Quantcast
Channel: Mohamed Salem Obada
Viewing all 94 articles
Browse latest View live

أحضِرِي زجاجةَ ماءٍ بارد

$
0
0

كان الشيطانُ حاضرًا

عندما صُفِعَ (جلال عيسى)

فدارَ حولَ محورهِ الرأسيِّ كـ(شربونِ) الخلاّطِ المنزليّ ..

كان الإنشادُ ساحرًا عندما أذيعَت جملتُهُ :

"أنا عندي رجّالة تاكل الزلط"

بالمقلوب ، متكررةً كتيماتِ القداديسِ السوداء

 - نعم مازلتُ مولعًا بهذه الأشياء - 

لكنني لم أعُد مهووسًا بالسينما كما كنتُ حينذاك ..




لقد هدأَت النار

عرفتُ هذا

حينَ تخلَّى رأسُ الغزالةِ عن مكانتِهِ الوسطى

بين مصباحَي الفلورسنت الذَين يُزيّنان بلتكانةَ صالتِنا

لظروفٍ متعلقةٍ بتغيير حجم الكشّافَين

وشَهِدتُهُ في ملامحِ خطيبتي وهي تنظرُ إلى عينيَّ

فليسَ ثَمَّ إلاّ الماءُ الماءُ الماء ..




أن يَعلَقَ (جلال عيسى) بذاكرةِ الأُمَّةِ

من خلالِ مشهدٍ فانتازيٍّ وحيدٍ

يدورُ فيهِ حولَ محورِهِ

ففي هذا بيانٌ عن غلبَةِ الماءِ عليه ..

أنا كيميائيٌّ هاوٍ قديمٌ

وأعرفُ أنَّه بإمكانِ النارِ أن تطفُوَ على الماءِ قليلا ..

طفَت النارُ

فدارَ (جلال عيسى) حولَ محورِهِ

ثُمَّ ابتلعَها الماءُ السرمديُّ

فغابَ المسكينُ عن الأنظار ..




بُرِجي مائيٌّ أصيل ..

وقد راهنتُ نفسي وأنا أكتبُ هذا النَّصَّ

على أنَّ (جلال عيسى) مولودٌ في برجِ مائيٍّ هوَ الآخَر ..

وصدقَ حَدسي ..

لم أكن أعرفُ أنَّ لي خبرتي في هذه الأشياء
حبيبتي ..

سيبتلِعُ الماءُ كُلَّ شيءٍ

فلا تجزَعي حينَ أشهِدُكِ ذلك ..

المسألةُ قدَرِيَّةٌ

والماءُ ..

آه!

لقد أقرأتُكِ قولَ أحدِ أبطالِ روايتي الوحيدةِ ، أتذكُرينَه؟

"الماءُ تسرَّبَ من جُدرانِ الوَقت"

لم أكن أعرفُ قبلَ الآنَ أنني أتفقُ معهُ في رؤيتِنا للعالَم ..

بَيدَ أنّني استسلمتُ لهذه الرؤيةِ

وثارَ هُوَ عليها
..
لن تَثُورِي

فأنتِ تعلمينَ في قرارةِ نفسِكِ أنَّ مصيرَنا جميعًا إلى الماءِ

مهما اختلفَت أبراجُنا!




على أيةِ حال ..

ميعادُنا الليلة ..

والمسلمونَ يُقَدِّسُونَ الماءَ كما تعرفين ..

أحضرِي معكِ زجاجةَ ماءٍ باردٍ

وانثُري منها قطراتٍ في وجهي

وسأفعلُ كذلكِ

وسنُفيقُ من إغفاءتِنا

ونذهبُ إلى الماءِ راضِيَين

قبلَ أن يبتلعَنا الماءُ عنوةً

كـ(جلال عيسى) !
.....
EGAL
9/8/2012

قراءة في رواية (سِفر الأراجوز) لأحمد سمير سعد

$
0
0

كتابُ اللعبِ المقدَّس
قراءة في رواية (سِفر الأراجوز) لأحمد سمير سعد

 الأراجوز .. تلك العينُ السوداء (قره قوز)  كما في الفارسية .. تلك الشخصيةُ الممسوخةُ التي توجَدُ ولا توجَد .. بطلُ الرواية يطاردُ وجودَهُ عبرَ صفحاتِها ليكتشف بنهايتِها أنَّهُ عينٌ سوداءُ يطلُّ من خلالِها الأبُ الذي كان ، ولا شيءَ غيرُ ذلك .. ظِلٌّ لأبيه ..
  تبدأ الحكايةُ مع بائع الفول الذي يُلَعّبُ الأراجوز للأطفال ليلاً، وولادة طفلٍ له (هو بطل الرواية) إثرَ بشارةِ (السيدة زينب) رضي الله عنها لزوجته في المنامِ بطفلٍ مبارَك .. الزوجةُ تلاحظُ ظاهرةً  خاصةً في جلدِ وليدِها وهو أنه يتغيرُ لونُهُ تبعًا لألوان الأشياء التي تقتربُ منهُ كالحرباء! يكبرُ الوليدُ ليصيرَ أراجوزًا بشريًّا طفلاً ، وتموتُ أمُّهُ وتتولى تربيتَه الدايةُ التي ولّدَتها .. يُبَشَّرُ أبوه برزقٍ واسعٍ حين يدخلُ الصبيُّ بلاطَ (الثَّرِيّ) الذي يتولى تعليمه وتربيتَهُ بنفسِه .. يكبرُ مع الفتاةِ بنت الثريِّ التي تقعُ في غرامِهِ ويُضطَرُّ أبوها لتزويجهِ منها لتُشفَى من الداء الذي ألمَّ بها .. وحين يقتربُ الثريُّ من الراقصةِ المثيرةِ بنت الغجريةِ المقيمةِ في قصرِهِ ، ويكتشفُ أن الأراجوزَ سبقهُ إلى افتضاضِ بكارتِها ، يصممُ أن ينتقمَ من الأراجوز زوجِ ابنتِهِ ويدسُّ له السُّمَّ الذي يكادُ أن يودِيَ بحياتِهِ لولا المناعةُ التي أكسبته إياها زوجتُهُ بنتُ الثريِّ التي جعلت تُجَرِّعُهُ جرعاتٍ متزايدةً من السُّمِّ كلَّ يومٍ ليفقدَ حساسيتَهُ له .. لكنَّهُ يمرضُ مرضًا شديدًا حتى يخيلَ إلى الجميعِ أنه ماتَ ويكفنوه ويدفنوه حيًّا .. وبينما هو في قبرِهِ يفاجأُ بحفّار قبورٍ لِصٍّ يحفِرُ عليه قبرَهُ ليسرقَ كفنَهُ ، وينقذه حفار القبورِ ويأخذه معه إلى البيتِ وترعاهُ أختُهُ النائحةُ (صفية) حتى يستردَّ عافيتَه .. ويعملُ الأراجوز مع حفّار القبور، حتى يصادِفَ الشيخَ صاحِبَ الكراماتِ ويصبحَ من أخلصِ مريديهِ فيضمُّهُ صاحبُ الكراماتِ إلى عمالِ متجرِه للأقمشة، ويزوجُهُ ابنتَهُ ، ثم يعطيهِ العهدَ بخلافتِهِ على أهل الطريقة .. ويولَدُ للأراجوزِ صبيٌّ تتكررُ معهُ بشاراتُ البركةِ ،كما تهاجمُ أباهُ الأراجوزَ نُذُرُ ضياعِهِ، ويضيعُ الصبي بالفعل حين يبلغ السابعةَ كما لو أنَّ تاريخَ الأب يُكتَبُ من جديد .. وتموتُ زوجةُ الأراجوزِ في إثرِ ذلكَ ، ويشعرُ الأراجوزُ أنه فقدَ بركتَهُ حين يَرقي مصروعًا على عهدِ شيخهِ ويموتُ المصروعُ بين يديهِ ولا تنفعهُ الرُّقيَة .. حينذاكَ يعودُ الأراجوزُ على عقِبَيهِ مقتفيًا آثارَ نفسِهِ، فيصادفُ أولاً حفارَ القبورِ ميتًا ويدفنُهُ بنفسِهِ، ثُمَّ يصلُ إلى بيتِ أبوَيهِ ، ويعودُ إلى مهنةِ أبيهِ فيبيعُ الفولَ صباحًا ويلعب الأراجوزَ مساء ، وتنتهي أحداثُ القصةِ هنا ..
  نلمحُ في رحلةِ الأراجوز إحالةً لنا إلى رحلة السيميائيِّ في الرواية الأشهر لـ(پاولو كويليو) ، إلاّ أنّ بطل روايةِ (كويليو) يرحلُ نحوَ المعرفةِ بالذاتِ التي هي معرفةٌ بالعالَمِ وينتهي في نقطةِ بدايتِهِ ليدركَ أنَّ الكنزَ الموعودَ هو الرحلةُ ذاتُها .. أمّا الأراجوزُ هنا فيرحلُ في خطٍّ مستقيمٍ نحوَ أفقٍ من المعرفةِ الروحيةِ يتمثلُ في خلافة صاحب الكراماتِ ، ثم لا يلبثُ أن يعودَ من حيثُ أتى لينتهي نهايةَ أبيه .. ينتهي خاويَ الوِفاضِ وكأنما كلُّ ما فاتَ كان لَعِبًا .. يبدو أنَّ كنزَ رحلةِ الأراجوزِ هو التصالُحُ مع الخواء ، وهو إدراكٌ خاصٌّ للمعرفةِ يقترحهُ صاحبُ الرواية فيما يبدو لنا .. وهو إدراكٌ صوفِيٌّ راضٍ بالدورِ المحدودِ الذي يلعبُهُ الإنسانُ في مسرحِ هذا العالَمِ ، وتؤيدُ هذا الإدراكَ تيمةُ التكرارِ المتجليةُ في مستوى الأحداثِ كما في مستوى لغةِ الوصف ..
    فالتكرارُ الأعظمُ في مستوى الأحداثِ أهمُّ أمثلتِهِ حدثُ ضياعِ ولدِ الأراجوزِ في سن السابعةِ (ليبحثَ عن شيخِهِ الخاصِّ ، فهو غيرُ محسوبٍ على طريقةِ أبيهِ وجدِّه لأمه) ، كما حدثَ أن اغتربَ أبوهُ الأراجوزُ عن أهلهِ وذَويهِ في شبابه .. أما التكرارُ على مستوى لغة الوصفِ فيتجلى في مفاتيح (كيوهات) الأدوار المختلفةِ للشخصياتِ ، فلحظاتُ النشاطِ الأوفر للأراجوزِ في العمل واللعبِ والمغازلةِ وحتى الذِّكر توصَفُ دائمًا بعبارةٍ واحدةٍ: "الأراجوز يهزُّ الخصرَ، يديرُ الرأسَ، يداورُ بلسانهِ الكلمات" ، وكأنما لُبُّ كلِّ نشاطٍ يقومُ به الأراجوزُ واحدٌ مهما تعددت صورُ هذا النشاط ، فالمسألةُ لعبٌ مرسومٌ قَدَرًا محددٌ سلفًا وخلفَهُ لا شيء ..
أمّا الراقصةُ فلحظةُ توهجِ نشاطِها دائمًا توصفُ فيها بأنها: "ترفعُ الرِّجلَ تُدَوِّرُ الخصرَ تُرعِشُ الصدرَ تهزُّ الأرداف" ..  
  وثمةَ ملمحٌ آخرُ في تقنيةِ الحَكيِ هنا يُقَوِّي قناعتَنا بمسألة التصالُحِ مع الخواء ، وهو الإصرارُ على تسمية عددٍ من أهم شخصياتِ الروايةِ بأسماءِ أدوارِها في الدراما فقط، كالأراجوز، وصاحب الكراماتِ، والراقصة ابنةِ الغجرية، والثّرِيّ، وابنةِ الثّريِ، وحفّار القبور .. بل لا نكادُ نجدُ شخصياتٍ تحملُ أسماءَ أعلامٍ إلا الشخصياتِ الهامشيةَ المساعدةَ التي لا تظهرُ إلا قليلاً مثل (صفية) أخت حفار القبور، و(غانم) و(محروس) صديقَي طفولة الأراجوز .. كأنَّ العبارةَ التي يقولُها (نزار قباني) على لسان المرأةِ اللامباليةِ في يومياتِها: "أسخفُ ما نحملُهُ يا سيدي الأسماءُ" مكرسةٌ هنا إلى أبعدِ الحدود ..
  اختارَ (أحمد سمير سعد) في هذه الروايةِ الطريقَ الأوعرَ، أعني تيارَ الواقعيةِ السحريةِ، حيث تنضفرُ الوقائعُ اليوميةُ الموصوفةُ بدقةِ الوصّافينَ الكبارِ كتنظيف (قِدرَةِ) الفول وكَمرها، ولفِّ النحلةِ اللعبة (المخروطة الخشبية الدوارة)، وكتعامل موظفي محلِّ القماشِ مع الزبائن، تنضفرُ هذه الوقائعُ مع تفاصيلَ أسطوريةٍ تنهلُ من معينِ التراثِ الشعبيِّ المصريِّ والإسلاميّ، والروايةُ مكتنزةٌ بالفعلِ بهذه التفاصيلِ الأسطوريةِ فلا تكادُ تخلو صفحةٌ منها من تفصيلةٍ جديدةٍ فيما يجعلُها سجلاًّ روائيًّا للتراثِ الشعبيِّ المصريِّ والإسلاميِّ، ومن أمثلةِ ذلك: أسطورةُ الوَحَم، ومصيرِ الجنين المرتبط بنوع الثمرةِ التي تَحِمُ عليها أمُّه، وظهور الثمرةِ في جسدِهِ كتشوهٍ بارزٍ إن لم تتناول أمهُ هذه الثمرةَ كما طلبتها – حكاية (أم البنين) الجنية التي تسكنُ تحتَ الأرضِ وتترصدُ أرواحَ المواليد الذكور وحكايةُ زواج الجنياتِ من الإنس – حكايةُ الدُّمَى والثمار المرتبطة بالأمراض ، وهي هنا ثمرةُ الباذنجانِ التي اتخذتها الدايةُ علامةً على مرضِ بنت الثريِّ وجعلَت ذبولَها علامةً على شفاءِ الفتاةِ ووجوبِ تزويجِها من الأراجوز – حكاية عيون ملَك الموتِ التي بعددِ الأحياءِ والتي ما إن ينطبق جفنا عينٍ منها حتى ينتهيَ أجلُ الشخصِ الموكلةِ به تلك العين .. إلى آخر ذلك .. إلاّ أنَّ حكايةً أسطوريةً كتلوّن الصبي الأراجوزِ كالحرباءِ ، تبدو غير مستغلةٍ بما يكفي لأن تُصَدَّرَ الروايةُ بمقولة: "يقولون إن الإله قد منح الحرباء المقدرة على التلون بلون ما تقف عليه حتى تختفي من أعدائها الطبيعيين .. الحرباء باتت لا تعرف اللون الذي خُلِقَت عليه" .. فالأظهَرُ طيلةَ الروايةِ هو اللعبُ على تيمة الأراجوزِ اللاعب، وفي رأيي أنه لم يتم استثمارُ تيمة التلون الحربائيِّ رغم ثرائها، وكانت تيمة الأراجوز كافيةً تمامًا بما يخدمُها من أساطيرَ أصغر تظهر من صفحةٍ لأخرى ..
  لكنَّ هذا الزحامَ من الأساطيرِ بالإضافةِ إلى تسمية الشخصياتِ بأدوارِها والجمل القصيرة كما في هذه الفقرة: "أخت زائر القبور تنتزع نفسها من مقيديها. تهرع صوب الأراجوز. تجثو أمامه. عيناها باكيتان. لسانها عامر بالشكر العرفان. يتركها وينصرف دون أن يعرّف نفسه. تطلعوا إليه وهو يبتعد وقد شملهم الصمت" .. لغةٌ سينمائيةٌ مشهديةٌ تشبهُ لغةَ كتابةِ السيناريو .. جماعُ هذه الحقائقِ السرديةِ يخلقُ حاجزًا عاطفيًّا بين القارئ وبين شخصياتِ الرواية، فلا يصبحُ التعاطفُ والتوحدُ مع أيٍّ من الشخصياتِ شيئًا مبذولاً في يُسرٍ، وأظنُّ هذا الأثرَ الجانبيَّ لهذه التقنياتِ يكاد يقتربُ من الحتمية، ورُبّما يكونُ مقصودًا في إطارِ الحسِّ الپانوراميِّ الذي يروي به (أحمد سمير) روايتَه، ليبقى في وعي المتلقّي في النهايةِ إدراكٌ معقَّدٌ مستسلمٌ لحتميةِ التكرارِ ولانهائيةِ الأحداثِ وللخواءِ الكامنِ في لُبِّ عالَم الرواية ..
  وأخيرًا، فعنوانُ الروايةِ يكرّسُ هذه الحالةَ المتصالحةَ مع التكرار واللعب والقدَريةِ والخواءِ، فهكذا تنبجسُ الدلالاتُ اللغويةُ من لفظة (سِفر) المرتبطةِ في الوعي الجمعيِّ بأسفارِ العهد القديمِ المقدسة .. (سِفر الأراجوز) هو كتابُ اللعبِ المقدَّس!
  

قراءةٌ في ديوان (التغريد بطريقة برايل) لهرمس - عِبادةُ العالَم ، ورحلةُ رسولِ الآلِهة

$
0
0


قراءةٌ في ديوان (التغريد بطريقة برايل) لهرمس (محمد مجدي)
عِبادةُ العالَم ، ورحلةُ رسولِ الآلِهة
- اختار (محمد مجدي) لنفسه هذا الاسم المستعار الآتيَ من أعماق الأسطورة الإغريقية .. (هرمس) رسولُ الآلهةِ وابنُ (زيوس) ..
- عنوان الديوان عبورٌ على عبورٍ، وقفزٌ على قفز .. طريقة (برايل) هي الكتابةُ البارزةُ التي يُتحايَلُ بها على الحروفِ لكي تصلَ إلى المكفوفين فيدركونها باللمس بديلاً عن الرؤية .. والتغريدُ فعلُ إصاتةٍ محلِّقٌ بينَ الضرورةِ والاختيار .. فالطائرُ المغرِّدُ لا يعرفُ هل غرَّدَ صادرًا عن اختيارهِ الحُرِّ، أم دفعته الظروفُ والأقدارُ إلى التغريدِ ولم يكن أمامه حلٌّ آخَر! وتلقّي فعل التغريدِ يكون بالسَّمع، تلك الحاسّة المرهفةِ المنوطةِ بالمثيراتِ الأكثر أثيريةً ورهافة (موجات الصوت) .. فحين يغرِّدُ (هرمس) بطريقة (برايل) فإنَّهُ يعبرُ بفعلهِ هذا أثيريةَ الصوتِ المُطلَقِ مباشرةً إلى طينيةِ الحرفِ الملموسِ البارز في كتابةِ (برايل)، دون أن يمُرَّ بمرحلة الكتابة غير البارزة المُدرَكَة بحاسة البصر .. إنه يسقطُ سقوطًا مُدَوِّيًا من الأثيرِ إلى الطينِ المحروقِ، ليستطيعَ التواصُلَ مع قارئه .. عنوانٌ قاسٍ، ما من شَكٍّ في هذا، وهو يحملُ سخريتَهُ المريرةَ داخلَهُ ويقبلُها كواقِعٍ، فالعنوانُ كأنهُ يَسِمُ (كتالوجًا) مخصوصًا في إنجازِ مهمةٍ أدائيةٍ بعينِها .. رُبَّما يحاولُ (هرمس) أن يعلمَنا كيف نغرِّدُ نحنُ أيضًا بطريقة برايل!

 * في رأيي أنَّ الديوانَ توثيقٌ لسِتِّ مراحِلَ في رحلةٍ هرمسيةٍ إلى المعرفة والاكتمالِ والحقيقةِ ، ترتبطُ في مرونةٍ بالتأريخِ الزمنيِّ للقصائد ..
    1- فالمرحلةُ الأولى كانت بين الناسِ غارقةً في تفاصيلِ واقعهم إلاّ أنَّ إرهاصاتٍ بوشكِ بدءِ رحلةٍ كانت موجودةً ، ولا يمثِّلُ هذه المرحلةَ إلا قصيدةٌ واحدةٌ هي (مقاطِعُ لصاحبةِ القُبّة) المؤرَّخةُ بعام 2005 ومن الإرهاصاتِ المشارِ إليها قولُهُ لملهمتِهِ في ثنايا القصيدة: "سأقولُ لكِ أنَّ الوجودَ إثمٌ موغِلٌ/ وأذهب" ..
   2-  أما المرحلةُ الثانيةُ فهي السخطُ على هذا الواقعِ والتذمُّرُ بهِ بعد تحقُّقِ الخِذلانِ التامِّ من وسائلِ السابقينَ لتحقيق المعرفةِ والوصولِ إلى الحقيقةِ وتغيير العالَمِ إلى صورتِهِ المثاليةِ الماثلةِ في الوعيِ الشِّعريِّ الجَمعِيّ، ويمثلُ هذه المرحلةَ قصيدةُ (ترنُّحٌ على سفحِ الأفُق) المؤرخة بعام 2006.
   3- والمرحلةُ الثالثةُ لا يمكن برأيي تحديدُ بدايتِها وإن كان من اليسيرِ إدراكُ آثارِها الشِّعريةِ المتفرقةِ في الديوان كقصائدِ (فصلٌ في اللصوصية – القاهرة عشيةَ الثورة – أغنيةٌ داميةٌ صغيرة – الريحُ شَعر الرسولةِ الطويل) فمن بينِ هذه القصائدِ ما يشبهُ نتاجاتٍ ثانويةً للارتحالِ في الذات/العالَم بعيدًا عن مفرداتِ الواقعِ اليوميِّ اللاشِعريِّ، خصوصًا تلك التجاربَ ذاتَ المعمارِ المُحكَم كـ(أغنيةٍ داميةٍ صغيرة)، ومنها ما يمثلُ رُؤيا تعترضُ سبيلَ صاحبِ الرحلةِ أو نبوءةً هرمسيةً كـ(القاهرةِ عشيةَ الثورة) .. وينتمي لهذه المرحلةِ أيضًا قصيدةٌ محوريةٌ في الديوان هي (الكلامُ يحترقُ .. الكلامُ يذوبُ) فهي تجسِّدُ لحظةَ هِزَّةِ اللذَّة Orgasmفي هذه الرحلة .. وهي تمتدُّ في مدىً زمنيٍّ من 2007 إلى 2009 بحسبِ تواريخ القصائد ..
   4- المرحلةُ الرابعةُ هي قربُ نهايةِ الرحلةِ وتحققُ الغُربةِ في قصيدة (بركبةٍ داميةٍ) التي يفتتَحُ بها الديوانُ، ثُمَّ الإيغالُ في الغربةِ كما في قصيدة (أغنيةٌ للكلابِ والغُربة) ..
   5- المرحلةُ الخامسةُ هي كمالُ اليأسِ من تحققِ المعرفةِ واجتلاءِ الحقيقةِ، وتجسدُها قصيدةُ (التغريد بطريقةِ برايل) ..
   6- والمرحلةُ السادسةُ والأخيرةُ تمثِّلُ عودةَ رسولِ الآلهةِ (هرمس) إلى عالمِ الناسِ وجيوبُهُ ملأى بالنجومِ المكسورةِ من رحلتِهِ ، وطولُ الرحلةِ ومقدارُ ما لاقاهُ من عجائبِها أنساهُ بدايتَها ، وتتجسدُ هذه المرحلةُ في قصيدتَي (حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماء) و(أغنيةٌ تومِضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ) المؤرَّختَين بعام 2011 ، وهي رُبَّما تمثِّلُ إرهاصًا بديوانٍ مُقبِلٍ أو مرحلةً انتقاليةً بينَ ديوانٍ تَمَّ وآخَرَ آخذٍ في التشكُّل ..

وفيما يلي، سنحاولُ استعراضَ القصائدِ بشكلٍ أفقيٍّ ونتناسى بشكلٍ جزئيٍّ هذا التصنيفَ المرحليَّ الذي أملَته علينا قراءتُنا:

- (بركبةٍ دامية): يفتتح الشاعر قصيدته بالتبرُّؤِ من الكتابة عن الأشياء حيث يقولُ: "لن أكتبَ عن أي شيء/النمورُ لا تلبس جلود ضحاياها/والصياد واقفٌ على الهواء/لن أكتبَ عن أي شيءٍ/إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسنا/حين تهزّها رائحةُ الجنون." وفي هذا المفتتَحِلعبٌ على الذوقِ الجَمعِيِّ في قوله (النمورُ لا تلبسُ جلودَ ضحاياها) .. نحنُ نعرفُ أنَّ صيادي النمورِ هم الذين يلبسونَ جلودَها، وبالطبعِ لا يلبسُ النمرُ جلدَ ضحيتِه، لكنَّ (هرمس) يوحِّدُ بينَ الأشياءِ بما هي موضوعاتٌ لإدراكِ الشاعرِ من ناحيةِ، وضحايا النمر من ناحية، كما يوحِّدُ ضمنًا بين الشاعرِ وبين النمرِ فالأولُ يفترسُ وعيُهُ الأشياءَ كما يفعلُ الثاني بأسنانه .. هذا التشبيهُ الضمنيُّ كما يُسمَّى في بلاغتنا القديمةِ يفتحُ أعيُنَنا على خاصيةٍ في شعريةِ هرمس؛ هي اكتشافُ معانٍ شديدةِ العُمقِ من خلالِ تأمُّلِ حقائقَ طبيعيةٍ مستهلَكةٍ، وهي الوظيفةُ الشِّعريةُ التي رُبَّما لا يضطلعُ بها على أكملِ وجهٍ إلا التشبيهُ الضِّمنيٌّ الذي يسمو على المفرداتِ ليصلَ إلى تجسيدٍ حيٍّ لصورةٍ متكاملة .. ثم يقفزُ مرةً أخرى في السطر التالي (والصيادُ واقفٌ في الهواء) ليتَّحِدَ بصيادِ النمورِ، الذي افترست رَميتُهُ حياةَ النمرِ، لكنه لم يُهرَع على إثرِ الإصابةِ إلى النمرِ ليأخُذَ جلدَهُ هو الآخَرُ، بل توقفَ (في الهواءِ) متعاليًا على الحدَث .. لقد اصطادَ النمِرَ لكنَّهُ لن يتقمَّصَه .. كما أدرك (هرمس) الأشياءَ وقرَّرَ ألاّ يتقمَّصَها .. وهنا يُراوحُنا (هرمس) بين توحُّدِهِ مع دور النمرِ وتوحُّدِهِ مع دور صائدِ النمِرِ ، مما يُبرِزُ خاصيةً أخرى هامةً في شعرهِ المجموعِ بين دفتي هذا الديوان ، وأعني بها حالةً من المثاليةِ الموضوعيةِ تقتربُ من وَحدةِ الوجود .. الشاعرُ هو النمرُ، وهو صائدُ النمرِ، لا تضارُبَ في ذلك .. هو متوحِّدٌ مع العالَم رغم تصريحِهِ بأنه لن يكتُبَ إلا عن نفسِه. ربما نفسُهُ هي العالَم .. وحين يختم هذا المقطعَ بقولِه: "إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسِنا حين تهزها رائحة الجنون" فهو يدفعُنا إلى تأمُّلِ مدركاتِنا من جديد .. ألها وجودٌ موضوعيٌّ منفصلٌ في النهايةِ عن عمليةِ إدراكِنا؟ أم أنها هلاوسُنا (رائحةُ الجنون) تتجسدُ أمامَنا فلا نملكُ إلا الكتابةَ عنها؟!
  بعد هذه التقدمة يتفرّغ (هرمس) للحديثِ عن نفسِهِ التي قرر ألاّ يتحدثَ إلا عنها، فإذا هو يفاجئنا برَدِّها إلى العالَم، حيث يقول: "قلبي قطعةٌ من اللحم/ ورُوحي أيقونةٌ قديمةٌ ورثتُهاعن الأسلاف/ وعصافيرُ من حُزنٍ حَطَّتْ مبتهجةًَ بلا سبب" .. جُمَلٌ تقريريةٌ قاسيةٌ تثُلُّ عرشَ البلاغةِ القديمةِ في تُؤَدَةٍ لا مبالِيَةٍ ، فالقلبُ محلُّ المشاعرِ عند أجيالٍ من الشعراءِ ما هو إلا قطعةُ لحم ، والرُّوحُ جُمّاعٌ لنماذجَ أوليةٍ Archetypesتشكَّلَت عبرَ أعمار الأسلافِ وليس له فضلٌ ولا مثلبةٌ فيما هي عليه الآن، وهي عصافيرُ مادتُها هي الحزنُ إلاّ أنها حطّت في بهجةٍ غيرِ مُبَرَّرَةٍ، ولعلَّ في هذا تناصًّا بعيدًا مع بيتِ الأخطل الصغير: "يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً. كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا"، فليسَ وراءَ هذه الحركةِ الباديةِ إلا حيادٌ صافٍ متشائم ..
  يقولُ (هرمس) أيضا: " يالَشِقْوتنا يالَجمالِ شِقوَتِنا/فزجاجُ النورِ مكسرٌ في كفوفنا/ونسمي ذلك بالكلمات /فنقولُ الحنينُ ولا نشعرُ بالعار/ نَقولُ الوِحدة/ ولا نتجمدُ لفورِنا".. نمضي مع تسفيهِ أحلامِنا وتكسيرِ أوثاننا إلى هنا، حيثُ يكشفُ لنا (هرمس) عن كُنهِ كلماتِنا التي نتشدّقُ بها ويلصِقُها كلامُنا ببعضها .. إن هِيَ إلاّ وسيطٌ كانَ يُفترَضُ فيه أن يَشِفَّ ما وراءهُ (زجاجُ النور) لكنَّهُ تكسَّرَ وتبعثرَ في كفوفِنا، رُبَّما بابتعادِنا عن ينابيعِ المعاني الأُوَلِ، وبأجيالٍ من المتكلمينَ صنعوا أجيالاً من الإزاحاتِ الدّلاليةِ، ففقدت الكلماتُ علاقاتِها المباشرةَ بالمعاني، لكنّنا موغِلُونَ في العمى، فنقولُ (الحنينُ) ولا نلتفتُ إلى أنَّ محضَ استخدامِ هذه الكلمةِ يفصِلُنا عمّا نحنُّ إليه فلا نشعرُ بعارِ هذا العمى نصفِ الإرادِيِّ ، ونقولُ (الوِحدةُ) ولا يسفعُنا بردُها القارسُ فكأنه لا وِحدةَ هناكَ ، وكيفَ تكونُ الوِحدةُ ونحنُ لم نتجمَّد لفورِنا؟! .. يُسمّي (هرمس) هذه الورطةَ المتمحورةَ حولَ فقدانِ الدوالِّ مدلولاتِها تدريجيًّا: "شِقوةً جميلة" .. هي شِقوةٌ لأنهُ يشعرُ بمعاناتِها وتؤرِّقُهُ، وهي جميلةٌ لأنها توفِّرُ على كلِّ هؤلاء الناسِ فيضًا من مشاعر الإثمِ والجمودِ والعار .. ورطةٌ معرفيةٌ لا ينوءُ بحَملِها إلاّ من أوقعَتهم أقدارُهُم تحتَ نَيرِها!
 بعد ذلك يُهيبُ (هرمس) بالصمتِ أن يَحضُرَ ويعلِّمَ المصطفّين في انتظارِهِ أو في غير انتظارِه: " فتعالَ أيها الصمتُ بأجنحتك وبالمناسر/وعلّمنا لحنك/ووقوفنا أمام الجدار/ومباغتةَ الموسيقا لأعضائنا/و إسرافَنا في السخرية و الموتعلى أنفسِنا" ..الصمتُ هنا طائرٌ جارحٌ كما تدلُّ على ذلك لفظةُ (المناسِر)، وهي تقابلُ (المناقيرَ) للطيور غير الجوارح .. لماذا لجأَ (هرمس) إلى هذه الاستعارةِ المكنية؟! رُبَّما لأنَّ دورَ الصمتِ هنا هو قلبُ الأوضاعِ الراهنةِ التي كرّست الورطةَ المعرفيةَ المُشارَ إليها آنفا .. سينتهكُ الصمتُ بحلولِهِ فينا كلَّ هذا الزيفِ والدوالَّ الفارغةَ وسيعلمنا لحنَه الصادقَ الكئيب، وكيف نقفُ احترامًا أمامَ جدارِ ما لا نعلمُ، غيرَ محاولين اختراقَه ..
  يُكثِرُ (هرمس) من الالتفاتِ في هذه الصلاة! بعد الفقرةِ السابقة مباشرةً يقولُ مخاطبًا جماعةً تظهرُ فجأةً في النَّصّ: "بيتُكُم بعيدٌياجيرةَ الركض/وهوسَ الندرة/يا جوقةَ القمرِ المنفرطة/بيتكم بعيدٌ/وسفينةُ العالم مكسورة." مَن هؤلاء؟ إنهم مَن ضاقوا ذَرعًا كـ(هرمس) بزَيف الكلامِ وخواء الدّوالّ وإحالتِها إلى أنفسها .. إنهم من ينوءون مثلَهُ بذاتِ الورطةِ المعرفية .. إنهم (جيرةُ الرَّكض) نحوَ مثلٍ أعلى جديدٍ ربَّما هو الصمتُ/ السَّوادُ/ الكآبةُ الصافية، وهُم (هَوَسُ النُّدرَةِ) المتفلِّتون من عِقالِ ما تكالَبُ عليه الجموعُ، وهم في النهاية (جوقةُ القمرِ المنفرطةُ) التي تعلَّقَت بهذا الكيانِ المتعالي (القمر) الذي ما إن يكتمِل في فلَكِهِ حتى يعويَ المذءوبونَ وتحيضَ العذارَى ويصدحَ المغنّون .. هم جوقتُهُ الذين يُنشِدون أغانيَهُ إلا أنها جوقةٌ لم تجتمع يومًا في صعيدٍ واحد .. ورغم ذلك فلهم بيتٌ ما لكنَّهُ بعيدٌ وما من وسيلةٍ إليه إلا هذا العالَمُ فهو السفينةُ، لكن لا أملَ في الوصولِ، فالسفينةُ مكسورةٌ، والعالَمُ يدورُ حولَ لُبِّهِ الفارغ ..
  يختم (هرمس) القصيدة بقوله: "لا يحزنني شيءٌ ما/كل ما هنالك/أن الليلَ يأتي مبكرًا/كلما اقتربَ الشتاءُ/فأجلسُ هنا/وأفكرُ أن لي روحًا/بدراجةٍ/وركبةٍ دامية." هنا تمهيدٌ تقريريٌّ يُفضي إلى صورةٍ ختاميةٍ تحملُ عنوان النَّصِّ أخيرا .. يتبرأُ (هرمس) من الحزنِ الذي لا تخطئُهُ الذائقةُ في سطور القصيدةِ، لكنَّه يقرر أنه يجترُّ ظاهرياتِ رُوحِهِ كلّما طال الليلُ مع مقدمِ الشتاء .. تلك الرُّوحُ الطِّفلةُ ذاتُ الدّرّاجةِ والرُّكبةِ التي أدماها اللَّعِب .. استعارةٌ مكنيةٌ جديدةٌ – وعذرًا لمن يكرهون اصطلاحاتِ البلاغةِ القديمة – تُطلِعُنا على معاناةِ هذه الرُّوح التي عرَكَت العالَمَ في طفولتِها حتى دَمِيَت ولم يبقَ لها إلاّ التأمُّلُ في حيادٍ كئيب .. إنهاعاطفةٌ أعمقُ بكثيرٍ من الحزن، ولا يختلجُ الفرحُ والحزنُ وما سواهُما إلاعلى سطحِها الذي لا يدَعُ كثيرين ينفَذُونَ إلى ذلك العُمق.
- (مقاطعُ لصاحبةِ القُبَّة): بعكس القصيدة الأولى ، يغرقُ (هرمس) هنا في تفاصيلِ الحياةِ القاهريةِ بكلِّ محلِّيّتها ، فالفتاةُ التي يُغنّيها تسكنُ قريبًا من (صاحبةِ القُبّة) التي نرجّحُ أنها (السيدةُ زينب) لأنَّهُ يسردُ تفاصيلَ عن حواري (عابدين) الظليلةِ وسوق (الاثنين) .. القصيدةُ صباحيةٌ نؤومٌ إن جازَ التعبيرُ ، فليسَ فيها كآبةُ الليلِ الناضحةُ في القصيدةِ الأولى ، وسرديَّتُها تليقُ بالصباح الذي تتضحُ فيه التفاصيلُ وتشغلُنا كما تشغلُ الشاعرَ عن محاولةِ إدراكِ الكلياتِ والماوراءاتِ كما هو الحالُ في قصيدة (بركبةٍ دامية) ، وهي نؤومٌ كبطلَيها – أعني الشاعرَ وفتاتَهُ المُغنَّاةَ – لأنَّ الذاتَ الشاعرةَ فيها تستسلمُ لحالةٍ من اللامعرفةِ واللاتحدُّد ، ممتزجَين بخدَر الاستيقاظ متأخرًا من النوم .. نلمحُ هذا في تعابيرَ مثل: "وتشابكت أكفنا/لكنني كنتُ غائبًا/في دوائر الضوء
على إسفلتِ حواري عابدين الظليلة." و"وتفاصيل خط الاستواء/الذي عجنكِ بالماء و الشمس/حتى صرتِ فاكهة ًلذيذة/لا أعرف اسمها الاستوائيّ/لكنني أشتهيها."و"تصرّينَعلى ارتباككِ كلما التصقت عيناي بعريكِ الشمسي /عرفتُ شعابَكِ/إلا أنني أكسر بوصلة العرفان/وأسلُكُ متحسسا بداهةَ جسدِكِ /أتوهُ/أصلْ."

- (الرِّيحُ شَعرُ الرسولةِ الطَّويل): القصيدةُ ليلةٌ خريفيةٌ تستدعي لدى القارئِ مأثورًا إسلاميًّا عتيدًا عن ليلةِ القَدر من طرفٍ خَفِيٍّ حيثُ يقولُ (هرمس): "في ليلةٍ خريفيةٍ ينامُ الأطفالُ شبعانين/ تهدأ الكلابُ وتحلَمُ القططُ بالمطرِ/ الأشجارُ التي لا تموتُ واقفةٌ في الريح / الريحُ تلك: شَعرُ رسولةِ طَويل.".. إنها ليلةٌ مفارقةٌ للمألوفِ، رُبَّما فقط في وعي الشاعر، ذلك الوعي الذي اكتشفَ أن الريحَ الخريفيةَ التي تعابثُ الشجرَ الذي لا يموتُ إن هِيَ إلاّ خصلاتُ شَعرٍ : "خصلاتٌ تنسحبُ على جسدي / خصلاتُ الرِّيح / أفتحُ كفّي ممسكًا بكُرَةٍ لا مرئيةٍ من شَعرِها".. ويختم القصيدة القصيرةَ بقوله: "أقولُ: أنا ساحرٌ."فلهذا أدركَ ماهيَّةَ الرِّيح وأمسكَ بكُرَةٍ منها .. فلماذا إذَن هو شَعرُ (رسولة)؟! تلك الكلمةُ التي لم تتكرر كثيرًا في أيِّ سياقٍ أسطوريٍّ أو نبوئِيٍّ في الموروث الثقافيِّ البشريِّ كلِّه؟ الريحُ شَعرٌ طويلٌ لأنثى ، ويكونُ الشَّعرُ عادةً طويلاً في الأنثى دون الذَّكَر! لكنَّ هذه الأنثى تضطلعُ بمهمةٍ جليلةٍ فهي تحملُ رسالةً ما إلى هذه الكائناتِ التي اشتملت عليها القصيدةُ، أعني الأطفالَ والكلاب والقططَ والأشجار .. يشبع أطفالُ القصيدةِ أولاً وينامون، ثُمَّ تهدأ الكلابُ وتستسلم القطط لأحلامِها في السطر الثاني ، ثُمَّ تقفُ الأشجارُ مستسلمةً لعبثِ الريحِ ولا تموتُ رُغمَ ذلك .. كلُّها حوادثُ تتقدَّمُ بهذه الكائناتِ إلى سكونٍ وليس إلى اضطرابٍ أو مزيدٍ من الحركة .. إنها الرسالةُ التي ينتظرُها (هرمس) بالصمتِ منذ القصيدة الأولى المفتاحية (بركبةٍ دامية) .. جاءت الرسولةُ بالسكون ، وأدركَ مجيئها رسولُ الآلهة .. نحن بإزاءِ قصيدة الرُّؤيا .. ألهذا لم يُذَيِّلها (هرمس) بسنةِ كتابتِها كبقيةِ القصائد؟! ألِتَظَلَّ متعاليةً على الزمن باسطةً كفَّيها إلى قصائد الديوان علَّ الرؤيا تتحقّق؟!

- (الكلام يحترقُ الكلامُ يذوب): بعد الرُّؤيا تبدأ الصلاة .. يبدأ (هرمس) القصيدةَ بسؤالٍ ذاهبٍ في الغموضِ  "من يا فَوْرةَ النّارِ في النّايْ؟ ".. يُخَيِّلُ إلينا السؤالُ اللحنَ نارًا تشبُّ ذاتَ لحظةٍ في النايِ وتفورُ، ولهذا وجاهتُهُ بالتأكيدِ إذا تمثَّلنا ارتعاشَ اللحنِ وحركاتِهِ وأنصافَ نغماتِهِ المتأخرةَ الزائدةَ عن متنِهِ الأصليِّ Acciaccaturaالتي تشبهُ بالفعلِ ذُؤاباتِ النارِ وشراراتِها المتطايرةَ في كلِّ اتجاه .. ثم يشفع (هرمس) سؤاله بسؤال "مَن يا قطراتها الكوْن" .. تركيبُ السؤالِ منفتحٌ على تأويلَين، فهل يسأل (هرمس) قطراتِ النارِ عن كُنهِ الكونِ ، والكونُ هناعاقل؟ أم أنَّه يسألُ قطراتِ النارِ التي شكّلت الكونَ عن شيءٍ مازالَ مجهولا؟ في الحالَتين يُكرِّسُ هذا التركيبُ المفتوحُ للسؤالَين ، بالإضافةِ إلى تأخير بيانِ المسؤولِ عنهُ العاقلِ ، يُكرّسان غموضًا صوفيًّا ونزوعًا عرفانِيًّا لا يتذرَّعُ بالمألوفِ من التراكيبِ النحويةِ لأنّه يعي مدى مفارقةِ موضوعهِ الذي يسألُ عنه .. فهاهُنا شكلٌ ومضمونٌ مفارقانِ للمألوف يحملُ كلاهُما صاحبَه .. يسترسلُ (هرمس) بعد ذلك في أسئلتهِ المفارقة: "أهيَ فمُكِ الفاغرُ بالعشق/مَتى سوّاكِ الثقيلُ الثقيل/متى الخفيفُ غنّاكِ فجُنَّ/ولماذا نضجَ لحْمي على عينِكِ" .. وهي أسئلةٌ حرص (هرمس) في كتابتِهاعلى ألا يُنهِيَها بعلامة الاستفهام الترقيمية ، ليتركها محتملةً التقرير ومخاتلةَ أداةِ الاستفهام .. إنه يسألُ عن كيانٍ مؤنّثٍ غامضٍ ربّما هو فم النار المفتوح بالعشقِ .. ثُمَّ هو يضيفُ إلينا مجموعةً من التقاريرِ عن هذا الكيانِ ، فقد سوّاهُ الثقيلُ المبالغُ في ثقلِهِ ، وقد غنّاهُ الخفيفُ فجُنّ .. نحن بإزاء لغزٍ مقدّسٍ يحتفي بالنار التي نَضِجَ لحمُ الشاعرِ على عينِها .. ثُمّ يقولُ (هرمس) في مقطعٍ تالٍ: "وأنتِ يا نحلةَ العَسَلْ/ مَا ولَعُكِ في الزهرة / و الزّهرةُ مَا كُفرُها بالخشبِ / و ما هرطقاتُها بالعطر / ومَن يكفّ دلالها عنّي".حيثُ تتضحُ خصيصةٌ أخرى لكتابةِ (هرمس) وهي استيلادُ الأسئلة من أسئلةٍ والسطور من سطور .. ثم يعود (هرمس) ليغازل تيمةَ معاناةِ الإدراكِ ومعرفةِ الحقيقة في قوله: "يا لَونُ فارقتُكَ لأراكَ / يا صَوتُ فارقتُكَ لأسمعَ".يقولُ فيما بعد: "حديثيَ عنكِ أكذوبةٌ فاقطعيني إليكِ / اختمي على اللسانِ كلامَكِ / ليظنّني العابِرُ ساحرًا أو مخبولا". إنها مناجاةٌ في موقفٍ نِفَّرِيٍّ بين يدي كيانٍ مفارقٍ أعظم، حيثُ نكتشفُ أنَّ القولَ بالمعرفةِ حجابٌ دون المعرفة .. إنها صلاةٌ صوفيةٌ أصيلةٌ تنتهي بقولِهِ: "ألا إنَّ الكلامَ احترقَ / ألا إنَّ الكلامَ ذاب" .. إنهاالنارُ قد آتت ثمرتَها في نهاية الصلاةِ ، فاحترقَ الكلامُ/ ذابَ ، وبقيت معرفةٌ عميقةٌ لا يُعبَّرُ عنها بكلام ..

- (أغنية الشاهق العطشان): بعد أن صلّى (هرمس) للنار في القصيدة السابقة ، يغني هنا للماء .. مسرحُ القصيدةِ عربةُ المترو حيث الماءُ مسكوبٌ على أرضيتها النظيفةِ صباحًا، يقرأُ الحكمة .. والماءُ في القصيدةِ هو الذاتُ الشاعرةُ وهو انعكاسُها على العالمِ كذلك .. نلمحُ هذا في قولَي الشاعر:  "يا ماءُ يا مرآةُ/ أراكَ تراني / وتَجلِسُ تقرأُ الحكمةَ / وهُم يتبارزونَ / في الكُتُبِ / تَشربُني عيونُهم / و أسكَرُ".الماءُ في القصيدةِ هو العالَمُ بأسرِهِ متبدّيًا لحِسّ الشاعرِ المختلفِ من خلال عربة مترو ، في المقطع: " المَسكونُ الممسوسُ القاسمُ المَصروعُ
السّائلُ القالِبُ المنقَلبُ العَكُوسُ الشاهقُ العطشانُ" ..
إنه مقطعٌ يتذرَّعُ بوفرةٍ من الأخبار لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ (هو) ، وماذا عسى أن يكون (هُوَ) إلاّ الماءُ؟ فهل يجوز أن يكون الماءُ ذاتُهُ هو العطشان؟؟ نعم ، إن كانت الذاتُ هي العالَمَ وقد سلّم الشاعرُ رُوحَهُ إلى الكون .. إنها مثاليةُ الفيلسوف (شيلنغ) الموضوعيةُ المتصوفةُ التي تعبدُ العالَمَ وتقدسُه ..

- غرباء: أذكرُ ليلةَ ألقى (هرمس) هذه القصيدةَ في النادي الأدبيِّ لساقية الصاوي عام 2006! كُنّا نحنُ – جماعةَ سيميا – قد قررنا أن نقتحمَ لقاء الأدباءِ هناكَ ، وأثارت القصيدةُ ما أثارته من جدلٍ كالعادةِ ، وقرر السيميائيُّون اعتبار مقطعٍ من القصيدةِ شعارًا لجماعتهم: "لسنا جماعةً/حزبًا/عِرقًا. و لا نضمنُ لكمَ ملاجئَ منَ التشيّؤِ الضاربِ في الخارج. ولا من الوعي/العطشِ ، الذي يلعقُ الفراغْ. ولن نبسُطَ أمامَكُمْ رؤيتَنا - رؤانا نفقتْ مذ صرنا . لِذا : لن نساعِدُكُم إن صِرتُمْ مِنّا فقط . . . ستصيرونَ ، ولاشَيء". يقول (هرمس) في مقطعٍ آخرمن نفس القصيدة: " لكلٍ منّا لغةٌ ، وبعضُنا لا لغةَ لهْ .. هكذا لا نكلّمُ غالبًا بعضنا الآخر . وإذا تكلّمنا ، لا نقولُ شيئا!".. إنهم الغرباء الذين يتحدثُ عنهم (هرمس) في قصيدةٍ سابقةٍ فيقولُ عنهم (جوقة القمر المنفرطة) .. غارقونَ في الصمتِ كدأبهِم ، فهو أنشودتُهُم ..

- أغنيةٌ للكلابِ والغُربة: هنا يقفزُ (هرمس) خطوةً أخرى في اتجاهِ الغربة .. يبدأ القصيدةَ باقتباسٍ من (بودلير) عن الكلاب .. لماذا اختار (بودلير) و(هرمس) الكلابَ بين كل الكائنات لتصبح أيقونةً للغربة؟ أظنُّها تلك الأعيُنَ المسكونةَ بشوقٍ عميقٍ إلى الكلامِ ، الكلام الذي لا يطاوعُ الكلابَ إلا نُباحا! نذكر من القصيدة الأولى (بركبةٍ دامية) غناءَ (هرمس) لجيرةِ الرَّكضِ وجُوقةِ القمرِ المنفرطة وهوسِ النُّدرة .. هنا يقولُ: "سأُريالمليحةَ كيفَ في دَمِها عواءٌ لم يُنجَز
/وأمحو الخجلَ عن وجهِ الهلالِ/ سأشيرُ للمُظلِمِ مِنهُ وأعوي". لقد نسيَ (هرمس) أو تناسى جوقةَ القمر المنفرطة ، وشردَ وحيدًا وهو يشيرُ إلى المظلمِ من الهلالِ مواصلاً عُواءَه .. لقد رضيَ الإغراقَ في الوِحدةِ وكأنّما خبا حنينُهُ إلى كلِّ صُحبةٍ من البشر .. لكنَّ وِحدتَهُ لا تلبثُ أن تنخُسَهُ فيحنَّ من جديدٍ لرفيقِ سيرٍ فيقول: "في يومٍ ما سيأنَسُ لي صبيّ مَنذورٌ / ويغنّي معي / سيقبَلُ أن يُؤاخي بينَ الكلاب والشجر / بينَ الذئابِ و المُحيطِ / بينَ الأحذيةِ و القطارات / بينَ الغُرباءِ والغرباء". الرفقةُ المنتَظَرةُ الآنَ مُريدٌ صَبِيٌّ يتفهّمُ سيولةَ العالَمِ ووَحدةَ الوجودِ كما يفهمُها الشاعرُ ، ويرى بقيةَ الغرباءِ بعينٍ محايدةٍ متعاليةٍ فيؤاخي بينهم على اختلافِ أسبابِ غربتِهم .. نحن بإزاءِ غربةٍ على غربةٍ في هذه القصيدة ..ولهذا يختمُ القصيدة بقوله: "أغنّي للرؤية و المشّاء الوحيد/ في ليل الشتاء/ يعدّ الشهب/ ويراجِعُ تاريخَ الندرة !". هذه المراجعةُ لتاريخِ النُّدرةِ تحيلُنا بدورِها إلى قصيدة (بركبةٍ دامية) التي يحيي فيها الشاعرُ (جيرةَ الركضِ وهوسَ النُّدرة) .. فهو هنا يتعالى عليهم وينظرُ إليهم في حيادٍ إلهيٍّ ويغتربُ عنهم إلى أقصى الاغتراب ..
-
كوخٌ فارغ:يختار (هرمس) هنا الكتابةَفي شكل الفقراتِ الطويلةِ نسبيًّا ، مقارنةً بشكل السطور القصيرةِ في القصائد السابقة. ورُبَّما يكونُ هذا مناسبًا لحالةِ المونولوج الذي يلقيهِ على مسامعِ آخرَ يبدو متخيّلاً في القصيدة. كأنما يخاطبُ (هرمس) رُوحَه .. إنه يجابهُ هذا الآخرَ بما يفترضُ أن يكون حقائقَ محبِطةً ويعطيهِ حريتَهُ كما يقول: "القلوبُ تُؤكَلُ أولاً ثُمَّ الأرواحُ تُصَبُّ في الكؤوس، ولكَ ألاّ تسكرَ في ندامتي، ولك أن تقفزَ من النافذةِ ولا تعودَ مرةً أخرى، هل تشعرُ بالإهانةِ؟ وماذا عن وِحدتِكَ الخارقةِ؟ ألستُ أنا أيضًا آكلُ قلبًا وأشربُ روحًا وحيدًا على هذه المائدةِ الأزلية؟."يختم القصيدةَ بقوله: "في هذه الأحيان ستتحولُ روحُكَ لملايينِ الذّرّاتِ، في كبديَ السكران". يعني هذا أنه سيشربُ هذه الرُّوحَ وسيسكرُ بها .. إنها عزلةٌ اختياريةٌ في هذا الكوخِ "يوجدُ كوخٌ من القصبِ يكونُ خاليًا في كلِّ المواسم"،حيثُ يأكلُ الشاعرُ قلبهُ ويشربُ رُوحَهُ حتى يتماهى الرُّوحُ والجسدُ ويحلّ في كبدهِ بالتحديد!

- ترنُّحٌ على سفحِ الأفق: هي القصيدةُ الأطولُ في الديوان، والأعقدُ في بنائها، وهي مُؤرَّخةٌ بعام 2006 ، وغرابتُها تبدأ من عنوانِها .. السفحُ أسفلُ الجبل ، والأفُقُ معنىً يصعبُ تحديدُهُ تمامًا ، إلاّ أنّ (سفح الأفقِ) يفترضُ إحداثِيّاتٍ فانتازيةً يصلُ فيها الشاعرُ إلى منتهى بصرِهِ ، ولمّا كان في الأمرِ ترنُّحٌ ، فإنَّ هذا يعني اضطرابًا عميقًا عصفَ بهذا الواصلِ إلى منتهى بصرِه .. كما أنَّ كلمةَ (سفح) تحملُ بين مدلولاتِها اللُّغَوِيّةِ (السَّفْكَ) ، فحين يُسفَكُ الأفقُ (كأنَّهُ مادةٌ سائلةٌ ظلّت محفوظةً بمكانها زمنًا ثُمَّ أُذِنَ لها أن تنسابَ عُنوة) ، فلابُدَّ أن يترنَّحَ الناظرُ إلى هذا الأفقِ المسفوكِ، وهو ما يحدثُ هنا بالفعل! القصيدةُ مفعمةٌ بالخذلانِ وإحباطِ الجهدِ من السطرِ الأولِ حيثُ يقول: "أبحثُ عنّي  / في أفواهِكم / بينَ تشنجاتِ زوايا شفاهكم / وعلى أرففٍ مغبرّةٍ في أخاديدِ جباهكم / ويعييني البحثُ /فآوي لكفّي / لتعصمني من طوفانِ أبجدياتكم العقيمة / فأغرقُ معكم.أيها المغرقون." إنها بدايةُ اليأسِ من الوصفاتِ الجاهزةِ للمعرفةِ لدى الناس، فلا سبيلَ إلى الحقيقةِ عبرَ كلامهم أو ما يبدو كأنه حكمةُ السنينَ على أرففٍ غابرةٍ في أخاديدِ جباههم ، فينكفئُ الشاعرُ على تأمُّلِ ذاتِهِ ليَخرُجَ من طوفانِ الكلامِ الذي لا يسمن ولا يُغني من جوع .. إنها بدايةُ الرحلةِ الهرمسية لمعرفة الحقيقة ، ولهذا يقولُ في الفقرة التالية: "خذلتمونا/ لازالت السحاباتُ حُبلى لا تلدُ / خذلتمونا/ الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل / خذلتمونا/ ها ثيرانُ الأفقِ تجرّ سواقِيَ وهمّيةً / لم يبقَ منهاسوى الوجعِ / خذلتمونا / وها نحنُ/ نولدُ/ ونموتُ".
لا شيءَ حقيقيًّا يتغيرُ وكأنَّ الرحلةَ إلى المعرفةِ عبرَ حكمةِ الآخرينَ ماهِيَ إلاّ ركضٌ في المكانِ ، فالسحاباتُ حُبلى لا تلد .. يستدعي (هرمس) هنا (امرأَ القيسِ) بلقبِهِ ودورِهِ: " الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل" .. يحتملُ سياقُ القصيدةِ خيبةَ أملٍ عميقةً في تاريخِ الشِّعر كذلك ، فإن كان الشِّعرُ بادّعاءِ عبَدَتِهِ طريقًا لمعرفةِ الحقيقةِ / الوطنِ ، فلا شيءَ تحقّقَ على اليقين .. اتّكأنا على ما قالَهُ الأقدمونَ ولم نعرف ، سلَكنا طريقَهم ولم نَصِل ، فامرؤُ القيسِ أولُ من بكى الأطلالَ مازالَ يتحسّسُ وطنَهُ في كلِّ طلَلٍ إلى الآن . إنها خيبةُ أملٍ عميقة .. يختمُ القصيدةَ بفقرةٍ قاسيةٍ: "ستبترونَ أصابعَكم/ وتقولون: عضّها البرد/ ستسمُلُون عيُونَكم / وتقولون: يريدوننا عُميًا / ستقطعون شرايينَكم/ وتقولون: اليأسُ ساحقٌ/ ستبتلعون ألسنتَكم / وتخرسونَ للأبد".كأنها نبوءةٌ لما سيحدثُ في نهايةِ المطاف .. سييأسُ كلُّ من اتّكأوا على موروثِ المعرفةِ الجاهزِ من متَّكأِهِم ويستسلمونَ للضياع .. أو كأنّها دعوةٌ عليهم لئلاّ يجدوا طريقَ الحقيقةِ أبدًا جزاءً لإضلالِهم السالكينَ إلى المعرفة .. القصيدةُ – برأيي – تحلُّ مكانةً وُسطى بين قصائد الديوانِ ، فكأنَّها مقدمةُ رحلةِ المعرفةِ الحقيقيةِ التي يغنيها (هرمس) فيما بعد ..

 - فصلٌ في اللُّصوصِيَّة: يترك (هرمس) العِنانَ للتداعي الحُرِّ كما يبدو لنا في هذه القصيدة بعد أول بضعة أسطُرٍ حيث يقول: "لا يستقيمُ لديّ البابُ إلا على فتْحهِ بمفتاحهِ| فبآخر فبالكتف وبالمطرقة|إلا فالنوافذُ وقضبان الحبس والحَفْر|لا تترك البابَ مفتوحًا وتمضِ|لن يغلقه الامتنانُ بعدك". فكأنَّهُ يقدم لنا تصوُّرَهُ عن البابِ من خلال متتاليةٍ لعرض وسائلِ فتحه تنتهي بالعُدولِ عن البابِ إلى النوافذِ وقضبان الحبسِ وحفرِ الجدارِ ، ثُمَّ يقدِّمُ نصيحةً أخيرةً للمتلقي: ألاّ يمضيَ إلا بعدَ أن يغلقَ الباب! ثُمَّ يَعدِلُ (هرمس) عن باب القصيدِ إلى النافذةِ ليترُكَ أفكارَهُ الآنِيَّةَ تسرقُ كلُّ فكرةٍ أختَها في تتابُعٍ شديد السرعةِ بعد هذه الفِقرَةِ ، فيُحدثُ مواءمةً مضمونيةً بينَ المقدمةِ المتّسقةِ مع ذاتها وما يليها من تداعٍ حُرٍّ فيقولُ مثلاً: "سيادة شطرنج العالم العام!|البراميلُ تحت الأعمدة|جاهزةٌ للعب|الأبواب مغلّقةُ على رنة قداحتك الجدلية|طيّباتُ التطرّف الآتية من حيث لا تدري من نيران|دم الطريق السريع|كأفكار الهرب|عبر حرائق الفئران |أوالموانئ القريبة | وقطارات الطاعون ". القصيدةُ مثالٌ حَيٌّ على التخلّي عن الاتّكاءِ على القوالبِ الجاهزةِ للتعبيرِ وعلى العدولِ عن سلوك الطرقِ التي عبّدَها الأسلافُ لمعرفةِ الحقيقة .. إنها النموذجُ التعبيريُّ الذي يتفتّقُ عنه بالضرورةِ كلُّ هذا السُّخطِ في قصيدة (ترنُّح على سفح الأفق) ..
- القاهرةُ عشيةَ الثورة:إنها قصيدةٌ عن الثورة! مؤرخةٌ بعام 2007 .. إنها رؤيا قصيرةٌ يقولُ فيها: "هنالك شجرٌ يطيرُ/ شجرٌ كثيرٌ يغادرُ شوارعَ القاهرةِ / أذرعٌ خشبيةٌ مورقةٌ تصعدُ/ أسمعُ أنينًا خشبيًا للجذور المنفلتةِ/ الأرضُ تمطرُ أشجارًا / الأفقُ يتحولَقُ/ الأفقُ مدفعٌ أحمر/ الطيورُ تنوحُ في الأعالي/ والنهرُ يتلوّى". إنها صورةٌ كاملةٌ تبدو مشهدًا سينمائيًّا في فيلم (سيد الخواتم)! ولأنَّ الرؤيةَ المسيطرةَ على الديوانِ رؤيةٌ تقدسُ العالَمَ و(تؤاخي بين غربائهِ) ولا ترى فارقًا عميقًا بين الكائناتِ ، فالناسُ الذين هم وحداتُ كلِّ ثورةٍ هم هنا أشجارٌ تطير .. إنها الثورةُ قادمةً كما تبدّى لوعيٍ أكولٍ للعالَمِ شغوفٍ بهِ كوعي (هرمس) ..
- أغنيةٌ داميةٌ صغيرة: هنا أيضًا نجد المواءمةَ المضمونيةَ بين المقدمة الواضحةِ التعيُّنِ وما يتلوها من سطورٍ حيث يقولُ: "سأكتب قصيدةً تتجاهلُ أحداثَ الساعةِ/ وسأغرقُها بالانفجاراتِ الصُّوَرِيَّةِ والبراكينِ اللغوية". فيما يشبهُ البيانَ الافتتاحِيَّ الذي يلخّصُ برنامجَ الحفلِ القادم! ثُمَّ يقولُ: "أتكلمُ عن الساعةِ اللدِنَةِ، عندما انفجرت رأسيَ الاستشهاديةُ في سوقٍ للخُضارِ/ ووقوفِ صلصتيَ البشريةِ لوهلةٍ في الهواءِ جوارَ أشلاءِ القتلى" .. لقد ورّطنا (هرمس) في أحداثِ الساعةِ الداميةِ لكنَّهُ أعادَ ابتكارَها داخلَ لوحتهِ الشِّعريةِ مُحيلاً قراءَهُ إلى لوحة (الساعات اللدنة) لـ(سلفادور دالي) وهي واحدةٌ من أشهر لوحاتِه .. استدعى (دالي) بأثرِهِ الخالدِ وكان في هذا مواءمةٌ أخرى مع المقدمةِ ، فـ(دالي) في لوحاته (الحرب الأهلية) و(الساعات اللدنة) وغيرهما كان يتجاهلُ أحداثَ الساعةِ ويغرقُ فيها في آنٍ ؛ يفجِّرُ لوحته بالإشاراتِ إلى تلك الأحداثِ لكن بعد أن يخلقها خلقًا آخر .. دعنا نلتفت إلى مواءمةٍ شكليةٍ مضمونيةٍ ثالثةٍ في نفس الفقرةِ ، أعني قولَهُ: "عندما انفجرت رأسي الاستشهاديةُ في سوقٍ للخضار"، فالرأسُ استشهاديةٌ لأنها أتت بلازمةٍ من لوازمِ الاستشهاديين (التفجُّرُ في مكانٍ عامٍّ) ، وهي استشهاديةٌ لأنها استشهدت بلوحةِ (دالي) من طرفٍ خَفِيٍّ، وبهذا نشهدُ بحواسِّنا تلك الانفجاراتِ الصوريةَ والبراكينَ اللغويةَ التي وعدنا بها (هرمس) في مفتتحه ..

- حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماءً:هذا النص هو الأحدثُ مؤرَّخًا بعام 2011.. وهو في رأيي يمثلُ مرحلةً ما بعد نضجِ الرؤيةِ واكتمالِ الغربةِ الذّين تعبر عنهما قصائد مثل (بركبةٍ دامية – أغنيةٌ للكلابِ والغربة) .. إنها مرحلةُ التسليمِ بما هو واقعٌ والاعترافِ بصعوبةِ الإبحارِ في الغربةِ خارجَ الشِّعرِ المجرَّد .. هنا يرصدُ (هرمس) حركةَ الناسِ في الواقعِ ، بل في أشدِّ مواسمِ الواقعِ واقعيةً (إن كانت الواقعيةُ معادلاً نقديًّا للزحامِ والثرثرةِ والعرَق!) فيقول: "في الصيف يمتلئ الشارع بأناس ذهبيين يستطيعون المزاح رغم فداحة الوجود يتبادلون النكات ويمسكون بأطراف الأحاديث فيعقبون السؤال بالرد. أنا أسود وتأتاء ولص نجوم. كلما أردت الكلام انكسرت نجمة وجيوبي مملوءة نجوما مكسرة". لقد عاد رسولُ الآلهةِ إلى الناسِ وخالطهم من جديدٍ ، لكنَّ رحلتَهُ الطويلةَ إلى المعرفةِ تركتهُ كما يصفُ نفسَه: "أسودَ وتأتاءَ ولِصَّ نجوم" .. تلك النجوم المكسورةُ الممتلئُ بها جيبُهُ هي علاماتُ المعرفةِ والاكتمالِ التي أرادَ اصطيادَها لكنَّها لم تستقِمْ لهُ كما أمر .. يقولُ: "حكايتي زرقاءُ وممتلئةٌ بالسيوفِ والدماء" .. إنَّ هذا ما يحدِّثُ به نفسه بعد أن يقطعَ أنه لن يوريَ لامرأةٍ حكايتَه .. لن تصدِّقَ امرأةٌ ما مرَّ بهِ ، فأزرقُ الحكايةِ يشيرُ إلى ذلك الصفاءِ الذي طاردَهُ منذ البدايةِ ، لكنّ السيوفَ والدماءَ انغرزت فيها حتى أنَّه في نهاية الرحلةِ لا يعرفُ إن كان قد حصَّلَ السماءَ أم لم يفعل .. يختم القصيدةَ بقوله: " سأخبُرها أن النجومَ وقعَت من يدي على الأرضِ وانكسرَت فاحتفظتُ بها وأنَّ الكلابَ أحيانًا ما تتبعُني كما أتبعُ البدرَ وأعودُ وحيدًا وقد صادَني النسيمُ مسكونًا بالحَرِّ والملحِ فُأخرجُ النجومَ المكسورةَ من حقِيبتي وأضعُها في كؤوسِ مياهٍ لأراها تنمو مِن جديد". هذا الفعلُ الأخيرُ الذي يستمسكُ من خلالِهِ بأملِ المعرفةِ والاكتمالِ ، حيثُ يضعُ النجوم في كؤوس الماءِ ويرقبُ نموَّها بعد تكسرِها ، هذا الفعلُ هو المؤشِّرُ على ما يأتي ، فرُبَّما يظلُّ رسولُ الآلهةِ عالِقًا في هذه المرحلةِ ، ورُبَّما يجتازُها إلى ما لا نعلم!

-التغريدُ بطريقةِ برايل: القصيدةُ التي تحملُ عنوانَ الديوان .. إنها تشبهُ نواحًا على العالَمِ الغارقِ في زيفِهِ المبتعدِ بالتدريجِ عن منبعهِ الأولِ أو حالِهِ الأولى من النقاء .. رؤيا أپوكاليپسيةٌ لكنّها لا تتنبأُ بنهايةٍ بقدرٍ ما تُخَلِّدُ العالَمَ فيما هو فيهِ الآنَ حيثُ يقولُ (هرمس) متناصًّا مع التراثين الوثنِيِّ والتوحيديٍّ (الموجودِ في الكتبِ السماويةِ) للعالَم: "ولا أجسادَ تصعدُ لتولِّعَ بالغضبِ الأقدسِ نارَ الإكليلِ وتغرسَهُ في الأرضِ/ ويُنادَى: "لم يُنادِ أحدٌ ولم يَقُل أحد"".. إنه ينفي القداسةَ عن الحالِ الراهنةِ للعالَمِ ويُؤَبِّنُ زمنَها الذي كانَ ، فالطيورُ تغردُ الآنَ بطريقةِ برايل ، حيث لم يعد أحدٌ يفهمُ تغريدَها الأول!
  في هذه القصيدةِ يستعينُ (هرمس) بما يُسمَّى في (البديع) القديمِ باتفاقِ الفواصِلِ في قوله: "أشهِدُكَ يا غروبُ أني رأيت الحربَتصرخُ في الشّبابيك/ والموت مكسورًا على عباراته في القلوب/ وأني الصاحي لأسأل عن الوقت/ الواقف لأبادِلَ موتًا بموت/ الماشي لأبقر الصمت". في كلمات (الوقت-موت-الصمت) .. إنه موقفٌ شكليٌّ يتجاوبُ مع الحالِ التي تشبهُ المرثيةَ Lamentationفي العهد القديم ..
- أغنيةٌ تومضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ: هذه التجربة هي الأخرى مؤرّخةٌ بعام 2011 وتنتمي لمرحلة العودة .. "هنالك فقط كومةٌ من ذبولٍ ما أو حفرةٌ من الضبابِ الشفيف، تسببُ لك إحساسًا ساحقًا من شيءٍ ما، ليس الوِحدةَ أو الحُزنَ- الوحدةُ والحزنُ توقفا عن الحدوثِ، أصبحا مِقبَضَين على جانبَي البابِ المؤدِّي إلى الرُّوح". وكذلك: "لا تستطيع تتبع ذكرياتك لنقطة محددة تواطأ فيها الكون- شيخك المزعوم- ضدك؛ ليست هناك لافتات أو مخارج، الوقوف تماما يبدو باردًا و صلدا كالحقيقة، كالموت، حتى الكآبة الصافية، التي شدتك من كمك إلى سهول السماء والمروج والخيال" .. في هاتين الفقرَتَين تركيزٌ لمرحلة العودةِ إلى الواقعِ ، حتى أنَّ ما سبقَ من الرحلةِ يبدو ضبابيًّا وغامضًا وغير محدد المعالِمِ ، فالكونُ شيخُ هرمس المزعومُ (في تكريسٍ لعبادةِ العالَمِ) تواطأ ضدَّهُ وهو لا يستطيع تذكُّرَ بداية إدراكهِ لهذا التواطؤ ..

قراءة في ديوان (التغريد بطريقة برايل) لهرمس - محمد مجدي

$
0
0
قراءةٌ في ديوان (التغريد بطريقة برايل) لهرمس (محمد مجدي)
عِبادةُ العالَم ، ورحلةُ رسولِ الآلِهة

- اختار (محمد مجدي) لنفسه هذا الاسم المستعار الآتيَ من أعماق الأسطورة الإغريقية .. (هرمس) رسولُ الآلهةِ وابنُ (زيوس) ..
- عنوان الديوان عبورٌ على عبورٍ، وقفزٌ على قفز .. طريقة (برايل) هي الكتابةُ البارزةُ التي يُتحايَلُ بها على الحروفِ لكي تصلَ إلى المكفوفين فيدركونها باللمس بديلاً عن الرؤية .. والتغريدُ فعلُ إصاتةٍ محلِّقٌ بينَ الضرورةِ والاختيار .. فالطائرُ المغرِّدُ لا يعرفُ هل غرَّدَ صادرًا عن اختيارهِ الحُرِّ، أم دفعته الظروفُ والأقدارُ إلى التغريدِ ولم يكن أمامه حلٌّ آخَر! وتلقّي فعل التغريدِ يكون بالسَّمع، تلك الحاسّة المرهفةِ المنوطةِ بالمثيراتِ الأكثر أثيريةً ورهافة (موجات الصوت) .. فحين يغرِّدُ (هرمس) بطريقة (برايل) فإنَّهُ يعبرُ بفعلهِ هذا أثيريةَ الصوتِ المُطلَقِ مباشرةً إلى طينيةِ الحرفِ الملموسِ البارز في كتابةِ (برايل)، دون أن يمُرَّ بمرحلة الكتابة غير البارزة المُدرَكَة بحاسة البصر .. إنه يسقطُ سقوطًا مُدَوِّيًا من الأثيرِ إلى الطينِ المحروقِ، ليستطيعَ التواصُلَ مع قارئه .. عنوانٌ قاسٍ، ما من شَكٍّ في هذا، وهو يحملُ سخريتَهُ المريرةَ داخلَهُ ويقبلُها كواقِعٍ، فالعنوانُ كأنهُ يَسِمُ (كتالوجًا) مخصوصًا في إنجازِ مهمةٍ أدائيةٍ بعينِها .. رُبَّما يحاولُ (هرمس) أن يعلمَنا كيف نغرِّدُ نحنُ أيضًا بطريقة برايل!

 * في رأيي أنَّ الديوانَ توثيقٌ لسِتِّ مراحِلَ في رحلةٍ هرمسيةٍ إلى المعرفة والاكتمالِ والحقيقةِ ، ترتبطُ في مرونةٍ بالتأريخِ الزمنيِّ للقصائد ..
    1- فالمرحلةُ الأولى كانت بين الناسِ غارقةً في تفاصيلِ واقعهم إلاّ أنَّ إرهاصاتٍ بوشكِ بدءِ رحلةٍ كانت موجودةً ، ولا يمثِّلُ هذه المرحلةَ إلا قصيدةٌ واحدةٌ هي (مقاطِعُ لصاحبةِ القُبّة) المؤرَّخةُ بعام 2005 ومن الإرهاصاتِ المشارِ إليها قولُهُ لملهمتِهِ في ثنايا القصيدة: "سأقولُ لكِ أنَّ الوجودَ إثمٌ موغِلٌ/ وأذهب" ..
   2-  أما المرحلةُ الثانيةُ فهي السخطُ على هذا الواقعِ والتذمُّرُ بهِ بعد تحقُّقِ الخِذلانِ التامِّ من وسائلِ السابقينَ لتحقيق المعرفةِ والوصولِ إلى الحقيقةِ وتغيير العالَمِ إلى صورتِهِ المثاليةِ الماثلةِ في الوعيِ الشِّعريِّ الجَمعِيّ، ويمثلُ هذه المرحلةَ قصيدةُ (ترنُّحٌ على سفحِ الأفُق) المؤرخة بعام 2006.
   3- والمرحلةُ الثالثةُ لا يمكن برأيي تحديدُ بدايتِها وإن كان من اليسيرِ إدراكُ آثارِها الشِّعريةِ المتفرقةِ في الديوان كقصائدِ (فصلٌ في اللصوصية – القاهرة عشيةَ الثورة – أغنيةٌ داميةٌ صغيرة – الريحُ شَعر الرسولةِ الطويل) فمن بينِ هذه القصائدِ ما يشبهُ نتاجاتٍ ثانويةً للارتحالِ في الذات/العالَم بعيدًا عن مفرداتِ الواقعِ اليوميِّ اللاشِعريِّ، خصوصًا تلك التجاربَ ذاتَ المعمارِ المُحكَم كـ(أغنيةٍ داميةٍ صغيرة)، ومنها ما يمثلُ رُؤيا تعترضُ سبيلَ صاحبِ الرحلةِ أو نبوءةً هرمسيةً كـ(القاهرةِ عشيةَ الثورة) .. وينتمي لهذه المرحلةِ أيضًا قصيدةٌ محوريةٌ في الديوان هي (الكلامُ يحترقُ .. الكلامُ يذوبُ) فهي تجسِّدُ لحظةَ هِزَّةِ اللذَّة Orgasmفي هذه الرحلة .. وهي تمتدُّ في مدىً زمنيٍّ من 2007 إلى 2009 بحسبِ تواريخ القصائد ..
   4- المرحلةُ الرابعةُ هي قربُ نهايةِ الرحلةِ وتحققُ الغُربةِ في قصيدة (بركبةٍ داميةٍ) التي يفتتَحُ بها الديوانُ، ثُمَّ الإيغالُ في الغربةِ كما في قصيدة (أغنيةٌ للكلابِ والغُربة) ..
   5- المرحلةُ الخامسةُ هي كمالُ اليأسِ من تحققِ المعرفةِ واجتلاءِ الحقيقةِ، وتجسدُها قصيدةُ (التغريد بطريقةِ برايل) ..
   6- والمرحلةُ السادسةُ والأخيرةُ تمثِّلُ عودةَ رسولِ الآلهةِ (هرمس) إلى عالمِ الناسِ وجيوبُهُ ملأى بالنجومِ المكسورةِ من رحلتِهِ ، وطولُ الرحلةِ ومقدارُ ما لاقاهُ من عجائبِها أنساهُ بدايتَها ، وتتجسدُ هذه المرحلةُ في قصيدتَي (حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماء) و(أغنيةٌ تومِضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ) المؤرَّختَين بعام 2011 ، وهي رُبَّما تمثِّلُ إرهاصًا بديوانٍ مُقبِلٍ أو مرحلةً انتقاليةً بينَ ديوانٍ تَمَّ وآخَرَ آخذٍ في التشكُّل ..

وفيما يلي، سنحاولُ استعراضَ القصائدِ بشكلٍ أفقيٍّ ونتناسى بشكلٍ جزئيٍّ هذا التصنيفَ المرحليَّ الذي أملَته علينا قراءتُنا:

- (بركبةٍ دامية): يفتتح الشاعر قصيدته بالتبرُّؤِ من الكتابة عن الأشياء حيث يقولُ: "لن أكتبَ عن أي شيء/النمورُ لا تلبس جلود ضحاياها/والصياد واقفٌ على الهواء/لن أكتبَ عن أي شيءٍ/إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسنا/حين تهزّها رائحةُ الجنون."وفي هذا المفتتَحِلعبٌ على الذوقِ الجَمعِيِّ في قوله (النمورُ لا تلبسُ جلودَ ضحاياها) .. نحنُ نعرفُ أنَّ صيادي النمورِ هم الذين يلبسونَ جلودَها، وبالطبعِ لا يلبسُ النمرُ جلدَ ضحيتِه، لكنَّ (هرمس) يوحِّدُ بينَ الأشياءِ بما هي موضوعاتٌ لإدراكِ الشاعرِ من ناحيةِ، وضحايا النمر من ناحية، كما يوحِّدُ ضمنًا بين الشاعرِ وبين النمرِ فالأولُ يفترسُ وعيُهُ الأشياءَ كما يفعلُ الثاني بأسنانه .. هذا التشبيهُ الضمنيُّ كما يُسمَّى في بلاغتنا القديمةِ يفتحُ أعيُنَنا على خاصيةٍ في شعريةِ هرمس؛ هي اكتشافُ معانٍ شديدةِ العُمقِ من خلالِ تأمُّلِ حقائقَ طبيعيةٍ مستهلَكةٍ، وهي الوظيفةُ الشِّعريةُ التي رُبَّما لا يضطلعُ بها على أكملِ وجهٍ إلا التشبيهُ الضِّمنيٌّ الذي يسمو على المفرداتِ ليصلَ إلى تجسيدٍ حيٍّ لصورةٍ متكاملة .. ثم يقفزُ مرةً أخرى في السطر التالي (والصيادُ واقفٌ في الهواء) ليتَّحِدَ بصيادِ النمورِ، الذي افترست رَميتُهُ حياةَ النمرِ، لكنه لم يُهرَع على إثرِ الإصابةِ إلى النمرِ ليأخُذَ جلدَهُ هو الآخَرُ، بل توقفَ (في الهواءِ) متعاليًا على الحدَث .. لقد اصطادَ النمِرَ لكنَّهُ لن يتقمَّصَه .. كما أدرك (هرمس) الأشياءَ وقرَّرَ ألاّ يتقمَّصَها .. وهنا يُراوحُنا (هرمس) بين توحُّدِهِ مع دور النمرِ وتوحُّدِهِ مع دور صائدِ النمِرِ ، مما يُبرِزُ خاصيةً أخرى هامةً في شعرهِ المجموعِ بين دفتي هذا الديوان ، وأعني بها حالةً من المثاليةِ الموضوعيةِ تقتربُ من وَحدةِ الوجود .. الشاعرُ هو النمرُ، وهو صائدُ النمرِ، لا تضارُبَ في ذلك .. هو متوحِّدٌ مع العالَم رغم تصريحِهِ بأنه لن يكتُبَ إلا عن نفسِه. ربما نفسُهُ هي العالَم .. وحين يختم هذا المقطعَ بقولِه: "إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسِنا حين تهزها رائحة الجنون"فهو يدفعُنا إلى تأمُّلِ مدركاتِنا من جديد .. ألها وجودٌ موضوعيٌّ منفصلٌ في النهايةِ عن عمليةِ إدراكِنا؟ أم أنها هلاوسُنا (رائحةُ الجنون) تتجسدُ أمامَنا فلا نملكُ إلا الكتابةَ عنها؟!
  بعد هذه التقدمة يتفرّغ (هرمس) للحديثِ عن نفسِهِ التي قرر ألاّ يتحدثَ إلا عنها، فإذا هو يفاجئنا برَدِّها إلى العالَم، حيث يقول: "قلبي قطعةٌ من اللحم/ ورُوحي أيقونةٌ قديمةٌ ورثتُهاعن الأسلاف/ وعصافيرُ من حُزنٍ حَطَّتْ مبتهجةًَ بلا سبب" .. جُمَلٌ تقريريةٌ قاسيةٌ تثُلُّ عرشَ البلاغةِ القديمةِ في تُؤَدَةٍ لا مبالِيَةٍ ، فالقلبُ محلُّ المشاعرِ عند أجيالٍ من الشعراءِ ما هو إلا قطعةُ لحم ، والرُّوحُ جُمّاعٌ لنماذجَ أوليةٍ Archetypesتشكَّلَت عبرَ أعمار الأسلافِ وليس له فضلٌ ولا مثلبةٌ فيما هي عليه الآن، وهي عصافيرُ مادتُها هي الحزنُ إلاّ أنها حطّت في بهجةٍ غيرِ مُبَرَّرَةٍ، ولعلَّ في هذا تناصًّا بعيدًا مع بيتِ الأخطل الصغير: "يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً. كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا"، فليسَ وراءَ هذه الحركةِ الباديةِ إلا حيادٌ صافٍ متشائم ..
  يقولُ (هرمس) أيضا: "يالَشِقْوتنا يالَجمالِ شِقوَتِنا/فزجاجُ النورِ مكسرٌ في كفوفنا/ونسمي ذلك بالكلمات /فنقولُ الحنينُ ولا نشعرُ بالعار/ نَقولُ الوِحدة/ ولا نتجمدُ لفورِنا".. نمضي مع تسفيهِ أحلامِنا وتكسيرِ أوثاننا إلى هنا، حيثُ يكشفُ لنا (هرمس) عن كُنهِ كلماتِنا التي نتشدّقُ بها ويلصِقُها كلامُنا ببعضها .. إن هِيَ إلاّ وسيطٌ كانَ يُفترَضُ فيه أن يَشِفَّ ما وراءهُ (زجاجُ النور) لكنَّهُ تكسَّرَ وتبعثرَ في كفوفِنا، رُبَّما بابتعادِنا عن ينابيعِ المعاني الأُوَلِ، وبأجيالٍ من المتكلمينَ صنعوا أجيالاً من الإزاحاتِ الدّلاليةِ، ففقدت الكلماتُ علاقاتِها المباشرةَ بالمعاني، لكنّنا موغِلُونَ في العمى، فنقولُ (الحنينُ) ولا نلتفتُ إلى أنَّ محضَ استخدامِ هذه الكلمةِ يفصِلُنا عمّا نحنُّ إليه فلا نشعرُ بعارِ هذا العمى نصفِ الإرادِيِّ ، ونقولُ (الوِحدةُ) ولا يسفعُنا بردُها القارسُ فكأنه لا وِحدةَ هناكَ ، وكيفَ تكونُ الوِحدةُ ونحنُ لم نتجمَّد لفورِنا؟! .. يُسمّي (هرمس) هذه الورطةَ المتمحورةَ حولَ فقدانِ الدوالِّ مدلولاتِها تدريجيًّا: "شِقوةً جميلة" .. هي شِقوةٌ لأنهُ يشعرُ بمعاناتِها وتؤرِّقُهُ، وهي جميلةٌ لأنها توفِّرُ على كلِّ هؤلاء الناسِ فيضًا من مشاعر الإثمِ والجمودِ والعار .. ورطةٌ معرفيةٌ لا ينوءُ بحَملِها إلاّ من أوقعَتهم أقدارُهُم تحتَ نَيرِها!
 بعد ذلك يُهيبُ (هرمس) بالصمتِ أن يَحضُرَ ويعلِّمَ المصطفّين في انتظارِهِ أو في غير انتظارِه: "فتعالَ أيها الصمتُ بأجنحتك وبالمناسر/وعلّمنا لحنك/ووقوفنا أمام الجدار/ومباغتةَ الموسيقا لأعضائنا/و إسرافَنا في السخرية و الموتعلى أنفسِنا" ..الصمتُ هنا طائرٌ جارحٌ كما تدلُّ على ذلك لفظةُ (المناسِر)، وهي تقابلُ (المناقيرَ) للطيور غير الجوارح .. لماذا لجأَ (هرمس) إلى هذه الاستعارةِ المكنية؟! رُبَّما لأنَّ دورَ الصمتِ هنا هو قلبُ الأوضاعِ الراهنةِ التي كرّست الورطةَ المعرفيةَ المُشارَ إليها آنفا .. سينتهكُ الصمتُ بحلولِهِ فينا كلَّ هذا الزيفِ والدوالَّ الفارغةَ وسيعلمنا لحنَه الصادقَ الكئيب، وكيف نقفُ احترامًا أمامَ جدارِ ما لا نعلمُ، غيرَ محاولين اختراقَه ..
  يُكثِرُ (هرمس) من الالتفاتِ في هذه الصلاة! بعد الفقرةِ السابقة مباشرةً يقولُ مخاطبًا جماعةً تظهرُ فجأةً في النَّصّ: "بيتُكُم بعيدٌياجيرةَ الركض/وهوسَ الندرة/يا جوقةَ القمرِ المنفرطة/بيتكم بعيدٌ/وسفينةُ العالم مكسورة."مَن هؤلاء؟ إنهم مَن ضاقوا ذَرعًا كـ(هرمس) بزَيف الكلامِ وخواء الدّوالّ وإحالتِها إلى أنفسها .. إنهم من ينوءون مثلَهُ بذاتِ الورطةِ المعرفية .. إنهم (جيرةُ الرَّكض) نحوَ مثلٍ أعلى جديدٍ ربَّما هو الصمتُ/ السَّوادُ/ الكآبةُ الصافية، وهُم (هَوَسُ النُّدرَةِ) المتفلِّتون من عِقالِ ما تكالَبُ عليه الجموعُ، وهم في النهاية (جوقةُ القمرِ المنفرطةُ) التي تعلَّقَت بهذا الكيانِ المتعالي (القمر) الذي ما إن يكتمِل في فلَكِهِ حتى يعويَ المذءوبونَ وتحيضَ العذارَى ويصدحَ المغنّون .. هم جوقتُهُ الذين يُنشِدون أغانيَهُ إلا أنها جوقةٌ لم تجتمع يومًا في صعيدٍ واحد .. ورغم ذلك فلهم بيتٌ ما لكنَّهُ بعيدٌ وما من وسيلةٍ إليه إلا هذا العالَمُ فهو السفينةُ، لكن لا أملَ في الوصولِ، فالسفينةُ مكسورةٌ، والعالَمُ يدورُ حولَ لُبِّهِ الفارغ ..
  يختم (هرمس) القصيدة بقوله: "لا يحزنني شيءٌ ما/كل ما هنالك/أن الليلَ يأتي مبكرًا/كلما اقتربَ الشتاءُ/فأجلسُ هنا/وأفكرُ أن لي روحًا/بدراجةٍ/وركبةٍ دامية."هنا تمهيدٌ تقريريٌّ يُفضي إلى صورةٍ ختاميةٍ تحملُ عنوان النَّصِّ أخيرا .. يتبرأُ (هرمس) من الحزنِ الذي لا تخطئُهُ الذائقةُ في سطور القصيدةِ، لكنَّه يقرر أنه يجترُّ ظاهرياتِ رُوحِهِ كلّما طال الليلُ مع مقدمِ الشتاء .. تلك الرُّوحُ الطِّفلةُ ذاتُ الدّرّاجةِ والرُّكبةِ التي أدماها اللَّعِب .. استعارةٌ مكنيةٌ جديدةٌ – وعذرًا لمن يكرهون اصطلاحاتِ البلاغةِ القديمة – تُطلِعُنا على معاناةِ هذه الرُّوح التي عرَكَت العالَمَ في طفولتِها حتى دَمِيَت ولم يبقَ لها إلاّ التأمُّلُ في حيادٍ كئيب .. إنهاعاطفةٌ أعمقُ بكثيرٍ من الحزن، ولا يختلجُ الفرحُ والحزنُ وما سواهُما إلاعلى سطحِها الذي لا يدَعُ كثيرين ينفَذُونَ إلى ذلك العُمق.
- (مقاطعُ لصاحبةِ القُبَّة): بعكس القصيدة الأولى ، يغرقُ (هرمس) هنا في تفاصيلِ الحياةِ القاهريةِ بكلِّ محلِّيّتها ، فالفتاةُ التي يُغنّيها تسكنُ قريبًا من (صاحبةِ القُبّة) التي نرجّحُ أنها (السيدةُ زينب) لأنَّهُ يسردُ تفاصيلَ عن حواري (عابدين) الظليلةِ وسوق (الاثنين) .. القصيدةُ صباحيةٌ نؤومٌ إن جازَ التعبيرُ ، فليسَ فيها كآبةُ الليلِ الناضحةُ في القصيدةِ الأولى ، وسرديَّتُها تليقُ بالصباح الذي تتضحُ فيه التفاصيلُ وتشغلُنا كما تشغلُ الشاعرَ عن محاولةِ إدراكِ الكلياتِ والماوراءاتِ كما هو الحالُ في قصيدة (بركبةٍ دامية) ، وهي نؤومٌ كبطلَيها – أعني الشاعرَ وفتاتَهُ المُغنَّاةَ – لأنَّ الذاتَ الشاعرةَ فيها تستسلمُ لحالةٍ من اللامعرفةِ واللاتحدُّد ، ممتزجَين بخدَر الاستيقاظ متأخرًا من النوم .. نلمحُ هذا في تعابيرَ مثل: "وتشابكت أكفنا/لكنني كنتُ غائبًا/في دوائر الضوء
على إسفلتِ حواري عابدين الظليلة."و"وتفاصيل خط الاستواء/الذي عجنكِ بالماء و الشمس/حتى صرتِ فاكهة ًلذيذة/لا أعرف اسمها الاستوائيّ/لكنني أشتهيها."و"تصرّينَعلى ارتباككِ كلما التصقت عيناي بعريكِ الشمسي /عرفتُ شعابَكِ/إلا أنني أكسر بوصلة العرفان/وأسلُكُ متحسسا بداهةَ جسدِكِ /أتوهُ/أصلْ."

- (الرِّيحُ شَعرُ الرسولةِ الطَّويل): القصيدةُ ليلةٌ خريفيةٌ تستدعي لدى القارئِ مأثورًا إسلاميًّا عتيدًا عن ليلةِ القَدر من طرفٍ خَفِيٍّ حيثُ يقولُ (هرمس): "في ليلةٍ خريفيةٍ ينامُ الأطفالُ شبعانين/ تهدأ الكلابُ وتحلَمُ القططُ بالمطرِ/ الأشجارُ التي لا تموتُ واقفةٌ في الريح / الريحُ تلك: شَعرُ رسولةِ طَويل.".. إنها ليلةٌ مفارقةٌ للمألوفِ، رُبَّما فقط في وعي الشاعر، ذلك الوعي الذي اكتشفَ أن الريحَ الخريفيةَ التي تعابثُ الشجرَ الذي لا يموتُ إن هِيَ إلاّ خصلاتُ شَعرٍ : "خصلاتٌ تنسحبُ على جسدي / خصلاتُ الرِّيح / أفتحُ كفّي ممسكًا بكُرَةٍ لا مرئيةٍ من شَعرِها".. ويختم القصيدة القصيرةَ بقوله: "أقولُ: أنا ساحرٌ."فلهذا أدركَ ماهيَّةَ الرِّيح وأمسكَ بكُرَةٍ منها .. فلماذا إذَن هو شَعرُ (رسولة)؟! تلك الكلمةُ التي لم تتكرر كثيرًا في أيِّ سياقٍ أسطوريٍّ أو نبوئِيٍّ في الموروث الثقافيِّ البشريِّ كلِّه؟ الريحُ شَعرٌ طويلٌ لأنثى ، ويكونُ الشَّعرُ عادةً طويلاً في الأنثى دون الذَّكَر! لكنَّ هذه الأنثى تضطلعُ بمهمةٍ جليلةٍ فهي تحملُ رسالةً ما إلى هذه الكائناتِ التي اشتملت عليها القصيدةُ، أعني الأطفالَ والكلاب والقططَ والأشجار .. يشبع أطفالُ القصيدةِ أولاً وينامون، ثُمَّ تهدأ الكلابُ وتستسلم القطط لأحلامِها في السطر الثاني ، ثُمَّ تقفُ الأشجارُ مستسلمةً لعبثِ الريحِ ولا تموتُ رُغمَ ذلك .. كلُّها حوادثُ تتقدَّمُ بهذه الكائناتِ إلى سكونٍ وليس إلى اضطرابٍ أو مزيدٍ من الحركة .. إنها الرسالةُ التي ينتظرُها (هرمس) بالصمتِ منذ القصيدة الأولى المفتاحية (بركبةٍ دامية) .. جاءت الرسولةُ بالسكون ، وأدركَ مجيئها رسولُ الآلهة .. نحن بإزاءِ قصيدة الرُّؤيا .. ألهذا لم يُذَيِّلها (هرمس) بسنةِ كتابتِها كبقيةِ القصائد؟! ألِتَظَلَّ متعاليةً على الزمن باسطةً كفَّيها إلى قصائد الديوان علَّ الرؤيا تتحقّق؟!

- (الكلام يحترقُ الكلامُ يذوب): بعد الرُّؤيا تبدأ الصلاة .. يبدأ (هرمس) القصيدةَ بسؤالٍ ذاهبٍ في الغموضِ  "من يا فَوْرةَ النّارِ في النّايْ؟ ".. يُخَيِّلُ إلينا السؤالُ اللحنَ نارًا تشبُّ ذاتَ لحظةٍ في النايِ وتفورُ، ولهذا وجاهتُهُ بالتأكيدِ إذا تمثَّلنا ارتعاشَ اللحنِ وحركاتِهِ وأنصافَ نغماتِهِ المتأخرةَ الزائدةَ عن متنِهِ الأصليِّ Acciaccaturaالتي تشبهُ بالفعلِ ذُؤاباتِ النارِ وشراراتِها المتطايرةَ في كلِّ اتجاه .. ثم يشفع (هرمس) سؤاله بسؤال "مَن يا قطراتها الكوْن" .. تركيبُ السؤالِ منفتحٌ على تأويلَين، فهل يسأل (هرمس) قطراتِ النارِ عن كُنهِ الكونِ ، والكونُ هناعاقل؟ أم أنَّه يسألُ قطراتِ النارِ التي شكّلت الكونَ عن شيءٍ مازالَ مجهولا؟ في الحالَتين يُكرِّسُ هذا التركيبُ المفتوحُ للسؤالَين ، بالإضافةِ إلى تأخير بيانِ المسؤولِ عنهُ العاقلِ ، يُكرّسان غموضًا صوفيًّا ونزوعًا عرفانِيًّا لا يتذرَّعُ بالمألوفِ من التراكيبِ النحويةِ لأنّه يعي مدى مفارقةِ موضوعهِ الذي يسألُ عنه .. فهاهُنا شكلٌ ومضمونٌ مفارقانِ للمألوف يحملُ كلاهُما صاحبَه .. يسترسلُ (هرمس) بعد ذلك في أسئلتهِ المفارقة: "أهيَ فمُكِ الفاغرُ بالعشق/مَتى سوّاكِ الثقيلُ الثقيل/متى الخفيفُ غنّاكِ فجُنَّ/ولماذا نضجَ لحْمي على عينِكِ".. وهي أسئلةٌ حرص (هرمس) في كتابتِهاعلى ألا يُنهِيَها بعلامة الاستفهام الترقيمية ، ليتركها محتملةً التقرير ومخاتلةَ أداةِ الاستفهام .. إنه يسألُ عن كيانٍ مؤنّثٍ غامضٍ ربّما هو فم النار المفتوح بالعشقِ .. ثُمَّ هو يضيفُ إلينا مجموعةً من التقاريرِ عن هذا الكيانِ ، فقد سوّاهُ الثقيلُ المبالغُ في ثقلِهِ ، وقد غنّاهُ الخفيفُ فجُنّ .. نحن بإزاء لغزٍ مقدّسٍ يحتفي بالنار التي نَضِجَ لحمُ الشاعرِ على عينِها .. ثُمّ يقولُ (هرمس) في مقطعٍ تالٍ: "وأنتِ يا نحلةَ العَسَلْ/ مَا ولَعُكِ في الزهرة / و الزّهرةُ مَا كُفرُها بالخشبِ / و ما هرطقاتُها بالعطر / ومَن يكفّ دلالها عنّي".حيثُ تتضحُ خصيصةٌ أخرى لكتابةِ (هرمس) وهي استيلادُ الأسئلة من أسئلةٍ والسطور من سطور .. ثم يعود (هرمس) ليغازل تيمةَ معاناةِ الإدراكِ ومعرفةِ الحقيقة في قوله: "يا لَونُ فارقتُكَ لأراكَ / يا صَوتُ فارقتُكَ لأسمعَ".يقولُ فيما بعد: "حديثيَ عنكِ أكذوبةٌ فاقطعيني إليكِ / اختمي على اللسانِ كلامَكِ / ليظنّني العابِرُ ساحرًا أو مخبولا". إنها مناجاةٌ في موقفٍ نِفَّرِيٍّ بين يدي كيانٍ مفارقٍ أعظم، حيثُ نكتشفُ أنَّ القولَ بالمعرفةِ حجابٌ دون المعرفة .. إنها صلاةٌ صوفيةٌ أصيلةٌ تنتهي بقولِهِ: "ألا إنَّ الكلامَ احترقَ / ألا إنَّ الكلامَ ذاب" .. إنهاالنارُ قد آتت ثمرتَها في نهاية الصلاةِ ، فاحترقَ الكلامُ/ ذابَ ، وبقيت معرفةٌ عميقةٌ لا يُعبَّرُ عنها بكلام ..

- (أغنية الشاهق العطشان): بعد أن صلّى (هرمس) للنار في القصيدة السابقة ، يغني هنا للماء .. مسرحُ القصيدةِ عربةُ المترو حيث الماءُ مسكوبٌ على أرضيتها النظيفةِ صباحًا، يقرأُ الحكمة .. والماءُ في القصيدةِ هو الذاتُ الشاعرةُ وهو انعكاسُها على العالمِ كذلك .. نلمحُ هذا في قولَي الشاعر:  "يا ماءُ يا مرآةُ/ أراكَ تراني / وتَجلِسُ تقرأُ الحكمةَ / وهُم يتبارزونَ / في الكُتُبِ / تَشربُني عيونُهم / و أسكَرُ".الماءُ في القصيدةِ هو العالَمُ بأسرِهِ متبدّيًا لحِسّ الشاعرِ المختلفِ من خلال عربة مترو ، في المقطع: "المَسكونُ الممسوسُ القاسمُ المَصروعُ
السّائلُ القالِبُ المنقَلبُ العَكُوسُ الشاهقُ العطشانُ" ..
إنه مقطعٌ يتذرَّعُ بوفرةٍ من الأخبار لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ (هو) ، وماذا عسى أن يكون (هُوَ) إلاّ الماءُ؟ فهل يجوز أن يكون الماءُ ذاتُهُ هو العطشان؟؟ نعم ، إن كانت الذاتُ هي العالَمَ وقد سلّم الشاعرُ رُوحَهُ إلى الكون .. إنها مثاليةُ الفيلسوف (شيلنغ) الموضوعيةُ المتصوفةُ التي تعبدُ العالَمَ وتقدسُه ..

- غرباء: أذكرُ ليلةَ ألقى (هرمس) هذه القصيدةَ في النادي الأدبيِّ لساقية الصاوي عام 2006! كُنّا نحنُ – جماعةَ سيميا – قد قررنا أن نقتحمَ لقاء الأدباءِ هناكَ ، وأثارت القصيدةُ ما أثارته من جدلٍ كالعادةِ ، وقرر السيميائيُّون اعتبار مقطعٍ من القصيدةِ شعارًا لجماعتهم: "لسنا جماعةً/حزبًا/عِرقًا. و لا نضمنُ لكمَ ملاجئَ منَ التشيّؤِ الضاربِ في الخارج. ولا من الوعي/العطشِ ، الذي يلعقُ الفراغْ. ولن نبسُطَ أمامَكُمْ رؤيتَنا - رؤانا نفقتْ مذ صرنا . لِذا : لن نساعِدُكُم إن صِرتُمْ مِنّا فقط . . . ستصيرونَ ، ولاشَيء". يقول (هرمس) في مقطعٍ آخرمن نفس القصيدة: "لكلٍ منّا لغةٌ ، وبعضُنا لا لغةَ لهْ .. هكذا لا نكلّمُ غالبًا بعضنا الآخر . وإذا تكلّمنا ، لا نقولُ شيئا!".. إنهم الغرباء الذين يتحدثُ عنهم (هرمس) في قصيدةٍ سابقةٍ فيقولُ عنهم (جوقة القمر المنفرطة) .. غارقونَ في الصمتِ كدأبهِم ، فهو أنشودتُهُم ..

- أغنيةٌ للكلابِ والغُربة: هنا يقفزُ (هرمس) خطوةً أخرى في اتجاهِ الغربة .. يبدأ القصيدةَ باقتباسٍ من (بودلير) عن الكلاب .. لماذا اختار (بودلير) و(هرمس) الكلابَ بين كل الكائنات لتصبح أيقونةً للغربة؟ أظنُّها تلك الأعيُنَ المسكونةَ بشوقٍ عميقٍ إلى الكلامِ ، الكلام الذي لا يطاوعُ الكلابَ إلا نُباحا! نذكر من القصيدة الأولى (بركبةٍ دامية) غناءَ (هرمس) لجيرةِ الرَّكضِ وجُوقةِ القمرِ المنفرطة وهوسِ النُّدرة .. هنا يقولُ: "سأُريالمليحةَ كيفَ في دَمِها عواءٌ لم يُنجَز
/وأمحو الخجلَ عن وجهِ الهلالِ/ سأشيرُ للمُظلِمِ مِنهُ وأعوي". لقد نسيَ (هرمس) أو تناسى جوقةَ القمر المنفرطة ، وشردَ وحيدًا وهو يشيرُ إلى المظلمِ من الهلالِ مواصلاً عُواءَه .. لقد رضيَ الإغراقَ في الوِحدةِ وكأنّما خبا حنينُهُ إلى كلِّ صُحبةٍ من البشر .. لكنَّ وِحدتَهُ لا تلبثُ أن تنخُسَهُ فيحنَّ من جديدٍ لرفيقِ سيرٍ فيقول: "في يومٍ ما سيأنَسُ لي صبيّ مَنذورٌ / ويغنّي معي / سيقبَلُ أن يُؤاخي بينَ الكلاب والشجر / بينَ الذئابِ و المُحيطِ / بينَ الأحذيةِ و القطارات / بينَ الغُرباءِ والغرباء". الرفقةُ المنتَظَرةُ الآنَ مُريدٌ صَبِيٌّ يتفهّمُ سيولةَ العالَمِ ووَحدةَ الوجودِ كما يفهمُها الشاعرُ ، ويرى بقيةَ الغرباءِ بعينٍ محايدةٍ متعاليةٍ فيؤاخي بينهم على اختلافِ أسبابِ غربتِهم .. نحن بإزاءِ غربةٍ على غربةٍ في هذه القصيدة ..ولهذا يختمُ القصيدة بقوله: "أغنّي للرؤية و المشّاء الوحيد/ في ليل الشتاء/ يعدّ الشهب/ ويراجِعُ تاريخَ الندرة !". هذه المراجعةُ لتاريخِ النُّدرةِ تحيلُنا بدورِها إلى قصيدة (بركبةٍ دامية) التي يحيي فيها الشاعرُ (جيرةَ الركضِ وهوسَ النُّدرة) .. فهو هنا يتعالى عليهم وينظرُ إليهم في حيادٍ إلهيٍّ ويغتربُ عنهم إلى أقصى الاغتراب ..
-
كوخٌ فارغ:يختار (هرمس) هنا الكتابةَفي شكل الفقراتِ الطويلةِ نسبيًّا ، مقارنةً بشكل السطور القصيرةِ في القصائد السابقة. ورُبَّما يكونُ هذا مناسبًا لحالةِ المونولوج الذي يلقيهِ على مسامعِ آخرَ يبدو متخيّلاً في القصيدة. كأنما يخاطبُ (هرمس) رُوحَه .. إنه يجابهُ هذا الآخرَ بما يفترضُ أن يكون حقائقَ محبِطةً ويعطيهِ حريتَهُ كما يقول: "القلوبُ تُؤكَلُ أولاً ثُمَّ الأرواحُ تُصَبُّ في الكؤوس، ولكَ ألاّ تسكرَ في ندامتي، ولك أن تقفزَ من النافذةِ ولا تعودَ مرةً أخرى، هل تشعرُ بالإهانةِ؟ وماذا عن وِحدتِكَ الخارقةِ؟ ألستُ أنا أيضًا آكلُ قلبًا وأشربُ روحًا وحيدًا على هذه المائدةِ الأزلية؟."يختم القصيدةَ بقوله: "في هذه الأحيان ستتحولُ روحُكَ لملايينِ الذّرّاتِ، في كبديَ السكران". يعني هذا أنه سيشربُ هذه الرُّوحَ وسيسكرُ بها .. إنها عزلةٌ اختياريةٌ في هذا الكوخِ "يوجدُ كوخٌ من القصبِ يكونُ خاليًا في كلِّ المواسم"،حيثُ يأكلُ الشاعرُ قلبهُ ويشربُ رُوحَهُ حتى يتماهى الرُّوحُ والجسدُ ويحلّ في كبدهِ بالتحديد!

- ترنُّحٌ على سفحِ الأفق: هي القصيدةُ الأطولُ في الديوان، والأعقدُ في بنائها، وهي مُؤرَّخةٌ بعام 2006 ، وغرابتُها تبدأ من عنوانِها .. السفحُ أسفلُ الجبل ، والأفُقُ معنىً يصعبُ تحديدُهُ تمامًا ، إلاّ أنّ (سفح الأفقِ) يفترضُ إحداثِيّاتٍ فانتازيةً يصلُ فيها الشاعرُ إلى منتهى بصرِهِ ، ولمّا كان في الأمرِ ترنُّحٌ ، فإنَّ هذا يعني اضطرابًا عميقًا عصفَ بهذا الواصلِ إلى منتهى بصرِه .. كما أنَّ كلمةَ (سفح) تحملُ بين مدلولاتِها اللُّغَوِيّةِ (السَّفْكَ) ، فحين يُسفَكُ الأفقُ (كأنَّهُ مادةٌ سائلةٌ ظلّت محفوظةً بمكانها زمنًا ثُمَّ أُذِنَ لها أن تنسابَ عُنوة) ، فلابُدَّ أن يترنَّحَ الناظرُ إلى هذا الأفقِ المسفوكِ، وهو ما يحدثُ هنا بالفعل! القصيدةُ مفعمةٌ بالخذلانِ وإحباطِ الجهدِ من السطرِ الأولِ حيثُ يقول: "أبحثُ عنّي  / في أفواهِكم / بينَ تشنجاتِ زوايا شفاهكم / وعلى أرففٍ مغبرّةٍ في أخاديدِ جباهكم / ويعييني البحثُ /فآوي لكفّي / لتعصمني من طوفانِ أبجدياتكم العقيمة / فأغرقُ معكم.أيها المغرقون."إنها بدايةُ اليأسِ من الوصفاتِ الجاهزةِ للمعرفةِ لدى الناس، فلا سبيلَ إلى الحقيقةِ عبرَ كلامهم أو ما يبدو كأنه حكمةُ السنينَ على أرففٍ غابرةٍ في أخاديدِ جباههم ، فينكفئُ الشاعرُ على تأمُّلِ ذاتِهِ ليَخرُجَ من طوفانِ الكلامِ الذي لا يسمن ولا يُغني من جوع .. إنها بدايةُ الرحلةِ الهرمسية لمعرفة الحقيقة ، ولهذا يقولُ في الفقرة التالية: "خذلتمونا/ لازالت السحاباتُ حُبلى لا تلدُ / خذلتمونا/ الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل / خذلتمونا/ ها ثيرانُ الأفقِ تجرّ سواقِيَ وهمّيةً / لم يبقَ منهاسوى الوجعِ / خذلتمونا / وها نحنُ/ نولدُ/ ونموتُ".
لا شيءَ حقيقيًّا يتغيرُ وكأنَّ الرحلةَ إلى المعرفةِ عبرَ حكمةِ الآخرينَ ماهِيَ إلاّ ركضٌ في المكانِ ، فالسحاباتُ حُبلى لا تلد .. يستدعي (هرمس) هنا (امرأَ القيسِ) بلقبِهِ ودورِهِ: "الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل" .. يحتملُ سياقُ القصيدةِ خيبةَ أملٍ عميقةً في تاريخِ الشِّعر كذلك ، فإن كان الشِّعرُ بادّعاءِ عبَدَتِهِ طريقًا لمعرفةِ الحقيقةِ / الوطنِ ، فلا شيءَ تحقّقَ على اليقين .. اتّكأنا على ما قالَهُ الأقدمونَ ولم نعرف ، سلَكنا طريقَهم ولم نَصِل ، فامرؤُ القيسِ أولُ من بكى الأطلالَ مازالَ يتحسّسُ وطنَهُ في كلِّ طلَلٍ إلى الآن . إنها خيبةُ أملٍ عميقة .. يختمُ القصيدةَ بفقرةٍ قاسيةٍ: "ستبترونَ أصابعَكم/ وتقولون: عضّها البرد/ ستسمُلُون عيُونَكم / وتقولون: يريدوننا عُميًا / ستقطعون شرايينَكم/ وتقولون: اليأسُ ساحقٌ/ ستبتلعون ألسنتَكم / وتخرسونَ للأبد".كأنها نبوءةٌ لما سيحدثُ في نهايةِ المطاف .. سييأسُ كلُّ من اتّكأوا على موروثِ المعرفةِ الجاهزِ من متَّكأِهِم ويستسلمونَ للضياع .. أو كأنّها دعوةٌ عليهم لئلاّ يجدوا طريقَ الحقيقةِ أبدًا جزاءً لإضلالِهم السالكينَ إلى المعرفة .. القصيدةُ – برأيي – تحلُّ مكانةً وُسطى بين قصائد الديوانِ ، فكأنَّها مقدمةُ رحلةِ المعرفةِ الحقيقيةِ التي يغنيها (هرمس) فيما بعد ..

 - فصلٌ في اللُّصوصِيَّة: يترك (هرمس) العِنانَ للتداعي الحُرِّ كما يبدو لنا في هذه القصيدة بعد أول بضعة أسطُرٍ حيث يقول: "لا يستقيمُ لديّ البابُ إلا على فتْحهِ بمفتاحهِ| فبآخر فبالكتف وبالمطرقة|إلا فالنوافذُ وقضبان الحبس والحَفْر|لا تترك البابَ مفتوحًا وتمضِ|لن يغلقه الامتنانُ بعدك". فكأنَّهُ يقدم لنا تصوُّرَهُ عن البابِ من خلال متتاليةٍ لعرض وسائلِ فتحه تنتهي بالعُدولِ عن البابِ إلى النوافذِ وقضبان الحبسِ وحفرِ الجدارِ ، ثُمَّ يقدِّمُ نصيحةً أخيرةً للمتلقي: ألاّ يمضيَ إلا بعدَ أن يغلقَ الباب! ثُمَّ يَعدِلُ (هرمس) عن باب القصيدِ إلى النافذةِ ليترُكَ أفكارَهُ الآنِيَّةَ تسرقُ كلُّ فكرةٍ أختَها في تتابُعٍ شديد السرعةِ بعد هذه الفِقرَةِ ، فيُحدثُ مواءمةً مضمونيةً بينَ المقدمةِ المتّسقةِ مع ذاتها وما يليها من تداعٍ حُرٍّ فيقولُ مثلاً: "سيادة شطرنج العالم العام!|البراميلُ تحت الأعمدة|جاهزةٌ للعب|الأبواب مغلّقةُ على رنة قداحتك الجدلية|طيّباتُ التطرّف الآتية من حيث لا تدري من نيران|دم الطريق السريع|كأفكار الهرب|عبر حرائق الفئران |أوالموانئ القريبة | وقطارات الطاعون ". القصيدةُ مثالٌ حَيٌّ على التخلّي عن الاتّكاءِ على القوالبِ الجاهزةِ للتعبيرِ وعلى العدولِ عن سلوك الطرقِ التي عبّدَها الأسلافُ لمعرفةِ الحقيقة .. إنها النموذجُ التعبيريُّ الذي يتفتّقُ عنه بالضرورةِ كلُّ هذا السُّخطِ في قصيدة (ترنُّح على سفح الأفق) ..
- القاهرةُ عشيةَ الثورة:إنها قصيدةٌ عن الثورة! مؤرخةٌ بعام 2007 .. إنها رؤيا قصيرةٌ يقولُ فيها: "هنالك شجرٌ يطيرُ/ شجرٌ كثيرٌ يغادرُ شوارعَ القاهرةِ / أذرعٌ خشبيةٌ مورقةٌ تصعدُ/ أسمعُ أنينًا خشبيًا للجذور المنفلتةِ/ الأرضُ تمطرُ أشجارًا / الأفقُ يتحولَقُ/ الأفقُ مدفعٌ أحمر/ الطيورُ تنوحُ في الأعالي/ والنهرُ يتلوّى". إنها صورةٌ كاملةٌ تبدو مشهدًا سينمائيًّا في فيلم (سيد الخواتم)! ولأنَّ الرؤيةَ المسيطرةَ على الديوانِ رؤيةٌ تقدسُ العالَمَ و(تؤاخي بين غربائهِ) ولا ترى فارقًا عميقًا بين الكائناتِ ، فالناسُ الذين هم وحداتُ كلِّ ثورةٍ هم هنا أشجارٌ تطير .. إنها الثورةُ قادمةً كما تبدّى لوعيٍ أكولٍ للعالَمِ شغوفٍ بهِ كوعي (هرمس) ..
- أغنيةٌ داميةٌ صغيرة: هنا أيضًا نجد المواءمةَ المضمونيةَ بين المقدمة الواضحةِ التعيُّنِ وما يتلوها من سطورٍ حيث يقولُ: "سأكتب قصيدةً تتجاهلُ أحداثَ الساعةِ/ وسأغرقُها بالانفجاراتِ الصُّوَرِيَّةِ والبراكينِ اللغوية". فيما يشبهُ البيانَ الافتتاحِيَّ الذي يلخّصُ برنامجَ الحفلِ القادم! ثُمَّ يقولُ: "أتكلمُ عن الساعةِ اللدِنَةِ، عندما انفجرت رأسيَ الاستشهاديةُ في سوقٍ للخُضارِ/ ووقوفِ صلصتيَ البشريةِ لوهلةٍ في الهواءِ جوارَ أشلاءِ القتلى" .. لقد ورّطنا (هرمس) في أحداثِ الساعةِ الداميةِ لكنَّهُ أعادَ ابتكارَها داخلَ لوحتهِ الشِّعريةِ مُحيلاً قراءَهُ إلى لوحة (الساعات اللدنة) لـ(سلفادور دالي) وهي واحدةٌ من أشهر لوحاتِه .. استدعى (دالي) بأثرِهِ الخالدِ وكان في هذا مواءمةٌ أخرى مع المقدمةِ ، فـ(دالي) في لوحاته (الحرب الأهلية) و(الساعات اللدنة) وغيرهما كان يتجاهلُ أحداثَ الساعةِ ويغرقُ فيها في آنٍ ؛ يفجِّرُ لوحته بالإشاراتِ إلى تلك الأحداثِ لكن بعد أن يخلقها خلقًا آخر .. دعنا نلتفت إلى مواءمةٍ شكليةٍ مضمونيةٍ ثالثةٍ في نفس الفقرةِ ، أعني قولَهُ: "عندما انفجرت رأسي الاستشهاديةُ في سوقٍ للخضار"، فالرأسُ استشهاديةٌ لأنها أتت بلازمةٍ من لوازمِ الاستشهاديين (التفجُّرُ في مكانٍ عامٍّ) ، وهي استشهاديةٌ لأنها استشهدت بلوحةِ (دالي) من طرفٍ خَفِيٍّ، وبهذا نشهدُ بحواسِّنا تلك الانفجاراتِ الصوريةَ والبراكينَ اللغويةَ التي وعدنا بها (هرمس) في مفتتحه ..

- حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماءً:هذا النص هو الأحدثُ مؤرَّخًا بعام 2011.. وهو في رأيي يمثلُ مرحلةً ما بعد نضجِ الرؤيةِ واكتمالِ الغربةِ الذّين تعبر عنهما قصائد مثل (بركبةٍ دامية – أغنيةٌ للكلابِ والغربة) .. إنها مرحلةُ التسليمِ بما هو واقعٌ والاعترافِ بصعوبةِ الإبحارِ في الغربةِ خارجَ الشِّعرِ المجرَّد .. هنا يرصدُ (هرمس) حركةَ الناسِ في الواقعِ ، بل في أشدِّ مواسمِ الواقعِ واقعيةً (إن كانت الواقعيةُ معادلاً نقديًّا للزحامِ والثرثرةِ والعرَق!) فيقول: "في الصيف يمتلئ الشارع بأناس ذهبيين يستطيعون المزاح رغم فداحة الوجود يتبادلون النكات ويمسكون بأطراف الأحاديث فيعقبون السؤال بالرد. أنا أسود وتأتاء ولص نجوم. كلما أردت الكلام انكسرت نجمة وجيوبي مملوءة نجوما مكسرة". لقد عاد رسولُ الآلهةِ إلى الناسِ وخالطهم من جديدٍ ، لكنَّ رحلتَهُ الطويلةَ إلى المعرفةِ تركتهُ كما يصفُ نفسَه: "أسودَ وتأتاءَ ولِصَّ نجوم" .. تلك النجوم المكسورةُ الممتلئُ بها جيبُهُ هي علاماتُ المعرفةِ والاكتمالِ التي أرادَ اصطيادَها لكنَّها لم تستقِمْ لهُ كما أمر .. يقولُ: "حكايتي زرقاءُ وممتلئةٌ بالسيوفِ والدماء" .. إنَّ هذا ما يحدِّثُ به نفسه بعد أن يقطعَ أنه لن يوريَ لامرأةٍ حكايتَه .. لن تصدِّقَ امرأةٌ ما مرَّ بهِ ، فأزرقُ الحكايةِ يشيرُ إلى ذلك الصفاءِ الذي طاردَهُ منذ البدايةِ ، لكنّ السيوفَ والدماءَ انغرزت فيها حتى أنَّه في نهاية الرحلةِ لا يعرفُ إن كان قد حصَّلَ السماءَ أم لم يفعل .. يختم القصيدةَ بقوله: " سأخبُرها أن النجومَ وقعَت من يدي على الأرضِ وانكسرَت فاحتفظتُ بها وأنَّ الكلابَ أحيانًا ما تتبعُني كما أتبعُ البدرَ وأعودُ وحيدًا وقد صادَني النسيمُ مسكونًا بالحَرِّ والملحِ فُأخرجُ النجومَ المكسورةَ من حقِيبتي وأضعُها في كؤوسِ مياهٍ لأراها تنمو مِن جديد". هذا الفعلُ الأخيرُ الذي يستمسكُ من خلالِهِ بأملِ المعرفةِ والاكتمالِ ، حيثُ يضعُ النجوم في كؤوس الماءِ ويرقبُ نموَّها بعد تكسرِها ، هذا الفعلُ هو المؤشِّرُ على ما يأتي ، فرُبَّما يظلُّ رسولُ الآلهةِ عالِقًا في هذه المرحلةِ ، ورُبَّما يجتازُها إلى ما لا نعلم!

-التغريدُ بطريقةِ برايل: القصيدةُ التي تحملُ عنوانَ الديوان .. إنها تشبهُ نواحًا على العالَمِ الغارقِ في زيفِهِ المبتعدِ بالتدريجِ عن منبعهِ الأولِ أو حالِهِ الأولى من النقاء .. رؤيا أپوكاليپسيةٌ لكنّها لا تتنبأُ بنهايةٍ بقدرٍ ما تُخَلِّدُ العالَمَ فيما هو فيهِ الآنَ حيثُ يقولُ (هرمس) متناصًّا مع التراثين الوثنِيِّ والتوحيديٍّ (الموجودِ في الكتبِ السماويةِ) للعالَم: "ولا أجسادَ تصعدُ لتولِّعَ بالغضبِ الأقدسِ نارَ الإكليلِ وتغرسَهُ في الأرضِ/ ويُنادَى: "لم يُنادِ أحدٌ ولم يَقُل أحد"".. إنه ينفي القداسةَ عن الحالِ الراهنةِ للعالَمِ ويُؤَبِّنُ زمنَها الذي كانَ ، فالطيورُ تغردُ الآنَ بطريقةِ برايل ، حيث لم يعد أحدٌ يفهمُ تغريدَها الأول!
  في هذه القصيدةِ يستعينُ (هرمس) بما يُسمَّى في (البديع) القديمِ باتفاقِ الفواصِلِ في قوله: "أشهِدُكَ يا غروبُ أني رأيت الحربَتصرخُ في الشّبابيك/ والموت مكسورًا على عباراته في القلوب/ وأني الصاحي لأسأل عن الوقت/ الواقف لأبادِلَ موتًا بموت/ الماشي لأبقر الصمت". في كلمات (الوقت-موت-الصمت) .. إنه موقفٌ شكليٌّ يتجاوبُ مع الحالِ التي تشبهُ المرثيةَ Lamentationفي العهد القديم ..
- أغنيةٌ تومضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ: هذه التجربة هي الأخرى مؤرّخةٌ بعام 2011 وتنتمي لمرحلة العودة .. "هنالك فقط كومةٌ من ذبولٍ ما أو حفرةٌ من الضبابِ الشفيف، تسببُ لك إحساسًا ساحقًا من شيءٍ ما، ليس الوِحدةَ أو الحُزنَ- الوحدةُ والحزنُ توقفا عن الحدوثِ، أصبحا مِقبَضَين على جانبَي البابِ المؤدِّي إلى الرُّوح". وكذلك: "لا تستطيع تتبع ذكرياتك لنقطة محددة تواطأ فيها الكون- شيخك المزعوم- ضدك؛ ليست هناك لافتات أو مخارج، الوقوف تماما يبدو باردًا و صلدا كالحقيقة، كالموت، حتى الكآبة الصافية، التي شدتك من كمك إلى سهول السماء والمروج والخيال" .. في هاتين الفقرَتَين تركيزٌ لمرحلة العودةِ إلى الواقعِ ، حتى أنَّ ما سبقَ من الرحلةِ يبدو ضبابيًّا وغامضًا وغير محدد المعالِمِ ، فالكونُ شيخُ هرمس المزعومُ (في تكريسٍ لعبادةِ العالَمِ) تواطأ ضدَّهُ وهو لا يستطيع تذكُّرَ بداية إدراكهِ لهذا التواطؤ ..


شوية قرارات بمناسبة السنة الجديدة 2014

$
0
0
شوية قرارات متعلقة بعلاقتي بالنشر ومناقشات أعمالي والتسجيل في التليفزيون والأمسيات الشعرية وخلافه، بمناسبة السنة الجديدة وHabby New Year
(B FOR بليلة):
1- بالنسبة للناشرين اللي انا اتعاملت معاهم في خلال القرن الأخير دا .. فيه ناس نشرت لي مقابل مبلغ دفعته وناس نشرت لي ببلاش .. انا ماعنديش حاجة تانية اقترحها عليكو عشان تزودوا التوزيع أو تنقصوه لأن دي مش شغلتي، فضلاً عن إني ماعنديش وقت للحاجات اللطيفة دي .. (أفضل اني ألعب CLAW ف وقت فراغي) .. لو اللي خدوا فلوس منكو مكتفين بالفلوس دي وقشطة كده، براحتهم، لو عايزين يشتغلوا ع التوزيع، قشطة دي حاجة بتاعتهم برضه .. أنا علاقتي باللي صدر لي انتهت تقريبًا. شوفوا إيه يرحكو أكتر واعملوه .. دا فضلاً عن اللي ماخدوش فلوس اللي همّا ربنا يتولاهم.

2- بالنسبة للشباب الحلو اللي بيشتغلوا معدّين ف برامج ثقافية ف أي قناة تليفزيون أو محطة إذاعية .. لو البرنامج مش هوا، يبقى انا معاك بس لو قلت لي حيذاع امتى تحديدًا، غير كده انا آسف، ضوء الكاميرا بيعمل لي حساسية، وربنا يكفينا شر البلاوي .. دا فضلاً عن إنه المفروض تقول لي معاد برنامجك قبلها بوقت مناسب .. ودي نصيحة عشان مستقبلك المهني والله، أنا مش فارقة معايا خالص بفضل الله.

3- اللي شايف ان ليا عمل صادر ورقيًّا أو غير ورقي يستاهل انه يتناقش، قشطة ماعنديش مشكلة .. ولو عايز تقول لي قل لي وانا اقرر انا حاجي المناقشة دي ولا لأ .. مش شغلتي برضه اني أقنعك بمناقشة عمل أدبي، أو احضّر لك يوم أو احجز لك قاعة .. انت تعامل كده وظبط كل حاجة وقل لي ف الآخر لو عايز .. أظن ماحدش حيزعل من دا، لأنه ماحدش مجبر يعمل أي حاجة .. It's a free country.

4- بالنسبة للأمسيات الشعرية اللي بعييييييييييييييييييييييييييييييييد ويتراح لها بمواصلات وسفر وكده .. الحقيقة انا مش حريص على معظم الحاجات اللي ف العالَم .. فيه ناس حابقى عايز اروح لها وعلى عيني .. بس في المجمَل لو انتا ف آخر الدنيا فاحب أٌقول لك اني ابتداءً من سنة الامتياز ف قصر العيني، المشاوير جابت لي - بعيد عنك الشر - osteoarthritis ، دا غير اني باشتغل ف وزارة الصحة حيث جهاد الكادر اللي بتسمع عنه (واللي انا مش جزء منه والحمد لله) .. فاحتمال ارفض، وماتزعلش والله، المسألة مش شخصية ..
........................................................
ميري كريسماس

قراءتي في ديوان (هذا تأويلُ رُؤياي) للشاعر/ محمد فهمي زكي

$
0
0
التماسُ الرُّؤيا .. قراءةٌ في ديوان (هذا تأويلُ رُؤياي)
للشاعر (محمد فهمي زكي)

   رؤيا مغبَّشَةٌ مختفيةٌ في السماء .. شاعرٌ مفتونٌ بالضوء، ينادي من أجله أسلافَه خلال متن الديوان في قصائدَ مثل (صوت أبي العلاء – حفيد المتنبّي – قصيدةٌ مجهولةٌ لأبي نُواس – ريشةٌ من ورقاء ابن سينا- كروان القرن العشرين – استغاثةٌ بأمير الشعراء)، كما يناديهم في إهداء الديوان (إلى إبراهيم ناجي – يوسف إدريس – محمد المخزنجي) .. لكنَّ تقاطعه مع من يناديهم في الإهداء مزدوجٌ لاحترافهم الطب والأدب مثلَه .. شاعرُنا طبيبُ أمراضٍ باطنةٍ، وفاز ديوانُهُ هذا بالمركز الثاني في مسابقة كتاب (المواهب) التي أعدّها المجلس الأعلى للثقافة في موسم 2012/2013.
   أتى مفتتحُ الديوان اقتباسًا من السونيتة السادسة والسبعين لشيكسپير حيث يقول: "لماذا تبدو قصائدي خاليةً تماماً من البدع الجديدة؟/ شديدةَ البُعد عن التغيرات أو التقلباتِ السريعة؟/ ولماذا لا يتحولُ انتباهي إلى ما يدورُ في زمانِنامن المناهجِ الحديثة، والتراكيبِ الغريبة؟/ لماذا أكتبُ دائماً بنفس الطريقةِ، وأظلُّ كما أنا، محافظاً على صياغةِ الجديد بالطريقةِ المألوفة؟".. لعلَّ اختيارَ (محمد فهمي) لهذه السونيتة بالتحديد يبدو مُبَرّرًا على مستوى الشكل إذا اكتشفنا أنَّ الديوان يشتملُ على اثنتَين وثلاثين قصيدةً تنتمي إجمالاً إلى الشِّعر الموزون، فمنها ثلاثٌ وعشرون قصيدةً عموديةً، وتسعُ قصائد تفعيليةٍ، وقصيدةٌ واحدةٌ تترنّح بين الأسطر المنثورة المسجوعة والأسطر الموزونة .. وقد شهد الديوانُ تنوُّعًا عروضيًّا بين ثمانيةِ أبحُرٍ شعريةٍ هي البسيطُ والوافرُ والكاملُ والسريعُ والمنسرحُ والخفيفُ والمتقاربُ والمتدارَك .. ولعلَّ نداءَ الشاعر لشيكسپير يُعَدُّ امتدادًا لنداءاتِه في الإهداء وفي متن الديوان، كما أنَّ تأكيدَ السونيتة على فَرادةِ صاحبِها فيهِ ما فيهِ من إلماحٍ إلى بحث شاعرِنا عن فَرادةٍ وخصوصيةٍ يحاولُهما بمدِّ جذوره إلى الأسلافِ قبلَ أن يتملَّصَ منهم .. ففي قصيدةِ (صوتِ أبي العلاء) يقولُ متماهيًا مع رهين المَحبسَين: "أبو العلاء معي في كلِّ جارحةٍ/ فرعونُ رُوحي ومصرُ القلبُ والملأُ/ ورُبَّ ميتٍ يعيشُ العمر ثانيةً/ في جسمِ حيٍّ وهذا الكونُ ممتلئُ"، لكنَّه يتملَّصُ منه في قوله: "أين الحقيقةُ يا شيخي وجامعتي؟/ والبئرُ أعمثُ مما يهبطُ الرشَأُ" .. وفي قصيدةِ (حفيدِ المتنبّي) يُبينُ عن ولعٍ بالمتنبّي فيقول: "أتيتُ إليكَ من صحَرا ضلالي/ بِخَيلٍ من فوارسِها خيالي/ بلا مجدٍ ولا شرفٍ رفيعٍ/ سوى شغفٍ مُميتٍ بالمعالي"، ليتملَّصَ منه كذلك في قوله: "أتيتُكَ لا مُريدًا، بل حفيدًا/ وبي أضعافُ ما بكَ من تَعالِي" .. وفي القصيدتَين المذكورتين ينتهي (فهمي) بعد محاولتَي التملُّص هاتين إلى التماهي تمامًا مع أيقونتَي أستاذَيه كما تحققت تمامًا في الوعي الجمعيِّ لجمهور المهتمين بالشِّعر، فمع أبي العلاء يقول آخِرًا: "أبو اللزومِ أنا بيتًا وقافيةً/ إنَّ الشتاتَ دُجى الأرواحِ والصَّدأُ"، ومع المتنبّي: "عليَّ سلامُ موهبتي وليدًا/ ويومَ أموتُ مفقودَ المِثالِ".
   وللهمِّ الوطنيِّ حضورُهُ المباشرُ الكثيفُ في ديوانِ (فهمي)، ففي قصيدةِ (المصيرِ) يخيمُ التشاؤمُ الوطنيُّ عليه حين يقول موجِزًا: "لا تُظهِروا لوعةً ولا أسَفا/ مصيرُ مصرٍ محدَّدٌ سلَفا/ إذ كيف تمضي بلادُنا قُدُمًا/ والكلُّ فِلٌّ ويدَّعي الشرَفا؟!"، وهي القصيدةُ التي يبدو أنَّها كُتِبَت في وقتٍ لاحقٍ على الثورةِ كما يبدو من استخدامِهِ لفظةَ (فِلٍّ) التي تمّ تكريسُها في الخطاب السياسيِّ في أعقاب الثورة .. أما قصيدةُ (بُشرَى الشتاء) المُدرَجةُ في الديوانِ في موقعٍ متأخرٍ عن (المصير) فهي تنتهي إلى التفاؤل والوثوق بالشعبِ ويبدو أنها كُتِبَت أيضًا بعد ثورة يناير لكن في وقتٍ سابقٍ على (المصير) حيثُ يفتتحُها بقوله: "ثلاثون عامًا ونحنُ ظِماءْ/ إلى النورِ والعدلِ والكبرياءْ"ويُنهيها بقوله: "فلا في الشعوبِ أُناسٌ كشعبي/ ولا في الحروفِ كحاءٍ وباء".
   يقعُ شاعرُنا في أخطاء لُغويةٍ في مواضعَ بعينِها من الديوان، ففي البيت الذي ذكرناه من قصيدة (صوت أبي العلاء) يقولُ: "والبئرُ أعمقُ مما يهبطُ الرَّشَاُ" .. والحقُّ أنها صورةٌ بديعةٌ جدًّا جاءت في نوعِ الاستعارةِ التمثيليةِ الذي يتربَّعُ بطبيعة الحالِ على قمةِ هرم البيانِ، حيثُ شبَّهَ استسرارَ الحقيقةِ وتأبّيَها على الانكشافِ بحالةِ البئرِ العميقةِ التي لا تفصحُ عمّا بها من ماءٍ لمن يُدلي بدَلوهِ ويُرخي حبلَهُ إلى نهايته، وتركَ للمتلقّي أن (يشاركَهُ إنتاجَ المعنى) - في مستوىً معيَّنٍ من المشاركة كما يقولُ البلاغيون المُحدَثون – باكتشافِ أوجه الشبه بنفسه بين الحالتين .. لكنّه غالبًا كان يعني (والبئرُ أعمقُ مما يهبطُ الرِّشاءُ)، والرشاءُ هو رسَنُ الدلو أو حبلُهُ كما جاء في لسان العرب، وشتان الفارقُ بين الرشاءِ والرشأِ الذي هو الظبي!
   ومن الأخطاء اللغوية أيضًا قولُهُ في (صوت أبي العلاء): "فاختر طريقكَ وامشِ نحوَ آخرهِ"، حيثُ لا يستقيمُ الوزنُ ببناء فعل الأمر (امشِ) على حذف حرف العِلّة، ولا يستقيمُ النحوُ بإشباعِ ياء الفعلِ (امشي)! ومثلُ هذا الخطأ نجده في قصيدة (رثاء أبي) حيثُ يقول: "لم تنحنِ يومًا لِداءٍ، لم تَهُنْ/ ورأيتَ طوقَ الموتِ طوقَ نجاةِ"، فالوزنُ لا يستقيمُ بجزم الفعل المضارع (تنحني) بحذف حرف العِلّة، والنحوُ لا يستقيمُ بإشباعِه إن كان قالَ (تنحني)!
   أمّا الأخطاءُ العَروضيةُ فهي منتشرةٌ في الديوانِ كذلك، كما في قصيدة (العاشق الجريح) حيثُ يقول: "لماذا لم تقولي لي وداعًا/ أيسلو اللهَ إبليسُ اللعينُ؟/ نهداكِ سوفَ تضمرانِ في غيابي/ وثغرُكِ سوف يهلكُهُ الجنونُ" .. فشطرُ (نهداكِ .... غيابي) مكسورٌ في وضوحٍ يشي بعددٍ من الأخطاءِ، كما لو كان قد قال في الأصلِ "نهودُكِ سوفَ تضمرُ في غيابي"وهو موزونٌ في هذه الصياغةِ، ثم رأى أنَّ للحبيبةِ المخاطَبةِ على الحقيقةِ نهدين فقط، فقالَ (نهداكِ)، فاضطُرَّ هُوَ أو مُراجِعُ الديوانِ قبلَ الطباعةِ أن يُثنِّيَ الفعل فقال: "نهداكِ سوفَ تضمران"!
   أما قصيدةُ (ألف مبروك) فهي تلك المترنحةُ بين الأوزانِ واللاوزن عن غيرِ قصدٍ فيما يبدو لي، وربّما تنتمي هذه القصيدةُ إلى بداية محاولات الكتابة الشعرية الموزونةِ لدى الشاعر .. فالسطرُ الأولُ منسرحٌ أصيلٌ ربما جاءَ معه عرَضًا حيث يقول: "ألفَ مبروكٍ يا بُرجَ قاهِرَتي"، ثم يقول في السطر الثاني: "يا دمع عائلتي الحزينة دون سبب"فيتركُ للقارئ هذا الترنُّحَ المشارَ إليه، وربما تكون هذه القصيدةُ السببَ الوحيدَ الذي قادَ الناقد الدكتور (محمد علي سلامة) إلى أن يقول في كلمته المطبوعة على ظهرِ غلاف الديوان: "وتتراوحُ قصائدُ الديوان بين كل ألوان الشعر التقليدي والتفعيلة والنثرري الحُر"، حيث لا أثرَ لشعرٍ (نثريٍّ حُرٍّ) يمكن تلمُّسُه في الديوان إلاّ هنا، ولا أظنُّه مقصودًا هنا أبدا!
   بقي أن نُشيرَ إلى المعادل التشكيليّ الذي اختاره (أحمد طه) المشرف الفني لسلسلة (كتاب المواهب) للديوان، متمثلاً في لوحة الغلاف الأمامي Hirondelle, Amourأو (السنونوّ، الحُبّ) للتشكيلي الكتالونيّ الأشهر (خُوان ميرو) .. اللوحة تنتمي إلى المرحلة السريالية لـ(ميرو)، وربما تكون واحدةً من اللوحات - القليلةِ نسبيًّا بين أعمال تلك المرحلة من تطوره الفنيّ – المحتفيةِ بزحامٍ من الأشكال والألوان المتقاطعة المتلاقحة على خلفيةٍ شحيحةٍ من الفضاء السماويّ .. ربما كان اختيارًا موفَّقًا يعكسُ زحامَ الأفكارِ المغبَّشَ في هذا الديوان الذي يسعى إلى رؤيا فيتلمّسُ السماءَ، قبلَ أن يتجرّأ الرائي فيبحثَ عن تأويل.
27/9/2014

 

سادنُ الرَّمل .. قراءةٌ تُكَذّبُ نفسَها في ديوان (خالد بودريف)

$
0
0


   ماذا في الرَّمل ليُسدَن؟! هل من قداسةٍ ما؟ هل هي أبديّةُ وجودِهِ ولانهائيّةُ حباتِهِ المتناثرةِ في الصحراء؟ أم هو تفلُّتُهُ من يدِ من يحاول القبضَ عليهِ وحركتُهُ الدائبةُ وصيرورتُهُ المَهيبة؟
   لا يفجأنا (خالد بودريف) في مقدمة ديوانه حين يؤسسُ علاقتَهُ بأسلافهِ- كما هي عادةُ الشعراء - من سدنةِ الكلامِ بإيراد اقتباساتٍ من كلامهم .. يبدأ بمحمود درويش "إذا كان ماضيكَ تجربةً فاجعلِ الغدَ معنىً ورُؤيا" .. وهو الاقتباسُ الأكثرُ تفاؤلاً، حيث يتوسّطُ بشارل بودلير مترجَمًا "أحسُّ برعشةٍ عندما أسمعُ غصنًا واهنًا يسقُط"، ثم ينتهي بتوماس إليوت "الزمنُ الصحيحُ غائبٌ والمكانُ الصحيحُ غائب". كأنَّ رسالةَ (درويش) الساعيةَ لإثباتِ الوجودِ تفقدُ حُمولتَها من الثقة برعشةِ (بودلير) في سماعه سقوطَ الغصن الواهن، ليصل (بودريف) إلى قناعتِهِ اليائسةِ مع رسالة (إليوت)، حيثُ لا سبيلَ إلى إثباتِ وجودٍ حقيقيٍّ طالما أن الزمان الصحيحَ والمكانَ الصحيح غائبان .. لهذا، كان لابُدَّ أن تكون الرسالةُ في حالِها الأخيرةِ سِدانةَ الرَّمل، بما هي اعترافٌ بالضياع في خضم اللانهائيةِ وانجرافٌ حتميٌّ في تيارِ الصيرورة ..
   القسم الأولُ من الديوان (روحُ الصحراءِ) يشتمل على ثلاث قصائد (قافيةٌ لامرأةٍ لم تولد بعدُ) و (سادنُ الرمْلِ) و (بابٌ على الريح/أو: سريالية البُعد الرابع) .. هُنا الشاعرُ مُلقىً في صحرائه .. لا يحاورُها أبدًا وإنما يتحدثُ إلينا عن نفسِه الممزَّقةِ بين انتمائها الصحراويِّ ونزوعِها إلى عالَمِ ما وراءَ الصحراء .. ففي القصيدة الأولى احتياجٌ - لا يسأمُ الشاعرُ من تكرار الإفصاحِ عنهُ – إلى امرأةٍ مستحيلةٍ تستطيعُ انتزاعَهُ من جوف الصحراءِ "أحتاجُ لامرأةٍ بمنتصفِ الربيعِ، لنهرِ أحلامٍ يسيرُ معي على أوتارِ عُودِ الفجرِ ...""أحتاجُ لامرأةٍ تضمُّ ضُلوعَ أتربةِ المكانِ لتُشرقَ الأشجارُ والأطيارُ والأنهارُ في كلِّ النساءِ العاشقاتْ""أحتاجُ لامرأةٍ لِيَعبُرَ مَن معي نهرَ الحياةِ إلى حياةِ النهرِ ...." .. هي امرأةٌ خلاصٌ، ليس له وحدهُ وإنما للجميع، عيدٌ لأولِهِم وآخرِهِم .. وفي القصيدة الثانيةِ التي تحملُ عنوانَ الديوانِ مفتتحٌ عبقريٌّ "تؤكدُ الأرضُ لي أنّي هُنا وَحدي .. وأنَّ مَن هم معي لم يعرفوا قصدي" .. فهو ثانيةً يذكرُ قبيلاً مجهولاً بقوله (مَن مَعي)، وهو يبحثُ لهم عن خلاصٍ في القصيدةِ الأولى، ويبيّن لنا في الثانيةِ نبوَّتَه فيهم التي جحدوها ولم يفهموها .. يفتؤُ يحدثُنا عن نفسِهِ وتاريخِها في الأبياتِ التالية حتى نكاد ننسى ذِكرَ الرملِ والصحراء "أنا الغريبُ وسِرُّ الوقتِ في بدني – وكنتُ أصغرَ طيرٍ في مهبِّ يدِ الريحِ التي علَّقَت صقرًا على غِمدي – مدحتُ طفلاً صغيرًا كان يسكنُني – وكنتُ أحملُ بالُونَ الطفولةِ في .. يدي وكانت دروبُ الشوكِ كالوردِ – وكنتُ أصغرَ طفلٍ.....إلى آخره".. ثم يستيقظُ من سكرتِهِ بنفسه في قوله "الآنَ ما كبُرَت في الرملِ قافيتي .. إلاّ لِتُسبَى جهاتُ الرملِ بالأيدي" .. فهو يعيدُ نَسْبَ نفسه إلى الرملِ، بل وينسبُ إليه شِعرَهُ الذي لم يكن إلا طريقًا ليعرفَ الآخرونَ ما الرملُ ويقبضوا عليه بأيديهم مثلَهُ ويذوقوا مرارةَ تفلُّتِه .. يحاول الشاعرُ قربَ نهايةِ القصيدةِ أن يُوجِدَ مبررًا لذويهِ ليقرأوا ما كتبَ فيقول "لتنهضَ الأمةُ الثكلَى بلا كسلٍ .. لابُدَّ أن تقرأ الأجيالُ ما عِندي – هنا أنا سادنُ الرملِ الذي لعبَت .. به مفاتيحُهُ في الريحِ بالبُعدِ – لمن سأتركُ صحراءً تخرّبُها .. معاولُ المدنِ الخرساءِ كالنهدِ؟!" .. وكأنَّ مفردةَ الصحراءِ في هذه الأبياتِ تخلّت عن دلالتِها الميتافيزيقية بما هي وطنُ الصيرورةِ واللانهائية، لتعودَ إلى دلالتها المباشرةِ في الأطالس الجغرافيةِ علَمًا على ذلك الجزء المترامي الأطرافِ من العالَم العربيّ! ويختتم الشاعر قصيدته بقوله "كرامةُ النفسِ أن أحيا بها معَ مَن .. لا يلعبونَ مع الأوطانِ بالنردِ" .. ألاحِظُ هنا انتقالاً عنيفًا من الصور معقدَة التركيبِ التي يزخر بها النصُّ في بدايته ووسطه - والتي يجنحُ إليها الشاعرُ ليُلقيَ في رُوعِ متلقيهِ إجلالَ المعاني الثواني والظلال الميتافيزيقية لكلامه – إلى لغةٍ بسيطةٍ وصورٍ مستعادةٍ من التراث الشعريّ الكلاسيكيّ الجديد ليربط الجمهور بقصيدته ..
   في القسم الثاني من الديوان (معابرُ على جسرٍ من ورق) والمشتمل على ثلاث قصائد أيضًا (كلُّ شيءٍ ليس لي – أسطورةُ المدينة المغلَقَة – صفحتان على ضفة الصمت) يتخفف الشاعرُ من الحديثِ المُسهبِ عن نفسه الملقاة في الصحراءِ وعن ضميرِ (أنا)، لتأخُذَ الأفعالُ زمامَ الحديثِ فيقول في القصيدة الأولى "حين أصنعُ من جدولٍ ينحني بي على السفحِ حَبلاً – حين أشهدُ مَوتيَ قبلَ غنائي على قبركِ الورقيِّ – حين أمشي على الماء" .. إلى آخر المقاطع .. هي محاولةٌ تبدو حقيقيةً للخروج من الصحراء، لكنَّها محكومةٌ بخيبةِ المسعى التي يجسّدُها الختامُ الرائعُ لقصيدته الثانية (أسطورة المدينة المغلقة) حيث يقول: "إنَّ القصيدةَ تُثمِرُ .. لكنَّ أشكالَ الثمارِ غريبةٌ سوداءْ .. كالفحمِ عادتُهُ متى أشعلتَ جمرتَهُ رمى – بعد انطفاءٍ – فوقَ ماءٍ جُثّةً لا تُزهِرُ" .. وهو ما يتجاوبُ ومفتتحَ القصيدةِ ذاتِها حيث يقول: "لا شيءَ ينتظرُ الغريبَ هُنا، فما هذي المدينةُ في ملابسِها الغريبةِ بين أحبابي سوى أسطورةٍ ملأت بأرصفةِ التشرُّدِ من مقاماتِ التسكُّعِ في حدائقِها اليتيمةِ كوكبًا بالدمعِ والأغلالْ" .. فهو يصادرُ على مطلوبٍ تحاول القصيدةُ إثباتَهُ وتنجَحُ، وهو أنّ المدينةَ التي يحاول مدَّ معابره إليها على الورقِ مغلقةٌ في وجهه لا أمل يُرجَى من ورائها ..
   في القسم الثالث والأخير من الديوان (كتابُ العَراء) ينطقُ الشاعرُ متصالحًا مع صحرائه حتى أنه يتوجهُ بالحديثِ إلى ناسٍ يبدو أنهم هم عينُ مَن قَصَدَهم في القصائدِ الأولى بإشارته (مَن معي)، فيقول في قصيدة (أيُّها الراقدون/ دعوةٌ إلى بناء صروحٍ ممردةٍ بالحكمة): "أيها الراقدون على وطنٍ نائمٍ بين أحضانِ وحشِ لُوِيتانَ – أيها الراقدونْ .. مالكم بين أحلامكم بين أرصفةِ اليأس والمُبتغَى، بين أضرحةِ الموتِ والمُشتَكَى تركُضُون؟ - .... إلخ"، وهو يحتفي بالهمّ العربيّ كما ينبغي لشاعرٍ عُروبيٍّ أن يفعل فيقول:"ليس لي بينكم في الممالكِ عرشٌ لأحكُمَ كيفَ أريدُ .. وكيفَ تريدونَ فالحاكمُ العربيُّ شريدٌ طريدُ"ويقول: "لم تميطوا الأذى عن نساءِ القبيلةِ، عن نهرِكم في الحياةِ" ..
ويُهيبُ بهِم أن يقرأوا ما لديهِم وهو ربما يكون عين ما عنده حين قال في (سادن الرمل): "لابد للأمّة الثكلى ... إلخ) فيقولُ هنا: "ما مررتُم على مدُنِ السهرَورديِّ حيثُ هياكلُ نورٍ تضيءُ الطريقَ لأرواحِكُمْ"ويقول: "ما قرأتُم كتابَ الطواسينِ في بيتِ حلاّجِكُمْ"ويقولُ في القصيدة التالية (سفيرُ الضوء): "اقرأ كتابَكَ مرّةً لتعيرَهُ .. قلبي مضيءٌ لو قرأتَ سُطورَهُ – اقرأ كتابَكَ لا هوامشَ بيننا .. واكتُب لكلِّ القارئين سُرورَهُ – اقرأ متى شئتَ الكتابَ سُويعةً .. إنَّ الكتابَ يَخُطُّ فيكَ مصيرَهُ" .. هي حالةٌ من العودة إلى الصحراءِ/ العَراء بالرُّوحِ واكتشافِ جذور الذات الشاعرةِ الضاربةِ فيها، لكنّها أقربُ إلى الصحراءِ الجغرافيةِ مِن الصحراء الميتافيزيقية التي تحدّثنا عنها أوّلاً، حيثُ لا يسعُنا هنا إلاّ أن نترك إحدى الصحراوين في الظلّ ونُبرزَ الأخرى إلى النور .. ويبدو أنَّ الأمرَ من البدايةِ يتعلّقُ بتلكَ الصحراءِ الجغرافيةِ، وأنّنا قد بنَينا افتراضَنا على وهمٍ تصورناهُ من اقتباساتِ الشاعر في مفتتحِ ديوانِه!
   يؤيدُ هذه النتيجةَ مجيءُ القصيدة الختامية (بقايا البيت القديم) على هذا النحو من الحمولة العاطفية الطافحةِ من الحنينِ إلى المجدِ الذي كانَ، حيث يبدأُها: "مررتُ على البيتِ بيتِ أبي حيثُ كان يقيمُ لأزيَدَ من خمسةٍ وثلاثين عامًا"ويُنهيها: "أصارحُ نفسي وقد غابَ عنّي أبي .. لماذا البناءُ يُصِرُّ على العيشِ في زمنٍ قَصُرَت فيهِ أرواحُنا عن شموخِ المنازلِ رغمَ الوداعِ الأخير؟!" .. هو ديوانٌ دائريُّ البِنيةِ من التمرد على الانتماء لصحراء العروبةِ ومدّ الجسور إلى ما سواها ثم التصالح مع ذلك الانتماء والإغراق في إثبات تجذُّرِهِ في نفس الشاعر. 

محمد سالم عبادة

17/9/2014

لثمُ الأفق (بلسان عباس بن فرناس) - من التجارب الشعرية عام 2014

$
0
0
لثمُ الأفُق
(بلسان عبّاس بن فِرناس)

لوجهِ الأفْقِ ما كان مِن حِلمٍ وطَيشِ     سُفورًا غرّني فاعتمرتُ الشَّوقَ أمشي
أيُغريني بلَثمٍ وما لي من شِفاهٍ؟!     فويلٌ لي كما ينبغي في ظِلِّ عَرشِ
لوجهِ الأفقِ أهديتُ طَيرَ الجَوِّ قَشّي     فراحَت تكتبُ اسمي به في كُلِّ عُشِّ:
عَبوسًا يَذبحُ الفرحةَ الرّعناءَ، يَفدي     بها خَلقًا غريرًا، فواهًا لي/ لكَبشي!
  ألا يا أيُّها الأفقُ ياماءً بعيدًا     سأُغفي فاقترِبْ، سِلْ رحيمًا قُرب رَمشي
وداخِلني كحُلْمٍ، فإنّ الصّحوَ يأتي     فلا يُبقي من الحُلمِ شيئًا غيرَ نقشِ
أنا مِيقاتةُ الماءِ، مسحورٌ بعُمري     أُراهُ عادَ قَبري بتنقيطٍ ونَبشِ
يُناديني لعلّي أُلَبّي، غيرَ أنّي     إذا نُوديتُ للموتِ يُزهَى فِيَّ عَيشي
فأبقى نافِرًا طافرًا حُرًّا قَصِيًّا     غريبًا بربريًّا أتى مِن سربِ وَحشِ
شققتُ الصخرَ يا أفقُ عن رُؤيا زُجاجٍ     لِئَلاّ تُحجَبَنْ عن عيونٍ ذاتِ رَعشِ
وإذ شَفَّ الزجاجُ الكريمُ اهتزَّ قلبي     وأعملتُ الأظافيرَ في خدشٍ وخَمشِ
فغامَ الأفقُ، ياطَيرُ دُلّيني وخُطّي     سبيلاً عَلَّ جَوَّ السّما يَرتدُّ فَرشي
لعلّي أفتدي مِن إسارِ الأرضِ خَطوي     بما أوتيتُ: ديباجَ أشعاري وخَيشي
قِفي يا طَيرُ، رِيشي جَناحَيَّ المَهيضَيـــــنِ من منثورِكِ الآنَ .. ها قد رِشتُ رَيْشي
أنا يا صقرُ صقرٌ دَعتني أبحرُ العِلـــــمِ، صِدتُ الدُّرَّ من حيثُ نُورُ الدُّرِّ يُعشِي
أنا يا أعصَمَ الجَوِّ في قولي غُرابٌ     إذا ما قُلتُ، رَدُّوا بـ(ما هذا) و(أيشِ)!
أنا يابنَ اليَمامِ ابنُ جَدّاتي اليمامـــــاتِ، أرعَى الغارَ مُذ ثارَ بُركانٌ قُرَيْشِيْ!
أنا يا .. ما دهاني؟ لقد حلَّقتُ حتى     ظننتُ الأفقَ في قابِ قوسٍ، يا لَطَيشي
جَناحا الخوفِ والحُلمِ جاشا بي، ورِيشٌ     خيالٌ واهِمٌ، منهُ قد جَيَّشتُ جَيشي
سقطتُ الآنَ، والرِّيشُ مغموسٌ بحِبرٍ     به سالَت جُرُوحي، نبيذِيٍّ كفُحشِي
وخَطَّ الأرضَ في نَقشِ تَذكارٍ لوَهمي     وسُقيا، فانتَشَت منهُ أو مِن فَرطِ دَهْشِي
لوجهِ الأفقِ ما كانَ من ريشٍ لَعوبٍ     بهِ حلَّقتُ في سَكرَتي، إذ طارَ نَعشِي
...
16 /5/ 2014
منشورة في عدد أكتوبر من مجلة (المجلة) الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب


ليلٌ داخليٌّ ونهارٌ مراوغ .. قراءةٌ في ديوان (ليل داخلي نهار خارجي) للشاعر/ نزار شهاب الدين

$
0
0
هو الديوانُ الثاني للشاعر المصريّ (نزار شهاب الدين)، صادرٌ عامَ 2011 بعد (لماذا أسافرُ عنكِ بعيدا؟) الصادرِ عامَ 2007 .. هنا محاولةٌ تتشكَّلُ على استحياءٍ لتأسيسِ عالَمٍ بديلٍ يلائمُ حياةَ الشاعر .. العنوانُ المتناصّ مع لغة كتابة السيناريو تنفتحُ به طاقةٌ من الدّلالاتِ بعد اكتمالِ القراءة الأولى للديوان .. فاستخدامُ مفردتَي الليل والنهارِ في الديوانِ ينسجُ شبكةً مغلقةً شبهَ مكتملةٍ من الرَّمز ..
     يبدأ الديوانُ بقصيدةِ (صباح الوَرد) المهداةِ إلى (نجيب محفوظ) والمؤرَّخةِ بعام 2009، والّتي يفجأنا في بدايتها الشاعرُ بمفارقةٍ دالّةٍ حيثُ يقول: "صباحُكِ يا (صباحَ الوردِ) مربَدُّ .. تُجرِّرُ شمسُهُ العَرجاءُ عُكّازَ أشِعَّتِها لِكَي تَبدُو"، فهُنا صباحُ الوَردِ – الّذي لا نلبثُ أن نعرفَ أنهُ مِصرُ – منطوٍ على ظُلمةٍ أصيلةٍ لدرجةِ أنَّ شمسَهُ تجاهِدُ عجزَها عن أن تضيءَ في استعارةٍ مركَّبةٍ بليغة، ويُعَضِّدُ أصالةَ هذه الظُّلمةِ نهايةُ القصيدةِ حيثُ يقولُ: "صباحُكِ ليلُنا الأبديُّ، ليلُكِ صُبحُنا الدَّمَوِيُّ ..."، فهاهُنا ثَمَّ جدَلٌ بينَ صبحٍ زائفٍ قائمٍ بالفعلِ لا يحملُ إلآّ ظَلامًا يبدو أبديًّا، ولَيلٍ منتظَرٍ رُبَّما ينبلِجُ منهُ نورُ صبحٍ مأمولٍ، لكنّه لن ينبلِجَ إلاّ بغزيرٍ من الدّمِ كما يتبيّنُ من متابعةِ نهاية هذه القصيدة: "سوف يُحطِّمُ الحرفوشُ يومًا رهبة النبُّوتِ ينتزعُ الفتوَّةَ من فِراشِ القصرِ للنطعِ فيطغَى حِقدُهُ العفويُّ ينسِفُ سدَّهُ المَدُّ .. وساعتَها يُقامُ على دماءِ مَن استباحُوا حدَّهُ الحَدُّ." .. والقصيدةُ في مجملِها تُحيلُ إلى عالمِ الحارةِ المصريةِ الّذي تمثَّلَه (محفوظ) في رواياتِه، والّذي يسيرُ دائمًا باتجاهِ انتصارِ المصريِّ المحكومِ المظلوم على الفتوَّةِ الغاصِب ..
     ثُمَّ نجدُ مفردةَ (النهارِ) بعد ذلك في عنوانِ واحدةٍ من أدَلِّ وأجمل قصائدِ الديوان (على حافة النهارِ الآتي)، حيثُ تبدأُ: "راسخُ الحُزنِ مُترَعُ الظلُماتِ .. يَنبُتُ الموتُ من زوايا حياتي/ أتخفّى بين الوجوهِ وأُخفي خِيفَتي في خُرافةِ الضحِكاتِ/ لِيَ ليلانِ: صاخِبٌ فيهِ أحيا .. وجحيميٌّ يحتفي برُفاتي". فالحالُ الرّاهنةُ ليلٌ مُطبِقٌ مُترَعُ الظلُماتِ حتى أنّه متضاعِفٌ إلى لَيلَين أحدُهما صاخبٌ والآخرُ موغِلٌ في الكآبة، وليسَ ثمّةَ بصيصٌ من النهارِ إلاّ حافَةٌ تلوحُ للشاعرِ فتَزهَقُ نفسُهُ وهو يُحاولُها جاهِدًا كما يتبيّنُ من قوله: "خبّئيني فإنني ذُبتُ رُعبًا .. حينَ صافحتُ صفحةَ المرآةِ/ طَهِّريني لقد تعبتُ من الموتِ على حافةِ النهارِ الآتي/ واكتُبيني بغيرِ لَونيَ إنّي .. أسودُ الذّاتِ أسوَدُ اللَّذّاتِ!" ..
   بعدَ ذلك تقابلُنا مفردةُ الليل في عنوانِ قصيدةِ (ليلةٌ بارِدة) حيثُ ليلُها مُطبِقٌ هي الأخرى حتى أنّ الشاعرَ لا يرَى فيها أبعدَ من مشاعرِهِ فيأوي إلى شيءٍ غيرِ محدَّدٍ لا يتبيّنُهُ في شدةِ الظُلمةِ لكنّهُ يستطيعُ تحسُّسَ فراءٍ دفيءٍ يغطّيه فينامُ مستسلمًا لحضنِ هذا (الشيءِ) غير المُدرَك .. تبدأُ القصيدةُ: "أدركتُ أنَّ الوَحشَ نامْ/ فدفعتُ ساقَيَّ المُعَذَّبتَينِ نحوَ البابِ في خوفٍ مشوبٍ بالرّجاءْ/ ومضيتُ والصمتُ المُخيفُ يفوحُ بالآهاتِ بالظلُماتِ من جوفِ الخَواءْ"، إلى أن تنتصفَ القصيدةُ بقوله: "كم أتوقُ إلى فِراشٍ دافئٍ، صدرٍ حنونٍ، يا إلهي! هل تكونُ الأمنياتُ إذا أردنا؟ ليس حلمًا بل فِراءٌ دافئٌ/ أتُراهُ صدرُ الوحشِ أمْ/ أأنامُ في حِضنِ العدُوّْ؟! لكنَّهُ بالدفءِ ينبضْ/ وأنا يُفَتِّتُني الصَّقيعْ"إلى أن يُنهِيَ الصراعَ القصيرَ بين رغبته في النومِ وخوفِهِ من الارتماءِ في حضنِ الوحشِ بقوله: "أسندتُ رأسي فوق صدرِ الشيءِ فانسابَت إلى أذنيَّ أنغامٌ تُهَدهِدُني فنِمتُ". فمنطقُ القصيدةِ يكادُ يحتّمُ أن يكون ذو الفراءِ النائمُ هو الوحشُ الذي تبدأ القصيدةُ في زمنِها الافتراضيِّ بعد نومِه، لكنّ الشاعرَ يستسلمُ لتجهيلِ ذلك النائمِ في الظلامِ واعتبارهِ (الشيءَ) غيرَ المُدرَكِ ليحظى بقسطٍ من الأمانِ وإن كان أمانًا زائفًا في هذه الليلةِ الباردة ..
   ثم تجيءُ مفردةُ (النهار) في القصيدة الختامية (اعتذارٌ إلى النهار) وهي مؤرَّخةٌ بـ(5 فبراير 2011) أي غمار أحداث الثورة المصرية، حيثُ يفتتحُها الشاعرُ: "آهِ يا إخوتي أنا نذلٌ لأني أنامُ هنا بين طفليَّ والأمنُ يقطرُ من زركشاتِ الشراشفِ أغدو صباحًا إلى عملي، قهوتي في يدي، أتفقدُ بعض التفاهاتِ أو تناولُ قطعةَ حلوى بقلبٍ بليدٍ وأفتحُ وقتَ فَراغي كتابَ الوجوهِ لأعرفَ أحدثَ تعدادِ قَتلَى وأرسلَ للأصدقاءِ ملفّاتِ فيديو تصوِّرُكَم تفرِشونَ الدماءَ بساطًا لنا نحوَ حرّيّةٍ لم نقدّم لها غيرَ نقرِ الأصابعِ فوقَ المفاتيحِ"، فهو نهارٌ على وشكِ التحقق بعد انتهاءِ الزمنِ الافتراضيِّ للديوانِ مِن وجهةِ نظرِ شاعرِنا آنذاك ..
     والشاهدُ من القصائدِ المحتفيةِ بمفردتَي الليل والنهار وما في معناهُما في الديوان هو رسوخُ قدمِ الليلِ بكلِّ ما فيهِ من استيحاشٍ وبردٍ وظلُماتٍ بعضُها فوقَ بعضٍ في دخيلةِ نفسِ الشاعرِ من جهةٍ، وفي زمن الديوانِ الافتراضيِّ من جهةٍ أخرى، أمّا النهارُ فهو ذلك المراوغُ فلا نتبيّنُ منهُ إلاّ حافتَهُ في منتصفِ الديوانِ، ثُمَّ يلوحُ في الأفقُ كأنه على وشكِ التحقُّقِ بعد انتهاءِ الديوانِ، فهو بالنسبةِ للديوانِ وشاعرِهِ خارجيٌّ غيرُ أصيلٍ تماما ..
     ثُمّ إننا نجدُ تجلّياتٍ سينمائيّةً لهذا العنوانِ السينمائيِّ في طيّاتِ الديوانِ، على مستوى بعض القصائد المتفرقة المحتفية بلغة الكتابة للسينما، مثل (ندى .. فيلم تسجيلي قصير في ستّ لوحات) و(أبوكِ معي .. لوحةٌ سينمائيّة) و(مسافر .. موسيقى تصويرية) .. وإجمالاً فشاعرُنا يبدو مفتونًا بعالَم الصورةِ الساحرِ، لا سيَّما في الجزء الأخير من قصيدته الطويلةِ (من أوراقٍ مبعثرَةٍ لمسافر) والمُعنوَن (هل تصوّرُني؟) حيثُ يستعرضُ مشهدًا لعاشقَين يلهُوانِ على الشاطئِ والفتى يصوّرُ الفتاةَ (فيديو)، وفي ثنايا القصيدةِ تجيءُ اصطلاحاتُ التعامل مع كاميرا الفيديو: "إيقافُ عَرضٍ مؤقَّتْ – تأكيدُ حذفِ الملفّ"، فيما يشبهُ كسرًا لإيهامِ القصيدةِ وإيقاظًا لمتلقّيها من استسلامه للاتفاق الضمني مع شاعرِنا بخصوص عرض ذلك المشهد المتحرّك، والّذي يُقدَّمُ له في نهايةِ الجزءِ السابقِ من نفس القصيدةِ بالسطرِ الشِّعريّ: "ملفُّ فيديو قديم:..."، فهو هنا أحاطَ هذا الجزءَ الأخيرَ من القصيدةِ بآليّةٍ محكمةٍ لضمانِ خروجِ النّصِّ واعيًا بذاتِه ..
     وفي إطار النص الواعي بذاتِهِ كذلك يستخدمُ آليّةً أخرى في سائرِ أجزاءِ القصيدةِ ذاتِها (من أوراقٍ مبعثرةٍ لمسافر)، ونقصدُ هنا إدراجَ العناوينِ الفرعية للأجزاءِ في الاسترسالِ الموسيقيّ للسطورِ الشِّعرية، فمثلاً: (أسبوعُ شوقٍ ويومانِ:الّتي رحلَتٍ عنها موانِيَّ تَرسُو في صدى صوتي) و(بكَتْ:بكيتُ، بكَت أرقامُنا وبكى الجَوّالُ في يدِنا من شِدَّةِ الموتِ)، و(في صالةِ الإنتظارِ: العاشِقانِ جِوارِي يرشفانِ سَوادَ الشّايِ، سُكَّرُها مُرٌّ كتأشيرَتِهْ) وهكذا .. والأثرُ الناجمُ عن هذه العناوينِ المنفصلةِ المتّصلةِ فيما يبدو هو التجاوُبُ مع مدلول (الأوراق المبعثرة لمسافرٍ) في العنوان الرئيسِ للقصيدةِ، فالأوراقُ المبعثرةُ قد تفتقرُ إلى العنوانِ لكنّ المسافرَ/الشاعرَ في مراجعةٍ للنفسِ قرّرَ أن يكونَ لكلٍّ منها العنوانُ الذي اختارهُ له ..
     وتفترشُ الديوانَ خمسُ قصائدَ طويلةٍ مقسّمَةٍ كلٌّ منها إلى عددٍ من المقطّعاتِ، اختارَ الشاعرُ لها عنوانَ (إبرٌ صينيّة)، فأولاها في الكبِدِ، والثانيةُ في القلب، والثالثةُ في الأذُن والرابعةُ في اللسانِ والخامسةُ في العين .. وإذا علمنا أنّ الإبر الصينيةَ كما استقرّت في الوعي الجمعيِّ وفي الممارسةِ الواقعيةِ هي وسيلةٌ لمجابهةِ الألمِ، أدركنا لماذا يستخدمُها الشاعرُ بين الفينةِ والفينةِ في خضمِّ ظلامِ ليلهِ الداخليِّ المخيِّمِ على زمنِ الديوان .. المجموعةُ الأولى مثلاً من الإبر الصينيةِ مغروزةٌ في الكبِدِ بما هو بيتُ المَرارةِ وبما هو علامةٌ مصريةٌ معتلّةٌ في الحالِ الرّاهنة .. يحاولُ الشاعرُ قطعَ مساراتِ الألمِ الوطنيِّ بإبرهِ الصينيةِ الكبِدِيّةِ في مقطوعة (لبنٌ فاسد): "شيئًا فشيئًا من حنايا القلبِ تنثالُ سُدىً نكهةُ ذاكَ الوطنْ"وفي (والموتُ واحد) بمتوازياتٍ شكلانيّةٍ من التكراراتِ المتمددةِ تدريجيًّا على سطح الصفحةِ البيضاءِ فيقولُ: "يموتُ بعضُنا على الفِراشِ"ثُمَّ في المتوازيةِ التاليةِ: "يموتُ بعضُنا موسَّدًا على الفِراشِ"وفي الثالثة: "يموتُ بعضُنا بسنِّهِ موسَّدًا على الفِراشِ" ..
     فيما يظهَرُ، فالديوانُ ينجحُ في فرضِ زمنه الليليِّ الخاصِّ على القارئِ، ويُشيرُ من بعيدٍ كلَّ حينٍ إلى نهارٍ ما، ظنَّهُ الشاعرُ سيتحققُ ما إن تُطوى دفةُ الديوانِ، وعلى القارئِ أن يُعيدَ القراءةَ بدورِهِ كلَّ حينٍ ليتحقق بنفسهِ إن كان النهارُ قد سطعَ أم انَّهُ مازالَ مطويًّا عنهُ بليلِهِ الداخليّ!
محمد سالم عبادة
15/11/2014
..................
نُشِرَ في (أخبار الأدب) بتاريخ 11 يناير 2015

شطحُ جامعِ التّذاكِر

$
0
0




مُطرقًا كنتُ، ناظرًا في المَصائِرْ    
باغِيًا إن تَدُرْ عليَّ الدوائرْ

الوُرَيقاتُ يضطجِعنَ أمامي    
حاسِراتِ العَوراتِ،
والنّومُ داعِرْ

هُنّ لم يرتسِمْنَ إلاّ لِمامًا    
في منامي،
كأنني لم أُسافِرْ!

ثُمّ أورَينَ عُريَهُنَّ بيَومٍ    
سادِرٍ في اشتهائِهِ للشّواعِرْ

وقديمًا فتَحنَ لي خُطُواتٍ    
وَسَمَت بالرِّغامِ خُرطومَ عاثِرْ!

فاقتربتُ،
اشتممتُ كُلَّ هلاكٍ    
أورَدَتنيهِ كلُّ هذي التّذاكِرْ

وعَرَفنَ المَوسومَ أنفي،
وحَيَّيـــــــنَ بِرَقصٍ لِشاهقٍ ثَمَّ زافِرْ

حافلاتٌ قد كَثّرَتني، فَحَولي    
ألفُ وَحْشٍ لي ما لها من أظافِرْ
تنهشُ المِعطَفَ السّميكَ،
تُعَرّي    
رُوحِيَ الوَغدَ في شِجارٍ عابِرْ!

أيُّ عُمرٍ مُخفَىً لو انَّ بقائي    
طالَ في أيِّها، وأيُّ جَرائِرْ؟!

أفكانَت ستَنهَشُ الوحشُ رُوحي    
عن سَديمٍ مُحايِدِ القَولِ قادِرْ؟!

هاهُنا قد هرَبتُ من أصدقائي    
حِينَ ضاقُوا بشِعرِيَ المُتناثِرْ

حيثُ يَمّمتُ مُستَراحًا قَريبًا    
قُربَ حَبلِ الوريدِ وَهْوَ يُناوِرْ!

يا صَديقي المِرحاضُ دَعني قليلاً    
خابئًا فيكَ دَمعِيَ المُتقاطِرْ

راحِضًا مُقلَتَيَّ من كُلِّ مَرأىً    
ذَرَّ فِيَّ القَذَى وهَبَّ يُغادِرْ

عَلَّني الآنَ ناصِبٌ فيكَ مِنِّي    
جَسَدًا مِنبَرًا يَؤُمُّ المنابِرْ

خُطبَتي في وَداعِ مَن راهَقُوني    
تنفَثُ السُّمَّ،
لا النّواهي الأوامِرْ

أنفثُ السُّمَّ أصدقائِيَ،
حتّى    
لا تَرَوا في المِرحاضِ شَعرَةَ شاعِرْ!

هاهُنا زُرتُ دارَ كُلِّ غريبٍ    
حيثُ يَبغي خَيالَةَ الدّارِ زائِرْ

آبِقًا من سِياطِ واقِعِيَ الفَـــــــــــــجِّ
إلى رُكنٍ تَصطَفيهِ الخَواطِرْ

لَم يَكُنْ زائرٌ لِيَفتَقِدَ الآخَـــــــــــــــــــــــــرَ
والكُرسِيُّ المُدَفَّأُ شاغِرْ!

شاشةَ العالَمِ البَعيدِ،
انظُرِيني    
إنّني نِعمَ الوَغدُ، نِعمَ المُقامِرْ!

انظُريني، إنّي أُحَدِّقُ، هَيّا  .. 
اجذِبيني إلى البِحارِ الزّواخِرْ

ذَوِّبيني في قِصَّةٍ
لا ينالُ الدَّهرُ إلاّ تَكرارَها المُتواتِرْ

هاهُنا الطّائراتُ لَمّا أقَلَّتْني ثقيلاً بما مَعي مِن مَحابِرْ
ثُمَّ ساقَتني مُوثَقًا لِبلادٍ    
مَيِّتٍ حِجرُها على حِجرِ عاهِرْ!

لَيتَها أدرَكَتْ وقد طالَت الرِّحلَةُ
أنَّ السّحابَةَ الحُلمَ عاقِرْ!

رُبَّما كانَت بَدَّدَتني بُخارًا    
راقِصًا في استتارِهِ لا يُجاهِرْ

أَيُّهَذِي الأوراقُ
يا قِطَعَ الرُّوحِ الّذي حِيزَ للسُّيوفِ البَواتِرْ

أعجَبُ الأمرِ ما جَنى ورَقُ التُّوتِ على نَسلِهِ الغَريرِ المُكابِرْ

ساتِرُ العَورَةِ القديمُ أبُو ذُرِّيـــــــَّــــــــةٍ في عَوراتِها لا تُحاذِرْ!

هاهُنا قد شَغَلتُ منكِ إطارًا    
مِن جَثامِينَ لَم تَرُقْها المَقابِرْ

حَولَ إحدى لَوحاتِ فَنّانِ عَصرٍ    
لَم يَرِدْ بَعدُ ذِكرُهُ في الدّفاتِرْ

فاغِرٍ مَأساوِيَّةً من جُنونٍ    
بَينَ طَيّاتِها مَلاهٍ مَساخِرْ

أطبِقي يا أوراقُ عَنِّيَ أجفانَكِ،
إنَّ القصيدَ في اللَّوحِ فاغِرْ!
*         *          *
محمد سالم عُبادة
8/11/2014

الصدقُ والدهشةُ والجُنون .. قراءةٌ في المجموعة القصصية (التحديق في العيون) للقاصّ (إبراهيم عادل)

$
0
0
هي المجموعة القصصية الأولى للكاتب (إبراهيم عادل)، بعد كتابه الأول (المسحوق والأرض الصّلبة) الذي صنّفه بنفسِه كـ(نُصوصٍ) متجاوزًا مفاهيم القوالب الأدبية المتعارَف عليها سنة 2008. والمجموعةُ ممتلئةٌ بدهشةٍ طفوليّةٍ إزاءَ كلّ ما يمُتُّ بصِلةٍ إلى الحدثِ اليوميّ .. فَتارةً تأخذُ هذه الدهشةُ شكلَ رغبةٍ جَمُوحٍ في كسرِ الإيهامِ القصصِيّ، وتارةً شكلَ تماهٍ مع بطلٍ يواجهُ العالَمَ عاريًا من القدرةِ على فهمِ الكذِب، ورُبّما تأخذُ شكلَ تقمُّصٍ للغةِ المَروِيّاتِ التُّراثِيّةِ في سَردِ وقائعَ تنتمي إلى حياتِنا اليومية .. وفي بعضِ القصص لا يبلُغُ الحدَثُ ذِروَةً دراميّةً ما، بل لا يكادُ يتّجهُ إلى تعقُّدٍ من أيّ نوع، ورُبّما يعكِسُ هذا زاويةَ رؤيةٍ يُصِرُّ عليها الكاتبُ، لا يُرَى منها إلاّ سَيّالٌ من التفاصيلِ المتتابعةِ الّتي لا يُفهَمُ منها سببٌ ونتيجةٌ، وهو ما يُذَكِّرُنا بموقف كلٍّ من الأشاعِرَةِ و(ديفيد هيوم) من مشكلةِ العِلّة والمعلولِ، حيثُ ليسَ ثَمَّ إلاّ اقترانٌ بين الأحداثِ جَرَت به العادة ولا شيءَ وراءَه .. ربّما تعبّر عن هذا الموقِفِ فقرةٌ من القصة الافتتاحية (ممارسة إنسانية): "حسنًا .. الأحداثُ من البداية مرتَّبَةٌ بذِهني جيّدًا، أعلمُ أني نسيتُ الماءَ على النار حتى شممتُ رائحةَ احتراقِ البَرّاد، وبعدها وضعتُ الماءَ مرّةً أخرى لسلقِ البطاطس، ثُمّ قمتُ مرةً أخرى على رائحةِ احتراقِها!".. وتسترسلُ القصةُ في التوسّعِ في النسيانِ الذي ينسفُ الأحداثَ ذاتَها فضلاً عن ترتيبِها حتى تتلاشى في النهايةِ الحقيقةُ تمامًا، لا أقولُ الحقيقةُ الموضوعيّةُ لأنّها لا وجودَ لها هنا، وإنّا أعني تلاشيَ أيّ أثرٍ لحقيقةٍ ذاتيّةٍ حتى بتلاشي ذاكرةِ الرّاوي البطل الذي يسألُ في نهاية القصةِ: "أين المشكلة؟ أين أنا الآن؟ أينَ هُم؟؟ هل جئتَ معهم عندي؟"فيردّ الصديق بهدوءٍ: "لا"ويطلُبُ 2 (يَنسُون)، في لفتةٍ بديعيّةٍ - مقصودةِ السذاجةِ فيما يبدو – إلى اتّساعِ النسيان، كمحاولةٍ للسخريةِ من الموقفِ الإنسانيّ برُمّتِه ..
     يتكرّر هذا الموقفُ الشّكّيّ في القصة التالية (ذِراعٌ واحدةٌ طويلة)، لكنّ الأحداثَ هنا قابلةٌ للترتيبِ في اتجاهاتٍ عِدّةٍ وفقَ تفسيراتٍ عِدّةٍ، فالبطلُ الّذي يُجَرِّدُ من نفسِهِ راويًا يتحدثُ إليهِ يسرِدُ وقائعَ ركوبِهِ حافلةً وجلوسِ فتاةٍ بجوارِهِ، ولَعِبِها بهاتفِها المحمولِ ونومِهِ حتى وصولِهِ إلى وِجهَتِه، ثُمّ يفاجئنا في السطرِ الأخيرِ بما يَشي بأنّ الأمرَ كُلّه ربّما كان حلمًا في رأسِ مَغشِيٍّ عليهِ أمامَ سيارةٍ كادَت تدهسُه، وربّما كان حقيقةً انتهَت بأنّه نزل من الحافلةِ وكادت ترتطمُ به سيارة ..
     ربّما تكونُ أنضجُ قصص المجموعةِ معمارًا بحسبِ المعاييرِ التقليديّة لمعمارِ القصّة هي تلك المعنوَنة (بين فيلمٍ ومُظاهَرَة) .. هنا البطلُ (عليّ) يعاني تأخرًا عقليًّا – بحسب تقديم الكاتب – يجعلُهُ يصدّقُ كل ما يراهُ في التلفازِ باعتبارِهِ حقيقةً، وهو واقعٌ تحتَ وصايةِ أخيه الرحيم (عُمَر) الذي ينجحُ جزئيًّا في حلّ هذه المشكلة المزمنة بالتنسيق مع إدارةِ التليفزيون لإرساءِ تعامُلٍ مباشرٍ بين ممثلي المسلسلات والأفلام من ناحيةٍ و(علي) من ناحيةٍ أخرى .. يتعقّدُ الأمرُ تدريجيًّا فيما يشبهُ مواكبةً تاريخيّةً لتطور أداءِ التليفزيون كمؤسسةٍ إعلاميّةٍ، فلا يستطيعُ (علي) اقتراحَ حلولٍ لأزمات الشعوب التي تنقلُها إليه نشراتُ الأخبار مثلاً، قبلَ أن تنفتح القنواتُ الفضائيةُ في طوفانِها المعروف، والذي يؤدي إلى ما تُختتمُ به القصةُ من تفوُّه (علي) بجُمَلٍ تبدو خليطًا من مسلسلاتٍ خليجيةٍ ونشراتِ أخبارٍ ومبارياتِ كرةِ القدَم .. هنا يقدّمُ (إبراهيم عادل) بطلَهُ إنسانًا غيرَ قادرٍ على الكذِب وغير قادرٍ بالتالي على تفهُّمِ ذلك الاتفاقِ الضمنيّ المعروفِ بينَ مقدّمي الفن التمثيليّ ومتلقّيه على تصديقِ حفنةِ الأكاذيبِ المنتميةِ إلى التمثيليةِ مؤقتًا مع استبطانِ حقيقةِ كذبِها .. ويَطرحُ بالتالي من طرفٍ خفيٍّ إشكاليةَ دورِ الكذِب في استمرار وتراكُم وتعقُّد الحضارة، هذا إذا اتفقنا على أنّ الفنّ نتيجةٌ مهمّةٌ ومُعطىً مهمٌّ في الوقتِ ذاتِه للحضارة .. في تقديري أنّ هذه القصةَ هي أكثرُ قصص المجموعةِ تراسُلاً مع عنوانِها، ربّما أكثرَ من القصة حاملةِ نفس العنوانِ (التحديق في العيون) .. هذا لأنّ التحديقَ في العيونِ - بحمولتِهِ الإنسانيّة المعروفةِ من الرغبةِ في تبيُّنِ الصدقِ من الكذِبِ – حاضرٌ بقوّةٍ في هذا النّصّ الذي يلتصقُ فيه البطلُ بشاشةِ عرضِ العالَمِ، لكنّه محرومٌ من نعمةِ فهمِ الكذبِ، حتى ينتهيَ به المطافُ مضطربًا تمامًا قبلَ موتِه، وهي ما يُحيلُنا إلى الحمولةِ الإنسانيةِ الأكثر تطرُّفًا لفعلِ التحديقِ في العيون، وأعني الجُنون .. ربّما يكونُ الصدقُ المطلَقُ طريقًا ممهَّدًا إلى الجنون!
     أمّا في قصصٍ مثل (ثبات نسبيّ) و(الّذي سافرَ وعادَ) فكسرُ الإيهامِ هُنا على أشُدِّه .. ففي الأولى يقطعُ الكاتبُ تيارَ الحكيِ ليتحدثَ إلى القرّاءِ ويحكيَ عن حوارٍ لهُ مع ناشِرِه ويعودَ إلى حكايتِهِ مشيرًا إلى بطلِها بلفظ (البطلِ الافتراضِيّ) وهو ما يقوّضُ الإيهامَ القصصيَّ تمامًا .. وفي الثانيةِ يُراوِحُ بينَ كلامِ البطلِ عن رحلتِهِ إلى أمريكا وكلام ما يبدو أنّه جهازُ أمنِ الدولة، وأخيرًا يُشيرُ إلى ما حُكِيَ باعتبارِهِ قصةً قصيرةً نُشِرَت في عددٍ من الصحفِ والمجلاّت .. هنا تبدو ضراوةُ الحرصِ على كسرِ الإيهامِ مظهرًا آخَرَ من مظاهِرِ الرغبةِ في الصدقِ والدهشةِ من استمرارِ القصِّ وتلقّي القَصَص .. الكاتبُ ببساطةٍ يُحَدِّقُ في عيونِ قُرّائِهِ حتى تنفصِمَ نفسُهُ الكاتبةُ بينَ حكايةٍ وقطعِها والتعليقِ عليها والسخريةِ منها في دائرةٍ لا تنتهي، وهو ما يُفضي بفعلِ التحديقِ هذا إلى طرَفِهِ الأقصى المذكورِ آنِفًا: الجُنون .. 
     لا يفوتُنا أن نشيرَ في النهايةِ إلى هذا الكمّ الفادحِ من الأخطاء اللُّغَوِيّة الواردةِ في المجموعة. فخبرُ (أنّ) المرفوعُ وجوبًا نُصِبَ في قولِهِ "لم يتخيل أبدًا أنهما نقيضَين"في صفحة 28، والمُضافُ في التعبيرِ الشهيرِ (بادئَ ذِي بَدءٍ) ينفصلُ تمامًا عن المضافِ إليه في قوله "بادئًا ذِي بدء"في صفحة 58، والبدلُ المرفوعُ كالمُبدَلِ منهُ نُصِبَ أو جُرَّ في قولِه "روى ابنُ عليٍّ البقّالُ وأحمد ومحمد صاحِبَيه"في صفحة 65، والفاعلُ منصوبٌ في قولِه "لم يعهد عليهِ الكذِبَ أحدًا"في صفحة 66 .. وهكذا! وهو ما يُثيرُ ريبةً مبرَّرةً بشأنِ وجودِ المُراجِع اللُّغَوِيِّ في عملية إخراجِ هذا الكتابِ إلى النُّور!

محمد سالم عبادة

2 مارس 2015

صراعُ اللوحةِ والدراما .. قراءةٌ في ديوان (الأمرُ ليس كما تَظُنُّ) للشاعر العربي السعودي محمد إبراهيم يعقوب

$
0
0

كان إبراهيمُ المازنيُّ يعتقدُ – كما ذكرَ في (حصادِ الهشيم) – أنَّ الشِّعرَ بصفتِهِ جنسًا أدبيًّا ينتمي إلى الدراما بما هي حركةٌ دءوبةٌ تصعدُ من نقطةٍ إلى التي تليها حتى تنتهي إلى غايتِها، وذلك وجهٌ يُبعِدُ الشِّعر عن اللوحة التشكيلية القائمةِ على السكونِ وتثبيتِ الزمن .. طالما حاولَ الشعراءُ إحداثَ تماهٍ بين الشِّعر واللوحة، وكانت النتيجةُ غالبًا – بحسب المازنيِّ كذلك – سقوطًا حتميًّا في فخِّ الدراما، ربّما لأنَّ الشِّعر يصلُ تدريجيًّا إلى المتلقّي وليس دفعةً واحدةً كما يحدثُ في الفنونِ البصريةِ الساكنة.
   يفاجئنا (محمد إبراهيم يعقوب) منذ الأبيات الأولى في ديوانه بأنَّ الأمرَ ليسَ كما نظنّ .. أرى أنّ (يعقوب) ينجحُ إلى درجةٍ بعيدةٍ في الاقتراب بالشِّعر من سكون اللوحة التشكيليةِ مُضَحِّيًا بحركيةِ الدراما .. ولنتأمَّل قولَهُ في القصيدةِ الافتتاحية (سِوَى اعترافِكَ بي): "شغفي بحرفِ الجيمِ إرثٌ من أبي/ كم في الأُبُوَّةِ من ضلالِ طيِّبِ .. شجرُ الكلامِ مكيدةٌ يا سيّدي/ والوقتُ كاللغةِ التي لم تُحطَبِ .. يا طينةَ المعنى الخؤونِ أما ترَى/ مطرًا يَخِفُّ وفكرةً لم تُعشِبِ .. علِّقْ على الفصلِ الأخيرِ مدينةً/ كانت تغنّي للفراغِ المُخصِبِ .. لا تقترحْ طقسًا يُطيلُ نهايتي/ أنا صيغةُ الرّكضِ التي لم تتعَبِ". صحيحٌ أنَّ صورةً كُلّيّةً تتخللُ هذه الأبياتَ وما بعدَها – وهي تعتمدُ على تشبيهِ حالةِ إنتاجِ المعنى التي تستبطنُ الإبداعَ الشِّعريَّ بإنباتِ الزروعِ من الأرضِ – لكنَّها صورةٌ شديدةُ التعقيدِ تروحُ وتجيءُ في اتجاهَي التشبيهِ دون سابقِ إنذارٍ، فالكلامُ شجرٌ يَكيدُ برَوعتِهِ لشاعرِنا فيعزمُ على إنتاجِ شجرِهِ الخاصِّ، والوقتُ الذي يمثّل خلفيةً حتميةً لإنتاجِ المعنى/الزَّرعِ كاللُّغةِ التي تشبهُ بدورِها غابةً بِكرًا لم تُحتَطَب، والمعنى المراوغُ طينةٌ يُقرِّعُها (يعقوبُ) باللوم من طرفٍ خفيٍّ حين يصرّحُ بأنَّ المطرَ يخِفُّ والفكرةَ ظلّت بذرةً كامنةً في باطنِها ولم تُعشِبْ بما يكفي لأن تُفصِحَ عن مكنونِ نفسِ مَن خطرَت له .. ربَّما كان الوقتُ في نظرِ (يعقوب) لغةً بكرًا لم تُحتَطَبْ بعدُ لأنهُ يريدُ أن يملأهُ معانيَ تفصِحُ عن نفسِها في جُمَلٍ حُبلَياتٍ بالرموزِ والأفكارِ، ففعل هذا وكان كلُّ بيتٍ صورةً موغلةً في الهُجنَةِ والتركيبِ، حتى لم يدَعْ موضِعًا في وقتِ القصيدةِ يتّسِعُ لمعنىً آخرَ، فقتلَ هذا الوقتَ، ولا ننسى أنَّ الوقتَ هو خلفيةُ الدراما الحتميةُ، فلمّا ماتَ لم يعد من الممكن أن نقتفيَ أثرَ الحركةِ كما هو في الشِّعرِ خارجَ الديوانِ، فتحوّلت قصيدةُ (يعقوبَ) إلى لوحةٍ ساكنةٍ مليئةٍ بالتفاصيلِ، تُذَكّرُنا بدروس الرسمِ التي تلقَيناها في الصِّغَرِ، حين كانت المُعلّمةُ تُشَدِّدُ على ألاّ نترُكَ مساحةً بيضاءَ في اللوحةِ وأن نملأها تفاصيلَ بقدرِ المستطاع .. هذا ما يحدثُ هُنا! وكأنَّ (يعقوبَ) يميلُ إلى حيلةٍ دفاعيّةٍ - لا واعيةٍ رُبَّما – في قولِهِ: "لا تقترحْ طقسًا ...... لم تتعَبِ"، فهو يتوقعُ أن ينقُدَ أحدُهُم ابتعادَهُ بالشِّعرِ عن الحركيّةِ المعتادةِ التي تركنُ إليها النفسُ، فيردّ عليهِ بأنَّ هذه الحركيةَ ستكونُ طقسًا يؤجّلُ النهايةَ باستمرارِ تدفُّقِ القصيدةِ وهو ما لا يحدثُ هنا حيثُ البيتُ الأولُ كأنهُ موجودٌ مع البيتِ الأخيرِ في نفسِ اللحظة، ويردُّ عن نفسِهِ التهمةَ في ذاتِ الآنِ، فهو راكضٌ من زمانٍ ولم يتعَب، لكنّهُ الآنَ يريدُ للنهايةِ أن توجدَ أمامَ متلقّيهِ مع البدايةِ، ولذا جاءَ البيتُ الأخيرُ: "ساُمَرِّرُ الورَقَ العتيقَ، لَرُبَّما/ هذا البياضُ يقولُ ما لم أكتُبِ!" .. وكأن لا نهايةَ هناكَ لأنَّهُ ليس ثَمَّ بدايةٌ، وكلُّ ما في الأمرِ أن (يعقوبَ) يعترفُ في البيتِ الأخيرِ بأنَّهُ بذلَ ما في وُسعِهِ في (ملء المساحات البيضاء) ولكنَّ الورقَ مازالَ به الكثيرُ من البياضِ، فلعلَّ البياضَ يُفصِحُ عمّا يعتملُ بفكرِهِ أكثرَ ممّا تفعلُ الكتابة.     
   يميلُ (يعقوبُ) في هذا الديوانِ إلى الأبحر الشِّعريةِ الطويلةِ، فمعظمُ القصائدِ جاءَ في البحرين البسيطِ والكاملِ بما يوفّر له مساحةً كبيرةً لتعشيق الصُّوَرِ وتركيبِها في البيتِ الواحدِ كما رأينا في الأبياتِ التي تمّ استعراضُها وكما نرى في أبياتٍ مثل: "نخافُ من شُرفةٍ في الرُّوحِ مُشرَعَةٍ/ على البُكاءِ، عيونٌ هذه الشُّرَفُ .. أنرتقي صخرةَ العِرفانِ؟ موجَعَةٌ/ ظلالُنا أم نرى ما عنهُ ننجرِفُ؟ .. نضيءُ كالحُلمِ، نخفَى رُبّما انتبهَتْ/ غريزةُ الوقتِ، بعضُ الوقتِ يُقترَفُ"في قصيدة (خاتمةٌ لروحٍ مُتعَبَة)، ومثل: "يأسُو على سِيرةِ الأعصابِ مصباحُ/ وتبعثُ الحُبَّ في الأرواحِ أرواحُ .. يا سيِّدَ البيدِ قُم في العُمرِ مُتَّسَعٌ .. واعبُرْ أغانِيكَ، هَمٌّ سوفَ يَنزاحُ"في قصيدة (عُد من تجلِّيك) ..
   وحين يُعرِضُ (يعقوب) عن هذه الأنساقِ الموسيقيةِ إلى أخرى أقصَرَ كما في قصيدة (تفاصيلِ الذي يأتي) المَصوغةِ في مجزوءِ الوافرِ حيثُ يقولُ: "على مَن لم يقِف في الصَّفِ أن لا يَدَّعي وَطَنا .. لِمَن غنَّيتَ؟ لا تَدري/ سبيلُ العارفينَ غِنا .. كمُفردةٍ بلا رئةٍ/ قضَتْ جُدرانُها شَجَنا"، وكما في قصيدةِ (كتابِ الطائرِ العبثيِّ) المصوغةِ في مجزوءِ الكاملِ حيثُ يقولُ: "تبًّا لميراثِ العُروشِ، لبِرِّهِ ولِغَصبِهِ .. وطنٌ بلا أحرارَ تغسِلُهُ انتفاضَةُ شَعبِهِ .. الجائعونَ لهم كلامٌ غيرُ ما نَهذي بهِ .. والقُوتُ خَصمُ الطيّبينَ تورَّطوا في حَربِهِ"، أقولُ حينَ يفعلُ هذا نجدُ الصُّوَرَ أبسطَ كثيرًا ، بل قد تتوارَى في تواضُعِ لتفسِحَ المكانَ لمعنىً (جماهيريٍّ) يَسهُلُ – فيما أعتقِدُ – تسرُّبُهُ إلى الذائقةِ الجمعيةِ باعتبارِهِ حكمةً تتجاوبُ وحاجةَ البُسَطاءِ إلى بعضِ الشِّعرِ، ولا أدَلَّ على هذا الأمرِ من بيتِهِ: "على من لم يقِف في الصفِّ أن لا يدّعي وطَنا".
   أخيرًا نصِلُ إلى القسم الأخيرِ من الديوانِ - وهو جمعٌ من قصائدِ البيتِ الواحدِ لكلٍّ منها اسمٌ – سمّاهُ يعقوبُ (وَخَزاتٍ)، بعنوانٍ فرعيٍّ محتشدٍ بالتركيبِ الصُّورِيِّ، وهو (تُرَّهاتٌ نُسَمّي روائحَها مُتَّكأَ) .. من هذه القصائدِ شديدةِ القِصَرِ قولُهُ في (يقين): "آمنتُ بالصفحةِ البيضاءِ تغسِلُني/ من الخطايا، فكانت لذّتي ألَمي"، وفي (مَدَد): "بعيدونَ لا برزَخٌ لا صِراطُ/ أليسَ لهذا الغيابِ انفِراطُ؟"وفي (لُغة): "أُقايِضُ أخطائي بماذا؟ أنا أنا/ كأنّي على بابِ الكلامِ أُضيءُ". هنا تتجلّى جماليّةُ البيتِ الواحدِ عند (يعقوبَ) وتثيرُ سؤالاً عن مشروعيةِ إدراجِ قصائده الأطولِ في الديوان – كالقصيدة الافتتاحية (سِوَى اعترافِكَ بي) – ضمنَ الشِّعرِ العربيِّ القائمِ على وحدةِ البيتِ فيما قبلَ ثورةِ الرومانسيّين ومدرسةِ الديوان في مطلعِ القرن العشرين .. أعني أننا إذا حاوَلنا تبديلَ بيتٍ مكانَ بيتٍ في تلك القصيدةِ واطّرَدنا في هذه اللُّعبةِ التي مارسَها (العقّادُ) مع (شَوقيٍّ) في مرثيّته لـ(مصطفى كامل)، فأظنُّ أننا سننجحُ إلى حدٍّ كبير .. وفي رأيي المتواضعِ أنَّ حلقةً مفرغةً من النسقِ الموسيقيِّ الطويلِ والمساحةِ الزمنيةِ الكبيرةِ بالتالي - والتي تُحَرِّضُ على تعشيق الصُّوَر والإمعانِ في تركيبِها - هذه الحلقةُ كفيلةٌ بأن تجعلَ من البيتِ الشِّعريِّ وَحدةً للقصيدةِ العموديةِ قائمةً بذاتِها وفي غير حاجةٍ إلى ما يكملُها من فوقِها أو من تحتِها، ناهيكَ عن جَرْسِ القافيةِ الرّتيبِ الذي يختمُ البيتَ في شُعور المتلقّي، والّذي طالما أُشيرَ إليه في معرِضِ نَقدِ القصيدةِ العمودية.
   لا يسعُني في الختامِ إلاّ أن أُشِيدَ بالجهدِ الإبداعيِّ الذي بذله شاعرُنا – وهو نجمُ برنامج (أميرالشعراء) في نسخته الثانية عام 2008 – والّذي أقنعَنا من خلالِهِ بإمكانيةِ السيرِ خُطواتٍ كبيرةً في سبيلِ مقاربةِ الشِّعر للّوحة، وابتعادِهِ عن الدراما .. فالأمرُ فيما يبدو ليسَ كما كُنّا نظُنّ!

8/10/2014
نُشِرَت في أخبار الأدب بتاريخ 30 مارس 2015

في حَضرةِ الصمت .. قراءةٌ في المجموعة القصصية (الضئيل صاحب غِيّة الحَمَام) لأحمد سمير سعد

$
0
0







     "واقف ساكن تمام زي الحمام اللي حواليه" .. "هُو أصَمُّ أبكمُ غيرُ قادرٍ على سماعِهِ أو إسماعِهِ صوتَه" .. "يستمعُ إليه الخِضرُ أحيانًا، يُشيرُ نحوهُ بالصمتِ أحيانًا أخرى" .. "ستقضي باقيَ عُمرِكَ كنخلةٍ عمياءَ بكماءَ صَمّاءَ تحاولُ أن تهتزَّ في عنفٍ بائحةً بالسِّرِّ" .. "أبويا وأمي كلموا الداية لغاية ما ضمنوا سكوتها وفضِل السر. قالوا لي ما اقولش لحد" .. "لن أخبرَه بما سمعت .. سأحتفظُ بسرّ الحقيقةِ لنفسي" ..
     هكذا يؤسس (أحمد سمير) لرهبةِ الصمت في عالمِه القصصي .. أبطالٌ يلفُّهمُ الصّمتُ حتى يُهلِكَهم أو يُفرَضُ عليهم عقابًا على تطلُّعِهم إلى الحقيقةِ أو يُخيِّمُ على الماضي حتى يترُكَهم في تيه الحَيرةِ أو يتوهّمونه وسيلتَهم للنجاةِ فإذا هو حيادٌ مُخاتِلٌ يُسلِمُهُم لمصيرِهم المشئوم ..
     هي المجموعةُ القصصيةُ الأولى لمؤلِّفِنا، حيثُ صدرت له قبلَها رواية (سِفر الأراجوز) عام 2009، و(تسبيحةٌ دُستوريةٌ) وهو نصٌّ نثريٌّ طويلٌ مَصوغٌ في صيغةِ الدستور ..
     في القصة الافتتاحية التي تحملُ عنوانَ المجموعةِ يشهدُ الضئيلُ الأسمرُ صاحبُ غِيّة الحَمام – بحُكمِ موقعِهِ الدائمِ فوق سطح أحد البيوتِ – كُلّ موبِقاتِ جيرانِهِ من خيانةٍ زوجيّةٍ وتعاطي أبناءِ الأثرياءِ المهاجرينِ للمخدّراتِ وغِشّ صاحبِ محلّ الشّواءِ للُحومِ واشتهاءِ ربّ الأسرةِ بائعةَ الخُضرةِ متفجرةَ الأنوثة .. لكنّه صامتٌ (ساكنٌ كالحَمام) .. في المشهد الافتتاحيّ يُنكرُ هامسًا - حينما يستجوبُهُ الضابطُ- رؤيتَه لسرقةٍ حدثَت بالمنطقةِ، لكنّه في مواجهةِ النسرِ على كتفِ الضابطِ ذي الصوتِ الرّخيمِ ينهارُ مُدلِيًا بشهادتِه .. هنا يضعُنا القاصُّ منذُ الصفحةِ الأولى أمامَ مقابلةِ النسرِ الواثقِ بنفسِهِ والحَمامِ ذي الهديلِ الهادئِ المرتبكِ الذي يكادُ يكونُ صَمتا .. الجيرانُ يَخشَونَ صمتَه وينسجونَ حولَهُ الأساطيرَ، فيُقالُ إنه يُسَرِّحُ حَمامَهُ ليأتيَه بالأخبار، ويُقالُ إنّه نافِذُ البصَرِ حتى أنه مِن موقِعِهِ المرتفعِ رأى خاتَمًا يسقطُ من اللصوصِ أثناءَ هربِهِم بعدَ السرقةِ التي تبدأُ القصةُ بالتحقيقِ فيها .. وتلوكُ الألسُنُ حكاياتِ مَن حاولوا رِشوتَهُ بشتى الوسائلِ ليتستّر على جرائمِهِم .. وفي النهايةِ تصطادُهُ رَصاصةٌ طائشةٌ في فرَحٍ شعبيٍّ بينما يُلَوِحُ للحَمام ليلاً ليهبِطَ إلى الغِيَّة .. نحنُ بإزاءِ التعالي الّذي يُسكنُ الصمتُ فيهِ أصحابَه .. رجلٌ يُشبهُ النّصّ المُقدَّسَ الحافِلَ بالإشاراتِ دونَ التصريحِ والشّاهِدَ على الأحداثِ في لُطفٍ خَفِيٍّ، حين يتربّصُ بهِ العامّةُ فيَخشَونَهُ أولاً ثُمّ يتحيّنون الفُرَصَ لإسقاطِهِ في صخَبِهم الفَرِحِ الفَخُور ..
     في (بينَ يَدَي الخِضرِ) ما يُغرِي بثُبوتِ هذه الرُّؤيةِ حينَ يعودُ الشيخُ (راضي) من تحليقِهِ مع الخِضرِ إلى حلقةِ المتلهّفينَ إلى إجاباتِهِ عن أسئلتِهم، فيقولُ ككلامِ عرّافاتِ (ماكبِثْ) كلامًا يشبهُ حَكيَ الأحلامِ ويُلَمِّحُ دون التصريحِ: "يا اسماعيل التفاحة اللي بتقطفها وشايفها حلوة مدوّدة .. يا يونس اتقال لي انك حتغرق رغم تحذيري لك .. يا مؤنس الشمس بتطلع بالنهار والقمر بييجي بالليل وعمر ما هيحصل العكس" .. ولِذا فإنهم "يَخرجون يُمعنون التفكيرَ فيما أُخبِرُوا به، النجاةُ تعتمدُ على الاستقراءِ الصحيح" .. ووسطَ هذا الصمتِ يعيشُ تلميذُ الشيخِ ومُريدُهُ (جابر) الّذي يبذُلُ مجهودًا كبيرًا في القراءة والعبادةِ ليُجاوِزَ مرتبةَ شيخِهِ دُونَ جَدوى، إلاّ مِن صوتٍ يُخبِرُهُ بأنّ الأمورَ ستسيرُ مع شيخِهِ إلى حَدِّ أن يُفتَنَ به الناسُ فيَسجُدوا له، وبأنَّ بيدهِ أن يُوقِفَ هذا الأمرَ وأنَّ هذا دورُه، لنكتشِفَ أنَّ المُريدَ التلميذَ يستجيبُ للصوتِ في النهايةِ ويَقتُلُ شيخَهُ ليُوقِفَ الفِتنةَ، كما لو أنَّ الصوتَ الوحيدَ الّذي اخترقَ صمتَ العالَمِ العُلويِّ إزاءَهُ كان صوتَ الشيطان .. ورَغمَ هذا فإنه حِينَ يُحيطُ به مُريدُو الشيخِ الآخَرون والدَّمُ يَقطُرُ من خنجرِهِ أمام جُثّة الشيخِ، يشعرُ أنه يَطيرُ خفيفًا فوقَ الماءِ، فنُترَكُ نحنُ المتلقّينَ في حَيرةٍ: أكانَ حَقًّا صوتَ الشيطانِ أم كان صوتَ الخِضرِ الذي أخبرَ الشيخَ من قَبلُ برُوحٍ تطوفُ حولَهُ وبأنه لن يُفلِتَ من القدَر .. حيرةٌ على حَيرة .. صمتٌ لا يُسلِمُنا إلاّ لدُوارٍ يأكلُ رءوسَنا كدُوارِ الحَضرَة .. رُبّما كان ابنُ الجَوزِيِّ معذورًا في إفرادِ مؤلَّفٍ لتلبيسِ إبليس!
القصةُ الثانيةُ في المجموعةِ (للصمتِ لونُ ضوءٍ أبيَض) تحتفي في مستوىً ما من التّلقّي بتراسُلِ الحواسّ، وذلك حين يُخبرُ الشيخُ الأعمى صديقَه الشابَّ (محسن) بأن نغمةً ما يصدرُها أحدُ أوتارِ العود هي نغمةٌ برتقاليةٌ والأخرى بلونٍ مختلفٍ وهكذا، حتى يستطيعَ (محسن) الأصمُّ الأبكمُ في النهايةِ أن يعزفَ على العود ما يُبقي الشيخَ وإياهُ في حالة انتشاء .. لكنّنا في مستوىً آخَرَ نجدُ إحالةً إلى هيمنةِ الصمتِ على كل الأصواتِ واحتوائهِ إياها كما يهيمنُ الأبيضُ على كل الألوانِ ويحتويها، وهو ما يعنيه عنوانُ القصةِ ويجسدُهُ مشهدُ دخولِ (محسن) حجرةَ الشيخِ لأولِ مرةٍ ورؤيتَه للمصباحِ النيون الأبيض المحاطِ بالكريستال الذي يحلل الضوءَ إلى ألوانِ الطيف.
     في (النَّخلةُ .. مُحتَرِقة)، يُوصِي رجلٌ يُحتَضَرُ ولدَهُ (إسماعيلَ) – في تناصٍّ واضحٍ مع قصةِ نبيّ الله إسماعيلَ سادِنِ الكعبةِ – بالتماسِ النخلةِ المبارَكَة التي خدمها أبوهُ وأجدادُهُ قبلَ أن يترُكَها الأبُ المُحتَضَرُ وهو شابٌّ في سبيلِ أسفارِه .. يذهبُ إسماعيلُ إلى الموقعِ الّذي يُتوقَّعُ أن تكون فيه النخلةُ فيصطدِمُ بجَهل الناسِ بها، إلاّ عجوزًا تبدو كلماتُهُ عنها متأرجحةً بينَ الذكرياتِ والتّخريف، وإلاّ ملفّاتِ تحقيقٍ قديمةَ عن نخلةٍ احترقَت قديمًا ولم يُسفِر التحقيقُ عن معرفةِ الفاعل .. ولا يَجِدُ منغرزًا بجذورِهِ في المنطقةِ الموعودةِ إلاّ شجرةَ تُوت عملاقةً تقومُ في وعيِ الناسِ بكلِّ الأدوارِ التي يقولُ الأبُ الميّتُ والعجوزُ في تخاريفِهِ والتحقيقاتُ المحفوظةُ في السّجِلاّتِ بإسنادِها إلى النخلة .. ويُحيطُ (أحمد سمير) قصتَهُ من طَرَفَيها بِفقرةٍ تتحدثُ في البدايةِ عن النخلة: "شمخَت النخلةُ بساقِها عاليًا .. سعفُها المستعرَضُ يُناطِحُ السحابَ .. كانت أزليةَ الوجودِ، أولَ ما خُلِقَ على الأرضِ، ثُمَّ ومِن حولِها تكوَّنَت عناصِرُ الأشياء. شجرةٌ مباركَةٌ مَرَّ بها الأنبياءُ وتمخّضّت عنها البرَكاتُ"، وتتحدثُ في النهايةِ عن شجرةِ التُّوت: "شجرةُ التوتِ أزليةُ الوجودِ، ......" .. تَكرارٌ قاسٍ يضعُنا في قلبِ المأساةِ الكونِيّةِ المتمثّلَةِ في النسيانِ مع التقادُمِ والابتعادِ عن المصدرِ الأولِ للوجود، ويُساعِدُ في ذلك استحضارُ مورفولوچيّة النخلةِ في مقابلةِ شجرةِ التُّوت .. فالأولى شاهقةٌ لا تتفرّعُ شامخةٌ بساقِها كما يَصِفُها بنفسِهِ، والثانيةُ مكتنزةٌ قصيرةٌ إذا قُورِنَت بالنخلةِ، كأنّها تَسُدُ الأفُقَ في عينَي الناظِر .. ما يُشيرُ إلى السماءِ وإلى عالَمٍ مُفارِقٍ يَحتَرِقُ وتنزِعُهُ الجَرّافَةُ (المُزَمجِرَةُ) كما يَصِفُها في مشهدٍ آخَرَ قاسٍ يتعلّقُ بمصيرِ النخلةِ القديمةِ، ليَحُلَّ محَلَّهُ ما يُرَسِّخُ الحُضُورَ المادّيَّ للأرضِ ولعالَمِ الحِسِّ كأنّهُ هو وحدَهُ أزَلِيُّ الوجود .. التكرارُ القاسي للفقرةِ بألفاظِها مع حذفِ ما يُشَخِّصُ صفاتِ النخلةِ المورفولوچيّة كأنّه يَنصُبُ بين عينَي المتلقّي ذلك الخَيطَ الرّفيعَ بين الإيمانِ والإلحادِ .. وفي ملفّاتِ التحقيقِ اتّهامٌ يُلقي به المُحَقِّقُ في وجهِ الجميعِ بإحراقِ النخلةِ، ليتنصّلَ منه الجميعُ كذلك دافِعين عن أنفُسِهم التهمةَ ومستنكريها لِما تمثِّلُهُ النخلةُ بالنسبةِ لهم جميعًا من بَرَكةٍ رغمَ  ما يبدو من امتلاكِ كُلٍّ منهم لمبرِّرٍ رُبّما يدفعُهُ إلى هذا الحَرقِ، فالّذي اعتادَ أن يأكل بلحَها المتساقِطَ جُرِحَ رأسُهُ بارتدادِ حجَرٍ ألقاهُ إليها حين اصطدمَ بجذعِها، والّذي حاولَ ابنُهُ تسلُّقَها وقعَ من فوقِها فبَقِيَ بينَ الحياةِ والموتِ أيامًا، والّذي اعتادَ لقاءَ حبيبتِهِ عندَها لديهِ مبررُه هو الآخرَ فقد خُطِبَت إلى غيرِه .. فكأنَّ هناك مؤامرةً ضمنيَّةً ما لحَرقِها، فالكلُّ حرقَها والكلُّ لم يحرِقها .. الكلُّ يعرفُ بركتَها، وفي ذاتِ الآنِ يَخشاها ولديهِ ما يُحنِقُهُ عليها .. وفي هذا تجاوُبٌ مع القصة الافتتاحية (صاحب غِيّة الحَمام)، الّذي سقطَ مقتولاً بمؤامرةٍ ضمنيّةٍ ورصاصةٍ يَظهَرُ أنّها طائشة! 
     في (الندّاهة) نجدُ الصوتَ الهامِسَ المُخاتِلَ يُغري من يَمشي بحذاءِ النِّيلِ، بشرطِ أن يَكونَ (مادًّا الخُطَى)، فالبطلُ يفعلُ ذلكَ، وعندما يدخلُ قصرَ الندّاهةِ المنتصِبَ وسطَ النيل ويتنصّتُ إلى حوارِها مع آخَرَ أَغرَتهُ يَقبَعُ في الغرفةِ المجاورةِ يَسمعُهُ يقولُ لها: "لقد كُنتُ أمُدُّ الخُطَى، سأُتِمُّ طريقي وأعودُ إليكِ". ولا نعرفُ على وجهِ اليقينِ إلامَ طريقُهُ هذا، لكن يبدو أنه سعيٌ حثيثٌ على أيةِ حالٍ، وأنهُ شرطٌ لاستماعِ هذا الصّوت .. ولأنهُ صوتٌ هامسٌ ملائكيٌّ كما يصفُهُ القاصُّ فهو يبدو مَلاذًا وملجأً في البدايةِ، لكنّه لا يلبثُ أن يُفصِحَ عن نفسِهِ في النهايةِ هلاكًا محتومًا، فالآخَرُ المُتلَصَّصُ عليه يُلقَى في حوض ماءٍ تبقى رأسُهُ أسفلَ سطحِهِ ليغرق، والبطلُ الذي سوّلَت له نفسُهُ التجسُّسَ يُحكَمُ عليهِ بأن يَبقى نخلةً بكماءَ صَمّاءَ تحاولُ البَوحَ بالسّرِّ كلّما هبّت الرّيحُ حاملةً صوتَ النّدّاهةِ دُونَ جَدوَى .. لكنّ المسكوتَ عنهُ في هذه القصّة ربما يتمثلُ في سؤالٍ حولَ مصيرٍ بديلٍ للبطَل، أإذا كان قد قاومَ دافِعَهُ التلقائيَّ للتجسّسِ على ندّاهتِهِ، هل كان يَنجُو ويبقى في قصرِها المَشيدِ على صفحةِ الماءِ مُنَعَّمًا بقُربِها؟ السؤالُ في صيغةٍ أخرى: هل الاكتفاءُ بما يُلقَى من السّرِّ في رُوعِ مَن يَسعى مادًّا الخُطى كفيلٌ بارتقائهِ في المنزلةِ؟ وهل في العَجَلَة النّدامة؟! الصمتُ الأبديُّ هنا عقابٌ على تعجُّلِ المعرفةِ وإن بدَت الحقيقةُ قبيحةً كما بدا منظرُ الندّاهةِ والبطلُ يتلصّصُ عليها ..
     في قصةِ (المتسلّل) نلمحُ أثرًا طيفيًّا من قصّة الخِضرِ الغائبِ الحاضرِ هنا .. نحنُ هنا أمامَ شيخٍ يستطيعُ التسلُّلَ إلى قلوبِ العبادِ ليفحصَ أبيضَها من أسودِها، وهو يفعلُ ذلك بانقسامِ جسدهِ إلى جسدَين نورانيٍّ وجامدٍ، وهنا يُصِرُّ القاصُّ على تسميةِ عنصُرَي الكيانِ (جسدَين) لا جسدًا ورُوحًا مثَلاً، ورُبّما كان يحاولُ لَفتَ انتباهِنا من خلالِ هذه اللمحةِ الواقعيةِ السِّحريةِ اللُّغويةِ إلى تعاسةِ المتجادلين حول أسماءِ الأشياءِ، فكأنه يُسلِّمُ مع المادّيّين منذُ البدايةِ بأنّه لا شيءَ إلاّ الجسدُ، لكنّهُ جسدانِ وإن لم تنتبهوا إلى ذلك .. المهمُّ أنَّ الشيخَ يكتشفُ سوادًا كثيفًا في قلبِ (حامد) فيأمرُ بأن يُلقَى في أرضٍ تشبهُ جهنَّمَ أو (هادس) اليونانية .. ثُمّ يقومُ الشيخُ بتسللٍ سحريٍّ آخَرَ إلى قلب صغيرِ (حامد) الأبيض، فيُسجَنَ مؤقتًا داخلَهُ إلى أن يستطيعَ (حامد) الإفلاتَ من جهنّمِ القصّةِ والعودةَ إلى حضنِ صغيرِه .. ربّما يتراءى لنا الشيخُ هنا ممارسًا سُلطةً موسويّةً صارمةً، فهو بالفعل يستطيعُ التسلُّلَ إلى قلوبِ العِبادِ، لكنّ أمورًا ما يبدو أنها خافيةٌ عليهِ، ومِن بينِها ما يئولُ إليهِ حالُ القلبِ بين غفلةِ عينٍ وانتباهتِها، فرُبّما هي هنا بين أصبعين من أصابعِ الرحمنِ، فما يَجري بها أخفى من اللُّطفِ الخفِيّ .. إننا بإزاءِ تدخُّلٍ يشبهُ وساطاتِ الخضرِ مع نبي الله موسى، لكن من طرفٍ خفيٍّ يتناسَبُ وخفاءَ ولُطفَ ما يجري على قلبِ (حامد) في القصة، لا تدخُّلاً فجًّا صارخًا وثنيًّا كما في حيلة الإله الخارج من الآلةِ Deus ex Machinaفي المسرحِ اليونانيّ .. 
     في (الحُلم الذي لم يفسره يوسف) يأتي نبي الله يوسف للبطلِ بعد كلِّ حلمٍ يراهُ، وبدلاً من أن يقومَ بأحد أدواره التاريخيةِ المعروفةِ ويفسرَ الحلم، يشيرُ إلى قلب البطلِ مرّتين ثُمّ يتركُهُ بلا تفسير .. الشيخُ مفسّرُ الأحلامِ في القصةِ يسكتُ عمّا سكتَ عنه (يوسف) ويُحيلُ البطلَ إلى نفسه، والبطلُ يستحضرُ في حوارِهِ معهُ مبدأ تناسُخِ الأرواحِ حين يُخبرُهُ الشيخُ بأنه بالتأكيدِ يشبهُ (يوسفَ) طالما قد رآهُ في منامِه .. تنتهي القصةُ بأن يكتشف البطلُ وجهَ شبهه بالنبي يوسف، من حيثُ إنّ الاثنَين فُسِّرَ حلمُهما الأول بحُلمٍ ثانٍ، ثُمّ يسألُ الشيخُ البطلَ عمّا وصلَ إليه، فيترُكه البطلُ في صمتٍ مفضّلاً أن يرى أثرَ الحيرةِ على ملامحِ شيخه .. هنا تأسيسٌ متجددٌ لسلطةِ الصمتِ في لُعبةِ الشيخِ والمُريدِ أو التلميذ، ولا أعرفُ كمُتَلَقٍّ إن كان البطلُ يُشيرُ إلى أنه هو نفسه نبيُّ الله يوسفُ بعد أن نُسِخَت روحُهُ ليُكمِلَ دورَهُ في العالَم، أم أنّه وصلَ إلى شيءٍ آخَرَ تصمتُ عنه القصةُ بأسرِها وإن كان يُمكنُ التماسُهُ في تفاصيلِ الحُلمَين، أم أنّه لم يصل إلى شيءٍ وآثَرَ أن يُسَرِّبَ إلينا مع شيخِهِ إحساسًا زائفًا بترقُّبِ نتيجةٍ لم تحدث داخل الإطار الزمنيِّ للقصة كما لم تحدُث خارجَه! حيرةٌ على حيرةٍ من جديد ..    
     في (ميلاد) نجدُ صدىً للحُلم الذي لم يُفَسِّره يوسُف، فنحنُ إزاءَ حُلمَين أيضًا، أحدهما من بطلٍ يرى في المنام أنه يقفزُ من فوق بنايةٍ شاهقةٍ ليكادَ يسقطُ لولا ذراعا فتاةٍ تتلقفانه فيسيتيقظ، والآخرُ من بطلةٍ ترى أنها تكادُ تنتحرُ بأقراصِ المنوِّمِ لولا قبضةُ فتىً يمنعُها من ذلك وتخترقُ عيناهُ كيانَها لتستيقظَ، ويبحثُ كلٌّ منهما عن الآخَر .. حُلمان قصيرانِ لموشِكَين على الموتِ ينتهي بهما الحالُ إلى مواصلةِ الحياةِ، ولأنهُ ابتداءُ حُبٍّ كان العنوانُ يُخبرُ بالمسكوتِ عنهُ هنا وهو الميلادُ المنتظَرُ من تلاقي الحبيبَين .. يصمتُ القاصُّ عن الملابساتِ الواقعيةِ للبطلَين ليُجسِّدَ - في هذه القصةِ التي هي أقصرُ قصص المجموعةِ – سطوةَ الصمتِ على مستوى تقانةِ القصِّ نفسِها، في إخلاصٍ عميقٍ للصمت.
     في (حسنةٌ كبيرةٌ أعلى الفخِذ)، نجدُ صدىً لا يُجحَدُ من الملحمةِ الشعبيةِ، كما لا تُخطئُ العينُ قبسًا من رُوح (يحيى الطاهر عبد الله)، ربما لاعتماد الاثنين الواقعيةَ السحريةَ طريقًا بدرجةٍ كبيرة .. البطلُ هنا مولودٌ ببشارةٍ في جسدِهِ ينتظرُها الجميعُ، وهي التي يُخبرُنا بها العنوان .. يصمتُ أبواهُ عن الأمرِ ويحافظُ هو على السرّ كذلك، حتى من زوجتِهِ، وهو يُعِدُّ نفسَهُ لقتلِ الشرّير الأسطوريِّ الذي يغتصبُ العرائسَ ليلةَ عُرسِهِنَّ ولا يستطيعُ أحدُهم مقاومتَه لتحولاته الفيزيقية الأسطورية من رجلٍ عاديٍّ إلى رجلٍ بحجمِ الجبَل .. يمضي في طريقِهِ البطلُ (حامد) حتى يكونَ قابَ قوسَينِ من الانتصارِ على الرجل الجبل، لكنّه في المشهدِ الأخيرِ يسقطُ في المصارعةِ التي تتمُّ بينهما، ليُذعَرَ رجالُ البلدِ من المنظرِ بعدما كادوا ينضمون إلى (حامد) في قتالِه، ويدفنونه وهم يتهامسون عن بطلٍ سيحملُ حسنةً كبيرةً اعلى الفخِذِ يغيرُ رتابةَ حالِهم، وأنه "سينزلُ من السماءِ أو سيخرجُ من باطنِ الأرض" .. تدفعُنا القصةُ للتساؤل عن المصيرِ البديلِ لو لم يكن الصمتُ لفَّ بشارةَ (حامد) الجسدية ليعرفَ الجميعُ أنه البطلُ المنتظَر، كما تدفعُنا للتساؤل عن جدوى الصمتِ هنا من الأساس، لا سيَّما أن الصمتَ يُفوِّتُ على أهل البلدِ فرصةَ الانتقامِ لشرفِهم، فينتظرونَ بدلاً من مُواطنِهِم العاديِّ رجلاً خارقًا مُغايِرًا لبشريتِهم فيما يبدو، في ترديدٍ لمضمون الآياتِ: "أتؤمنون لرجلٍ مثلِكم يأكلُ مما تأكلونَ منه ويشربُ ممّا تشربون؟"و"قل لو كان في الأرضِ ملائكةٌ يَمشون مُطمئنّين لنزّلنا عليهم من السماءِ ملَكًا رسولا".
     في (رِحلة) نجدُ لَعِبًا متجددًا على تيمةِ الصمتِ والكلامِ، مستوحىً من قصص الجِنّ في التراثِ الإسلاميِّ، وتحديدًا من آيةِ سورةِ الجِنِّ: "وأنّا كُنّا نَقعُدُ منها مقاعِدَ للسمعِ فمَن يستمع الآنَ يَجد له شِهابًا رَصَدا" .. فالبطلُ الراوي يفاجأُ بقرينتِه الجنّيَة تعرضُ عليه رحلةً إلى السماءِ لمعرفةِ الحقيقة، ويَرضَخُ لها، وحين يصلان إلى السماءِ يجدُ إنسيِّين مثلَه محمولِين على قرنائهم الجنّ مثل قرينتِهِ في ابتغاءِ الحقيقة كذلك، ويتسمّعُ الجميعُ فإذا أصواتٌ عن أخبارٍ مستقبليةٍ تتعلّقُ في مجملِها بسوقِ المالِ، فتعافُ نفسُهُ هذه الأخبار لأنه يبغي (الحقيقةَ)، فيتسللُ إلى أذنيهِ كلامٌ يبدو سماويًّا ربانيًّا يتعجّبُ قائلُهُ من البشرِ الذين تعلموا كل الأسماءِ وهم في صُلبِ آدمَ ويأتون الآن يطالبون بالمعرفة، ثم تتساقطُ الشهبُ الموعودةُ لتحرقَ أجسادَ الجنّ ومن تسلقوها من البشر، ولا ينجو إلا البطلُ ورجلٌ غيرُه يُخبرُهُ بأنه لا أحدَ ينجو إلا من سعى لمعرفةِ ما سَعَيا هما لمعرفته، بعد أن يخبره بما سمعه من أن ثلاثةً في المرة السابقة استطاعوا (الوصول) وتحولت أجسادهم إلى أطيافٍ نورانيةٍ صعدت إلى السماء .. وحين يفكرُ البطلُ فيما سمعَه وهو في السماءِ معتقدًا أنه سِرُّ الحقيقةِ يفاجَأُ بالنّاجي معه -كأنه يقرأُ أفكارَهُ- يُخبرُهُ بأنه سمع مثل ما سمع في المرة السابقةِ وظنّ أنه سر الحقيقةِ لكنّه فكّر فأدركَ أنه لا يعني شيئًا في حدّ ذاتِه، فيقعُ البطلُ في الحيرةِ من جديد .. مجدَّدًا تلوحُ أمامَنا حالةُ الكلامِ الذي لا يعني إلا الرُّكوسَ إلى الصمتِ والوقوعَ في الحَيرة، كما في خاطرِ (جابر) في (بين يدي الخضر) وكما في تصريحاتِ شيخهِ (راضي) وكما في (الحلم الذي لم يفسره يوسفُ).
     في (الخيرُ يقرر أخيرًا أن يربَحَ) تتجلّى صورةُ الأليجوري Allegory (أو القصةِ التشبيهية) الناقصِ المعكوسِ، ففي الأليجوري يرمزُ أشخاصٌ وأحداثٌ متعيّنون إلى قِيَمٍ وأحداثٍ كُبرَى ذاتِ صِلَةٍ بالعقيدةِ الدينيةِ والمفاهيم اللاهوتية، وهي صورةٌ من الأدبِ ازدهرَت في العصور المسيحيةِ الأولى في أوربّا بخاصةٍ، أمّا هنا فالقيمتان الكُبريان في عالم الأخلاقِ (الخيرُ والشّرّ) تتنزّلانِ من عليائهما المجرَّدِ وتتشخّصانِ باسمَيهِما في هذه القصة، وربّما يحدثُ هذا التنزُّلُ حتى على مستوى القصِّ حيثُ يحكي القاصُّ عن انزواءِ الخيرِ أعلى الجبلِ وعن قرارهِ أخيرًا بالنزولِ إلى الأرضِ المنبسطة .. هنا أحكمُ حكماءِ الأرضِ يقولُ للخير والشر: "لقد أصبتُماني بالحَيرةِ الشديدة"! نجدُ تناصًّا محيَّرًا (بفتحِ الياء) مع قصة قابيلَ وهابيلَ كما روَتها الدياناتُ الإبراهيميةُ، ومع قصة قرابينِ بني إسرائيلَ كما يحفلُ بها العهدُ القديمُ وكما يشيرُ إليها القرآنُ، حيثُ الخيرُ يقدّمُ قربانًا إناءً من لبنٍ يشربهُ أحد العجائزِ المارّين، والشرُّ يقدّمُ قربانًا قطيعًا من الغنمِ تأكله نارٌ من السماء! ينتصرُ الشرُّ في هذه الجولةِ ليدفعَنا القاصُّ إلى التساؤلِ عن معاييرِ الحكم الأخلاقيِّ، وليضعَنا في بؤرةِ الحيرةِ أمامَ العلاماتِ الكونيةِ التي يفسرُها كلٌّ حسبَ هواه .. في الجولة الأخيرةِ بينهما يتسابقان لقَلبِ قارَبٍ بمَن فيهِ، في إحالةٍ ضمنيّةٍ أخرى إلى قصة الخِضرِ وموسى عليهما السلام، ويتوقفُ الشرُّ عن السباحةِ لألَمٍ ألَمّ بساقِهِ بينما ينجحُ الخيرُ في الوصولِ إلى القارَبِ وقلبِهِ .. ويترُكنا (أحمد سمير) مترقّبين حُكمًا سينطِقُ به أحكمُ حكماءِ الزمانِ من البشَرِ فيما بعدَ انتهاءِ القصةِ، ساخرًا في ثنايا قصته القصيرةِ الماكرةِ من حَفنةٍ من الفلسفاتِ في ميدانِ الأخلاقِ – ربّما أوضحُها الپراجماتيّة- جادَت بها قرائحُ مجموعةٍ من (أحكَم الحُكماء)، لتتملَّكَنا الحيرةُ للمرّة الألفِ ونُذعِنَ للصمتِ القاهر..
     أمّا في (مسّاكة الملِك)، فالبطلُ يلعبُ حَرفِيًّا مع أقرانِهِ بالصمتِ والكلامِ، حيثُ يلجأُ إلى الصمتِ ليُخفيَ نفسَهُ في إطارِ اللُّعبةِ عمَّن يُطاردُه، ويترقّبُ سماعَ كلمتَي (شاهدوني/ شهدنا لَك) لكي يَخرُجَ منتصرًا أو يقتربَ من النصر .. القصّةُ بتماهيها الكاملِ مع لعبةٍ من ألعابِ الشارعِ الحرَكيّة للأطفالِ تنتمي إلى تيّارٍ في القَصِّ العالميِّ يحاولُ مساءلةَ القِيَم الإنسانيةِ ومناوشةَ القضايا الكبرى للفكرِ من خلالِ تذكُّرِ مرحلةِ اللَّعِبِ الطفولي، وتذكّرُني بشكلٍ شخصيٍّ بقصّةِ (القفز إلى الخطَر) Der Sprung ins Ungewisseللأديب الألمانيّ Theodor Weissenborn (تيودور فايسنبورن) التي تحاولُ اكتناهَ العملياتِ الواعيةِ واللاواعيةِ في اتخاذِ القرارِ من خلالِ لعبةِ شارعٍ طفوليّةٍ أخرى .. المهمُّ أنّ القصّةَ هنا تحملُ طيفًا قريبًا من قصةِ (رِحلة)، حيثُ البطلُ يترقّبُ سماعَ كلمةٍ يترتّبُ عليها مصيرُهُ القريبُ في اللعبة، كما يترقّبُ البطلُ في (رحلة) سماعَ كلامِ السماءِ عن الحقيقةِ، وفي القصّتَين ينتهي الأمرُ بخيبةِ المَسعَى، فهناكَ يدركُ البطلُ ألاّ معنى محدّدًا لما سمعَه، وهنا يكتشفُ خروجَهُ قبلَ سماعِ ما كان يترقّبُ سماعَه، وهناك تغلبُ عليهِ الحيرةُ التي قد تُلمِحُ إلى محاولتِهِ الوصولَ لاحقًا، وهُنا يصرّحُ القاصُّ أنّه نوى بالفعلِ أن يحاولَ مرّةً أخرى .. هنا لا حيرةَ لأنَّ الأمرَ لُعبةٌ، ولكن عزمٌ يتماشى وعِنادَ الطفولةِ اللاعِبَ اللاواعِي .. لا يفوتُنا هنا كذلك تلك الإشاراتُ الإسلاميةُ في مَتنِ القصّة وفي ألفاظِها وما قد تنطوي عليه من احتمالاتٍ لقراءاتٍ متعددة، فالقاصُّ يقولُ عن بطلِهِ وصديقِهِ: "لو رفعَ أحدُهُم بصرَهُ لَرآه"في تناصٍّ مقلوبٍ مع قولِ أبي بكرٍ - رضي الله عنهُ - لرسول الله - صلى اللهُ عليه وسلّم – في غارِ ثَور: "لو نظر أحدهم تحت قدمَيه لرآنا"، ثُمّ يعمَدُ إلى بطلِهِ فيجعلُهُ: "يلتقط قبضة من الأتربة و الحصى الصغير المفروشة به أرض البناية غير المأهولة... يلقي به على رأس الواقفين في الأسفل يبحثون عنهما"، في تناصٍّ كذلك مع فعلِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلّم نفسِهِ خارجًا من الغارِ بادئًا رحلةَ الهجرة .. وهما تناصّانِ يضعانِ المتلقّي في بؤرةِ تنزُّلِ ما هو مقدَّسٌ إلى أرضِ اللّعِبِ، ليُعايِنَ اشتغالَ دالَّتَي الصّمتِ والكلامِ في نصوصِ السيرةِ وما إليها، وما قد تحملُهُ من تساؤلات .. كذلك يُخيَّلُ إليَّ أنّ اختيارَ هذه اللعبة بكلمتَيها (شاهدوني/ شهدنا لك) ربَّما يُجسِّدُ امتثالاً من القاصِّ لإغراءِ التناصِّ مع المقدَّسِ إذا تذَكَّرنا الآية القرآنيةَ: "وإذ أخذَ ربُّكَ من بني آدمَ من ظُهورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وأشهدَهم على أنفسهم ألستُ بربِّكُم؟ قالوا بلى شهِدنا ..."الآية. فهو تنزُّلٌ آخَرُ للّاهُوتِ إلى مستوى اللعِبِ، يَطرَحُ تيمةَ الهيمنةِ الألوهيّةِ وعلاقتَها بالصّمتِ وبالسؤالِ التقريريِّ الّذي يُعَدُّ من أخصِّ وألصَقِ ضُروبِ الكلامِ بحالةِ الهيمنة ..
     في القصةِ الأخيرةِ (من حكاوي المزيّن) ينقلبُ الأمرُ كما ينقلبُ في بناءِ سيمفونيّاتِ (بيتهوفن) فتجيءُ الحركةُ قبلَ الأخيرةِ (اسكيرتسو) Scherzo  هازِلةً مُجمِلَةً الجُمَلَ اللحنيةَ الأساسيةَ في السيمفونيةِ لكن في سخرية .. في هذه القصةِ يُخرجُنا (أحمد سمير) في قسوةٍ من باطنِ الصمتِ الذي ألقَتنا فيه قصصُ المجموعةِ واحدةً وراءَ الأخرى، إلى ثرثرةٍ عنيفةٍ لا تهدأُ، اختارَ لها بطلاً المزيّنَ/ الحلاّقَ الذي ارتبطَ في الوعي العامِّ المصريِّ على الأقلِّ بالثرثرة .. وهو مزيِّنٌ غيرُ واعٍ بثرثرتِهِ العنيفةِ حتى أنَّ عبارةً تجسِّدُ سخريةً مريرةً تأتي على لسانه في بداية القصة: "ذلك ربما لأن رؤيتي للعالَمِ شديدةُ الاتّساعِ، فكما يقولونَ، كلّما اتسعت الرؤيةُ ضاقت العبارةُ". المزيّن والدٌ لثلاثةِ أبناءٍ يحترفون الفنّ: موسيقيٌّ ورسّامٌ وشاعر، وهو فيما يزعمُ يجمعُ في ذاتِه مهاراتِهم وفنونَهم كلها، يسعَون جميعًا إلى الظفَر بامرأةٍ حُلمٍ ويتكبّدون المصاعبَ في سبيلِها، وتنتهي رحلتُه بخيبتِهِ الفاضحةِ وظفَر أبنائهِ بالشهرةِ مع المرأةِ الحُلم الفنّانةِ مثلَهم جميعا ..
     ربّما كان المزيّن معادلاً موضوعيًّا في هذه المجموعةِ القصصيةِ لحتميةِ الكلامِ رغمَ ما يَبدو من أولويةِ الصمتِ وأسبقيتِهِ وأصليتِهِ في الوجودِ كما تبسطُها كلُّ القصص السابقة، وهو كذلك معادلٌ موضوعيٌّ لعبثيةِ هذا الكلام فهو ينتهي خائبًا من حيثُ يبدأُ، ويقولُ عن نفسه في تحامُقٍ في النهاية: "فأنا المزيِّنُ لا ألغو، لا أتتبَّعُ عِرضًا ولا أُخبرُ سِرّا"، ومِن صُلبِ هذا اللّغوِ العابثِ يأتي الفنُّ في صورهِ المتعددةِ تشكيلاً وموسيقى وأدَبًا (أبناءه الثلاثة) ليُمثِّلَ المَخرجَ المُتاحَ المعقولَ من باطنِ الصمتِ، مع التسليمِ بفضل وأصليَّةِ ذلك الرهيب ..    
     (الضئيلُ صاحبُ غِية الحَمام) نَصٌّ طويلٌ منفصلٌ ظاهرًا، متّصِلٌ في لُطفٍ خفيٍّ، يُلقي بنا في أَتُونِ التجربةِ الإنسانيّة في محاولةِ اكتناهِ الحقيقةِ المحكومِ عليها بالفشَل، ويُسلِمُنا بالتالي إلى الصمتِ المُطلَقِ المُهَيمِن، مقنعًا مُتلقِّيه بألاّ فِكاكَ من الصمتِ على وجهِ اليقينِ، إلاّ بقليلٍ من الفنّ الخارجِ من صُلبِ اللغوِ العابثِ، والّذي يحاولُ بدورِه الوصولَ إلى الحقيقةِ، لكنّه يرتدُّ بنا إلى الحيرةِ فوقَ الحيرةِ، لنبقى في النهايةِ ناكسي رءوسِنا في تواضُعٍ، في حضرةِ الصمت. 
.....
محمد سالم عبادة       
..................................
أُنجِزَت هذه القراءةُ في يناير 2015 ونُشِرَت بكاملِها على صفحات مجلّة (المجلّة) المصرية التابعة لوزارة الثقافة في عدد مارس 2015.

أنا أليسّاندرو دِل پييرو

$
0
0



عزيزي چوفانّي تراپاتوني ..
اذهَبْ إلى الجحيم..
ألا تعرفُ مَن أنا؟
لقد زرعَت نظراتي النومَ في أعيُنِ كلِّ مَن وقَعنَ في حُبّي
وزرعَت اليقظةَ في عينَي مَن أحببتُها ..
قدمايَ 
اللتان تبدُوانَ أكثر الأقدامِ انتظامًا حين أنظرُ إلى الأرضِ قبلَ تكبيرةِ الإحرامِ
لم تترُكا شبرًا
من (دَربِ الشَّمسِ) بـ(السيدةِ زينب)
إلى برجِ قلعةِ (پراغ)
إلى ساحل الأدرياتيِّ
إلاّ وبذرَتا فيهِ الشَّوك ..
كلُّ هؤلاء اللاعبينَ
لا يعرفونَ يا عزيزي أنَّ الكُرَةَ كُرِّيّةُ الشكل.. 
إنهم فقط يسلِّمُون بوجودِها ..
وكلُّ هؤلاء الشعراءِ
لا يعرفون شيئًا عن اللغةِ  ..
إنهم فقط يتدثَّرُون بأحرُفِها
وينامونَ على أسطُرِها في استسلامٍ
طيلةَ الوقت..
وَحدي 
أرى شيطانَها الذي يعرفُ أنني أراهُ
فيُخرجُ لي لسانَهُ
فأُخرِجُ لهُ لساني ..
هل أبدو لكَ مصابًا بجنونِ العظَمَة؟
أنا فقط لا أتحمَّلُ ألاّ أنتصِر ..
أعرفُ أنكَ في قرارةِ نفسِكَ تقولُ:
"هو رائعٌ بالتأكيدِ ، إلاّ أنَّ هناكَ غيرَه." ..
لكنّني كما قلتُ لكَ آنفًا:
نَكَحتُ الكُرَةَ سبعةَ أعوامٍ
حتّى احمرّت
وزنيتُ بها سبعةَ أعوامٍ 
حتّى ابيضّت
وتركتُها تستقرُّ كهِرَّةٍ عندَ قدمَيَّ سبعةَ أعوامٍ
حتّى اسودّتْ
فهِيَ سوداءُ مُظلِمَة..

أنا إسكندَرُ المهرِّجين:
بينَ كلِّ (پييروهاتِكُمْ) أنا الإسكندرُ الوحيد ..
زوجاتُ أصدقائي يَعرِفنني ليَضحَكنَ
وأزواجُ صديقاتي يَعرِفونني ليَضحَكُوا
والكرةُ ماثلةٌ عند قدميَّ
تنظرُ إلى الجميعِ مزدريةً
وتصطدمُ عيناها بعينيَّ
فتخشَعُ ..
تعرفُ أنني الإسكندرُ القيصرُ ابنُ آمون ..
حينَ أركلُها
تبحثُ من تلقاءِ ذاتِها عن أكياسِ مَن اغتابُوني
لتَخصِيَهُم ..
أنا يا عزيزي
(أليسّاندرو دِل پييرو) ..
أنظرُ الآنَ إلى السماءِ
حيثُ يمتدُ قرنا أبي (آمونَ) من الشرقِ إلى الغرب ..
أراهُ يضحكُ لي
ويعدُني بالركلةِ التي حلَمتُ بها مُذ كنتُ في الرابعةِ
حيثُ تخرجُ الكرةُ من طرفِ حذائي عند مرمايَ
لتستقرَّ في أحشاءِ أعدائي
معلنةً للجميعِ 
أنَّ (أليسّاندرو) ليسَ كأحدٍ من رجالِهِم ..
عزيزي (چوفانّي) ..
أنا (أليسّاندرو دِل پييرو) ..
وهذا يكفيني.
....................
محمد سالم عُبادة
11/3/2012
..................
نُشِرَت بمجلة (الثقافة الجديدة) في عدد مارس 2015.

عِبادةُ العالَم، ورحلةُ رسولِ الآلِهة: قراءةٌ في ديوان (التغريد بطريقة برايل) لهرمس (محمد مجدي)

$
0
0


- اختار (محمد مجدي) لنفسه هذا الاسم المستعار الآتيَ من أعماق الأسطورة الإغريقية .. (هرمس) رسولُ الآلهةِ وابنُ (زيوس) ..
- عنوان الديوان عبورٌ على عبورٍ، وقفزٌ على قفز .. طريقة (برايل) هي الكتابةُ البارزةُ التي يُتحايَلُ بها على الحروفِ لكي تصلَ إلى المكفوفين فيدركونها باللمس بديلاً عن الرؤية .. والتغريدُ فعلُ إصاتةٍ محلِّقٌ بينَ الضرورةِ والاختيار .. فالطائرُ المغرِّدُ لا يعرفُ هل غرَّدَ صادرًا عن اختيارهِ الحُرِّ، أم دفعته الظروفُ والأقدارُ إلى التغريدِ ولم يكن أمامه حلٌّ آخَر! وتلقّي فعل التغريدِ يكون بالسَّمع، تلك الحاسّة المرهفةِ المنوطةِ بالمثيراتِ الأكثر أثيريةً ورهافة (موجات الصوت) .. فحين يغرِّدُ (هرمس) بطريقة (برايل) فإنَّهُ يعبرُ بفعلهِ هذا أثيريةَ الصوتِ المُطلَقِ مباشرةً إلى طينيةِ الحرفِ الملموسِ البارز في كتابةِ (برايل)، دون أن يمُرَّ بمرحلة الكتابة غير البارزة المُدرَكَة بحاسة البصر .. إنه يسقطُ سقوطًا مُدَوِّيًا من الأثيرِ إلى الطينِ المحروقِ، ليستطيعَ التواصُلَ مع قارئه .. عنوانٌ قاسٍ، ما من شَكٍّ في هذا، وهو يحملُ سخريتَهُ المريرةَ داخلَهُ ويقبلُها كواقِعٍ، فالعنوانُ كأنهُ يَسِمُ (كتالوجًا) مخصوصًا في إنجازِ مهمةٍ أدائيةٍ بعينِها .. رُبَّما يحاولُ (هرمس) أن يعلمَنا كيف نغرِّدُ نحنُ أيضًا بطريقة برايل!

 * في رأيي أنَّ الديوانَ توثيقٌ لسِتِّ مراحِلَ في رحلةٍ هرمسيةٍ إلى المعرفة والاكتمالِ والحقيقةِ ، ترتبطُ في مرونةٍ بالتأريخِ الزمنيِّ للقصائد ..
    1- فالمرحلةُ الأولى كانت بين الناسِ غارقةً في تفاصيلِ واقعهم إلاّ أنَّ إرهاصاتٍ بوشكِ بدءِ رحلةٍ كانت موجودةً ، ولا يمثِّلُ هذه المرحلةَ إلا قصيدةٌ واحدةٌ هي (مقاطِعُ لصاحبةِ القُبّة) المؤرَّخةُ بعام 2005 ومن الإرهاصاتِ المشارِ إليها قولُهُ لملهمتِهِ في ثنايا القصيدة: "سأقولُ لكِ إنَّ الوجودَ إثمٌ موغِلٌ/ وأذهب" ..
   2-  أما المرحلةُ الثانيةُ فهي السخطُ على هذا الواقعِ والتذمُّرُ بهِ بعد تحقُّقِ الخِذلانِ التامِّ من وسائلِ السابقينَ لتحقيق المعرفةِ والوصولِ إلى الحقيقةِ وتغيير العالَمِ إلى صورتِهِ المثاليةِ الماثلةِ في الوعيِ الشِّعريِّ الجَمعِيّ، ويمثلُ هذه المرحلةَ قصيدةُ (ترنُّحٌ على سفحِ الأفُق) المؤرخة بعام 2006.
   3- والمرحلةُ الثالثةُ لا يمكن برأيي تحديدُ بدايتِها وإن كان من اليسيرِ إدراكُ آثارِها الشِّعريةِ المتفرقةِ في الديوان كقصائدِ (فصلٌ في اللصوصية – القاهرة عشيةَ الثورة – أغنيةٌ داميةٌ صغيرة – الريحُ شَعر الرسولةِ الطويل) فمن بينِ هذه القصائدِ ما يشبهُ نتاجاتٍ ثانويةً للارتحالِ في الذات/العالَم بعيدًا عن مفرداتِ الواقعِ اليوميِّ اللاشِعريِّ، خصوصًا تلك التجاربَ ذاتَ المعمارِ المُحكَم كـ(أغنيةٍ داميةٍ صغيرة)، ومنها ما يمثلُ رُؤيا تعترضُ سبيلَ صاحبِ الرحلةِ أو نبوءةً هرمسيةً كـ(القاهرةِ عشيةَ الثورة) .. وينتمي لهذه المرحلةِ أيضًا قصيدةٌ محوريةٌ في الديوان هي (الكلامُ يحترقُ .. الكلامُ يذوبُ) فهي تجسِّدُ لحظةَ هِزَّةِ اللذَّة Orgasmفي هذه الرحلة .. وهي تمتدُّ في مدىً زمنيٍّ من 2007 إلى 2009 بحسبِ تواريخ القصائد ..
   4- المرحلةُ الرابعةُ هي قربُ نهايةِ الرحلةِ وتحققُ الغُربةِ في قصيدة (بركبةٍ داميةٍ) التي يفتتَحُ بها الديوانُ، ثُمَّ الإيغالُ في الغربةِ كما في قصيدة (أغنيةٌ للكلابِ والغُربة) ..
   5- المرحلةُ الخامسةُ هي كمالُ اليأسِ من تحققِ المعرفةِ واجتلاءِ الحقيقةِ، وتجسدُها قصيدةُ (التغريد بطريقةِ برايل) ..
   6- والمرحلةُ السادسةُ والأخيرةُ تمثِّلُ عودةَ رسولِ الآلهةِ (هرمس) إلى عالمِ الناسِ وجيوبُهُ ملأى بالنجومِ المكسورةِ من رحلتِهِ ، وطولُ الرحلةِ ومقدارُ ما لاقاهُ من عجائبِها أنساهُ بدايتَها ، وتتجسدُ هذه المرحلةُ في قصيدتَي (حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماء) و(أغنيةٌ تومِضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ) المؤرَّختَين بعام 2011 ، وهي رُبَّما تمثِّلُ إرهاصًا بديوانٍ مُقبِلٍ أو مرحلةً انتقاليةً بينَ ديوانٍ تَمَّ وآخَرَ آخذٍ في التشكُّل ..

وفيما يلي، سنحاولُ استعراضَ القصائدِ بشكلٍ أفقيٍّ ونتناسى بشكلٍ جزئيٍّ هذا التصنيفَ المرحليَّ الذي أملَته علينا قراءتُنا:

- (بركبةٍ دامية): يفتتح الشاعر قصيدته بالتبرُّؤِ من الكتابة عن الأشياء حيث يقولُ: "لن أكتبَ عن أي شيء/النمورُ لا تلبس جلود ضحاياها/والصياد واقفٌ على الهواء/لن أكتبَ عن أي شيءٍ/إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسنا/حين تهزّها رائحةُ الجنون."وفي هذا المفتتَحِلعبٌ على الذوقِ الجَمعِيِّ في قوله (النمورُ لا تلبسُ جلودَ ضحاياها) .. نحنُ نعرفُ أنَّ صيادي النمورِ هم الذين يلبسونَ جلودَها، وبالطبعِ لا يلبسُ النمرُ جلدَ ضحيتِه، لكنَّ (هرمس) يوحِّدُ بينَ الأشياءِ بما هي موضوعاتٌ لإدراكِ الشاعرِ من ناحيةِ، وضحايا النمر من ناحية، كما يوحِّدُ ضمنًا بين الشاعرِ وبين النمرِ فالأولُ يفترسُ وعيُهُ الأشياءَ كما يفعلُ الثاني بأسنانه .. هذا التشبيهُ الضمنيُّ كما يُسمَّى في بلاغتنا القديمةِ يفتحُ أعيُنَنا على خاصيةٍ في شعريةِ هرمس؛ هي اكتشافُ معانٍ شديدةِ العُمقِ من خلالِ تأمُّلِ حقائقَ طبيعيةٍ مستهلَكةٍ، وهي الوظيفةُ الشِّعريةُ التي رُبَّما لا يضطلعُ بها على أكملِ وجهٍ إلا التشبيهُ الضِّمنيٌّ الذي يسمو على المفرداتِ ليصلَ إلى تجسيدٍ حيٍّ لصورةٍ متكاملة .. ثم يقفزُ مرةً أخرى في السطر التالي (والصيادُ واقفٌ في الهواء) ليتَّحِدَ بصيادِ النمورِ، الذي افترست رَميتُهُ حياةَ النمرِ، لكنه لم يُهرَع على إثرِ الإصابةِ إلى النمرِ ليأخُذَ جلدَهُ هو الآخَرُ، بل توقفَ (في الهواءِ) متعاليًا على الحدَث .. لقد اصطادَ النمِرَ لكنَّهُ لن يتقمَّصَه .. كما أدرك (هرمس) الأشياءَ وقرَّرَ ألاّ يتقمَّصَها .. وهنا يُراوحُنا (هرمس) بين توحُّدِهِ مع دور النمرِ وتوحُّدِهِ مع دور صائدِ النمِرِ ، مما يُبرِزُ خاصيةً أخرى هامةً في شعرهِ المجموعِ بين دفتي هذا الديوان ، وأعني بها حالةً من المثاليةِ الموضوعيةِ تقتربُ من وَحدةِ الوجود .. الشاعرُ هو النمرُ، وهو صائدُ النمرِ، لا تضارُبَ في ذلك .. هو متوحِّدٌ مع العالَم رغم تصريحِهِ بأنه لن يكتُبَ إلا عن نفسِه. ربما نفسُهُ هي العالَم .. وحين يختم هذا المقطعَ بقولِه: "إننا لا نكتبُ إلا عن أنفسِنا حين تهزها رائحة الجنون"فهو يدفعُنا إلى تأمُّلِ مدركاتِنا من جديد .. ألها وجودٌ موضوعيٌّ منفصلٌ في النهايةِ عن عمليةِ إدراكِنا؟ أم أنها هلاوسُنا (رائحةُ الجنون) تتجسدُ أمامَنا فلا نملكُ إلا الكتابةَ عنها؟!
  بعد هذه التقدمة يتفرّغ (هرمس) للحديثِ عن نفسِهِ التي قرر ألاّ يتحدثَ إلا عنها، فإذا هو يفاجئنا برَدِّها إلى العالَم، حيث يقول: "قلبي قطعةٌ من اللحم/ ورُوحي أيقونةٌ قديمةٌ ورثتُهاعن الأسلاف/ وعصافيرُ من حُزنٍ حَطَّتْ مبتهجةًَ بلا سبب" .. جُمَلٌ تقريريةٌ قاسيةٌ تثُلُّ عرشَ البلاغةِ القديمةِ في تُؤَدَةٍ لا مبالِيَةٍ ، فالقلبُ محلُّ المشاعرِ عند أجيالٍ من الشعراءِ ما هو إلا قطعةُ لحم ، والرُّوحُ جُمّاعٌ لنماذجَ أوليةٍ Archetypesتشكَّلَت عبرَ أعمار الأسلافِ وليس له فضلٌ ولا مثلبةٌ فيما هي عليه الآن، وهي عصافيرُ مادتُها هي الحزنُ إلاّ أنها حطّت في بهجةٍ غيرِ مُبَرَّرَةٍ، ولعلَّ في هذا تناصًّا بعيدًا مع بيتِ الأخطل الصغير: "يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً. كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا"، فليسَ وراءَ هذه الحركةِ الباديةِ إلا حيادٌ صافٍ متشائم ..
  يقولُ (هرمس) أيضا: "يالَشِقْوتنا يالَجمالِ شِقوَتِنا/فزجاجُ النورِ مكسرٌ في كفوفنا/ونسمي ذلك بالكلمات /فنقولُ الحنينُ ولا نشعرُ بالعار/ نَقولُ الوِحدة/ ولا نتجمدُ لفورِنا".. نمضي مع تسفيهِ أحلامِنا وتكسيرِ أوثاننا إلى هنا، حيثُ يكشفُ لنا (هرمس) عن كُنهِ كلماتِنا التي نتشدّقُ بها ويلصِقُها كلامُنا ببعضها .. إن هِيَ إلاّ وسيطٌ كانَ يُفترَضُ فيه أن يَشِفَّ ما وراءهُ (زجاجُ النور) لكنَّهُ تكسَّرَ وتبعثرَ في كفوفِنا، رُبَّما بابتعادِنا عن ينابيعِ المعاني الأُوَلِ، وبأجيالٍ من المتكلمينَ صنعوا أجيالاً من الإزاحاتِ الدّلاليةِ، ففقدت الكلماتُ علاقاتِها المباشرةَ بالمعاني، لكنّنا موغِلُونَ في العمى، فنقولُ (الحنينُ) ولا نلتفتُ إلى أنَّ محضَ استخدامِ هذه الكلمةِ يفصِلُنا عمّا نحنُّ إليه فلا نشعرُ بعارِ هذا العمى نصفِ الإرادِيِّ ، ونقولُ (الوِحدةُ) ولا يسفعُنا بردُها القارسُ فكأنه لا وِحدةَ هناكَ ، وكيفَ تكونُ الوِحدةُ ونحنُ لم نتجمَّد لفورِنا؟! .. يُسمّي (هرمس) هذه الورطةَ المتمحورةَ حولَ فقدانِ الدوالِّ مدلولاتِها تدريجيًّا: "شِقوةً جميلة" .. هي شِقوةٌ لأنهُ يشعرُ بمعاناتِها وتؤرِّقُهُ، وهي جميلةٌ لأنها توفِّرُ على كلِّ هؤلاء الناسِ فيضًا من مشاعر الإثمِ والجمودِ والعار .. ورطةٌ معرفيةٌ لا ينوءُ بحَملِها إلاّ من أوقعَتهم أقدارُهُم تحتَ نَيرِها!
 بعد ذلك يُهيبُ (هرمس) بالصمتِ أن يَحضُرَ ويعلِّمَ المصطفّين في انتظارِهِ أو في غير انتظارِه: "فتعالَ أيها الصمتُ بأجنحتك وبالمناسر/وعلّمنا لحنك/ووقوفنا أمام الجدار/ومباغتةَ الموسيقا لأعضائنا/و إسرافَنا في السخرية و الموتعلى أنفسِنا" ..الصمتُ هنا طائرٌ جارحٌ كما تدلُّ على ذلك لفظةُ (المناسِر)، وهي تقابلُ (المناقيرَ) للطيور غير الجوارح .. لماذا لجأَ (هرمس) إلى هذه الاستعارةِ المكنية؟! رُبَّما لأنَّ دورَ الصمتِ هنا هو قلبُ الأوضاعِ الراهنةِ التي كرّست الورطةَ المعرفيةَ المُشارَ إليها آنفا .. سينتهكُ الصمتُ بحلولِهِ فينا كلَّ هذا الزيفِ والدوالَّ الفارغةَ وسيعلمنا لحنَه الصادقَ الكئيب، وكيف نقفُ احترامًا أمامَ جدارِ ما لا نعلمُ، غيرَ محاولين اختراقَه ..
  يُكثِرُ (هرمس) من الالتفاتِ في هذه الصلاة! بعد الفقرةِ السابقة مباشرةً يقولُ مخاطبًا جماعةً تظهرُ فجأةً في النَّصّ: "بيتُكُم بعيدٌياجيرةَ الركض/وهوسَ الندرة/يا جوقةَ القمرِ المنفرطة/بيتكم بعيدٌ/وسفينةُ العالم مكسورة."مَن هؤلاء؟ إنهم مَن ضاقوا ذَرعًا كـ(هرمس) بزَيف الكلامِ وخواء الدّوالّ وإحالتِها إلى أنفسها .. إنهم من ينوءون مثلَهُ بذاتِ الورطةِ المعرفية .. إنهم (جيرةُ الرَّكض) نحوَ مثلٍ أعلى جديدٍ ربَّما هو الصمتُ/ السَّوادُ/ الكآبةُ الصافية، وهُم (هَوَسُ النُّدرَةِ) المتفلِّتون من عِقالِ ما تكالَبُ عليه الجموعُ، وهم في النهاية (جوقةُ القمرِ المنفرطةُ) التي تعلَّقَت بهذا الكيانِ المتعالي (القمر) الذي ما إن يكتمِل في فلَكِهِ حتى يعويَ المذءوبونَ وتحيضَ العذارَى ويصدحَ المغنّون .. هم جوقتُهُ الذين يُنشِدون أغانيَهُ إلا أنها جوقةٌ لم تجتمع يومًا في صعيدٍ واحد .. ورغم ذلك فلهم بيتٌ ما لكنَّهُ بعيدٌ وما من وسيلةٍ إليه إلا هذا العالَمُ فهو السفينةُ، لكن لا أملَ في الوصولِ، فالسفينةُ مكسورةٌ، والعالَمُ يدورُ حولَ لُبِّهِ الفارغ ..
  يختم (هرمس) القصيدة بقوله: "لا يحزنني شيءٌ ما/كل ما هنالك/أن الليلَ يأتي مبكرًا/كلما اقتربَ الشتاءُ/فأجلسُ هنا/وأفكرُ أن لي روحًا/بدراجةٍ/وركبةٍ دامية."هنا تمهيدٌ تقريريٌّ يُفضي إلى صورةٍ ختاميةٍ تحملُ عنوان النَّصِّ أخيرا .. يتبرأُ (هرمس) من الحزنِ الذي لا تخطئُهُ الذائقةُ في سطور القصيدةِ، لكنَّه يقرر أنه يجترُّ ظاهرياتِ رُوحِهِ كلّما طال الليلُ مع مقدمِ الشتاء .. تلك الرُّوحُ الطِّفلةُ ذاتُ الدّرّاجةِ والرُّكبةِ التي أدماها اللَّعِب .. استعارةٌ مكنيةٌ جديدةٌ – وعذرًا لمن يكرهون اصطلاحاتِ البلاغةِ القديمة – تُطلِعُنا على معاناةِ هذه الرُّوح التي عرَكَت العالَمَ في طفولتِها حتى دَمِيَت ولم يبقَ لها إلاّ التأمُّلُ في حيادٍ كئيب .. إنهاعاطفةٌ أعمقُ بكثيرٍ من الحزن، ولا يختلجُ الفرحُ والحزنُ وما سواهُما إلاعلى سطحِها الذي لا يدَعُ كثيرين ينفَذُونَ إلى ذلك العُمق.
- (مقاطعُ لصاحبةِ القُبَّة): بعكس القصيدة الأولى ، يغرقُ (هرمس) هنا في تفاصيلِ الحياةِ القاهريةِ بكلِّ محلِّيّتها ، فالفتاةُ التي يُغنّيها تسكنُ قريبًا من (صاحبةِ القُبّة) التي نرجّحُ أنها (السيدةُ زينب) لأنَّهُ يسردُ تفاصيلَ عن حواري (عابدين) الظليلةِ وسوق (الاثنين) .. القصيدةُ صباحيةٌ نؤومٌ إن جازَ التعبيرُ ، فليسَ فيها كآبةُ الليلِ الناضحةُ في القصيدةِ الأولى ، وسرديَّتُها تليقُ بالصباح الذي تتضحُ فيه التفاصيلُ وتشغلُنا كما تشغلُ الشاعرَ عن محاولةِ إدراكِ الكلياتِ والماوراءاتِ كما هو الحالُ في قصيدة (بركبةٍ دامية) ، وهي نؤومٌ كبطلَيها – أعني الشاعرَ وفتاتَهُ المُغنَّاةَ – لأنَّ الذاتَ الشاعرةَ فيها تستسلمُ لحالةٍ من اللامعرفةِ واللاتحدُّد ، ممتزجَين بخدَر الاستيقاظ متأخرًا من النوم .. نلمحُ هذا في تعابيرَ مثل: "وتشابكت أكفنا/لكنني كنتُ غائبًا/في دوائر الضوء
على إسفلتِ حواري عابدين الظليلة."و"وتفاصيل خط الاستواء/الذي عجنكِ بالماء و الشمس/حتى صرتِ فاكهة ًلذيذة/لا أعرف اسمها الاستوائيّ/لكنني أشتهيها."و"تصرّينَعلى ارتباككِ كلما التصقت عيناي بعريكِ الشمسي /عرفتُ شعابَكِ/إلا أنني أكسر بوصلة العرفان/وأسلُكُ متحسسا بداهةَ جسدِكِ /أتوهُ/أصلْ."

- (الرِّيحُ شَعرُ الرسولةِ الطَّويل): القصيدةُ ليلةٌ خريفيةٌ تستدعي لدى القارئِ مأثورًا إسلاميًّا عتيدًا عن ليلةِ القَدر من طرفٍ خَفِيٍّ حيثُ يقولُ (هرمس): "في ليلةٍ خريفيةٍ ينامُ الأطفالُ شبعانين/ تهدأ الكلابُ وتحلَمُ القططُ بالمطرِ/ الأشجارُ التي لا تموتُ واقفةٌ في الريح / الريحُ تلك: شَعرُ رسولةِ طَويل.".. إنها ليلةٌ مفارقةٌ للمألوفِ، رُبَّما فقط في وعي الشاعر، ذلك الوعي الذي اكتشفَ أن الريحَ الخريفيةَ التي تعابثُ الشجرَ الذي لا يموتُ إن هِيَ إلاّ خصلاتُ شَعرٍ : "خصلاتٌ تنسحبُ على جسدي / خصلاتُ الرِّيح / أفتحُ كفّي ممسكًا بكُرَةٍ لا مرئيةٍ من شَعرِها".. ويختم القصيدة القصيرةَ بقوله: "أقولُ: أنا ساحرٌ."فلهذا أدركَ ماهيَّةَ الرِّيح وأمسكَ بكُرَةٍ منها .. فلماذا إذَن هو شَعرُ (رسولة)؟! تلك الكلمةُ التي لم تتكرر كثيرًا في أيِّ سياقٍ أسطوريٍّ أو نبوئِيٍّ في الموروث الثقافيِّ البشريِّ كلِّه؟ الريحُ شَعرٌ طويلٌ لأنثى ، ويكونُ الشَّعرُ عادةً طويلاً في الأنثى دون الذَّكَر! لكنَّ هذه الأنثى تضطلعُ بمهمةٍ جليلةٍ فهي تحملُ رسالةً ما إلى هذه الكائناتِ التي اشتملت عليها القصيدةُ، أعني الأطفالَ والكلاب والقططَ والأشجار .. يشبع أطفالُ القصيدةِ أولاً وينامون، ثُمَّ تهدأ الكلابُ وتستسلم القطط لأحلامِها في السطر الثاني ، ثُمَّ تقفُ الأشجارُ مستسلمةً لعبثِ الريحِ ولا تموتُ رُغمَ ذلك .. كلُّها حوادثُ تتقدَّمُ بهذه الكائناتِ إلى سكونٍ وليس إلى اضطرابٍ أو مزيدٍ من الحركة .. إنها الرسالةُ التي ينتظرُها (هرمس) بالصمتِ منذ القصيدة الأولى المفتاحية (بركبةٍ دامية) .. جاءت الرسولةُ بالسكون ، وأدركَ مجيئها رسولُ الآلهة .. نحن بإزاءِ قصيدة الرُّؤيا .. ألهذا لم يُذَيِّلها (هرمس) بسنةِ كتابتِها كبقيةِ القصائد؟! ألِتَظَلَّ متعاليةً على الزمن باسطةً كفَّيها إلى قصائد الديوان علَّ الرؤيا تتحقّق؟!

- (الكلام يحترقُ الكلامُ يذوب): بعد الرُّؤيا تبدأ الصلاة .. يبدأ (هرمس) القصيدةَ بسؤالٍ ذاهبٍ في الغموضِ  "من يا فَوْرةَ النّارِ في النّايْ؟ ".. يُخَيِّلُ إلينا السؤالُ اللحنَ نارًا تشبُّ ذاتَ لحظةٍ في النايِ وتفورُ، ولهذا وجاهتُهُ بالتأكيدِ إذا تمثَّلنا ارتعاشَ اللحنِ وحركاتِهِ وأنصافَ نغماتِهِ المتأخرةَ الزائدةَ عن متنِهِ الأصليِّ Acciaccaturaالتي تشبهُ بالفعلِ ذُؤاباتِ النارِ وشراراتِها المتطايرةَ في كلِّ اتجاه .. ثم يشفع (هرمس) سؤاله بسؤال "مَن يا قطراتها الكوْن" .. تركيبُ السؤالِ منفتحٌ على تأويلَين، فهل يسأل (هرمس) قطراتِ النارِ عن كُنهِ الكونِ ، والكونُ هناعاقل؟ أم أنَّه يسألُ قطراتِ النارِ التي شكّلت الكونَ عن شيءٍ مازالَ مجهولا؟ في الحالَتين يُكرِّسُ هذا التركيبُ المفتوحُ للسؤالَين ، بالإضافةِ إلى تأخير بيانِ المسؤولِ عنهُ العاقلِ ، يُكرّسان غموضًا صوفيًّا ونزوعًا عرفانِيًّا لا يتذرَّعُ بالمألوفِ من التراكيبِ النحويةِ لأنّه يعي مدى مفارقةِ موضوعهِ الذي يسألُ عنه .. فهاهُنا شكلٌ ومضمونٌ مفارقانِ للمألوف يحملُ كلاهُما صاحبَه .. يسترسلُ (هرمس) بعد ذلك في أسئلتهِ المفارقة: "أهيَ فمُكِ الفاغرُ بالعشق/مَتى سوّاكِ الثقيلُ الثقيل/متى الخفيفُ غنّاكِ فجُنَّ/ولماذا نضجَ لحْمي على عينِكِ".. وهي أسئلةٌ حرص (هرمس) في كتابتِهاعلى ألا يُنهِيَها بعلامة الاستفهام الترقيمية ، ليتركها محتملةً التقرير ومخاتلةَ أداةِ الاستفهام .. إنه يسألُ عن كيانٍ مؤنّثٍ غامضٍ ربّما هو فم النار المفتوح بالعشقِ .. ثُمَّ هو يضيفُ إلينا مجموعةً من التقاريرِ عن هذا الكيانِ ، فقد سوّاهُ الثقيلُ المبالغُ في ثقلِهِ ، وقد غنّاهُ الخفيفُ فجُنّ .. نحن بإزاء لغزٍ مقدّسٍ يحتفي بالنار التي نَضِجَ لحمُ الشاعرِ على عينِها .. ثُمّ يقولُ (هرمس) في مقطعٍ تالٍ: "وأنتِ يا نحلةَ العَسَلْ/ مَا ولَعُكِ في الزهرة / و الزّهرةُ مَا كُفرُها بالخشبِ / و ما هرطقاتُها بالعطر / ومَن يكفّ دلالها عنّي".حيثُ تتضحُ خصيصةٌ أخرى لكتابةِ (هرمس) وهي استيلادُ الأسئلة من أسئلةٍ والسطور من سطور .. ثم يعود (هرمس) ليغازل تيمةَ معاناةِ الإدراكِ ومعرفةِ الحقيقة في قوله: "يا لَونُ فارقتُكَ لأراكَ / يا صَوتُ فارقتُكَ لأسمعَ".يقولُ فيما بعد: "حديثيَ عنكِ أكذوبةٌ فاقطعيني إليكِ / اختمي على اللسانِ كلامَكِ / ليظنّني العابِرُ ساحرًا أو مخبولا". إنها مناجاةٌ في موقفٍ نِفَّرِيٍّ بين يدي كيانٍ مفارقٍ أعظم، حيثُ نكتشفُ أنَّ القولَ بالمعرفةِ حجابٌ دون المعرفة .. إنها صلاةٌ صوفيةٌ أصيلةٌ تنتهي بقولِهِ: "ألا إنَّ الكلامَ احترقَ / ألا إنَّ الكلامَ ذاب" .. إنها النارُ قد آتت ثمرتَها في نهاية الصلاةِ ، فاحترقَ الكلامُ/ ذابَ ، وبقيت معرفةٌ عميقةٌ لا يُعبَّرُ عنها بكلام ..

- (أغنية الشاهق العطشان): بعد أن صلّى (هرمس) للنار في القصيدة السابقة ، يغني هنا للماء .. مسرحُ القصيدةِ عربةُ المترو حيث الماءُ مسكوبٌ على أرضيتها النظيفةِ صباحًا، يقرأُ الحكمة .. والماءُ في القصيدةِ هو الذاتُ الشاعرةُ وهو انعكاسُها على العالمِ كذلك .. نلمحُ هذا في قولَي الشاعر:  "يا ماءُ يا مرآةُ/ أراكَ تراني / وتَجلِسُ تقرأُ الحكمةَ / وهُم يتبارزونَ / في الكُتُبِ / تَشربُني عيونُهم / و أسكَرُ".الماءُ في القصيدةِ هو العالَمُ بأسرِهِ متبدّيًا لحِسّ الشاعرِ المختلفِ من خلال عربة مترو ، في المقطع: "المَسكونُ الممسوسُ القاسمُ المَصروعُ
السّائلُ القالِبُ المنقَلبُ العَكُوسُ الشاهقُ العطشانُ" ..
إنه مقطعٌ يتذرَّعُ بوفرةٍ من الأخبار لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ (هو) ، وماذا عسى أن يكون (هُوَ) إلاّ الماءُ؟ فهل يجوز أن يكون الماءُ ذاتُهُ هو العطشان؟؟ نعم ، إن كانت الذاتُ هي العالَمَ وقد سلّم الشاعرُ رُوحَهُ إلى الكون .. إنها مثاليةُ الفيلسوف (شيلنغ) الموضوعيةُ المتصوفةُ التي تعبدُ العالَمَ وتقدسُه ..

- غرباء: أذكرُ ليلةَ ألقى (هرمس) هذه القصيدةَ في النادي الأدبيِّ لساقية الصاوي عام 2006! كُنّا نحنُ – جماعةَ سيميا – قد قررنا أن نقتحمَ لقاء الأدباءِ هناكَ ، وأثارت القصيدةُ ما أثارته من جدلٍ كالعادةِ ، وقرر السيميائيُّون اعتبار مقطعٍ من القصيدةِ شعارًا لجماعتهم: "لسنا جماعةً/حزبًا/عِرقًا. و لا نضمنُ لكمَ ملاجئَ منَ التشيّؤِ الضاربِ في الخارج. ولا من الوعي/العطشِ ، الذي يلعقُ الفراغْ. ولن نبسُطَ أمامَكُمْ رؤيتَنا - رؤانا نفقتْ مذ صرنا . لِذا : لن نساعِدُكُم إن صِرتُمْ مِنّا فقط . . . ستصيرونَ ، ولاشَيء". يقول (هرمس) في مقطعٍ آخر من نفس القصيدة: "لكلٍ منّا لغةٌ ، وبعضُنا لا لغةَ لهْ .. هكذا لا نكلّمُ غالبًا بعضنا الآخر . وإذا تكلّمنا ، لا نقولُ شيئا!".. إنهم الغرباء الذين يتحدثُ عنهم (هرمس) في قصيدةٍ سابقةٍ فيقولُ عنهم (جوقة القمر المنفرطة) .. غارقونَ في الصمتِ كدأبهِم ، فهو أنشودتُهُم ..

- أغنيةٌ للكلابِ والغُربة: هنا يقفزُ (هرمس) خطوةً أخرى في اتجاهِ الغربة .. يبدأ القصيدةَ باقتباسٍ من (بودلير) عن الكلاب .. لماذا اختار (بودلير) و(هرمس) الكلابَ بين كل الكائنات لتصبح أيقونةً للغربة؟ أظنُّها تلك الأعيُنَ المسكونةَ بشوقٍ عميقٍ إلى الكلامِ ، الكلام الذي لا يطاوعُ الكلابَ إلا نُباحا! نذكر من القصيدة الأولى (بركبةٍ دامية) غناءَ (هرمس) لجيرةِ الرَّكضِ وجُوقةِ القمرِ المنفرطة وهوسِ النُّدرة .. هنا يقولُ: "سأُريالمليحةَ كيفَ في دَمِها عواءٌ لم يُنجَز
/وأمحو الخجلَ عن وجهِ الهلالِ/ سأشيرُ للمُظلِمِ مِنهُ وأعوي". لقد نسيَ (هرمس) أو تناسى جوقةَ القمر المنفرطة ، وشردَ وحيدًا وهو يشيرُ إلى المظلمِ من الهلالِ مواصلاً عُواءَه .. لقد رضيَ الإغراقَ في الوِحدةِ وكأنّما خبا حنينُهُ إلى كلِّ صُحبةٍ من البشر .. لكنَّ وِحدتَهُ لا تلبثُ أن تنخُسَهُ فيحنَّ من جديدٍ لرفيقِ سيرٍ فيقول: "في يومٍ ما سيأنَسُ لي صبيّ مَنذورٌ / ويغنّي معي / سيقبَلُ أن يُؤاخي بينَ الكلاب والشجر / بينَ الذئابِ و المُحيطِ / بينَ الأحذيةِ و القطارات / بينَ الغُرباءِ والغرباء". الرفقةُ المنتَظَرةُ الآنَ مُريدٌ صَبِيٌّ يتفهّمُ سيولةَ العالَمِ ووَحدةَ الوجودِ كما يفهمُها الشاعرُ ، ويرى بقيةَ الغرباءِ بعينٍ محايدةٍ متعاليةٍ فيؤاخي بينهم على اختلافِ أسبابِ غربتِهم .. نحن بإزاءِ غربةٍ على غربةٍ في هذه القصيدة ..ولهذا يختمُ القصيدة بقوله: "أغنّي للرؤية و المشّاء الوحيد/ في ليل الشتاء/ يعدّ الشهب/ ويراجِعُ تاريخَ الندرة !". هذه المراجعةُ لتاريخِ النُّدرةِ تحيلُنا بدورِها إلى قصيدة (بركبةٍ دامية) التي يحيي فيها الشاعرُ (جيرةَ الركضِ وهوسَ النُّدرة) .. فهو هنا يتعالى عليهم وينظرُ إليهم في حيادٍ إلهيٍّ ويغتربُ عنهم إلى أقصى الاغتراب ..
-
كوخٌ فارغ:يختار (هرمس) هنا الكتابةَفي شكل الفقراتِ الطويلةِ نسبيًّا ، مقارنةً بشكل السطور القصيرةِ في القصائد السابقة. ورُبَّما يكونُ هذا مناسبًا لحالةِ المونولوج الذي يلقيهِ على مسامعِ آخرَ يبدو متخيّلاً في القصيدة. كأنما يخاطبُ (هرمس) رُوحَه .. إنه يجابهُ هذا الآخرَ بما يفترضُ أن يكون حقائقَ محبِطةً ويعطيهِ حريتَهُ كما يقول: "القلوبُ تُؤكَلُ أولاً ثُمَّ الأرواحُ تُصَبُّ في الكؤوس، ولكَ ألاّ تسكرَ في ندامتي، ولك أن تقفزَ من النافذةِ ولا تعودَ مرةً أخرى، هل تشعرُ بالإهانةِ؟ وماذا عن وِحدتِكَ الخارقةِ؟ ألستُ أنا أيضًا آكلُ قلبًا وأشربُ روحًا وحيدًا على هذه المائدةِ الأزلية؟."يختم القصيدةَ بقوله: "في هذه الأحيان ستتحولُ روحُكَ لملايينِ الذّرّاتِ، في كبديَ السكران". يعني هذا أنه سيشربُ هذه الرُّوحَ وسيسكرُ بها .. إنها عزلةٌ اختياريةٌ في هذا الكوخِ "يوجدُ كوخٌ من القصبِ يكونُ خاليًا في كلِّ المواسم"،حيثُ يأكلُ الشاعرُ قلبهُ ويشربُ رُوحَهُ حتى يتماهى الرُّوحُ والجسدُ ويحلّ في كبدهِ بالتحديد!

- ترنُّحٌ على سفحِ الأفق: هي القصيدةُ الأطولُ في الديوان، والأعقدُ في بنائها، وهي مُؤرَّخةٌ بعام 2006 ، وغرابتُها تبدأ من عنوانِها .. السفحُ أسفلُ الجبل ، والأفُقُ معنىً يصعبُ تحديدُهُ تمامًا ، إلاّ أنّ (سفح الأفقِ) يفترضُ إحداثِيّاتٍ فانتازيةً يصلُ فيها الشاعرُ إلى منتهى بصرِهِ ، ولمّا كان في الأمرِ ترنُّحٌ ، فإنَّ هذا يعني اضطرابًا عميقًا عصفَ بهذا الواصلِ إلى منتهى بصرِه .. كما أنَّ كلمةَ (سفح) تحملُ بين مدلولاتِها اللُّغَوِيّةِ (السَّفْكَ) ، فحين يُسفَكُ الأفقُ (كأنَّهُ مادةٌ سائلةٌ ظلّت محفوظةً بمكانها زمنًا ثُمَّ أُذِنَ لها أن تنسابَ عُنوة) ، فلابُدَّ أن يترنَّحَ الناظرُ إلى هذا الأفقِ المسفوكِ، وهو ما يحدثُ هنا بالفعل! القصيدةُ مفعمةٌ بالخذلانِ وإحباطِ الجهدِ من السطرِ الأولِ حيثُ يقول: "أبحثُ عنّي  / في أفواهِكم / بينَ تشنجاتِ زوايا شفاهكم / وعلى أرففٍ مغبرّةٍ في أخاديدِ جباهكم / ويعييني البحثُ /فآوي لكفّي / لتعصمني من طوفانِ أبجدياتكم العقيمة / فأغرقُ معكم.أيها المغرقون."إنها بدايةُ اليأسِ من الوصفاتِ الجاهزةِ للمعرفةِ لدى الناس، فلا سبيلَ إلى الحقيقةِ عبرَ كلامهم أو ما يبدو كأنه حكمةُ السنينَ على أرففٍ غابرةٍ في أخاديدِ جباههم ، فينكفئُ الشاعرُ على تأمُّلِ ذاتِهِ ليَخرُجَ من طوفانِ الكلامِ الذي لا يسمن ولا يُغني من جوع .. إنها بدايةُ الرحلةِ الهرمسية لمعرفة الحقيقة ، ولهذا يقولُ في الفقرة التالية: "خذلتمونا/ لازالت السحاباتُ حُبلى لا تلدُ / خذلتمونا/ الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل / خذلتمونا/ ها ثيرانُ الأفقِ تجرّ سواقِيَ وهمّيةً / لم يبقَ منهاسوى الوجعِ / خذلتمونا / وها نحنُ/ نولدُ/ ونموتُ".
لا شيءَ حقيقيًّا يتغيرُ وكأنَّ الرحلةَ إلى المعرفةِ عبرَ حكمةِ الآخرينَ ماهِيَ إلاّ ركضٌ في المكانِ ، فالسحاباتُ حُبلى لا تلد .. يستدعي (هرمس) هنا (امرأَ القيسِ) بلقبِهِ ودورِهِ: "الضِّلِّيلُ يشُمُّ الوطنَ في كل طلل" .. يحتملُ سياقُ القصيدةِ خيبةَ أملٍ عميقةً في تاريخِ الشِّعر كذلك ، فإن كان الشِّعرُ بادّعاءِ عبَدَتِهِ طريقًا لمعرفةِ الحقيقةِ / الوطنِ ، فلا شيءَ تحقّقَ على اليقين .. اتّكأنا على ما قالَهُ الأقدمونَ ولم نعرف ، سلَكنا طريقَهم ولم نَصِل ، فامرؤُ القيسِ أولُ من بكى الأطلالَ مازالَ يتحسّسُ وطنَهُ في كلِّ طلَلٍ إلى الآن . إنها خيبةُ أملٍ عميقة .. يختمُ القصيدةَ بفقرةٍ قاسيةٍ: "ستبترونَ أصابعَكم/ وتقولون: عضّها البرد/ ستسمُلُون عيُونَكم / وتقولون: يريدوننا عُميًا / ستقطعون شرايينَكم/ وتقولون: اليأسُ ساحقٌ/ ستبتلعون ألسنتَكم / وتخرسونَ للأبد".كأنها نبوءةٌ لما سيحدثُ في نهايةِ المطاف .. سييأسُ كلُّ من اتّكأوا على موروثِ المعرفةِ الجاهزِ من متَّكأِهِم ويستسلمونَ للضياع .. أو كأنّها دعوةٌ عليهم لئلاّ يجدوا طريقَ الحقيقةِ أبدًا جزاءً لإضلالِهم السالكينَ إلى المعرفة .. القصيدةُ – برأيي – تحلُّ مكانةً وُسطى بين قصائد الديوانِ ، فكأنَّها مقدمةُ رحلةِ المعرفةِ الحقيقيةِ التي يغنيها (هرمس) فيما بعد ..

 - فصلٌ في اللُّصوصِيَّة: يترك (هرمس) العِنانَ للتداعي الحُرِّ كما يبدو لنا في هذه القصيدة بعد أول بضعة أسطُرٍ حيث يقول: "لا يستقيمُ لديّ البابُ إلا على فتْحهِ بمفتاحهِ| فبآخر فبالكتف وبالمطرقة|إلا فالنوافذُ وقضبان الحبس والحَفْر|لا تترك البابَ مفتوحًا وتمضِ|لن يغلقه الامتنانُ بعدك". فكأنَّهُ يقدم لنا تصوُّرَهُ عن البابِ من خلال متتاليةٍ لعرض وسائلِ فتحه تنتهي بالعُدولِ عن البابِ إلى النوافذِ وقضبان الحبسِ وحفرِ الجدارِ ، ثُمَّ يقدِّمُ نصيحةً أخيرةً للمتلقي: ألاّ يمضيَ إلا بعدَ أن يغلقَ الباب! ثُمَّ يَعدِلُ (هرمس) عن باب القصيدِ إلى النافذةِ ليترُكَ أفكارَهُ الآنِيَّةَ تسرقُ كلُّ فكرةٍ أختَها في تتابُعٍ شديد السرعةِ بعد هذه الفِقرَةِ ، فيُحدثُ مواءمةً مضمونيةً بينَ المقدمةِ المتّسقةِ مع ذاتها وما يليها من تداعٍ حُرٍّ فيقولُ مثلاً: "سيادة شطرنج العالم العام!|البراميلُ تحت الأعمدة|جاهزةٌ للعب|الأبواب مغلّقةُ على رنة قداحتك الجدلية|طيّباتُ التطرّف الآتية من حيث لا تدري من نيران|دم الطريق السريع|كأفكار الهرب|عبر حرائق الفئران |أوالموانئ القريبة | وقطارات الطاعون ". القصيدةُ مثالٌ حَيٌّ على التخلّي عن الاتّكاءِ على القوالبِ الجاهزةِ للتعبيرِ وعلى العدولِ عن سلوك الطرقِ التي عبّدَها الأسلافُ لمعرفةِ الحقيقة .. إنها النموذجُ التعبيريُّ الذي يتفتّقُ عنه بالضرورةِ كلُّ هذا السُّخطِ في قصيدة (ترنُّح على سفح الأفق) ..
- القاهرةُ عشيةَ الثورة:إنها قصيدةٌ عن الثورة! مؤرخةٌ بعام 2007 .. إنها رؤيا قصيرةٌ يقولُ فيها: "هنالك شجرٌ يطيرُ/ شجرٌ كثيرٌ يغادرُ شوارعَ القاهرةِ / أذرعٌ خشبيةٌ مورقةٌ تصعدُ/ أسمعُ أنينًا خشبيًا للجذور المنفلتةِ/ الأرضُ تمطرُ أشجارًا / الأفقُ يتحولَقُ/ الأفقُ مدفعٌ أحمر/ الطيورُ تنوحُ في الأعالي/ والنهرُ يتلوّى". إنها صورةٌ كاملةٌ تبدو مشهدًا سينمائيًّا في فيلم (سيد الخواتم)! ولأنَّ الرؤيةَ المسيطرةَ على الديوانِ رؤيةٌ تقدسُ العالَمَ و(تؤاخي بين غربائهِ) ولا ترى فارقًا عميقًا بين الكائناتِ ، فالناسُ الذين هم وحداتُ كلِّ ثورةٍ هم هنا أشجارٌ تطير .. إنها الثورةُ قادمةً كما تبدّى لوعيٍ أكولٍ للعالَمِ شغوفٍ بهِ كوعي (هرمس) ..
- أغنيةٌ داميةٌ صغيرة: هنا أيضًا نجد المواءمةَ المضمونيةَ بين المقدمة الواضحةِ التعيُّنِ وما يتلوها من سطورٍ حيث يقولُ: "سأكتب قصيدةً تتجاهلُ أحداثَ الساعةِ/ وسأغرقُها بالانفجاراتِ الصُّوَرِيَّةِ والبراكينِ اللغوية". فيما يشبهُ البيانَ الافتتاحِيَّ الذي يلخّصُ برنامجَ الحفلِ القادم! ثُمَّ يقولُ: "أتكلمُ عن الساعةِ اللدِنَةِ، عندما انفجرت رأسيَ الاستشهاديةُ في سوقٍ للخُضارِ/ ووقوفِ صلصتيَ البشريةِ لوهلةٍ في الهواءِ جوارَ أشلاءِ القتلى" .. لقد ورّطنا (هرمس) في أحداثِ الساعةِ الداميةِ لكنَّهُ أعادَ ابتكارَها داخلَ لوحتهِ الشِّعريةِ مُحيلاً قراءَهُ إلى لوحة (الساعات اللدنة) لـ(سلفادور دالي) وهي واحدةٌ من أشهر لوحاتِه .. استدعى (دالي) بأثرِهِ الخالدِ وكان في هذا مواءمةٌ أخرى مع المقدمةِ ، فـ(دالي) في لوحاته (الحرب الأهلية) و(الساعات اللدنة) وغيرهما كان يتجاهلُ أحداثَ الساعةِ ويغرقُ فيها في آنٍ ؛ يفجِّرُ لوحته بالإشاراتِ إلى تلك الأحداثِ لكن بعد أن يخلقها خلقًا آخر .. دعنا نلتفت إلى مواءمةٍ شكليةٍ مضمونيةٍ ثالثةٍ في نفس الفقرةِ ، أعني قولَهُ: "عندما انفجرت رأسي الاستشهاديةُ في سوقٍ للخضار"، فالرأسُ استشهاديةٌ لأنها أتت بلازمةٍ من لوازمِ الاستشهاديين (التفجُّرُ في مكانٍ عامٍّ) ، وهي استشهاديةٌ لأنها استشهدت بلوحةِ (دالي) من طرفٍ خَفِيٍّ، وبهذا نشهدُ بحواسِّنا تلك الانفجاراتِ الصوريةَ والبراكينَ اللغويةَ التي وعدنا بها (هرمس) في مفتتحه ..

- حكايةٌ زرقاءُ ممتلئةٌ سيوفًا ودماءً:هذا النص هو الأحدثُ مؤرَّخًا بعام 2011.. وهو في رأيي يمثلُ مرحلةً ما بعد نضجِ الرؤيةِ واكتمالِ الغربةِ الذّين تعبر عنهما قصائد مثل (بركبةٍ دامية – أغنيةٌ للكلابِ والغربة) .. إنها مرحلةُ التسليمِ بما هو واقعٌ والاعترافِ بصعوبةِ الإبحارِ في الغربةِ خارجَ الشِّعرِ المجرَّد .. هنا يرصدُ (هرمس) حركةَ الناسِ في الواقعِ ، بل في أشدِّ مواسمِ الواقعِ واقعيةً (إن كانت الواقعيةُ معادلاً نقديًّا للزحامِ والثرثرةِ والعرَق!) فيقول: "في الصيف يمتلئ الشارع بأناس ذهبيين يستطيعون المزاح رغم فداحة الوجود يتبادلون النكات ويمسكون بأطراف الأحاديث فيعقبون السؤال بالرد. أنا أسود وتأتاء ولص نجوم. كلما أردت الكلام انكسرت نجمة وجيوبي مملوءة نجوما مكسرة". لقد عاد رسولُ الآلهةِ إلى الناسِ وخالطهم من جديدٍ ، لكنَّ رحلتَهُ الطويلةَ إلى المعرفةِ تركتهُ كما يصفُ نفسَه: "أسودَ وتأتاءَ ولِصَّ نجوم" .. تلك النجوم المكسورةُ الممتلئُ بها جيبُهُ هي علاماتُ المعرفةِ والاكتمالِ التي أرادَ اصطيادَها لكنَّها لم تستقِمْ لهُ كما أمر .. يقولُ: "حكايتي زرقاءُ وممتلئةٌ بالسيوفِ والدماء" .. إنَّ هذا ما يحدِّثُ به نفسه بعد أن يقطعَ أنه لن يوريَ لامرأةٍ حكايتَه .. لن تصدِّقَ امرأةٌ ما مرَّ بهِ ، فأزرقُ الحكايةِ يشيرُ إلى ذلك الصفاءِ الذي طاردَهُ منذ البدايةِ ، لكنّ السيوفَ والدماءَ انغرزت فيها حتى أنَّه في نهاية الرحلةِ لا يعرفُ إن كان قد حصَّلَ السماءَ أم لم يفعل .. يختم القصيدةَ بقوله: " سأخبُرها أن النجومَ وقعَت من يدي على الأرضِ وانكسرَت فاحتفظتُ بها وأنَّ الكلابَ أحيانًا ما تتبعُني كما أتبعُ البدرَ وأعودُ وحيدًا وقد صادَني النسيمُ مسكونًا بالحَرِّ والملحِ فُأخرجُ النجومَ المكسورةَ من حقِيبتي وأضعُها في كؤوسِ مياهٍ لأراها تنمو مِن جديد". هذا الفعلُ الأخيرُ الذي يستمسكُ من خلالِهِ بأملِ المعرفةِ والاكتمالِ ، حيثُ يضعُ النجوم في كؤوس الماءِ ويرقبُ نموَّها بعد تكسرِها ، هذا الفعلُ هو المؤشِّرُ على ما يأتي ، فرُبَّما يظلُّ رسولُ الآلهةِ عالِقًا في هذه المرحلةِ ، ورُبَّما يجتازُها إلى ما لا نعلم!

-التغريدُ بطريقةِ برايل: القصيدةُ التي تحملُ عنوانَ الديوان .. إنها تشبهُ نواحًا على العالَمِ الغارقِ في زيفِهِ المبتعدِ بالتدريجِ عن منبعهِ الأولِ أو حالِهِ الأولى من النقاء .. رؤيا أپوكاليپسيةٌ لكنّها لا تتنبأُ بنهايةٍ بقدرٍ ما تُخَلِّدُ العالَمَ فيما هو فيهِ الآنَ حيثُ يقولُ (هرمس) متناصًّا مع التراثين الوثنِيِّ والتوحيديٍّ (الموجودِ في الكتبِ السماويةِ) للعالَم: "ولا أجسادَ تصعدُ لتولِّعَ بالغضبِ الأقدسِ نارَ الإكليلِ وتغرسَهُ في الأرضِ/ ويُنادَى: "لم يُنادِ أحدٌ ولم يَقُل أحد"".. إنه ينفي القداسةَ عن الحالِ الراهنةِ للعالَمِ ويُؤَبِّنُ زمنَها الذي كانَ ، فالطيورُ تغردُ الآنَ بطريقةِ برايل ، حيث لم يعد أحدٌ يفهمُ تغريدَها الأول!
  في هذه القصيدةِ يستعينُ (هرمس) بما يُسمَّى في (البديع) القديمِ باتفاقِ الفواصِلِ في قوله: "أشهِدُكَ يا غروبُ أني رأيت الحربَتصرخُ في الشّبابيك/ والموت مكسورًا على عباراته في القلوب/ وأني الصاحي لأسأل عن الوقت/ الواقف لأبادِلَ موتًا بموت/ الماشي لأبقر الصمت". في كلمات (الوقت-موت-الصمت) .. إنه موقفٌ شكليٌّ يتجاوبُ مع الحالِ التي تشبهُ المرثيةَ Lamentationفي العهد القديم ..
- أغنيةٌ تومضُ مرتينِ ثلاثًا وتنطفئ: هذه التجربة هي الأخرى مؤرّخةٌ بعام 2011 وتنتمي لمرحلة العودة .. "هنالك فقط كومةٌ من ذبولٍ ما أو حفرةٌ من الضبابِ الشفيف، تسببُ لك إحساسًا ساحقًا من شيءٍ ما، ليس الوِحدةَ أو الحُزنَ- الوحدةُ والحزنُ توقفا عن الحدوثِ، أصبحا مِقبَضَين على جانبَي البابِ المؤدِّي إلى الرُّوح". وكذلك: "لا تستطيع تتبع ذكرياتك لنقطة محددة تواطأ فيها الكون- شيخك المزعوم- ضدك؛ ليست هناك لافتات أو مخارج، الوقوف تماما يبدو باردًا و صلدا كالحقيقة، كالموت، حتى الكآبة الصافية، التي شدتك من كمك إلى سهول السماء والمروج والخيال" .. في هاتين الفقرَتَين تركيزٌ لمرحلة العودةِ إلى الواقعِ ، حتى أنَّ ما سبقَ من الرحلةِ يبدو ضبابيًّا وغامضًا وغير محدد المعالِمِ ، فالكونُ شيخُ هرمس المزعومُ (في تكريسٍ لعبادةِ العالَمِ) تواطأ ضدَّهُ وهو لا يستطيع تذكُّرَ بداية إدراكهِ لهذا التواطؤ ..



حواري مع أخبار الأدب في عدد 7 يونيو 2015، و3 تجارب من ديواني (دروس فِ العربي) الفائز في شِعر العامّيّة

$
0
0



مؤجَّل

يا رُقّاد ريح ..
يا مَكّارَة ..
بدال العِطر والمنديل خُدِي من قلبي تِذكارَة ..
كلامي الجاهل العالِم:
فضَل محاصِرني زَي الذنب من قبل امّا ادوق الحُبّ ..
زمان الصفو يوم واتنين
وبعديهم عَكارة يا بير على عكارة ..
أنا المِتخَيَّر المِتحَيَّر الظالِم ..
ما بين إمساك على رُوحي وبين تسريح ..
وكيف اختار يا رُقّاد رِيح
وانا رُوحي ف جَنبي رِيح؟!

يا مَكّارَة ..
سكِتّ وفاكر انك ساكتة ، بس سكوتنا كان تسبيح ..
يا أحلى الحُور
يا أغلى الحُور
يا حِلم الشاعر الحالِم ..
غويط الشِّعر زَيّ البير
وزيّك زَي جنس الحلم:
مغرَم كل جنس الحلم بالتسطيح!
سيبيني لنفسي يمكن أقبل التسطيح
أو اغرق في بحور الشِّعر وانسى الحلم ..
ما عاد فيه وقت للتلميح ..
لأن الجرح صار إنسان ما عاد يستحمل التجريح ..


أنا متأكِّد ان اسمي على وشمِك يا سِتّ الوَشم ..
وقادر احِسّ بحروف اسمك المشتاق بتنغُز قلبي ، واتآلِم ..
لكين مكتوب على قلبي ..
يكون لغزُه اللي متأجِّل:
عيون ..... .... سالِم!

4/11/2005
2 شوّال 1426 هـ
ليلاً
.....................................................................

مارلين مونرو

باربيتيوريت![1]
نام الجسَد ، وصِحِي الجسد ..
راح الولَد وجِه الولَد ..
وكأني ما رُحت وما جيت!
فستاني متعلَّق على شمّاعِة الشمس الحَرُون ..
وانا فيه ،
أنا مش فيه ،
مانيش شايفة!
لو كنت فيه كنت اتحرَقت بقالي ألف من القُرون ..
لو كنت مش فيه ، كنت حافضَل برضُه خايفة ..
يا شمس يا نار الأبَد ..
عارفاكي آه ، لكن نسيت ..
شَعري اتفرَد ، والبَحر غَوّاي الصبايا لمَحني يُوم ..
شاوِرلي بالمُوجَة ، رَميت رُوحي ..
يا ضلوعي يا عُوجَة ما تنفِردي ،
غرَق من بعد عُوم ..
اتبَلّ شَعري ، غرقت ف سكوتي وبُوحي ..
يا بحر يا كنز الزَّبَد ..
ياريت تبطَّل موج
يا ريت!
...






[1]Barbiturateوسيلة انتحار مارلين مونرو
.....................................................................

النعت والمنعوت

صوتِك الطالع من الماضي الجميل
احتضار للحاضر الواكِل ملامحي
هاتي يا سِدرة ، خُدي يا مِدرة قَمحي
مش باقي لي غير رغيف صوتها البَليل

الجوافياية اللي شايله اسمي ورُمحي
يوم ما علّقتيهم انتي ف يوم ظَليل
بالمَح الجِذع ابتسَم من بُعد ميل
وامّا اجيلك رَمح ، بِتهَلِّل لِرَمحي

آه يا ريق العشق يا نيل مستحيل
لَم تِطاوِع مركِبِة عاشق كليل
والصبية الجَنّة شط بعيد ، ونَقحي
نَقحي غرّقني ، ولم يترك دليل!
...
الأحد 3/6/2012


وَسَطَ الأحداث .. قراءةٌ في ديوان (الأوَّل) للشاعر (أيمن ثابت)

$
0
0


"احملي لي يا حبيبةُ شنطةَ الخمرِ، اتبعيني .. عند مقهىً فارغٍ سنصُبُّ كأسَينا ونشربُ هادئَينِ الوَقتَ، نقرأُ ما تبقى من وجوهِ السائرينَ على طريقِ الليلِ .. نُعلِنُ للجميعِ خروجَنا عمدًا عن الحدَثِ الذي اعتادوهُ، نرقُصُ تائِهَيننِ بِبُردةِ الحَلاّجِ، نصعدُ طائِرَينِ كأننا لسنا كَشَيءِ".
     هكذا يختتمُ (أيمن ثابت) أولى قصائدِ ديوانِهِ الأولِ المعنوَن (الأوّل)، والّذي كان قدَرُهُ أن يحصُدَ كذلك المركزَ الأولَ في حقلِ شِعرِ الفصحى في المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة في موسم 2013/2014. والديوانُ مُقَسَّمٌ إلى ثلاثةِ أقسامِ: "الحياةُ بسيطةٌ ومُعَقَّدَة – الّذي بينَ الحياةِ والموت – الموتُ هُوَ مَن هُوَ"تجمعُ ثمانيةَ عشرَ نَصًّا أتى معظمُها في شكلِ القصيدةِ المُدَوَّرَة .. ولهذا وجاهتُهُ إذا تعلَّقَ الأمرُ بجدَلِ الشكلِ والمضمون، فإنَّ القصيدةَ المدوَّرَةَ هي تلك التي نصلُ فيها إلى (القَفلةِ) الإيقاعيّة الأولى فقط مع نهايتها، فليسَ ثَمَّ بَيتٌ شعريٌّ كما في قصائدِ العمودِ، وليسَ ثَمَّ سطرٌ محدَّدُ البداية والنهايةِ الموسيقيتين كما في قصائد التفعيلةِ التقليدية كذلك، وإنّما سَيّالٌ من تتابُعِ الوحدةِ الموسيقيّة (التفعيلة) لا يُرجَى له وَقفٌ إلاّ وَقفًا اعتباطِيًّا بدرجةٍ ما مع نهايةِ القصيدة .. فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ شاعرَنا اختارَ أن تبدأ القصيدةُ كثيرًا مِن منتصَفِ تفعيلةٍ كما في (مجاز): "يَدُ المجازِ على جبينِ قصيدةٍ عادِيَّةٍ"و(الأوَّل): "لم أقصِد إهانةَ آدمَ البشريِّ ..."و(هناكَ): "تكتملُ النبوءةُ حين ينفجِرُ المكانُ بنا"، كان لدَينا ما يُبَرِّرُ اعتقادَنا بوجودِ قصديّةٍ واعيةٍ أو نزوعٍ لا واعٍ وراءَ إصرارِ الشاعرِ على بقاءِ النّصِّ مُعلَّقًا هكذا في تيّار الإيقاعِ، لاسِيَّما أنَّ الخلفيّةَ المشهديّةَ لقصائدِ الديوانِ انتمَت في مُجمَلِها إلى اليوميِّ المتكرِّرِ العاديّ .. وهذا يجعلُ نصوصَ الديوانِ منتميةً بشكلٍ ما إلى الملحميةِ، حيثُ تبدأُ القصيدةُ دائمًا (في وسَطِ الأحداثِ) In Medias Resعلى مستوى الشكلِ كما أسلَفنا الإيضاحَ، وعلى مستوى المضمونِ كما في (مجاز) حيثُ تبدأُ القصيدةُ بجُملةٍ اسمِيَّةٍ تفترضُ أنَّ هذه بدايةٌ اعتباطِيَّةٌ وأنَّ القصيدةَ ورِثَت الحالَ الراهنةَ من زمنٍ غيرِ مذكورٍ سبَقَها، وكما في (مَقهى الحُرِّيَّة): "نادِلُ المَقهَى يُسَمِّي نفسَهُ القانُونَ"حيثُ الجملةُ الاسميّةُ في المفتتحِ هنا أيضا .. والجُملةُ الاسميّةُ ربما تكونُ هي المُعادِلَ اللُّغَوِيَّ لتقنيّة المشهدِ الجامدِ Freezeفي السينما، والتي يُحَبّذُها مخرجونَ كبارٌ من أمثالِ (مارتن سكورسيزي)، حيثُ الدراما متوقفةٌ بما يمنحُنا فرصةً لتأمُّلِ المشهدِ من كلِّ جوانبِه ..
     كذلك نلمحُ خصيصةً أسلوبيّةً في هذا الديوانِ تعضِّدُ هذه الرؤيةَ، ونقصِدُ بها ما يَظهَرُ في فقراتٍ مثل: "سَكَبَت ملامِحَها على عَينيَّ حِينَ سألتُها: هل أنتِ مَن سكبَت على عينَيَّ عندَ البحرِ؟"في قصيدةِ (لن نَمُوتَ) ومثل: "المساءُ مناسِبٌ جِدًّا لنُخبِرَ بَحرَنا أنَّ المساءَ مُناسِبٌ جِدًّا هُنا" .. هنا يبدو ظرفُ الزمانِ عَينَ مَظرُوفِهِ، فحين تسكبُ الحبيبةُ ملامحها على عينيهِ سيسألُها إن كانت هي من سكبَت ملامحها على عينيه، وحينَ يكونُ المساءُ مناسبًا سنُخبرُ البحرَ أنّ المساءَ مناسب .. هنا إصرارٌ على توقُّفِ سيّالِ الحَدَثِ وتجميدٌ للّحظةِ، واستسلامٌ في ذاتِ الآنِ للسيولةِ الملحميّةِ الشاملة ..
     وما يبدو أنَّ شاعرَنا يُحاولُهُ في ثنايا نصوصِهِ ليسَ (أسطرةَ) الحياةِ العاديّةِ بشكلٍ صريحٍ كما يحلو لـ(سكورسيزي) أن يفعلَ ولا كما يحلو لـ(رولان بارت) أن يقترحَ، وإنّما هو يَصهَرُ المتعالي والغَيبيَّ والأسطورِيَّ في بُوتَقَةِ الحياةِ اليوميةِ العاديّةِ ليُطلِعَنا على أصليّةِ ذلك المتعالي في نسيجِ حياتِنا اليومية .. يتجلّى هذا في فقراتٍ مثل: "وهو البسيطُ كنفخةٍ في الصُّورِ عَصرًا، والشهودُ يُتابعونَ بساطةَ التِّترِ النهائيِّ الذي طالَ انتظارُ مَجيئِهِ"وهي فقرةٌ في قصيدةِ (مَجاز) تستدعي أولَ مشاهدِ القيامةِ كما في مأثورِ الدياناتِ الإبراهيميةِ وتمزجُه باليومِيِّ ممثَّلاً في تترِ مسلسلٍ تليفزيونِيّ. كذلك تلك الفقرةُ في قصيدةِ (مقهى الحرّيّة): "ربّما يتساءلون عن الحقيقةِ: هل يسيرُ النملُ جيشًا في طريقِ النصرِ معتمدًا على التسبيحِ؟"، حيثُ تساؤلٌ متعلِّقٌ بسببٍ من النّصّ القرآنِيّ "وإن مِن شيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بحمدِهِ ولكن لا تفقهونَ تسبيحَهُم"يأتي في خضمِّ الحديثِ عن تكهُّنِ الشاعرِ بفحوى حديثِ زبائنِ المقهى الأجانب بلغتهم غير المفهومةِ له، وقبلَ فقرةٍ تاليةٍ تهبطُ بمُتعالٍ آخَرَ ينتمي إلى تراثِ النخبةِ العربيةِ المثقفةِ: "هل قصدَ المَعَرِّي أن يُنَصِّبَ عقلَهُ رَبًّا؟"ثُمّ فقرةٍ ثالثةٍ مغرقةٍ في اليوميّ: "وهل قُتِلَت سُعادْ حُسني أم انتحرَتْ" .. ويبلُغُ شاعرُنا ذِروةَ إخلاصِهِ لهذه المحاولةِ في سطرٍ في قصيدتِهِ (فيس بوك): "اللهُ منتظِرٌ هناكَ يُتابِعُ الأحداثَ عن كَثَبٍ هُنا"، حيثُ يأتي هذا السطرُ قُربَ ختامِ قصيدةٍ تحتفي بحالةِ الثورةِ العربيةِ وتتابِعُ يوميَّها الافتراضِيَّ على فيس بوك .. والشاهِدُ أنَّ المتعالي مجدولٌ في ضفيرةِ الحياةِ اليوميّةِ بما يدفعُ عنها بساطتَها ويُثبِتُ تعقيدَها، أو ربما يردُّها مِن تعقيدِها إلى بساطتِها، فالأمرُ بينَ بين!
     في القسمِ الثاني من الديوانِ (الذي بينَ الحياةِ والموتِ) يحاولُ الشاعرُ اكتناهَ الخُلودِ، وتقودُهُ شاعريّتُهُ المنتصرةُ لليومِيِّ إلى نماذجَ من الخالِدين الذين نعرفُهُم من خلالِ اختزالِهِم إلى يومِيٍّ عاديٍّ عبرَ آلة الإعلامِ، فهناكَ (مانديلا) متجلِّيًا كمثَلٍ أعلى في قصيدةٍ باسمِهِ، ثُمّ هناك الشهداءُ باختزالِهِم إلى تيمةٍ مكرورةٍ مغروزةٍ في قلبِ حياتِنا العاديّة عبرَ شاشاتِ التلفازِ في قصيدةِ (ش): "ش .. والشمسُ مشنقةُ الشهيدِ وشوقُهُ للمشيِ تشويشًا على الشاشاتِ والبشرِ المشاهيرِ القُشُورِ الشاردينْ"، وهناك (هِتلر) في قصيدةِ (ضريبة الهلوكوست): "وأنتَ حَيٌّ بالّذي فعلَت يَداكَ، مُخَلَّدٌ في جُرحِ سيّدةٍ تُرَبّي طِفلَها"، ثُمّ يبلُغُ هذا النموذَجُ غايتَهُ في قصيدةِ (الأوَّل) التي تحملُ عنوانَ الديوانِ، حيثُ يتابعُ خلودَ الشيطانِ عبرَ أفاعيلِهِ منذُ لحظةِ خلقِ آدَمَ إلى اللحظةِ الآنِيّةِ، ويُسَرِّبُهُ في تفاصيلِ اليومِيِّ عبرَ آلةِ الإعلامِ كذلك حتى يَبلُغَ هذا النموذجُ أَشُدَّهُ في الفقرة: "والأرضُ بين يَدَيَّ وَحشًا كاسِرًا تُمسي .. فتُصبحُ سِتَّ عَشْرَةَ بُوصَةً" .. الشيطانُ – ذلك الخالِدَ - مجدولٌ في تفاصيلِ الحياةِ اليوميّة عبرَ شاشةِ التليفزيون التي بسطَ سلطانَهُ عليها فصارت في قبضته ..
     في القسم الأخيرِ من الديوان (الموتُ هو مَن هو) نجدُ الخالِدينَ أيضًا، لكنّهم هنا بلا أملٍ، فكأنَّ الخلودَ والموتَ سواء .. نجدُ هذا في قصيدة (بئري مشققة): "كم ساعةً ضيَّعتُ أنتظرُ الصحابةَ والصحابةُ تائهونَ ويبحثون عن الطريقِ ولا طريقَ سِوى التشرُّدْ" .. هنا تصلُ ضفيرةُ اليوميِّ والمتعالي/ الفاني والخالد إلى أجلِها المحتوم، لكنَّهُ يبدو وكأنه ليس نهايةَ الأمرِ حين يختمُ الشاعرُ ديوانَه بقوله: "الحبُّ في هذا الزمانِ وظيفةُ الموتَى، فهل ستموت؟" .. سؤالٌ يُعيدُنا إلى بدايةِ الديوانِ في حركةٍ حلزونيّةٍ، مُحَمَّلين بطاقةٍ من الوعي تفتحُها قصائدُ الديوانِ في مراحله الثلاثِ، لنتأمّل مجدَّدًا نسيجَ أحداثِنا العاديّة، علّنا نُمَيّزُ فيها بصمةً لطيفةً تركَها المتعالي، وألغَزَها ليتبيَّنَ بيننا أولو الأبصار!  

.....
يناير 2015
نُشِرَت بـ(أخبار الأدب) المصرية في 27 يونيو 2015 

لغةٌ تُحيلُ إلى نفسِها .. قراءةٌ في ديوان (رَمادٌ أخضر) للشاعر (أحمد عايد)

$
0
0
 
 (رمادٌ أخضر) هو الديوانُ الأول للشاعر (أحمد عايد)، وهو الصادر عن هيئة قصور الثقافة كجزءٍ من جائزة الفوز بالمركز الأول في شِعر الفصحى في المسابقة الأدبية المركزية للهيئة في موسم 2013/2014، مناصفةً مع ديوان (الأول) للشاعر (أيمن ثابت).
   يبدَهنا العنوان في البداية بمفارقة النعت الغريب على منعوتِه .. والرمادُ المنعوتُ في هذا العنوان يأتي في طيات الديوان بشكلٍ واضحٍ في قصيدتين هما (رمادُ الحُلم .. حُلمُ الرّماد) و(نَصٌّ مجهولٌ وُجِدَ على شاهدة قبر أحد الفقراء)، ففي الأولى يقول: "هذا رمادُ الحُلمِ في كفيك يضحكُ من سذاجةِ فكرتي، هل للرمادِ بأن يفسِّرَ ما أقُولُ؟"إلى أن يقول: "كان الرمادُ يُحاصِرُ الأحلامَ قُربَ الهاوية"، وفي الثانيةِ وهي آخر قصيدةٍ في الديوان يقول: "كالذكرياتِ الناسياتِ ملامحي كان المَدى متحمسًا لتجاهُلي، لم أحمل الألقابَ في صدري ولم أحصُل على شيءٍ من الدنيا سوى هذا الرماد" .. وفي تقديري أنّ الرمادَ المُحتفى به في كلِّ موضعٍ في هذا الديوانِ هو الشِّعرُ ذاتُه، استنادًا إلى ظواهر أكثر من أن يحيط بها الإحصاء في هذا الديوان ترسُمُ لنا رؤيةَ الشاعرِ لنصيبِهِ من الدنيا باعتبارِهِ الشِّعرَ والشِّعرَ وحدَه .. والشِّعرُ رمادٌ في يدَي الشاعرِ لأنه ما يتبقى بعد احتراقِ خبراتِهِ الحيويةِ المختلفة فهو جوهرُها الثمينُ البخسُ في آنٍ، ثمينٌ لأنه يختزنُ أهمَّ عناصرِ هذه الخبراتِ، وبَخسٌ لأنه في النهاية ليسَ إلاّ رمادا .. وهو رمادٌ أخضرُ في هذه الرؤية الخاصةِ جدًّا لدى (عايد) لأنه نابتٌ من حياةٍ عريضةٍ ولأنه ربما يكونُ مبشِّرًا بحياةٍ عريضةٍ كذلك، أو ربما يكون في الأمر خداعُ الشاعرِ لنفسه ولا شيءَ وراء ذلك.
   بنى (عايد) ديوانه على ثلاثة أقسامٍ غير معنونةٍ إلا ثانيها الذي هو قصيدةٌ مُدَوَّرَةٌ طويلةٌ بعنوان (سَردِيّة)، وهو عنوانٌ دالٌّ في الحقيقةِ لأنها تحملُ الحِسَّ السرديَّ الأعلى بالفعل بين قصائد الديوان. وهو يُدخِلُنا إلى ديوانه بـ(موقِفٍ) تناصًّا مع مواقفِ النِّفَّرِيِّ رأسِيًّا، ومع عشراتِ الشعراء العرب الذين يتناصُّون مع مواقف النّفّرِيِّ أفقِيّا .. يقول: "أوقفتَني في الشِّعرِ/ قُلتَ: الحُلمْ. فاستيقَظَت لُغَتي/ وَجدتُ الوَهمْ. أنَصَبتَ لي رَفعًا/ وتَنوي الجَزمْ؟ أبَراءةٌ أن قُلتَ: (سُوءُ الفَهمْ)؟".
   هنا نجدُ أثرًا من خيبةِ أملٍ أصيلةٍ تتعلّقُ بالموقف الوجوديِّ للشاعرِ من حيثُ هو شاعرٌ خامتُهُ وصنعتُهُ ومُنجَزُهُ اللغة، حيثُ تُستَنفَرُ مفرداتُهُ لِتُعَبِّرَ فلا يجدُها في النهايةِ تُعَبِّرُ عن شيءٍ حقيقيٍّ خارجَها، فليس ثَمَّ إلاّ الوهمُ (فاستيقظَت لُغَتي وجدتُ الوَهم) .. وهو ما يتجاوبُ في الحقيقةِ مع كثيرٍ من المقاطع الشِّعريةِ في هذا الديوانِ، حيثُ تُحيلُ اللغةُ إلى نفسِها وينشغلُ الشاعرُ بوصفِ لُعبةِ الشِّعرِ التي تستغرقُه أو يغزلُ صُورًا موغلةً في التركيبِ تبطئُ إيقاعَ حركةِ الصورةِ الكلّيّة لقصائده، أو يعمَدُ إلى مقابلاتٍ وتضادّاتٍ كثيفةٍ للغايةِ تشبهُ معادلاتِ الميكانيكا التي يُلاشي فيها كلُّ طرفِ الطرفَ الآخَرَ فتصبحُ محصِّلةُ الحركةِ صِفرًا كبيرًا ساكنا!
   فإذا أردنا أن نبسُطَ أمثلةً على تلك الآليات التي ذكرناها في الفقرة السابقةِ والتي بمقتضاها تُحيلُ اللغةُ إلى نفسِها ويجدُ الشاعرُ نفسَهُ إزاءَ ذلك الوهم الذي يذكرُهُ في (موقفِه) الافتتاحيِّ، فسنجدُ في قصيدةٍ واحدةٍ هي (قصيدتان) وفرةً من الأمثلة .. فأمّا انشغالُ الشاعر بوصفِ لُعبة الشِّعر فهو في قوله: "خُذني هناك إلى التناقُضِ في تفاصيلِ القصيدةِ"، وفي السطرين التاليين مباشرةً مثالُ للمقابلات الكثيفة الميكانيكية في قولِه: "ربما أجدُ المماتَ بلا حياةٍ والحياةَ بلا مماتٍ/ ربما أجدُ الحياةَ بلا حياةٍ والمماتَ بلا مماتٍ"، وكذلك في قوله لاحقًا في نفس القصيدة: "خُذني هُناكَ .. هناك خُذني أو هُنا .. فهناك يعني لي هُنا .. وهُنا يُطابِقُ ما هُناكَ .. وما هُناكَ سوى هُناكَ وما هُنا إلاّ هُنا"، ثُم: "متناقضانِ أنا وأنتْ/ متشابهانِ أنا وأنتِ، وربما نجدُ الفَناءَ هو البقاءَ وربما نجدُ البقاءَ هو الفَناء"وفي النهاية: "قصيدتان ستكفيانِ ستكفيانِ ورُبّما لا تَكفِيانْ!".
   أمّا الصور الموغلةُ في التركيبِ والتي تشبهُ حدودُها الجنادِلَ المُلقاةَ في تيارِ نهر الصورة الكلّيّة للقصيدة فتبطئه بالضرورةِ، فمنها في قصيدة (رماد الحُلم .. حُلم الرماد) قوله: "للحُلمِ مئذنةٌ/ على شفةِ الخيالِ مُؤَذِّنٌ تَسري به حيثُ الفناءْ"وكذلك قوله: "كان الضياءُ كما يشاءُ/ أنا أنقّبُ في الزمَنْ .. عن شهوةِ الأحلامِ في عَطَشِ الفِتَنْ" ..
   ومن الأمثلة على وصف لعبة الشِّعر قوله في نفس القصيدة: "وحدي وتخترعُ القصيدةُ نَسجَها"وفي (لابُدَّ من شيءٍ): "أمسكتُ أوراقي التي تحوي أنينَ الياسَمينِ مضَيتُ حيثُ الماءُ لا يَنداحُ ثُمّ شَقَقتُ في الأسماعِ مَجراها ومَرساها وبسمِ الله مَجراها ومَرساها .. تقولُ: (أقولُ لي: لابد أن قصيدةً في جيبي .. لابُدَّ من شيءٍ)" .. فهو هنا يُحيلُنا بنهاية القصيدةِ إلى بدايتها ويُحيلُنا مع اكتمالِها المرتقَبِ إلى مطلعِ هلالِها .. هو شكلٌ من أشكالِ الولعِ ما بعد الحداثِيِّ بالكتابة عن الكتابة.
   الديوانُ جديرٌ بالقراءة وفي ظنّي أن إعادة القراءة كفيلةٌ بفتحِ آفاقٍ جديدةٍ لفهم هذا النّصّ الذي بذل (عايد) في إخراجهِ جهدًا محمودًا بلا شَكّ.
........................
محمد سالم عُبادة
نُشِرَ بـ(أخبار الأدب) المصرية في 19 يوليو 2015


Article 24

$
0
0


عينا ناهد شريف

رتوشٌ، ويَسوَدُّ الذي كان يَضطَرِمْ
رتوشٌ، وتَذرُو الرِّيحُ كابُوسَها الهَرِمْ

سيَثقُبُ سَيّالُ الظلامِ صفائحًا
مِن النَّهِمِ المخبوزِ بالكائنِ النَّهِمْ

لِيُطلِقَ دَوّاماتِ موتٍ مُرَصَّعٍ
بآهاتِ مَن لم يأتِ بعدُ، ومَن أَرِمْ

هل (الحسنُ بنُ الهيثَمِ) الآنَ شاهِدٌ؟
!بل (الحسنُ بنُ الهيثمِ) الآنَ يَحتَلِمْ

أشِعَّةُ عَينِ الشيءِ أدمَت بيانَهُ
فخاطَ بمَذيِ الرُّوحِ ما عَنَّ مِن كَلِمْ

وسَجَّلَ في الكُرّاسَةِ البِكرِ نُقطةً
مِن الدَّمِ مِن جُرحٍ نَدٍ ليسَ يَلتَئِمْ

نعَمْ يا جَبينَ الصَّفحةِ، الشيخُ هاربٌ
مِن السّيلِ سيلِ الشَّهوةِ العارِمِ العَرِمْ

فإنَّ بعَينيها رضيعًا سيَلتَقِمْ
إلى أبدِ الفانينَ، لا ، ليسَ يَنفَطِمْ

وإنَّ بعَينيها مَتاعًا مُؤَثثًا
على زَهرةٍ، والمُتكُ في الغَيبِ يَحتَدِمْ

فمِن أيِّ وجهٍ أيُّها الخوفُ تَختَفي؟
وفي أيِّ وجهٍ مُطفَأِ الرَّبِّ تَرتَسِمْ؟؟

لماذا رَكِبتَ الجِنسَ يا خَوفُ؟ ها؟! أَجِبْ
!لِمَ ارتعَدَت أجسادُنا وَهْيَ تَغتَلِمْ؟



أرَى النّاهِدَ السُّفلِيَّ لَملَمَ بَطشَهُ
وعادَ بَطيئًا، قاصِدًا جُحرَهُ الرَّحِمْ

رُتوشٌ، ويَستلُّ الرَّمادُ جَناحَهُ
لِيَطوِي به الدُّنيا ..
رُتوشٌ ،
ونَنعَدِمْ
.


Egal
31/1/2012

Article 23

$
0
0

قراءةٌ في رواية (سيرةُ مولعٍ بالهوانم) لطلال فيصل

من الصعب ألا أتحدث عن نفسي بشكل مباشر وأنا أحاول أن أقدّم قراءةً لرواية (طلال) الأولى! ربما يبدو هذا سخيفًا ، لكنني قرأت نصوص هذه الرواية من قبلُ عشراتِ المراتِ ، ولم أقرأها أيضًا من قبل!
علاقتي المباشرة بكتابة (طلال) قبل هذه الرواية تتمثّل في بعض قصائد ديوانه (الملائكة لا تشاهد الأفلام الإباحية) ومقالَين أو ثلاثة مقالاتٍ قرأتُها له في جريدةٍ ما، وربما حوارٍ أو اثنَين في (أخبار الأدب) .. لكن (طلال) هو أحد أقرب أصدقائي إليّ، وهو زميلي في التنظيم السري المكوّن منه ومنّي فقط ، وبصورةٍ ضمنيةٍ ، وبشكلٍ ربما يتأبّى على الوعي!
المهم ..
(طلال) يكتبُ نفسَه ..
أتفهّمُ مآزقَهُ الكبرى لأني أشاركُهُ معظمَ أرضياتِهِ الثقافيةِ إن لم يكن كلَّها .. كلانا خرّيج (قصر العيني) بكل تداعياتِ ذلك الموقف من العقد النفسيةِ والذكرياتِ الجميلةِ الأليمة، وكلانا يكتب (كلانا يا واد يا طلال (سرقته ست الوعد من نومه وجاتله مضفـّرة)) ، وكلانا وقف على أرضيةٍ إسلاميةٍ بشكلٍ ما أو بآخر (وإن كان طلال أوغلَ في تجربة الجماعات ولم أوغل فيها فظلت علاقتي بالتبليغ والدعوة سطحيةً جدًّا) ، وكلانا أتى من بيئةٍ محافظةٍ بالمعانى الأكثر شيوعًا في مجتمعنا ، وكلانا في النهاية (يحيى المنقبادي) في أرض الخوف ..
الموقفُ النِّفَّرِيُّ الذي ابتدعه (طلال) ليقدمَ به روايتَه (موقف التأهّب) يلخصُ في رأيي موقفَه من ذاتِهِ ومن العالم، ليس ذلك فحسبُ ، بل إنه يشيرُ من طرفٍ خفيٍّ إلى موقفِهِ من تفاصيلَ بعينِها في عالمِهِ هذا ..
أعني:
حين يتحدثُ (طلال) صديقي عن أدبياتِ المتصوفةِ خارجَ الرواية ، فإنه يحترمُها ويُكبرُها ، لكنه يبذلُ جهدًا لإخفاء تأففهِ من حالةِ (عدم الضبط) المسيطرة على التجربة الصوفية .. لهذا يستعيرُ (موقفَ) النّفّريّ دون أن يحفظَ له قدسيَّتَه .. ينتهكُهُ بمقدار ما يستشهدُ فيهِ اللهُ بعبارة (أينشتين) .. ليس استدعاءُ (أينشتين) في الموقفِ الصوفيِّ (المفترَضِ) جلالتُهُ تسامحًا بقَدر ما هو انتهاكٌ لقدسيةِ الموقف .. لأكونَ منصفـًا ، فهو تسامحٌ يُبطِنُ السخريةَ والانتهاك ..
وحين يسألُ اللهَ "كيفَ أقتفي أثرَ الجميلاتِ وأنا لم أدخل في علاقةٍ أيِّ علاقةٍ؟ - كيف أكتب روايةً عن الجميلاتِ وأنا –وأنتَ أعلمُ – لم أمارس الجنس ولا مرةً واحدة؟"ومفارقةُ أنَّ اللهَ يقرُّهُ على الكتابةِ في الإجابة ، فإنَّهُ يؤطِّرُ حيرتَهُ العميقةَ في مسألةِ دور الكاتبِ إن كان له دور .. سيكتبُ (طلال) روايةً عن الجنس الآخر وهو لم يمارس الجنس .. سيصفُ البحرَ وهو لم يخـُضهُ ، وإنما اكتفى برؤيتِه .. هل الكاتبُ مشاهدٌ محايدٌ تنحصر مسؤوليتُهُ تجاهَ فنِّهِ في رصد ما يحدثُ بدقةٍ ومحاولة اكتشاف المنطق الذي يحكمُ هذا الـ(ما يحدثُ) دون أن يقدمَ إجابةً عن التساؤلاتِ التي يُثيرُها؟ أم أنَّ عليهِ أن (يخوضَ) البحرَ ويعرَك الجنسَ طوالَ الوقت؟ حين يستشهدُ الله بعبارةٍ لأينشتين ، فإن هذ العبارةَ تكونُ "الخيالُ أقوى من المعرفة" .. ليس عليكَ يا صغيري أن تخوضَ البحرَ وإنما عليكَ أن تتخيلَه ..
لِيَكُن ..!

حين يبدأ (طلال) الروايةَ بـ(مس هالة) فيقدمُ نفسَهَ العاشقَ الطفلَ الذي يغارُ على معلمتِهِ ، يتّسِقُ من جديدٍ من رؤيتِهِ لذاتِهِ التي لا يصيبُها التغيرُ ، فهو في نهاية الحكاية الثامنة (عن لوليتا بولكوفا) يحاولُ أن يكتنهَ ما تفكرُ فيه راقصة الباليه بعد مرور كل هذه السنوات فيقول: "هل أمرُّ بخاطرِها ولو لمرةٍ واحدةٍ، تتساءلُ فيها بينها وبينَ نفسِها عن هذا الصبيالعجيب الذي أصرّ أن يكلمَها بلغةٍ لا تفهمُها طوال مدة إقامتها في مصر!" .. صبيٌّ رغم أنه طبيبُ امتياز .. صبيٌّ لأنه يواجهُ العالمَ ببراءةٍ أصيلةٍ لم تتدنّس بالدنَسِ الأكثر عالميةً في كل الثقافات وعبرَ تاريخِ الجنس البشري (الجنس) .. وصبيٌّ لأنَّ أمامهُ الكثيرَ ليتعلمَهُ دائمًا .. وصبيٌّ بما تثيرُهُ الكلمةُ لغويًّا من دلالةِ الصبوةِ إلى الأنثى .. لا يتغيرُ جوهرُ الرّاوي طوالَ الرواية .. تتراكمُ ثقافتُهُ ومعارفُهُ تدريجيًّا ، لكنّه يظلُّ بِكرًا أصليًّا في علاقته بالله والعالَم .. والمعادلُ الموضوعيُّ لهذه البكارةِ هو عدمُ التدنُّس بالجنس ..
لماذا قرّرَ (طلال) أن يحادث (لوليتا) بالعربيةِ التي لا تفهمُها بعد محاولاتٍ فاشلةٍ للتواصل معها بالإنجليزية أو الفرنسية؟ من المؤكد أن محاولاتٍ بالإنجليزية غيرَ ناجحةٍ تمامًا ، أفضلُ من محاولاتٍ بالعربيةِ مستحيلةٍ بالقطع!
أتصورُهُ قد قررَ ذلك ليحافظَ على الحاجزِ الذي يفصلُهُ عن خوضِ البحر .. هل يريدُ ولا يريد؟ هل (يريدُ) بوعيِهِ ويكررُ ذلك طوالَ الوقتِ ، لكنهُ (لا يريدُ) بلاوعيِهِ ولذا قرر أن يحادثها بالعربية؟ ربّما قطع (طلال) بإجابةِ السؤالِ الخالدِ عن دوره ككاتبٍ منذ البدايةِ وقبلَ أن يصوغَ السؤالَ بالفعلِ ، ففقالَ (لاوعيُهُ): "أنا مجرَّدُ راصِد .. لن أعرك العالم حقيقةً .. لن أخوضَ البحر .. لن أمارسَ الجنس."ولذا قرر أن يتكلمَ بلسانهِ الأمّيّ النقيّ الذي لم يتدنس بالمعرفة البَعدية (ممثَّلةً في الإنجليزية) .. دعها لا تفهم .. المهمُّ أن أتخيلَ أنا كما قال (أينشتين) .. حالةٌ من السلفيةِ الكامنةِ هنا أيضًا .. السلفيةُ بما هي رجوع للأصل في بساطتِهِ ودون التعقيدِ الناجمِ عن تراكمات الحضارة.

   ألم أقل في البداية أنه يصعبُ عليَّ أن أتكلمَ عن عملٍ لـ(طلال) ولا أتكلمَ عن نفسي؟!
 في تجربتي الشعرية الوحيدة المهداةِ إلى (طلال)، والتي كتبتُها عام 2006 ، وبغضِّ النظرِ عن القيمةِ الفنيةِ للتجربة المفردة، فقد عنونتُ التجربةَ بـ(مسامرةِ الصّبيّ) (وهي موجودةٌ في ديواني (تعاطٍ)) .. حيثُ أقول في بيتها الثاني:
"أنا يا صبيُّ مجاهِدٌ فيكَ الصِّبا .. مُستأصِلٌ من فِيكَ ألسُنَ حالي" .. وأذكر أن العزيز (طلالاً) سألأني حين ألقيتُها عليه: "هل ترى فيَّ صبوةً ما؟" .. يبدو أنّني أمتلكُ رؤيةً بالفعل يا صديقي!!
 
  بالطبعِ لا قيمةَ لأن أورِدَ أمثلةً من الرواية على انشغال (طلال) بالهمّ الإسلامي ، فهو يمثلُ بالفعل الخلفيةَ (الشرعيةَ) للرواية .. ورُبّما لهذا نجد بطلات الروايةِ (هوانم) كما يحب (طلال) أن يسميَهن .. هوانم لأنهنَّ أقرب إلى الحالةِ المحافظة التي ينتمي إليها التصورُ الإسلاميُّ الذي يقفُ على أرضيته الكاتب .. ولهذا أيضًا يستبعدُ (سعاد حسني) بشكلٍ صادمٍ جدًّا في بداية حديثه ، ويُدرِجُ في (هوانمِهِ) شخصيةً كـ(درّيّة شرف الدين) ..

ربما تكون حكاية (صفية وآسر صالحين) / الحكايةُ الخامسة جديرةً بأن تحتلَّ صدارةَ مشهدِ الحكيِ في الرواية ..
هي كذلك من وجهةِ نظري لأنها الحكايةُ التي ينزاحُ الراوي من بطولتها ليفسحَ المجالَ لغيره، وهو هنا صديقُهُ/ أو بالأحرى زميلُهُ (آسر صالحين) .. قصة (لوليتا) قويةٌ – لا شكَّ في ذلك عندي – لكنَّ راويَها بطلُها كما هو الحالُ في بقيةِ الحكايات .. أتصوّرُ أنَّ لمركزية الراوي البطل في الرواية علاقةً بحداثةِ انقلاب (طلال) على الشِّعر كفنِّ مرجعيٍّ بالنسبةِ له .. الشِّعرُ في التصور الأكثر شيوعًا عنه استبطاناتٌ للموضوعاتِ في ذات الشاعر، فهو مركزُ التجربة الشعرية البارزُ في معظم الأوقاتِ إن لم يكن دائمًا .. وهذا هو الحالُ في الروايةِ هنا، باستثناء الحكاية الخامسةِ التي أعتبرُها نقطةَ انطلاقٍ لـ(طلال) كروائيٍّّ فيما يُستقبلُ من كتاباته ..
لماذا (ما هو المرادفُ العربيُّ لكلمة Mediocrity) هو العنوانُ الفرعيُّ لحكاية صفية وآسِر صالحين؟
يبدأ (طلال) الحكايةَ بأن السبب الذي يجعل شخصًا ما (وهو آسر) يحب فتاةً اسمها (صفية زينهم بيومي) ويضعها في قائمة الهوانم ، هو ذاتُ السبب الذي يجعلُهُ يعتنقُ الفكر السلفي .. اختزالاتُ (طلال) الواضحة المعقَّدة .. رمزه المفضوحُ المتواري .. هل (صفيّة) بما هي عليه من عادية Ordinarinessهي التجسُّدَ الحيَّ للـMediocrity؟
اللفظة الأخيرةُ تردُ في سياقاتٍ تتعلقُ غالبًا بنقد الفنانين .. إنها السُّبَّة التي يفرُّ منها كلُّ من له صلةٌ بالإبداع ..
لكن هل يجوزُ مجتمعيًّا أن نستخدمها في سياقات الحياة الواقعية؟ أعني أنَّ (صفية) مجرد طالبة طب لا هي جميلة ولا قبيحة ، لا متفوقة ولا بليدة ، ولا أي شيء .. لكن دعني يا (طلال) أذهب معك إلى طرفي الحياة الطلاّبية الممكنة لمثلها .. لو كانت (صفية) متفوقةً ، كنت ستنعتها بالـmediocrityأيضًا . وكذلك لو كانت (بليدة) .. وكذلك لو كانت بارعةَ الجمال متفجرةَ الأنوثةِ أو شديدةَ الدمامة .. إنه موقفٌ يتبنّاه الفنّانُ إزاءَ من ليسوا بفنّانين، قبلَ أن ينعتَ به من يزدريهم من الفنانين .. في النهاية .. يبقى السؤال .. إن كان للأخلاقِ وجودٌ حقيقيٌّ، فهل هذا الموقفُ أخلاقيّ؟! ليست لديّ إجابة !!
المهمُّ أنّ (طلال) يحاول أن يكسرَ لدى متلقّيه النمطَ الشائعَ لديهم عن السلفيِّ، والذي كوّنته سيناريوهات (وحيد حامد) كما يقولُ صراحةً، بأن يُورِدَ مواقفَ (آسر) التي يظهرُ فيها عطفهُ على الراوي وتسامحهُ معه ، وفي ذات الوقتِ يتخذُ موقفًا مسبَّقًا منه حين يُلمِحُ بالـMediocrityفي بداية القصة ..
إذَن رُبّما كان اعتناقُ الفكر السلفيِّ شيئًا غير الـMediocrity، ولا هو حتى تجلٍّ من تجلياتها .. السلفيةُ – من خلال قائمة المحرّمات التي يذكرُها (طلال) والتي يستثني منها (آسر) صوتَ الشيخ (مشاري راشد) – جنوحٌ إلى البساطةِ الأولى من خلالِ توسُّعِ واطّرادٍ في استخدام القاعدة الفقهيةِ المتعلقةِ بـ(سدّ الذرائع) .. هي محاولةٌ للعودةِ إلى حالة المجتمع الإسلامي في نواتِهِ الأولى في العصر النبوي، وقبلَ أن تتجلى (زهرةُ الحياةِ الدنيا) بعد الفتوحات الإسلامية ونمو الحضارة .. أمّا الـMediocrityفهي موقفٌ يتبنّاه المبدعُ من غير المبدعِ طيلةَ الوقتِ، ربّما كحيلةٍ دفاعيةٍ لإثبات أصالةِ إبداعه ..
دعني يا (طلال) أتوسّل في هذه المسألة ببداية رواية (روبنسون كروزو) وهي فتحُ الرواية الإنجليزية الأولُ، الذي يحتفي بالروح البروتستانتيةِ ويفككها في ذات الآن .. الأبُ ينصحُ ابنه (روبنسون) في البداية بأن يسلك الطريق الوسطى في الحياة The Middle Way .. إنه طريقُ الموظفين والأطباء العاديين (غير العلماء) والمهن الموقّرة مجتمعيًّا دون وجود إبداعٍ أصيلٍ في ممارستها .. يندمُ (روبنسون) وهو يحكي عن رفضه لهذه النصائح ، ويقولُ إنه لم يقدّر قيمتَها إلا بعد أن أخذ الطريقَ التي اختارَها وهي طريقُ الاكتشافِ والمغامرة (التجلي الحقيقي للروح البروتستانتية التي لا تأمنُ أبدًا لرضا الإله عنها فتطمحُ في مزيدٍ من الجهاد/الاكتشاف والمغامرة، بعد أن أسقطت سلطة زعماء الكنيسة الذين كانوا يضمنون مستوىً معقولاً من رضا الله) .. يكرّس (دانييل ديفو) روحَ مذهبِهِ، ويفككها ببيان ما تنطوي عليه من إنهاكٍ حتميٍّ أبديٍّ في ذات الآن .. ما يهمُّنا الآنَ هو أن نشيرَ إلى تعبير (الطريق الوسطى) التي هي الـMediocrity .. حالة الرضا باللاإبداع هنا غيرُ حالةِ تقويضِ الوضع القائم في سبيل الوصولِ إلى أصلٍ غائبٍ مستحيلٍ كما في السلفية .. هذا هو تصوري الذي أردتُ بيانَه ..

  دعني أنتقل إلى نقطةٍ أخرى متعلقةٍ بحكاية (آسر صالحين) .. أرى أنّ (آسر صالحين) السلفي المثالي الذي يُلمحُ (طلال) إلى أنه أرادَ أن يكونَهُ وفشِل، هذا الـ(آسر صالحين) هو (طلال) طيلةَ الوقت!
(آسِر) يحبُّ زميلتَهَ (صفية) العاديةَ جدًّا بكلِّ المقاييس .. و(طلال) في الحكاية الموازية مع (لوليتا) (الحكاية التاسعة) يحبُّ باليرينا روسيةً يصرِّحُ بنفسهِ أنه يكاد يكون من المستحيل أن تفرّق العينُ بينها وبين رفيقاتها اللاتي هم دون الـVidetteفي الباليه .. إنه يعيدُ إنتاجَ (آسر) طيلةَ الوقت .. وبينما يعود (آسر) إلى ولعه بفن الخط العربي ويكتبُ لوحة (وزوّجناهم بحُورٍ عِينٍ) ، يختار (طلال) سنَّ الثالثة والثلاثين لُينهي به شقاءَ الروايةِ ويقرر أن يتزوّج ابنةَ معلمته الأولى .. لماذا الثالثة والثلاثون بالتحديد؟؟! أليست هذه سِنَّ أهل الجنة في المأثور الإسلامي؟ يبعثُ المؤمنون شبابًا على هذه السنّ، ويُزوَّجون الحُورَ العِين .. يعيد (طلال) إنتاج (آسِر) هنا أيضًا بآليةٍ مختلفة ..
ولأني آليتُ على نفسي أن أذكُرَ نفسي بينما أتحدث عن تجربة (طلال)، فإنني لسببِ مشابهٍ قررتُ أن يعودَ العالمُ إلى الحالةِ الجليديةِ على أجنحة (صَرّار الليل) في قصتي (أولي أجنحة) ، وأنا في الثالثة والثلاثين .. لم أذكر هذا صراحةً في القصة ، لكن بتتابع الأحداث وبمعرفةٍ شخصيةٍ وثيقةٍ بظروف دراستي الحالية ، يستنتج القراءُ المحدودون أن البطل هو أيضًا في الثالثة والثلاثين! ما علاقةُ هذا بحديثِنا؟ هاه؟!!

لابُدّ أن تستوقفَكَ حكاية الجميلات الثلاث الواقفات أمام مستشفى (أبو الريش) / الحكاية السابعة المعنونة (حكاية هامشية تمامًا) .. ماذا يريدُ (طلال) هنا؟
قد تبدو الحكاية مقحمَةً على سياق الرواية .. لكن لا! تمهّل قليلاً ..
الحكايةُ حالةٌ وسطٌ بين موضوعية الخامسة (صفية وآسر صالحين) وذاتية التاسعة (لوليتا بولكوفا) .. البطل (طلال) وهو ليس البطل أيضًا ، لأنَّ البطلَ شابٌّ مستهترٌ يجيءُ من لامكانٍ بعينه ويسمع (طارق الشيخ) ، وتحديدًا في أغنيته (يعمل اللي يعجبه) .. هل هو البطل الذي يشتاق (طلال) أن يكونَه رغم كل محاولاتنا لنفي ذلك؟! إنه البطل الذي يقرر أن يغتصب لمسةً (آثمةً) من طالبة الطب ، ويكرس له فنــُّـه الأثيرُ هذا الموقفَ حيث تقول الأغنية (يعمل اللي يعجبه) .. إنه موقفٌ على النقيض من موقفِ المتفرج الراصد الذي يتبناه (طلال) البطلُ اللابطل .. فالأغنية الشعبية تجيء (تقريريةً .. بلا خيالٍ ، ولا استعارةٍ ولا مجازٍ) كما يقول (طلال) .. بينما تقولُ عبارة (أينشتين) المقدسةُ المنتهِكَة في المقدمة: "الخيالُ أوسعُ من المعرفة" .. صدقني يا (طلال) .. الآن أشعرُ برِعدةٍ تتمشى ف جسدي على مهَلِها .. إنه الألم .. كلُّ هذا التمزق يا صديقي ...

في النهاية
أزعم أن الكلام عن الرواية لم ينتهِ بعد .. تظلُّ الرؤى التي أطرحُها هنا طِفلةً للغاية وهي تحومُ حولَ عملٍ فنيٍّ هامٍّ كهذا .. وتظلُّ أسئلتي أسئلةً لا أملكُ لها إجابات .. وتظلُّ الروايةُ حُبلى بالمزيدِ من هذه الأسئلة وما إليها ..
وأعتذر يا عزيزي المسافر
عن إقحام ذاتي في قراءةٍ لروايتك .. كما أعتذر عن إقحام ذاتك التي أزعم أني أعرف عنها الكثير (وهو ما لا قِبَلَ لي بفعله في قراءاتِ لأعمال غيرك) .. يبدو أنه من الصعبِ على أمثالي أن يكتبوا بعيدًا عن ظلال الصداقة!

كن كما أنت .. وأعدكَ أنني سأظلُّ كما أنا ..
مولَعًا بالهوانم.


Viewing all 94 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>