه في الرّوِيّ لتصبح (فاعلاتان). الديوان مهتمٌّ بعلاقةٍ خاصةٍ مع الشيطان كما يشي اسمه، كما أنّ بقيةَ العنوان: "بقلم: أنتَ تعرفُ مَن"يتجاوب مع الجملة التي قالها الشيطان في مشهد الحديث الأول بينه وبين بطل روايتنا "من أنتَ؟/ أنت تعرفُ مَن"!
     كذلك نجد الموتة الغريبة للبطل المتمتع بأصالة الفكر في قصةٍ بعنوان (بئر لَملَم) في مجموعة قصصية هي (الرجال Y) لكاتبنا، حيث منح (كريم) بطل القصة اسمَ نبيٍّ هناك أيضًا (إسماعيل) ليتناصّ مع قصة (بئر زمزم) الإسلامية تناصًّا مقلوبًا يكرّس لعنةً وجوديةً يصابُ فيها البطل بمرضٍ كأنه صُمِّمَ خصّيصًا له، هو سرطانُ الزجاج، حيث يتشقق جسده ويتكسر كالزجاج المصاب تماما!
     يظل (كريم الصياد) نسيجَ وَحدِه في منجزِه الروائي والقصصي والشعري والفلسفي. تظل لوعته الوجودية بصمةً تميزُ تجليات روحه الإبداعية. ويظلّ رعب اللعنة مطلاً برأسه من كتاباته الأيقونية. ولنا أن نتمنى له خروجًا من هذه اللوعة إلى حضورٍ أدفأ وأفقٍ أكثر ترحيبًا بالحياة.

محمد سالم عبادة

9 مارس 2017     
........
نُشِرَ في عدد أبريل 2017 من مجلة (عالَم الكتاب) الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب في مصر
     
Viewing all 94 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>