Quantcast
Channel: Mohamed Salem Obada
Viewing all 94 articles
Browse latest View live

من العام الأول للكتابة 2004

$
0
0
أنشودة آكِل البشر
........................
ادنُ مِني إن رأيتَ القُربَ مني
شافِيًا نفسَكَ من سُمِّ الفِراقْ


وابتعِدْ عني إذا كان تَبَنِّي
مَنطِق ِ البُعدِ مُثيرًا للعِناقْ


وارتَعدْ من خوفِ بطشي حيثُ إني
يَزدَهيني خوفُكَ الحُلوُ المَذاقْ


التَّجَنِّي ليس فيما قيلَ عني
التجني خطفُ لفظٍ مِن سِياقْ




اعتباطًا باعدَتْ بيني و بينَكْ
لُعبةُ الأجسادِ والأرواح ِ دَهْرَا


أنتَ مِنِّي وأنا مِنكَ ، وحَولَكْ
طَيفِيَ المحجوبُ عن عينيكَ قهرا


أنت سِجني فاتخذ ذاتيَ سجنَكْ
وشراييني لأحشائِكَ صِهْرا


أنت أرضي فاعتبِر جسميَ وَحلَكْ
واتَّخِذْ مِن دمعِ عيني لكَ نَهْرا




جُنَّتِ الحِكمةُ مِن فرطِ جنوني
وجنوني بذراعيكَ قديمْ


فذراعاكَ تموتانِ بِدُوني
وهما لي كحياةٍ لسقيمْ




بتقاسيم ِ ذراعيكَ شُئُوني
وشجوني وشرابي والنديمْ


ومُجوني ، لم يَعُدْ لي مِن مُجُوني
غيرُ ذِكرَى في ذراعَيكَ تَهيمْ




في سُكوتي هاجَ شَوقي للتَّوَحُّدْ
معَ مَن ذاقوا كما ذقتُ العذابْ


قُتِلَ الدفءُ بكأس ٍ مِن تَعَبُّدْ
وتفرَّقْنا سُكارَى كالذبابْ


ليس لي ذنبٌ إذا خُنتُ التَّفَرُّدْ
أو كِياني في كِيان ِ الكون ِ ذابْ




جُبِلَتْ نَفسي على هذا التمرُّدْ
فإذا لاقيتُهمْ سالَ اللُّعابْ !




اقترِبْ ، أصغ ِ لتسبيح ِ الدماءْ
في عُروقي دَمِيَ المُنسابُ حُرمَةْ


قدسُ أقداس ِ التَّجَلِّي والخفاءْ
وجِنانٌ ؛ فاسترِح ْ في ظِلِّ كَرمَةْ


وتأوَّهْ كيفَما التسبيحُ شاءْ
ظلمة ُ الآهاتِ فاقتْ كلَّ ظلمَةْ


الحضاراتُ ؛ و مجدُ الأغبياءْ
انتَهَتْ إذ ذُقتُ من كَفِّكَ قَضمَةْ






هلوسات صحو


في تلك الأيام، كنتُ أحملُ في رأسي مُخًّا ، وكان (هانيبال لكتر) يأكل منه ملءَ شهيَّتِه .. لم تكن هذه أولى تجاربي في الكتابة بالطبع ، لكنَّها على كل حالٍ كانت تمتلكُني إلى درجة أن أنشُرَها في أول ديوانٍ يصدرُ لي بالفصحى .. (صمتُ الحِملان) أولُ فيلمٍ يدعوني إلى التقاطُعِ معه شعريّا .. رُبَّما زاويةُ الرؤيةِ في هذه التجربة تختلفُ عن زاوية (هانيبال) ، فآكِلُ البشر هنا يحاولُ أن يتماهَى مع الآخرين بشكلٍ واعٍ من منطلَقِ إدراكِهِ لانتسابهم معهُ إلى معينٍ واحد .. فالقضمةُ التي يتناولُها من كف ضحيتِهِ هي الخطوةُ الأولى في مرحلةٍ من مراحل سفره الرُّوحي .. الرُّوحُ هنا جسدٌ سائلٌ والجسدُ روحٌ جامد (كعلاقة الزمان بالمكان في مقولة ابن عربي) .. أزمةُ آكلِ البشر تتمثَّلُ في تجاوزِهِ للثنائيات .. أو رُبَّما في طموحه إلى تجاوزٍ كهذا وسعيِهِ الدءوبِ إليه .. لا يوجد (أنا / الآخر) ولا يوجد (الروح / الجسد) ..
أذكرُ أنّي تماهيتُ مع آكلِ البشر وقتئذٍ ومع أزمتِهِ تلك قبل أن أقرأ عن (هيغل) في 2006 بشكلٍ يقتربُ من المنهجية .. كانت مسألة التجاوز تؤرِّقُ (هيغل) - آكِلَ الفلسفة - ولا نبالِغُ إذا قُلنا أنها باعِثُهُ الأولُ على إبداعِ مثاليتِهِ المُطلقَة .. انطلقَ من الثنائيات الكانتِيَّة التي شبَّهَها بالرُّوحِ اليهودية (وكان يقصد تبايُنَ الإلهي والبشري في العقيدة اليهودية) إلى مثاليته المطلقة التي شبهها بالرُّوح المسيحي (حلول المطلق في المحدود) ..
أذكرُ كذلك أنه في تلك الأثناء قرأتُ ورقةً نقديةً لا أذكرُ مؤلِّفَها عن علاقة المثلية الجنسية بالكانيبالزم (أكل لحوم البشر) في أدب (هرمان ملفيل) ، وكانت شديدةَ التأثير عليَّ وقتئذٍ ، وأكادُ أضعُ يدي على لحظاتٍ بعينِها أثناءَ كتابةِ هذه التجربة ، كان وعيي بفحوى تلك الورقة حاضرًا جدًّا .. لا أعرفُ إن كان هذا التأثُّرُ باديًا في الأبياتِ أم لا .. لكنني أظنُّهُ باديا!!


على صعيدِ شخصيّ، كانت هذه التجربة آخرَ ما كتبتُ قبل أن أنضمَّ إلى المنتدى الأدبي لقصر العيني في نهايات عام 2004 .. آه .. تلك الأيام   



من تجارب 2005: الشَّنيشة

$
0
0
بشاكوشِ فقري ،
ورأسِ المِفَكّْ ..
أ ُفَتِّشُ عن كلِّ حُلم ٍ هزيلْ ..
لأرفعَ ذِكرَ أيادي الصِّغارِ، ويُرفَعَ ذِكْري ..
أبي .. يامليكَ الحزانى ..
تناولتُ شاكوشَ فقريَ منكْ ..
أتذكرُ ؟ إذ قُلتَ : "خُذْهُ ، سَيَرفعُ ذِكرَكَ ، دُقّْ" ..
أبي .. مالكٌ ياحزينُ ، ابنُكَ المُبتلى قَصَّ رِيشَهْ ..
وما عادَ يقوى على الطَّيَرانِ ، وأُنْسِيَ فنَّ الهديلْ ..
أبي ..لا تَلُمْني إذا ما عَقَقْتُكَ ، فالكلُّ صاحَ بأذنيَ : "عُقّْ" !!
ومازالَ صوتُكَ ينسابُ: "دُقّ ْ" !!!

أدُقُّ، اطمَئنَّ، أدقُّ الشَّنيشَةْ!!
بهذا الجِدارِ القديمِ العليلْ ..
وصاحبةُ البيتِ تغلي بقُربي دماءَ السُّجُقّْ ..
أنا لا أحِنُّ لهُ .. مِلءُ أنفي تباريحُ شيشةْ ..
متى يجمعُ الدَّهرُ شَملي بشملِ الحشيشة ؟!
لتشهدَ عينايَ فيها عُروشًا تُدَكّْ ..
بشاكوشِ فقري ، ورأسِ المِفَكّْ ..!

لصاحبةِ البيتِ ساقٌ تُغنِّي ، بلحمٍ قليلْ ..
وخائنة ُ الأعيُنِ المُجهَداتِ تشقُّ الدُّخانَ إليها ..
تشُقّْ ..!
- "(عِناياتُ) .. ساقُكِ مثلُ الرَّبابةْ" ...!
لماذا يُصِرُّ السُّجُقُّ اللَّعينُ على أن تُعانِقَ عَينِي ضَبابَهْ ؟!
أنا الآنَ لستُ أرى السَّاقَ .. لكنْ ، أفي السَّاقِ شَكّْ ؟!!
أيا عَبَقَ البَولِ حَولي ،
مِفَكِّي سعيدٌ، يَدُكُّ عُرُوشَهْ!
(عناياتُ) تدنو، وتضربُ وجهي من الشَّعرِ شُوشَةْ ..
أعدَّت شَطيرةَ صُنعِ يَدَيها، وقالت: "تَكَرَّمْ عليَّ، وَذُقْ" ..
نَظَرْتُ، فذَكَّرَنيهِ السُّجُقّْ!!
ونَدَّتْ على الرَّغمِ مِنِّيَ ضِحْكَةْ ..
دِراما من البُؤسِ حِيكَت عن الخُبزِ، مِن دونِ حَبكَةْ ..!

- "(عناياتُ)" ..
- "ماذا ؟" ..
- "(أمَيمَةُ)" ..
- "ماذا ؟!!" ..
- "كِليني لِهَمِّي!! ...
فرائحةُ البَولِ تجتاحُ شَمِّي" ..

وبينا أدُقّْ ..
تَجَسَّدَ فوق البلاطِ المُعَطَّنِ (جادو) ..!!
وقال برفقٍ: "تجسَّدتُ فوق البلاطِ المُعَطَّنْ ..
ولَفَّفْتُ جِسْمي - لكي لا تراني- بِخَيشٍ مُقَطْرَنْ ..
فَقُل لي بربِّكَ يا مَن تدُقّْ ..
هل القومُ عادُوا؟!! " ...
وعاد إلى الصَّمتِ (جادو) ..
أُراهِنُ .. : هذا الجِدارُ القَديمُ لو ارتدَّ شَخصَا...:
لأنفقَ من أجل رأسي قُرُوشَهْ ..
ولو نالَ رأسي، أنا لن أحُوشَهْ !!

تهاوَى الجِدارُ، فقد كان مثلَ (أ ُمَيْمَةَ) رَخْصَا ..
(عناياتُ) تدنو، وتغمرُ حِسِّي بلَعقٍ وحَكّْ ..
تهاوى الجِدارُ، بشاكوشِ فقري ، ورأسِ المِفَكّْ ..
- "أصاحبة َ البيتِ إنِّي انتهَيْتْ ..
وفوقَ جدارِ المساكينِ – حُلمِ الليالي البَشوشَةْ - ..:
دقَقْتُ الشنيشَةْ ..
وَدُقَّتْ على أمِّ رأسي شنيشةْ ..!"
تعاطٍ


محاولةٌ لاستكناهِ الأساطيرِ المؤسسةِ للصَّنائعِي!! بقصديَّةٍ تتأرجَحُ بين التحليقِ والفجاجةِ (كما أراها الآنَ) قدَّمتُ عناصِرَ وعيِ البطل (السّبَاك/ الكهربائي) كما أدركتُها آنئذٍ ، وعناصر لاوعيِهِ الجَمعِيّ (كما في قولِهِ : "كِليني لِهَمّي" الذي يتقاطَعُ مع مفتتحِ قصيدة النابغةِ الذبيانيِّ الاعتذاريةِ المشهورة، والتي لم يسمع بها البطل في حياتِهِ على الأرجح ، لكنَّها جزءٌ من هُوِيَّتِهِ رغم ذلك) ، وحاولتُ أن أضفِّرَ هذه العناصِرَ في ظهور الجِنِّيِّ الذي يسكنُ الحمّامَ الذي يدقُّ في أحد حوائطهِ الشَّنيشةَ (جادو - في الموروث الشعبي المصري) .. هذا الجِنِّيُّ الذي ما إن يَظهَر حتّى يسألَ البطلَ سؤالاً مُبهَمًا: "هل القومُ عادُوا؟" .. هذا الإبهامُ يُفترَضُ أن يحمِلَ باقةً صاخبةً من الأفاعي الدّلاليةِ والإيحائيّة، بينَها حَنينٌ غريبٌ إلى مَن رحلوا ، وخوفٌ أصيلٌ من صُحبةِ الناسِ ، وغيرُ ذلك ..
الخلاصةُ أنَّ الشَّنيشةَ كانت تنغرِسُ في رُوحِ البطلِ كما تنغرِسُ في الحائطِ الذي يعملُ عليه .. كانت تُظهِرُ صراعاتِهِ النفسيةَ وآلامَهُ وانتصاراتِهِ وطموحاتِهِ شيئًا فشَيئا .. رُبَّما ينفذُ نُورٌ إلى من يتلقّى هذه التجربة .. والنورُ معرفةٌ، وسماحة.

أذكرُ جيّدًا أنَّ هذه التجربةَ كانت أولَ تجربةٍ أُلقيها في (لقاء الأدباء) بساقية الصّاوي في منتصف عام 2005 ..
أثارَت مزيجًا من الجدَلِ بشأن صحة الاشتقاق اللُّغَوِيّ (الشَّنيشة) ، وإعجابِ البعضِ بمحاولةِ تفصيحِ حوارٍ داخليٍّ يدور في نفس مصريٍّ بسيطٍ لا يعرفُ الفصحى ، واستهجانِ البعضِ لذاتِ المحاولة ..
هيييييه .. دنيا!

أرپيج - Arpege - من تجارب 2006 - عامّيّة

$
0
0



مالي طعامٌ فيكِ إلا مِن ضريعْ ...!
لو تطلعي السلم بيتهز التآلف ..
لو تنزليه اشرِد لوحدي ، و برضه يتهز التآلف ...
(دو-مي) دُومي لي ..
يا سِدرة الفتح اللي مستنيها سِدر المُبتدا ...


آهٍٍ عليه !!!
نقشي المُقدس فوق كفوفك ليل نهار : رايح سُدَى..
(مي-دو) : مِدَوب فيكي ألحان التوجس ...
واجهيني .. ما في حيل لألغاز التخالف ..
عبثًا بنيتُ لكِ النُهودَ بكلِ رِيع ْ ...
وعملت واحد ف السريعْ ...!


http://www.goodreads.com/book/show/13272379
.....
أن تسرحَ في امرأةٍ  تحبُّها وأنتَ جالسٌ في نادٍ ليلي .. 
Green Village
شارع النصر بالمعادي !!
أظنُّ أن اصطلاحَ (نادٍ ليليٍّ) هذا قد سقط من الاستخدام
لا بأس .. إذن فقد كنتُ جالسًا في نادٍ ليليٍّ بالفعل !!
 ..ربما هي المرةُ الوحيدةُ التي أدخلُ فيها (ناديًا ليليًّا) في مصر
كانت ليلةً مقدسةً ، وكنتُ محمَّلاً بهموم بضعةِ أشهُر ..
لم يكن هناك بُدٌّ من بناء النهودِ بكلِّ ريع ..
كانت هذه استراتيجيةَ المرحلة !


أذكرُ 
جيِّدًا للأسف
أنه في وقت امتثالِ ديوان (هنجراني) للطبع ، كانت هناك اعتراضاتٌ جِذريةٌ على السَّطر الأخير ..
ولا أعرفُ لماذا رضختُ بهذه السهولةِ وغيَّرتُهُ إلى:
"ونتشت بوسة على السريع"
رغم أنَّ هذه لم تكن الحقيقة ..
أنا مؤمنٌ بأنه علينا أن نكتب الحقيقة ..
لالالالا
َ لا أعني أنَّ الحقيقةَ هي ما حدث
الحقيقةُ هي الحقيقةُ دون تعريف ..
هه!
ربَّما لم تكن (تابوهاتُ) النَّشر قد ماتت بشكلٍ كاملٍ وقتئذٍ
لكن ، على كلِّ حالٍ، فقد داخلَني بعضُ الإيمان
- والإيمانُ دائمًا يقبلُ التَّبعيضَ - 
بأنني يجب أن أقدِّمَ مجموعةً من الأضاحي لكي يحدُثَ (نشرٌ) ما ..
فحذفتُ (تراويح) من (هنجراني) ، وهي التجربةُ التي أعشقُها ومازلت ..
كما حذفتُ (حديث قصير للنفس المسافرة)
كنتُ توراتيًّا أكثرَ من التَّوراتيِّين !!
.....
عبثًا بنيتُ لكِ النُّهودَ بكلِّ رِيع
!

أمُوت - من تجارب عام 2007

$
0
0


أنا أُسلِمُ الآنَ الحُضورَ إلى الأبَدْ     
وأنزِلُ في دارِ الغيابِ إذ استَبَدْ

كما جِئتُ مِن ظَهرِ الألُوهةِ ،
أحتذي   
خُطاها ،
فأعلو السَّطرَ كالبَعلِ ،
كالزَّبَدْ ..


وأُولِدُهُ نَصًّا بريئًا ،

تَرُوعُهُ     
أصابِعُ مَن سَوَّى، فيَبكي وقَد عَبَدْ ..


قُشَعْريرَةُ التَّسليمِ تَسري بأحرُفي       

فهل بُحتُ إذ أهلَكتُ أنَّاتِيَ اللُّبَدْ ؟!


ألا لا تَلُمْني أيُّها النَّصُّ ،

إنَّما       
على صُورَتي الأولى خَلَقْتُكَ :
في كَبَدْ .


أرَّقَتني العلاقةُ بين الكاتبِ ونَصِّه .. لكنَّني اخترتُ هنا الغيابَ لحساب النَّصّ .. كان عليَّ أن أتنكَّرَ لأنايَ وأتوارَى خلفَ نصّي ..
فعلتُ .. 
اقتفيتُ أثرَ العلَّةِ الأولى .. قبضتُ قبضةً من أثرِ واجبِ الوجودِ، واحتجبتُ ..
رُبَّما كان هذا بدافعِ اختبارِ النَّصّ - أعني قارئه - هل سيعرفُني أم لا ..
أتصوَّرُ جدليةَ علاقتي بالسَّطر : أنا البعلُ/السيدُ/الزوجُ /النطفةُ ، وهو من يتلقَّى .. لكنَّهُ أيضًا المتنُ/ما ينفعُ الناسَ/النَّصُّ ، وأنا الزَّبَدُ / الخَبَثُ / جُفاءُ التجربة ..
لكنَّ أصابعي خانتني وظهرت من وراء النَّص .. 
عبدَني رغمًا عنه ..
رُبَّما كان ألمًا لا قِبَلَ لي به ، ذلك الذي دفعَني للكتابةِ منذ البداية ، أنَّاتٌ لُبَدٌ لا حصرَ لها .. لا أعرفُ إن كنتُ أكملتُ بَوحي أم لا .. لكنَّ أحرُفَ النَّصِّ سلَّمَت بقدرتي المطلقة .. النَّصُّ ينطقُ بضعفه ..
خلقتُهُ بفَيضي .. هكذا !!
خلقتُهُ كما خُلِقتُ .. 
في كَبَد ..

من تجارب عام 2008 - أُختَطَف (بلسان أنثى)

$
0
0

حُمِلتُ إلى سُلطانِ أحلامِيَ الجائِرْ    على كَتِفَيْ عِربِيدِ لَحظَتِيَ الثَّائِرْ
تَسَلَّلَ في أعصابِ طاعَتِيَ التي    أعدَّت لَهُم أنشودةَ الكائِنِ الخائِرْ
نَظرتُ فلم أدرِكْ سِوى أنني هنا    أدورُ على نَهدَيَّ كالكوكَبِ الحائِرْ
ورِجلايَ في وَجهِ السماءِ ، وحَربَةٌ    تُراوِدُ عني جُرحِيَ الغابِرَ الغائِرْ
سُئِلتُ عن النيرانِ شَبَّت وأحرَقَتْ    غريزةَ مَن مَرُّوا على جسميَ الفائِرْ
وعن سَيرِ أحداثِ الحياةِ على فَمِي    وكيفَ تبقَّى خلفَها المَثَلُ السائرْ
وعن تلكُمُ الصيرورةِ الشُّؤمِ كُنهِها  ،  وحين خَرَستُ اربَدَّ سائليَ الزائرْ
وفَكَّ وَثاقي وهْو يزرعُ داخلي    شريحةَ مَوتٍ مُطلقٍ ليس بالصائرْ
أدور على رِجلَيَّ خارجةً إلى    فَنائي ، ويعلو في السما الطبقُ الطائرْ




كانت محاولةً للتماهي مع تاريخ الأنثى .. مزيدُ وعيٍ بالدور الخضوعيِّ الذي أسندَته الإنسانيةُ إلى الأنثى ، انطلاقًا من الوضع الطبيعيِّ أو بواعزٍ من تغلُّبِ العنصر الأقوى ضدَّ طبيعةٍ ما نجهلًها ، أو هو مزيجٌ من الأمرين ، ليس هذا مقامَ الجدَل !! مزيدُ وعيٍ بجسدِها وخصائصه التي تشكِّلُ وعيَها المُخمَلِيَّ الحائِرَ ولاوعيَها الأوَّلِيَّ الساحر .. مزيدُ وعيٍ بدورِها كنبعٍ للكلامِ لا ينضُب .. الكلامُ بحد ذاته أنثى .. الكلامُ يصدرُ عن الفعل في الحالة الإنسانية .. الفعلُ ذكريٌّ والكلام أنثويّ .. بينما في الحالة الإلهية ، يصدر الفعلُ عن الكلام .. فالكلامُ مبدأٌ في الحالةِ الإلهية ، ومنتهىً في الحالةِ الإنسانية .. وهكذا تقولُ عن نفسِها: "وعن سير أحداثِ الحياةِ على فمي .. وكيف تبقَّى خلفَها المثلُ السائِرْ" فهي تستقبلُ الفعل وتعي ذلك وتردِفُهُ بالمثل السائر ، كما لو انَّ هذا هو الدورُ المَنوطُ بها .. ثُمَّ هي أخيرًا تَعي بشكلٍ پانورامِيٍّ صيرورتَها وصيرورةَ الإنسانيةِ المُكئِبَة ، فتمتنعُ عن الكلام .. 
الذي يستضيفُها لا هو ذكرٌ ولا هو أنثى .. هو كائنٌ محايدٌ أطلعَنا عليه خيالُنا .. إنه ساكن الطبق الطائر .. إنه يرحمُها من صيرورتِها الأبدية ، فيُسلِمُها إلى موتٍ مُطلَقٍ لا حياةَ بعدَه .. وينتهي دورُ الزائر الغريب ..!


زوما Zuma - من تجارب عام 2009

$
0
0

في هذا الإصدار من اللعبة يدور الكائن (زوما) حول محوره ليطارد مجموعات الكرات ذات اللون المتفق وينسفها بأن يقذف إليها كرةً من نفس لونها ، ويدور هذا في إطار جوٍّ من الأساطير الأزتكية المنتمية إلى حضارات المكسيك القديمة


على بابِ معبديَ الأزتِكِيّْ
وقفتُ أحدِّقُ فيما أحاولُ ألاّ أراهْ
تُراوِدُ عينايَ كُلَّ الجواهرِ عن كلِّ أعراضِها ، عَلَّها تَختَفي
فأبقَى وحيدًا
أدلِّكُ ذاتي بذاتي
بلا طائفين ولا قائمينَ ولا راكعين ولا سُجَّدٍ وبُكِيّْ 

تَلُوحُ كُراتٌ من العَدَمِ السَّرمَدِيِّ، فأسألُها
"
هل ستُبكُونني يا رفاقُ أم انَّكُمُو مُضحِكِيّْ؟

أدُورُ على عَقِبَيْ حَيرَتي ، أقتَفي :
تَلاحُقَألوانِها
حيثُ رَتلٌ يُسَلِّمُ رَتلاً
ورَتلٌ يُسَلِّمُهُ للمداراتِ رَتْلْ ..
فما بينَ خَوفِيِّ أصفَرَ ،
والغَضَبِيِّ من الأحمر المًستَطارِ،
وحُزنِيِّ أزرَقَ ،
والفَرَحِيِّ من الأخضَر ِ المُستَعار ِ ،
وهذاالحيادِ الرَّماديِّ ،
يا وَيلَتي ،
كَثرةٌ مُفتَرَاة ْ ...

وَفِيَّكُراتٌ كذلكَ ،
لستُ أراها سِوى بَعدَ أن أتقيَّأَها ،
إنني عَدَمٌسَرمَدِيٌّ ذَكِيّْ ...

كُراتي وألوانُها ،
وكُراتُ الوُجودِ وألوانُها،
أصطَفي ..،
وأشاهِدُ في جَذَلٍ كيفَ يُفني التصادُمُ هذي وتلكَ،
وقَتلٌ وقتلٌ وقَتْلْ 
يُطيحُ بما خَلَقَت نَفْثَةُ (الإِهِكَتْلْ) ! [1]

هُوَ السِّرُّ ،
أنَّ الجواهِرَ من بعدِ أعراضِهاتَنتَفي ..
فلا يَسكُنُ المَعبدَ الأزتِكِيّْ ..:
سِوى عدمٍ سرمديٍّغبيٍّ ؛
أنا ؛
عدمٌ في عَدَمْ .




[1] الإهِكَتل Ehecatl : إله الريح في الأساطير الأزتكية

محاولةٌ أخرى لاستكناه حقائق الأشياءِ تبوءُ بالخَيبة .. ليس وراءَ الأعراضِ جواهر!

Article 16

$
0
0

الطُّغرَى .. جغرافيا (يوسف رخا)
نهايةٌ البلاغة .. نهايةُ الجغرافيا .. وأشياء أخرى!



مع اعترافي الكامل بأنَّ Angel Clairالآتي من Tess of the d'Urbervilles
هو بطلي المفضَّل، وأنّي أكثرُ ما أكونُ تماهيًا فمع روايةٍ للمرحوم (توماس هاردي)، حيث هو دائمًا مُتَّسِقٌ مع ذاتِهِ، وقضاياه الأساسيةُ مبسوطةٌ كالأرضِ قبلَ إثباتِ كُرَوِيَّتِها، وبأنَّ ما اصطُلِحَ على تسميتِهِ (الأدبَ السِّيس) هو تياري المفضَّل، إلا أني مؤمنٌ بأنَّ (كتاب الطُّغرَى .. غرائب التاريخ في مدينة المرّيخ) لصاحبها (يوسف رخا) روايةٌ عظيمة ..

·       نهايةُ البلاغة: في معرضِ حديثي مع أكثر من صديقٍ عن الروايةِ (أثناءَ قراءتِها) كنتُ كثيرًا ما أعربُ عن اعتقادي في أن الروايةَ تؤسِّسُ لبلاغةٍ جديدة .. استندتُ في هذا الاعتقاد إلى ملاحظاتٍ ساذجةٍ شديدة الجزئية ، أتصوَّرُ أنه يمكن إجمالُها في عدة مجموعات:
أ‌-                 الصور الجزئية المتناثرة في سياق الرواية وفي القصائد النثرية التي كتبها (مصطفى الشوربجي)، والتي تشبهُ اكتشافًا مدهشًا ومثيرًا للضحِكِ في آن .. مثالُ ذلك قول (الشوربجي) في القسم الأول: "الأملُ يلاعبُني مثلَ اليويو" .. طرافةُ الصورة ممتزجةٌ بسخريةٍ ضمنيةٍ مُرَّةٍ لا تدعُكَ تفغرُ فاكَ مستحسنًا لما يزيد عن جزءٍ من الثانية، فأنتَ مضطرٌّ أن تنهارَ ضاحكًا .. فقط أدرِكْ تحوُّلَ الأمل من خصيصةٍ إنسانيةٍ مرنةٍ لَدنةٍ إلى آلةٍ جامدةٍ تستدعي بحضورِها طفولةً بلهاءَ هي الياي/اليويو على طريقة (هنري برجسون) لتغيبَ في نوبةِ الضَّحِك .. خذ مثالاً آخر في القسم السادس حيث يقول الراوية: "شيءٌ مثل عمارة ما كدتَ تعيشُ في إحدى شققِها حتى ساحت عواميدُ الأساس." متحدِّثًا عن اعتناق (أمجد صلاح) للمذهب السَّلفِي بعد ظهور السلطان له كما يتصور (الشوربجي) .. هو يرى أن هذا التحول في شخصية (أمجد) كان بحثًا عن الارتياح من القرار، لكنَّه في هذه اللحظة البلاغيةِ لم يكن بحثًا بالمعنى الدارجِ الذي يتطلبُ حضور الوعي .. إنه بمثابة انهيار (سَيَحان) لأساساتِ دماغ الرجل .. طزاجةُ الصورة الأسمنتيةِ ملطَّخةٌ هنا باختيار مفردةٍ بعينِها: (ساحت) مستدعيةً شريطًا من الصُّوَر عن سياقِ الكارثة النووية و(انصهار/سيَحان) الأشياء أكثرَ من انهيارِها .. هنا أنتَ مدفوعٌ باختيار المفردَةِ داخلَ الصورةِ إلى اكتئابٍ أبوكالبسيٍّ محتَّم ..
ب‌-           استيرادُ أبنيةِ الجُمَل الإنجليزية وتعريبُها ، كما في اختيار المؤلف في كثيرٍ من المواضعِ للسؤال التذييليِّ المختصر للتقرير: "لا؟" بدلاً من "أليسَ كذلك؟" .. من المؤكَّد أن ازدواجية لغة المؤلف مسؤولةٌ بشكلٍ كبيرٍ عن هذا الاختيار .. لكنَّهُ يظلُّ اختيارًا في النهايةِ ، أي أنه مقترنٌ بقصديةٍ لا تخفَى، ربَّما لإحالةِ القارئ العربيِّ مزدوجِ اللغةِ إلى إنجليزيتِهِ لإثارة سؤال الهُوِيَّةِ حتى على مستوي الـtag question!!
ت‌-           الإحالاتُ المعرفيةُ المُضمَرَة .. أعني بذلك الجُمَلَ البسيطةَ التي تردُ في سياقٍ ما، وتُحيلُ قارئها إلى وعيِهِ بحقلٍ معرفيٍّ بذاتِه .. من أمثلة ذلك قول (الشوربجي) في القسم الأول كذلك واصفًا حالَهُ في أيام انهيار زواجِهِ وابتعاد زوجته عنه جسديًّا: "هكذا أقولُ لنفسي، وأستمتعُ بالتَّبَرُّزِ أكثر مما ينبغي". إحالةً إلى تصوُّر (فرويد) عن مراحل النمو الجنسي في الإنسان، وتحديدًا لما أسماه بالمرحلة الشرجية .. هذا الارتداد المُحزِن يُفترَضُ أن يثيرَ شكلاً من أشكال التعاطف لدى القارئ الذي يعي ذلك التصور ..
ث‌-           تفصيح و(ترسيم) ما هو دارجٌ كاستبدال الجمل الاعتراضية التي تردُ دعاءًا للمُخاطَب في الرسائل التراثية مثل (فاعلم – أصلحكَ اللهُ – أنَّ ...) بعبارةٍ وحيدةٍ هي (قشطة عليك) .. يحدثُ هذا بشكلٍ عرَضِيٍّ عند الجميع، كوسيلةٍ لاختراق هيبة النَّصِّ وإحداثِ قدرٍ من تغريب المتلقي على استحياء .. لكنَّ (رخا) يستخمه بشكلٍ منهجيٍّ مقصودٍ لذاتِهِ، فيضرب عدةَ عصافير بطلقةٍ واحدة، فهو يسخر من الأبنية التراثية المتجذرة في وعينا الجَمعِيِّ وينسفها، ويصالحُنا على ما نقولُهُ خارجَ الصفحة بشكلٍ ما أو بآخَر، ويضعُ القارئ على أرجوحةِ الإيهام وكَسرِهِ بطول الرواية.

  آه! هناك المجموعةُ الخامسةُ الأبرز على الإطلاق، لكنَّها كانت كفيلةً بأن تقلبَ وحدَها إدراكي للموقف البلاغي للرواية من (تأسيسٍ لبلاغةٍ جديدةٍ) إلى (نهايةٍ للبلاغة) .. أعني بذلك .. أعني .. أعني ......!
  ربَّما دارت البلاغةُ الحديثةُ كلُّها حولَ مغازلةِ المُحرَّم/التابُو .. لا يفعل (يوسف رخا) كالآخرين .. إنه يخترقُ التابُو إلى نهايته .. لا توجدُ كلمةٌ نابِية .. كلُّ الكلماتِ أدواتٌ متاحةٌ، فلنقتَرِفها معًا جميعا .. في عزِّ اللغةِ التراثية التي يعتمدُها لفقراتٍ بأكملِها، يفاجئني بكلمةٍ كان مفترضًا أنها (تابُو) فيما قبل، فأقعُ في فخ (هنري برجسون) الذي لا فِكاكَ لي منه مُجدَّدًا، وأدركُ تحوُّلَ اللغةِ إلى آلةٍ غبيَّةٍ يبدو أنها تتعطَّلُ رغمًا عن أنفِها، فأموتُ من الضحك.
  ما أريدُ أن أخلُصَ إليه هو أنه بالتوسُّعِ المُمَنهجِ في هذا الاستخدام للغة ، لا يعودُ هناك مكانٌ لما يُسمَّى في الاصطلاح الإنجليزيّ Euphemismوهو تلك الكنايةُ (أو ربَّما هو الفألُ الحسنُ في سياقٍ ما) التي تحلُّ محلَّ كلمةٍ لا نحبُّ ذِكرَها ، وتعتمدُ إزاحةً دلاليةً بعينِها لكلمةٍ أخرى .. فعضوُ الأنثى التناسلي في الأقسام الأخيرةِ من الروايةِ ليسَ إلا اسمَهُ كما يقولُهُ المصريون والشوامُ في جلساتهم المتحررة .. ليس مِهبَلاً ولا عَجانًا ولا إنسانًا ولا غيرَ ذلك مما يمكنك أن تفكرَ فيه .. ليس ذلك فحَسبُ، وإنما هو يأتي مُشكَّلاً بالتشكيل العربي الرصين، كخطوةٍ أولى في سبيل اعتمادِهِ لفظةً رسمية!! كيف يمكن أن تبحثَ اللغةُ بعد ذلك يا عم (يوسف) عن كنايةٍ أو يوفيميزم؟؟ من الآنَ فصاعِدًا ستُقترفُ الإزاحاتُ الدلاليةُ عن اختيارٍ فضفاضٍ، كما فعل (الشوربجي) نفسه حين سمَّى عُضوَ (كلودين): (الباشمهندس) ..! صحيحٌ أننا نستخدم كمصريين هذا اللقبَ للإشارة إلى فصيلٍ غير متجانسٍ واسعٍ من الأشياءِ والأحياء، إلا أن (الشوربجي) اكتشفَ مبرراتِهِ البَعديةَ لهذه التسمية لاحِقًا، فعضوُها هندسَ له عالَمَهُ المُنهارَ في الفترة التي تلت اكتشافَهُ لمهمته المقدسة وأضفى معنىً ما على حياتِهِ، بالإضافةِ إلى أنَّهُ يشبهُ أباهُ في تضمُّخِهِ بعطرٍ خاصٍّ جدًّا، هو المسكُ الأبيضُ في حالة أبيه المهندس، والرائحةُ الحميمةُ لـ(كلودين) في حالة عضوِها!
  هاه؟! هل الاختيارُ مسؤولية؟؟ يبدو أننا في المرحلة القادمة من الأدب على أبوابِ اختيارٍ غير مشروطٍ على الإطلاق .. هل نحنُ أمامَ تجلٍّ آخرَ لمفهومِ (سارتر) عن الأدب الملتزم والمسؤولية المبنيةِ على الاختيار المُطلَق؟؟ رُبَّما .. الأكيدُ هو أن الكناية صارت اختيارًا حُرًّا، نركبُها أو نتركُها، وليست حتميةً كامنةً في اللغة لا مفرَّ منها كما هو الحالُ قبل (الطُّغرَى) ..

·       أرجوحةُ التغريب والإيهام: بين (خُطبة الكتاب) التراثية و خاتمته التراثية كذلك، وإجمالهما لتغيُّر راوي الأحداث من شخصٍ أول هو البطلُ (مصطفى الشوربجي) في الأقسام الأول والثاني والرابع والخامس والسابع، وراوٍ آخرَ غير معيَّنٍ يتكلمُ في الأقسام الثالث والسادس والثامن والتاسع، تتمثَّلُ الأرجوحةُ القاسيةُ التي تطرحُ المتلقي في بئر الوهم الأدبي على مخملٍ ناعمٍ كما في حُلم (مصطفى الشوربجي) الذي يعاودُهُ كثيرًا ويمثلُ معادلاً موضوعيًّا ما لعدةِ أشياءٍ ((بينها هذا الأمرُ وبينها اكتشافه لجسد (كلودين يوسف) وبينَها الطريقُ المخمليُّ في قصر السلطان والذي يشبهُ إرهاصاتِ الكارثة))، ثم تعودُ تنتشلُهُ من هذا البئر، فيقول الراوي نصف العليم في الأقسام الأخيرةِ (من كوكبِنا نحنُ) حين يرصُدُ أحداثَ الأيامِ الأخيرةِ للشوربجي قبل سفره إلى بيروت. شبهُ الجملةِ الافتتاحيُّ هذا بحدِّ ذاتِهِ يمثل جهدًا جبّارًا في محاولة فصل ذاتِ الكاتب عن مجرى الأحداث ليرصُدَها برؤيةٍ مختلفة .. لكنَّهُ يتماهَى في النهايةِ مع (الشوربجي) كما يعترف بذلك في خاتمة الكتاب، عن طواعيةٍ تنتصرُ لمركزية الذاتِ في العالَم ..
       ربَّما يتصلُ الأمرُ برؤيةِ (يوسف رخا) لدَور الروائي .. أرَّقني هذا الهاجسُ وأنا في منتصف الرواية تقريبًا .. هل على الروائيِّ أن يكون راصِدًا محايدًا تدور الأحداثُ من حولِهِ وليس له إلا أن يروي ويُبدي دهشتَهُ في بداية الرواية ونهايتِها كما فعل (دوستويفسكي) في (الإخوة كارامازوف)، أم يُفترضُ أن يشاركَ في صنع الواقع الروائيِّ وينقلَ إلينا رؤيتَه طول الوقت؟؟ أم أنَّ هذا السؤال قديمٌ وعفا عليه الزمنُ ولا مجالَ لفتحه لأنه موغلٌ في السذاجة؟!!
   المهمُّ أن هذه التقنية الأرجوحيةَ تسهمُ بقدرٍ ما في إثارةِ وعي المتلقي .. تكشفُ بقدر ما تحجُب .. هل .. هل يمكن أن تقفَ على الموقف الأيديولوجي للمؤلفِ مثلاً بعد قراءة الرواية؟ نعم ، الراوي يتفق مع (الشوربجي) – كما يتبين في خاتمة الكتاب- على التماهي مع رؤيته والكتابة بطريقته، لكنَّ (الشوربجي) يبدأ الأحداثَ حائرًا ممزَّقًا (طلعان ميتينه – كما يحب أن يقول)، ويُنهيها حائرًا باحثًا عن حلّ .. هل سيجدُ حلاًّ ما لأزمة وجوده؟ لا أتصوَّرُ أنه بإمكان أحدهم أن يجزم بذلك، إلا أن يقول أن الرحلةَ بذاتِها/ السَّفر هو الحل (إشكالية رواية ساحر الصحراء لكويليو) !!

·       توتُّرُ القيمة: هل كان ضروريًّا أن ينخرط (مصطفى الشوربجي) في علاقةٍ (آثمةٍ) مع (كلودين) ويعبُرَ (باشمهندسَها) لكي يصِلَ إلى مكان رقٍّ من رقوق سورة (مريم) الموعودة؟! يبدو أنَّ هذا مقصودٌ بوعيٍ قاسٍ هو الآخَر .. ربَّما اختيرت سورةُ (مريم) لأنَّها تعبر – كما يقول السلطان أو الشوربجي في ذلك المشهد ، لا أذكر – عن تسامح الدولة (العَلِيَّةِ) العثمانيةِ إزاء (النصارَى) .. رُبَّما .. فهل كان اختيارُ عضو (كلودين) مَعبرًا إلى السورةِ سابقًا أم لاحقًا على اختيار السورة؟؟ أعني أن شخصيةَ السيدة (مريم) (العذراء) هي المعادلُ الموضوعيُّ للعذرية والاحتفاء بها في الإسلام (الهوية المطروحة للبحث والمناقشة بطرقٍ مختلفةٍ في الرواية)، فماذا الآن؟!!
المدهشُ أنَّ (الشوربجي) يتساءلُ وهو أمام عضو (كلودين) عن سرِّ انطباقِهِ على بعضه وخجلِهِ العذريِّ ، وهو الذي تخيلَهُ شَبِقًا منفتحًا على الدنيا باعتبار أنها زوجةٌ وأمٌّ لأكثر من طفلٍ منذ عددٍ من السنين .. ثُمَّ هو في النهاية شبهه بزهرة تيوليب (خزامَى)، وأخيرًا بزهرتَي تيوليب فوق بعضهما، ثم رسم الزهرتَين أعلى إحدى صفحات الكتاب!
  إلى هذا الحدِّ يمتزجُ الإثم والبراءة؟ ربَّما اختيرت سورةُ (مريم) دون بقيةٍ سور القرآنِ للإشارةِ إلى شيءٍ أعمقَ من مجرد تسامح العثمانيين مع المخالفين في الدين .. إنه تسامح واستيعابُ الهوية المفتقدَة نفسِها للإثم وخرق المحظور .. أتصوَّرُها رسالةً ضمنيةً في الروايةِ تستحقُ البحثَ والتوقفَ عندها ..

·       روايةُ المؤامرة؟!: أو بالأحرى رواية التهكم على المؤامرة .. هل الروايةُ فتحٌ في أدب المؤامرة باللغة العربية؟!! تبدو كذلك لوهلةٍ عند منتصفِها .. السلطانُ العثمانيُّ الأخيرُ يتلبَّسُ جسدَ صحافيٍّ ضئيلٍ يمثلُ في عينَي (الشوربجي) الصورةَ الحيةَ لانهيار المجتمع المدني .. السلطان العثمانيُّ الأخيرُ مهديٌّ منتظَرٌ بديل .. السلطانُ العثمانيُّ الأخيرُ مسيحٌ بديلٌ للمسيح المفترضِ عودتُهُ للأرض في الإسلام السلفي (الأرثوذكسي كما يحب الشوربجي أن يسميه) .. والسلطان (محمد وحيد الدين خان بن عبد المجيد) يعيشُ حياةً برزخيةً ذاتَ طابعٍ خاصٍّ كالتصور الإسلامي الشائع عن المسيح، والتصور الاثنَي عشريِّ الشيعي عن المهدي المنتظَر .. يكتب السلطان سورةَ (مريم) في سبعة رقوقٍ تضيعُ منه كلُّها لتتبعثَرَ في أركان الأرض .. أوه! نحن أمامَ (مريم مجدلية) موازية لتلك الموجودة في (شفرة دافنتشي)! والعثورُ على هذه الرقوق السبعةِ مقدمةٌ لابُدَّ منها – بطريقةٍ غامضةٍ تهكميةٍ مقدسةٍ غيبيةٍ في آنٍ – لعودة الخلافة واستئنافِ الهوية الإسلامية .. يرحلُ (الشوربجي المختارُ) في نهاية الرواية إلى بيروت سعيًا وراء (معروف شالجي) الخطّاطِ العراقيِّ صديق والد (كلودين) الذي وجدَ نسخةً بخطه من أحد الرقوق به أولُ سورةِ (مريم) عند (كلودين) .. الخطّاط هو الآخرُ شخصيةٌ حاضرةٌ غائبةٌ في الرواية .. شخصيةٌ عبقريةٌ مرسومةٌ بأستاذية .. ذلك البدين الذي له لهجةُ المواصِلَةِ الخَشِنَةُ المتقاطعةُ مع لهجة الحلبيين بالشام، والذي يُفَضِّلُ أن يُنادى (معروف أفندي) كالسلطان الذي لا يحكم .. شخصيةٌ جديرةٌ بروايةٍ لها وحدها!! رغم أنَّ القصدَ واضحٌ في النهايةِ المفتوحةِ الحائرةِ، إلا أن جزءًا ثانيًا من الروايةِ ليس احتمالاً مستحيلا .. الله؟! وهل هناكَ احتمالٌ مستحيل؟!
الخلاصةُ أن (يوسف رخا) يطرحُ نظريةَ المؤامرةِ بشكلٍ ما في منتصف الروايةِ ، ثُمَّ يطرحُها من جديدٍ في نهايتها لكنَّهُ يطرحُها (أرضًا) هذه المرةَ ، حين يُعربُ على لسان الراوية غير المعيَّنِ عن تفضيله لأتاتورك على مائة وحيد الدين خان .. رغم أنه ليس موقفًا أيديولوجيًّا واضحًا حتى الآنَ، إلاً أنه كفيلٌ بأن يبصُقَ في وجهِ المتلقّي المسكين ويقول له: "أنت مسؤولٌ وحدكَ عمّا أنت فيه – قشطة عليك" !!
·       سوء التفاهم وإشكاليةُ التأتأة!!: لا يُنسَى الفلاش باك المروِيُّ على لسان (ألدو مزيكا) للفقي (وحيد الدين) وهو يتمتمُ بعباراتٍ ملتبسةٍ لم تفهم منها أمُّ (ألدو) الساحرةُ الأفريقيةُ إلا (سولتان لئيم) لتُصَدِّرَ لابنِها فكرةَ أنَّ اغتصاب (وحيد الدين) نجحَ في إخراج الجنِّ الذي يلبسُهُ .. المؤلِمُ هو وعي (الشوربجي) بأنَّ ما قاله (وحيد الدين) في ذلك الموقف بعد أن أفاقَ من إغماءته هو غالبًا (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وأنَّ الساحرةَ لم تفهم لأنها ببساطةٍ لا تجيدُ العربية !!
  أحالتني هذه الحالةُ الضَّبابيةُ إلى Benjyأو Benjaminالأخِ المتخلفِ عقليًّا في رواية فوكنر The Sound & The Fury، والذي يروي الفصلَ الأولَ بالكاملِ من الرواية بتأتأتِهِ وجمله المبتورة القصيرة التي لا تفيدُ معنىً متكاملاً ولا تحيلُ إلا إلى ذاتها .. من المؤكَّدِ أنَّها كانت مغامرةً مدهشةً من (فوكنر) .. مغامرةُ (يوسف رخا) أضيقُ من مغامرةٍ (فوكنر) لكنَّ قسوتَهُ في معاملةِ نموذجهِ الانهياريِّ (وحيد الدين) أبشعُ من قسوة فوكنر/الزمن في معاملة Benjamin !! في هذا المشهد، يُفيقُ (وحيدُ الدين) على الدمِ متفجرًا من شرجِهِ بعد أن يغتصبَهُ (ألدو مزيكا) الذي يُباهي دائمًا بحجم قضيبِهِ، امتثالاً لأمرِ أمه الساحرة وخوفًا من غضبِها عليه !! ما أقسى هذا .. في الجنوب الأمريكيِّ تكفلت الخادمةُ الزنجيةُ الطيبةُ برعاية (بنجامين) بشكلٍ ما وسطَ (الصوت والصخب) ، لكنَّ الساحرةَ الزنجيَّةَ وابنها الصحافيَّ اغتصبا (وحيدَ الدين) الصحافيَّ المسكينَ في قلب القاهرة بعد بداية القرن الحادي والعشرين بعدَّة سنوات .. لا مجال للتأتأة .. لا مجالَ لسوءِ التفاهم .. 

·       اختيار قالَبِ الرسالة التراثي: حنينٌ إلى ماضٍ يسكن الأوراقَ الصفراء؟ استغاثةٌ خجلَى بشخصٍ ما غير موجود؟ رُبَّما .. يمتدُّ سؤالُ الهويةِ الممزقةِ إلى مسألة اختيار القالَب هنا فيما أتصوَّر .. ليس ذلك فحَسبُ، وإنما في نحت الاسم الذس يُفترضُ أن توجَّهَ إليه الرسالة .. (راشد جلال السيوطي) .. ما أسهلَ أن يحيلَ الاسمُ إلى (جلال الدين السيوطي) أحد أبرز شخصيات العلوم الإسلامية في تاريخ الإسلام ، بجمعه بين التفسير وعلوم اللغة وكتابة المقامات وكل تلك الخصائص اللصيقة بفن الكتابة العربي التراثي الإسلامي .. ربَّما في هذا بحثٌ كذلك عن هويةٍ ضائعة .. استغاثةٌ مكتومةٌ مفضوحةٌ ضاحكةٌ باكيةٌ بمن كتبَ قديمًا، علَّ من يكتبُ الآنَ يصلُ إلى حلٍّ لمعاناته، ونهايةٍ لوضعية الـ(زومبي)!! 
·       نهايةُ الجغرافيا: أخيرًا، لا يمكنُ أن ننسى انبهارَ (الشوربجي) بالخارطةِ العربيةِ القديمة بألوانها الحنونة وثرائها، في مواجهة الخارطة الأوربية الحديثة المصمتة .. كان مهمًّا أن يختزل (الشوربجي) علاماتِ قاهرتِهِ في طغراءِ آخر السلاطين العثمانيين حتى تعودَ له القاهرة وحتى تكتملَ بين يديه .. المدينةُ التي نُسِبَت إلى المِرِّيخِ وقتَ بنائها بالخطأ كما يروي هو من كتب التراث في بداية الروايةِ لا ذاكرةَ لها كما يُورِدُ في نهاية الرواية .. كان عليه أن يبتكرَ رسمًا يحفظُها له .. حتى لو كان هذا الرسمُ محورَ حياتِهِ هو .. حتى لو تشخصنت القاهرةُ فيه فأصبح الدقي (جسرَ المنامِ) ، والمعادي (درب الكلب) وكوبري الدقي (النيل الناشف) وكارفور (خانَ السِّرّ) ووسط البلد (باب الدنيا) .. عليه أن يهبَها ذاكرةً من نسجه ، ويا حبَّذا لو كان للرَّسم معنىً ما من قبلِهِ لتكونَ له هيبةُ وحصانةُ القديم .. إنه ختمُ الهُوِيَّةِ الضائعة .. ختمُ الهويةِ المُفتقَدَة .. جغرافيا مقياس الرسم والألوان المتدرجة والمرتفعات والطرق وما إلى ذلك ليست كافية .. فلتذهب هذه بحماقتِها وسًخفِها وإحالتِها إلى ذاتِها .. فلتذهب إلى غير رجعة .. ولتكن هناك جغرافيا جديدةٌ خطِّيَّةٌ من طغرَى آخر السلاطين .. طغرى (يوسف رخا). 

من تجارب عام 2010 - المقامُ الدفيء (مستوحاةٌ من فيلم Amadeus)

$
0
0


أتعرِفُ ما القِشرةُ الجَوهَرُ؟
وما السَّهلُ مأخذُهُ
الأوعَرُ؟؟

وما قد تراهُ لَطيفًا
وقد لا يَراهُ الفتى
وهو الأخطَرُ ؟؟

هو السِّحرُ يبقَى جَلِيًّا خَفيًّا
إذا سكتُوا
وإذا فَسَّرُوا

أهيمُ على ضفَّةِ العبقريةِ
أنظُرُ
من حيثُ لا أنظُرُ ..

يُخايِلُني الاحتمالُ المُحالُ
فأمخُرُ في نشوةٍ
أمخُرُ ..

وحينَ يَرَى الماءُ ساقي تُحاوِلُهُ
يتبَخَّرُ
أو يَحسِرُ !

بهذا المُدرَّجِ ذي خمسةِ الأسطُرِ
الوَيلُ لي
خمسةٌ أسطُرُ :

رأيتُ بأُذْنَيَّ نافُورةً تتفجَّرُ
هل ذا أنا أفجُرُ ؟!

ملائِكَ يَمشونَها مُطمَئِنِّينَ
والخطوُ من خَلفِهِمْ
يُزهِرُ ..

وآلهةً في ثيابِ الرجالِ
ورُوحًا من العاجِ لا تُنكَرُ

لماذا أرى كلَّ هذا الجَمالِ
ولا يَفتُرُ اللحنُ
أو أفتُرُ ؟!


لماذا أجاهدُ في نَغمةٍ
إذا أمسَكَتها يَدي تَنفِرُ؟!

فُطِرتُ على رَغبةٍ /ليلةٍ
من السُّودِ
ليلاءَ لا تُقمِرُ

لقد أورَقَ السَّطرُ
قد نَوَّرَ السطرُ
قد أثمرَ السطرُ
مَن يَسطُرُ ؟!

إذا اتَّكأَ الوحيُ عندَ البِدايةِ
فالسطرُ مِفتاحُهُ يَشعُرُ

تَجوَّلتَ يا ذِئبُ في رَغبَتي
وتَنهَشُ
والسُّخطُ بي يَقطُرُ

أنا دافِئٌ
في مقامٍ دَفيءٍ مُمِلٍّ
وسُوسِيَ بي يَنخُرُ

وأنتَ
على بَردِ هذا الجُنونِ
تُحَلِّقُ فوقي
وبي تَسخَرُ

ستُملي عليَّ غدًا لحنَ موتِكَ
ها أنا شانِئُكَ الأبتَرُ

ويَقبِضُكَ المجدُ
في لحظةٍ ..
ويَغمُرُني العَدَمُ الأكبرُ !
...
من ديواني (قُدّاسٌ أسود) - تحت الطبع منذ أكثر من عامٍ ونصف!!
يظهر في الصورة الفنان الأمريكي ذو الأصل السوري (فريد مراد الإبراهيم) مجسِّدًا دور الموسيقار الإيطالي (أنتونيو سالييري) معاصر (موتسارت) في فيلم (أماديوس) للعظيم (ميلوش فورمان)، من إنتاج عام 1984 . والفيلم حاز 8 جوائز أوسكار ، بينها أفضل ممثل لفريد الإبراهيم ..


من تجارب عام 2011 - آخِرُ الكِتابة

$
0
0


بَطَلَت دَعاوَى مُضمَري وصَريحي ..
لِتُهاجِم الجِرذانُ شُرفةَ رُوحي

لا عَذبَ في غَزَلي
ولا استعلاءَ في فَخري 
ولا دمَ طالَ شوكَ مَديحي !

صَدِئَت مفاتيحي ،
وأُرتِجَ يا قصيدُ عليَّ ، 
ما مِن مُخرَجٍ لِفَحيحي .

لا رأسَ أفعى دُستُهُ بقصيدةٍ
إلاّ تَسَرَّبَ ذَيلُها بِقُرُوحي ..

ضَبَحَت كُسورِي العادِياتُ بِدَفتَري
فعَدِمتُ مَوضِعَ حافِرٍ لِصَحيحي ..

أسرَفتُ في استمناءِ تَجربَتي
فَخَرَّ السقفُ مِن فوقي ، 
وقامَ ضَريحي

يا لعنةَ الحرفِ الرَّكيكِ ،
أكُنتُ مُنذُ البَدءِ أكتُبُ كُلَّ غَيرِ فَصيحِ؟!

هَدَّ انحناءُ الضَّادِ ظَهْرَ كِنايَتي ،
وَبِرغمِ أنفيَ تُبتُ تَوبَ نَصُوحِ

حانت نهايةُ ذلك الفَيَضانِ ،
يا ليتَ المجازَ 
يَحيكُ قارَبَ نُوحِ !
2009- 6/5/2011

Article 13

$
0
0


واقع (من تجارب عام 2004)
(من وحي لوحةٍ للصديق إيهاب سمير)

سمائيَ التيَ هَمَتْ عشرين قلباً طائرا
وألفَ قلبٍ ضاحكٍ وقلبَ طفلٍ حائرا
همَّت بأن تتركني ألملمُ الخسائرا
من ألفِ رقمٍ ضاحكٍ , عشرين رقماً طائرا
وقلبِ طفلٍ ما يزال قلبَ طفلٍ حائرا
لم أستطع أن أجمع الأرقامَ .. صحتُ ثائرا :
لا تتركينى الآن .. كيف أقرأ السرائرا ؟
وكيف أُغري بالظهور ما استسرَّ غائرا ؟
لم تنتبه لثورتي .. جلستُ وحدي خائرا
فأمطرت مصائرا .. وخططت مصائرا
سمائيَ التي غدت تكوينَ أنثى فائرا
حُبلى بألفي شبحٍ , تمزِّقُ الستائرا
فتارةً شوارباً , وتارةً ضفائرا
قد أنجبت لى توأمين : قلبَ طفلٍ حائرا
وواقعاً مبعثراً دوائراً دوائرا ..

محمد سالم عبادة


Article 12

$
0
0


عينا ناهد شريف

رتوشٌ، ويَسوَدُّ الذي كان يَضطَرِمْ
رتوشٌ، وتَذرُو الرِّيحُ كابُوسَها الهَرِمْ

سيَثقُبُ سَيّالُ الظلامِ صفائحًا
مِن النَّهِمِ المخبوزِ بالكائنِ النَّهِمْ

لِيُطلِقَ دَوّاماتِ موتٍ مُرَصَّعٍ
بآهاتِ مَن لم يأتِ بعدُ، ومَن أَرِمْ

هل (الحسنُ بنُ الهيثَمِ) الآنَ شاهِدٌ؟
!بل (الحسنُ بنُ الهيثمِ) الآنَ يَحتَلِمْ

أشِعَّةُ عَينِ الشيءِ أدمَت بيانَهُ
فخاطَ بمَذيِ الرُّوحِ ما عَنَّ مِن كَلِمْ

وسَجَّلَ في الكُرّاسَةِ البِكرِ نُقطةً
مِن الدَّمِ مِن جُرحٍ نَدٍ ليسَ يَلتَئِمْ

نعَمْ يا جَبينَ الصَّفحةِ، الشيخُ هاربٌ
مِن السّيلِ سيلِ الشَّهوةِ العارِمِ العَرِمْ

فإنَّ بعَينيها رضيعًا سيَلتَقِمْ
إلى أبدِ الفانينَ، لا ، ليسَ يَنفَطِمْ

وإنَّ بعَينيها مَتاعًا مُؤَثثًا
على زَهرةٍ، والمُتكُ في الغَيبِ يَحتَدِمْ

فمِن أيِّ وجهٍ أيُّها الخوفُ تَختَفي؟
وفي أيِّ وجهٍ مُطفَأِ الرَّبِّ تَرتَسِمْ؟؟

لماذا رَكِبتَ الجِنسَ يا خَوفُ؟ ها؟! أَجِبْ
!لِمَ ارتعَدَت أجسادُنا وَهْيَ تَغتَلِمْ؟



أرَى النّاهِدَ السُّفلِيَّ لَملَمَ بَطشَهُ
وعادَ بَطيئًا، قاصِدًا جُحرَهُ الرَّحِمْ

رُتوشٌ، ويَستلُّ الرَّمادُ جَناحَهُ
لِيَطوِي به الدُّنيا ..
رُتوشٌ ،
ونَنعَدِمْ
.


Egal
31/1/2012

Article 11

$
0
0

قراءةٌ في رواية (سيرةُ مولعٍ بالهوانم) لطلال فيصل

من الصعب ألا أتحدث عن نفسي بشكل مباشر وأنا أحاول أن أقدّم قراءةً لرواية (طلال) الأولى! ربما يبدو هذا سخيفًا ، لكنني قرأت نصوص هذه الرواية من قبلُ عشراتِ المراتِ ، ولم أقرأها أيضًا من قبل!
علاقتي المباشرة بكتابة (طلال) قبل هذه الرواية تتمثّل في بعض قصائد ديوانه (الملائكة لا تشاهد الأفلام الإباحية) ومقالَين أو ثلاثة مقالاتٍ قرأتُها له في جريدةٍ ما، وربما حوارٍ أو اثنَين في (أخبار الأدب) .. لكن (طلال) هو أحد أقرب أصدقائي إليّ، وهو زميلي في التنظيم السري المكوّن منه ومنّي فقط ، وبصورةٍ ضمنيةٍ ، وبشكلٍ ربما يتأبّى على الوعي!
المهم ..
(طلال) يكتبُ نفسَه ..
أتفهّمُ مآزقَهُ الكبرى لأني أشاركُهُ معظمَ أرضياتِهِ الثقافيةِ إن لم يكن كلَّها .. كلانا خرّيج (قصر العيني) بكل تداعياتِ ذلك الموقف من العقد النفسيةِ والذكرياتِ الجميلةِ الأليمة، وكلانا يكتب (كلانا يا واد يا طلال (سرقته ست الوعد من نومه وجاتله مضفـّرة)) ، وكلانا وقف على أرضيةٍ إسلاميةٍ بشكلٍ ما أو بآخر (وإن كان طلال أوغلَ في تجربة الجماعات ولم أوغل فيها فظلت علاقتي بالتبليغ والدعوة سطحيةً جدًّا) ، وكلانا أتى من بيئةٍ محافظةٍ بالمعانى الأكثر شيوعًا في مجتمعنا ، وكلانا في النهاية (يحيى المنقبادي) في أرض الخوف ..
الموقفُ النِّفَّرِيُّ الذي ابتدعه (طلال) ليقدمَ به روايتَه (موقف التأهّب) يلخصُ في رأيي موقفَه من ذاتِهِ ومن العالم، ليس ذلك فحسبُ ، بل إنه يشيرُ من طرفٍ خفيٍّ إلى موقفِهِ من تفاصيلَ بعينِها في عالمِهِ هذا ..
أعني:
حين يتحدثُ (طلال) صديقي عن أدبياتِ المتصوفةِ خارجَ الرواية ، فإنه يحترمُها ويُكبرُها ، لكنه يبذلُ جهدًا لإخفاء تأففهِ من حالةِ (عدم الضبط) المسيطرة على التجربة الصوفية .. لهذا يستعيرُ (موقفَ) النّفّريّ دون أن يحفظَ له قدسيَّتَه .. ينتهكُهُ بمقدار ما يستشهدُ فيهِ اللهُ بعبارة (أينشتين) .. ليس استدعاءُ (أينشتين) في الموقفِ الصوفيِّ (المفترَضِ) جلالتُهُ تسامحًا بقَدر ما هو انتهاكٌ لقدسيةِ الموقف .. لأكونَ منصفـًا ، فهو تسامحٌ يُبطِنُ السخريةَ والانتهاك ..
وحين يسألُ اللهَ "كيفَ أقتفي أثرَ الجميلاتِ وأنا لم أدخل في علاقةٍ أيِّ علاقةٍ؟ - كيف أكتب روايةً عن الجميلاتِ وأنا –وأنتَ أعلمُ – لم أمارس الجنس ولا مرةً واحدة؟" ومفارقةُ أنَّ اللهَ يقرُّهُ على الكتابةِ في الإجابة ، فإنَّهُ يؤطِّرُ حيرتَهُ العميقةَ في مسألةِ دور الكاتبِ إن كان له دور .. سيكتبُ (طلال) روايةً عن الجنس الآخر وهو لم يمارس الجنس .. سيصفُ البحرَ وهو لم يخـُضهُ ، وإنما اكتفى برؤيتِه .. هل الكاتبُ مشاهدٌ محايدٌ تنحصر مسؤوليتُهُ تجاهَ فنِّهِ في رصد ما يحدثُ بدقةٍ ومحاولة اكتشاف المنطق الذي يحكمُ هذا الـ(ما يحدثُ) دون أن يقدمَ إجابةً عن التساؤلاتِ التي يُثيرُها؟ أم أنَّ عليهِ أن (يخوضَ) البحرَ ويعرَك الجنسَ طوالَ الوقت؟ حين يستشهدُ الله بعبارةٍ لأينشتين ، فإن هذ العبارةَ تكونُ "الخيالُ أقوى من المعرفة" .. ليس عليكَ يا صغيري أن تخوضَ البحرَ وإنما عليكَ أن تتخيلَه ..
لِيَكُن ..!

حين يبدأ (طلال) الروايةَ بـ(مس هالة) فيقدمُ نفسَهَ العاشقَ الطفلَ الذي يغارُ على معلمتِهِ ، يتّسِقُ من جديدٍ من رؤيتِهِ لذاتِهِ التي لا يصيبُها التغيرُ ، فهو في نهاية الحكاية الثامنة (عن لوليتا بولكوفا) يحاولُ أن يكتنهَ ما تفكرُ فيه راقصة الباليه بعد مرور كل هذه السنوات فيقول: "هل أمرُّ بخاطرِها ولو لمرةٍ واحدةٍ، تتساءلُ فيها بينها وبينَ نفسِها عن هذا الصبيالعجيب الذي أصرّ أن يكلمَها بلغةٍ لا تفهمُها طوال مدة إقامتها في مصر!" .. صبيٌّ رغم أنه طبيبُ امتياز .. صبيٌّ لأنه يواجهُ العالمَ ببراءةٍ أصيلةٍ لم تتدنّس بالدنَسِ الأكثر عالميةً في كل الثقافات وعبرَ تاريخِ الجنس البشري (الجنس) .. وصبيٌّ لأنَّ أمامهُ الكثيرَ ليتعلمَهُ دائمًا .. وصبيٌّ بما تثيرُهُ الكلمةُ لغويًّا من دلالةِ الصبوةِ إلى الأنثى .. لا يتغيرُ جوهرُ الرّاوي طوالَ الرواية .. تتراكمُ ثقافتُهُ ومعارفُهُ تدريجيًّا ، لكنّه يظلُّ بِكرًا أصليًّا في علاقته بالله والعالَم .. والمعادلُ الموضوعيُّ لهذه البكارةِ هو عدمُ التدنُّس بالجنس ..
لماذا قرّرَ (طلال) أن يحادث (لوليتا) بالعربيةِ التي لا تفهمُها بعد محاولاتٍ فاشلةٍ للتواصل معها بالإنجليزية أو الفرنسية؟ من المؤكد أن محاولاتٍ بالإنجليزية غيرَ ناجحةٍ تمامًا ، أفضلُ من محاولاتٍ بالعربيةِ مستحيلةٍ بالقطع!
أتصورُهُ قد قررَ ذلك ليحافظَ على الحاجزِ الذي يفصلُهُ عن خوضِ البحر .. هل يريدُ ولا يريد؟ هل (يريدُ) بوعيِهِ ويكررُ ذلك طوالَ الوقتِ ، لكنهُ (لا يريدُ) بلاوعيِهِ ولذا قرر أن يحادثها بالعربية؟ ربّما قطع (طلال) بإجابةِ السؤالِ الخالدِ عن دوره ككاتبٍ منذ البدايةِ وقبلَ أن يصوغَ السؤالَ بالفعلِ ، ففقالَ (لاوعيُهُ): "أنا مجرَّدُ راصِد .. لن أعرك العالم حقيقةً .. لن أخوضَ البحر .. لن أمارسَ الجنس." ولذا قرر أن يتكلمَ بلسانهِ الأمّيّ النقيّ الذي لم يتدنس بالمعرفة البَعدية (ممثَّلةً في الإنجليزية) .. دعها لا تفهم .. المهمُّ أن أتخيلَ أنا كما قال (أينشتين) .. حالةٌ من السلفيةِ الكامنةِ هنا أيضًا .. السلفيةُ بما هي رجوع للأصل في بساطتِهِ ودون التعقيدِ الناجمِ عن تراكمات الحضارة.

   ألم أقل في البداية أنه يصعبُ عليَّ أن أتكلمَ عن عملٍ لـ(طلال) ولا أتكلمَ عن نفسي؟!
 في تجربتي الشعرية الوحيدة المهداةِ إلى (طلال)، والتي كتبتُها عام 2006 ، وبغضِّ النظرِ عن القيمةِ الفنيةِ للتجربة المفردة، فقد عنونتُ التجربةَ بـ(مسامرةِ الصّبيّ) (وهي موجودةٌ في ديواني (تعاطٍ)) .. حيثُ أقول في بيتها الثاني:
"أنا يا صبيُّ مجاهِدٌ فيكَ الصِّبا .. مُستأصِلٌ من فِيكَ ألسُنَ حالي" .. وأذكر أن العزيز (طلالاً) سألأني حين ألقيتُها عليه: "هل ترى فيَّ صبوةً ما؟" .. يبدو أنّني أمتلكُ رؤيةً بالفعل يا صديقي!!
 
  بالطبعِ لا قيمةَ لأن أورِدَ أمثلةً من الرواية على انشغال (طلال) بالهمّ الإسلامي ، فهو يمثلُ بالفعل الخلفيةَ (الشرعيةَ) للرواية .. ورُبّما لهذا نجد بطلات الروايةِ (هوانم) كما يحب (طلال) أن يسميَهن .. هوانم لأنهنَّ أقرب إلى الحالةِ المحافظة التي ينتمي إليها التصورُ الإسلاميُّ الذي يقفُ على أرضيته الكاتب .. ولهذا أيضًا يستبعدُ (سعاد حسني) بشكلٍ صادمٍ جدًّا في بداية حديثه ، ويُدرِجُ في (هوانمِهِ) شخصيةً كـ(درّيّة شرف الدين) ..

ربما تكون حكاية (صفية وآسر صالحين) / الحكايةُ الخامسة جديرةً بأن تحتلَّ صدارةَ مشهدِ الحكيِ في الرواية ..
هي كذلك من وجهةِ نظري لأنها الحكايةُ التي ينزاحُ الراوي من بطولتها ليفسحَ المجالَ لغيره، وهو هنا صديقُهُ/ أو بالأحرى زميلُهُ (آسر صالحين) .. قصة (لوليتا) قويةٌ – لا شكَّ في ذلك عندي – لكنَّ راويَها بطلُها كما هو الحالُ في بقيةِ الحكايات .. أتصوّرُ أنَّ لمركزية الراوي البطل في الرواية علاقةً بحداثةِ انقلاب (طلال) على الشِّعر كفنِّ مرجعيٍّ بالنسبةِ له .. الشِّعرُ في التصور الأكثر شيوعًا عنه استبطاناتٌ للموضوعاتِ في ذات الشاعر، فهو مركزُ التجربة الشعرية البارزُ في معظم الأوقاتِ إن لم يكن دائمًا .. وهذا هو الحالُ في الروايةِ هنا، باستثناء الحكاية الخامسةِ التي أعتبرُها نقطةَ انطلاقٍ لـ(طلال) كروائيٍّّ فيما يُستقبلُ من كتاباته ..
لماذا (ما هو المرادفُ العربيُّ لكلمة Mediocrity) هو العنوانُ الفرعيُّ لحكاية صفية وآسِر صالحين؟
يبدأ (طلال) الحكايةَ بأن السبب الذي يجعل شخصًا ما (وهو آسر) يحب فتاةً اسمها (صفية زينهم بيومي) ويضعها في قائمة الهوانم ، هو ذاتُ السبب الذي يجعلُهُ يعتنقُ الفكر السلفي .. اختزالاتُ (طلال) الواضحة المعقَّدة .. رمزه المفضوحُ المتواري .. هل (صفيّة) بما هي عليه من عادية Ordinarinessهي التجسُّدَ الحيَّ للـMediocrity؟
اللفظة الأخيرةُ تردُ في سياقاتٍ تتعلقُ غالبًا بنقد الفنانين .. إنها السُّبَّة التي يفرُّ منها كلُّ من له صلةٌ بالإبداع ..
لكن هل يجوزُ مجتمعيًّا أن نستخدمها في سياقات الحياة الواقعية؟ أعني أنَّ (صفية) مجرد طالبة طب لا هي جميلة ولا قبيحة ، لا متفوقة ولا بليدة ، ولا أي شيء .. لكن دعني يا (طلال) أذهب معك إلى طرفي الحياة الطلاّبية الممكنة لمثلها .. لو كانت (صفية) متفوقةً ، كنت ستنعتها بالـmediocrityأيضًا . وكذلك لو كانت (بليدة) .. وكذلك لو كانت بارعةَ الجمال متفجرةَ الأنوثةِ أو شديدةَ الدمامة .. إنه موقفٌ يتبنّاه الفنّانُ إزاءَ من ليسوا بفنّانين، قبلَ أن ينعتَ به من يزدريهم من الفنانين .. في النهاية .. يبقى السؤال .. إن كان للأخلاقِ وجودٌ حقيقيٌّ، فهل هذا الموقفُ أخلاقيّ؟! ليست لديّ إجابة !!
المهمُّ أنّ (طلال) يحاول أن يكسرَ لدى متلقّيه النمطَ الشائعَ لديهم عن السلفيِّ، والذي كوّنته سيناريوهات (وحيد حامد) كما يقولُ صراحةً، بأن يُورِدَ مواقفَ (آسر) التي يظهرُ فيها عطفهُ على الراوي وتسامحهُ معه ، وفي ذات الوقتِ يتخذُ موقفًا مسبَّقًا منه حين يُلمِحُ بالـMediocrityفي بداية القصة ..
إذَن رُبّما كان اعتناقُ الفكر السلفيِّ شيئًا غير الـMediocrity، ولا هو حتى تجلٍّ من تجلياتها .. السلفيةُ – من خلال قائمة المحرّمات التي يذكرُها (طلال) والتي يستثني منها (آسر) صوتَ الشيخ (مشاري راشد) – جنوحٌ إلى البساطةِ الأولى من خلالِ توسُّعِ واطّرادٍ في استخدام القاعدة الفقهيةِ المتعلقةِ بـ(سدّ الذرائع) .. هي محاولةٌ للعودةِ إلى حالة المجتمع الإسلامي في نواتِهِ الأولى في العصر النبوي، وقبلَ أن تتجلى (زهرةُ الحياةِ الدنيا) بعد الفتوحات الإسلامية ونمو الحضارة .. أمّا الـMediocrityفهي موقفٌ يتبنّاه المبدعُ من غير المبدعِ طيلةَ الوقتِ، ربّما كحيلةٍ دفاعيةٍ لإثبات أصالةِ إبداعه ..
دعني يا (طلال) أتوسّل في هذه المسألة ببداية رواية (روبنسون كروزو) وهي فتحُ الرواية الإنجليزية الأولُ، الذي يحتفي بالروح البروتستانتيةِ ويفككها في ذات الآن .. الأبُ ينصحُ ابنه (روبنسون) في البداية بأن يسلك الطريق الوسطى في الحياة The Middle Way .. إنه طريقُ الموظفين والأطباء العاديين (غير العلماء) والمهن الموقّرة مجتمعيًّا دون وجود إبداعٍ أصيلٍ في ممارستها .. يندمُ (روبنسون) وهو يحكي عن رفضه لهذه النصائح ، ويقولُ إنه لم يقدّر قيمتَها إلا بعد أن أخذ الطريقَ التي اختارَها وهي طريقُ الاكتشافِ والمغامرة (التجلي الحقيقي للروح البروتستانتية التي لا تأمنُ أبدًا لرضا الإله عنها فتطمحُ في مزيدٍ من الجهاد/الاكتشاف والمغامرة، بعد أن أسقطت سلطة زعماء الكنيسة الذين كانوا يضمنون مستوىً معقولاً من رضا الله) .. يكرّس (دانييل ديفو) روحَ مذهبِهِ، ويفككها ببيان ما تنطوي عليه من إنهاكٍ حتميٍّ أبديٍّ في ذات الآن .. ما يهمُّنا الآنَ هو أن نشيرَ إلى تعبير (الطريق الوسطى) التي هي الـMediocrity .. حالة الرضا باللاإبداع هنا غيرُ حالةِ تقويضِ الوضع القائم في سبيل الوصولِ إلى أصلٍ غائبٍ مستحيلٍ كما في السلفية .. هذا هو تصوري الذي أردتُ بيانَه ..

  دعني أنتقل إلى نقطةٍ أخرى متعلقةٍ بحكاية (آسر صالحين) .. أرى أنّ (آسر صالحين) السلفي المثالي الذي يُلمحُ (طلال) إلى أنه أرادَ أن يكونَهُ وفشِل، هذا الـ(آسر صالحين) هو (طلال) طيلةَ الوقت!
(آسِر) يحبُّ زميلتَهَ (صفية) العاديةَ جدًّا بكلِّ المقاييس .. و(طلال) في الحكاية الموازية مع (لوليتا) (الحكاية التاسعة) يحبُّ باليرينا روسيةً يصرِّحُ بنفسهِ أنه يكاد يكون من المستحيل أن تفرّق العينُ بينها وبين رفيقاتها اللاتي هم دون الـVidetteفي الباليه .. إنه يعيدُ إنتاجَ (آسر) طيلةَ الوقت .. وبينما يعود (آسر) إلى ولعه بفن الخط العربي ويكتبُ لوحة (وزوّجناهم بحُورٍ عِينٍ) ، يختار (طلال) سنَّ الثالثة والثلاثين لُينهي به شقاءَ الروايةِ ويقرر أن يتزوّج ابنةَ معلمته الأولى .. لماذا الثالثة والثلاثون بالتحديد؟؟! أليست هذه سِنَّ أهل الجنة في المأثور الإسلامي؟ يبعثُ المؤمنون شبابًا على هذه السنّ، ويُزوَّجون الحُورَ العِين .. يعيد (طلال) إنتاج (آسِر) هنا أيضًا بآليةٍ مختلفة ..
ولأني آليتُ على نفسي أن أذكُرَ نفسي بينما أتحدث عن تجربة (طلال)، فإنني لسببِ مشابهٍ قررتُ أن يعودَ العالمُ إلى الحالةِ الجليديةِ على أجنحة (صَرّار الليل) في قصتي (أولي أجنحة) ، وأنا في الثالثة والثلاثين .. لم أذكر هذا صراحةً في القصة ، لكن بتتابع الأحداث وبمعرفةٍ شخصيةٍ وثيقةٍ بظروف دراستي الحالية ، يستنتج القراءُ المحدودون أن البطل هو أيضًا في الثالثة والثلاثين! ما علاقةُ هذا بحديثِنا؟ هاه؟!!

لابُدّ أن تستوقفَكَ حكاية الجميلات الثلاث الواقفات أمام مستشفى (أبو الريش) / الحكاية السابعة المعنونة (حكاية هامشية تمامًا) .. ماذا يريدُ (طلال) هنا؟
قد تبدو الحكاية مقحمَةً على سياق الرواية .. لكن لا! تمهّل قليلاً ..
الحكايةُ حالةٌ وسطٌ بين موضوعية الخامسة (صفية وآسر صالحين) وذاتية التاسعة (لوليتا بولكوفا) .. البطل (طلال) وهو ليس البطل أيضًا ، لأنَّ البطلَ شابٌّ مستهترٌ يجيءُ من لامكانٍ بعينه ويسمع (طارق الشيخ) ، وتحديدًا في أغنيته (يعمل اللي يعجبه) .. هل هو البطل الذي يشتاق (طلال) أن يكونَه رغم كل محاولاتنا لنفي ذلك؟! إنه البطل الذي يقرر أن يغتصب لمسةً (آثمةً) من طالبة الطب ، ويكرس له فنــُّـه الأثيرُ هذا الموقفَ حيث تقول الأغنية (يعمل اللي يعجبه) .. إنه موقفٌ على النقيض من موقفِ المتفرج الراصد الذي يتبناه (طلال) البطلُ اللابطل .. فالأغنية الشعبية تجيء (تقريريةً .. بلا خيالٍ ، ولا استعارةٍ ولا مجازٍ) كما يقول (طلال) .. بينما تقولُ عبارة (أينشتين) المقدسةُ المنتهِكَة في المقدمة: "الخيالُ أوسعُ من المعرفة" .. صدقني يا (طلال) .. الآن أشعرُ برِعدةٍ تتمشى ف جسدي على مهَلِها .. إنه الألم .. كلُّ هذا التمزق يا صديقي ...

في النهاية
أزعم أن الكلام عن الرواية لم ينتهِ بعد .. تظلُّ الرؤى التي أطرحُها هنا طِفلةً للغاية وهي تحومُ حولَ عملٍ فنيٍّ هامٍّ كهذا .. وتظلُّ أسئلتي أسئلةً لا أملكُ لها إجابات .. وتظلُّ الروايةُ حُبلى بالمزيدِ من هذه الأسئلة وما إليها ..
وأعتذر يا عزيزي المسافر
عن إقحام ذاتي في قراءةٍ لروايتك .. كما أعتذر عن إقحام ذاتك التي أزعم أني أعرف عنها الكثير (وهو ما لا قِبَلَ لي بفعله في قراءاتِ لأعمال غيرك) .. يبدو أنه من الصعبِ على أمثالي أن يكتبوا بعيدًا عن ظلال الصداقة!

كن كما أنت .. وأعدكَ أنني سأظلُّ كما أنا ..
مولَعًا بالهوانم.


مسوَّدة لقراءة في التجربة الشعرية لغادة خليفة - (تقفز من سحابةٍ لأخرى - تسكب جمالها دون طائل)

$
0
0


- ملاحظة أنّ رسم الأحرف النهائية للكلمات الأخيرة في الفقراتِ أو في القصائد يحتفظُ عمدًا بالتشكيل كما لو كانت الفقراتُ لم تنتهِ أو أنَّ القصائدَ لم تنتهِ بالفعلِ، وينطبق هذا على ما تفعلُهُ (غادة) أثناء الإلقاء في كثيرٍ من الأحيان .. وهي حالةٌ قرآنيةٌ بشكلٍ ما ، حيثُ يُفترضُ في قراءة القرآن أنَّ القارئَ لن يتوقفَ عن القراءة ، وحين سينتهي سيبدأُ في حلزونيةٍ يعبرُ عنها الحديث: "اقرأ وارتقِ ورتِّل، فإنَّ منزلتَكَ عند آخرِ آيةٍ تقرأُها." الحالُ هكذا مع (غادة) ، فاسترسالُ التشكيلِ في كثيرٍ من المواضعِ يفترضُ نهمًا أبديًّا للمزيدِ من التجربة .. ببساطة ، (غادة) تبتلعُ اللحظات بشكلٍ مستمرٍّ وتكادُ تُنهي نصوصَها مرغمةً ، لأنها في حالةِ صعودٍ مستمرٍّ نحوَ أفقٍ غير محدّد .. توجد قراءةٌ أخرى محتملة لهذا الأمر وهو أنَّ مسألة التسكين المرتبطة بالرّوِيّ بشكلٍ ما أو بآخَر ، تمثّل في وعي (غادة) أو لا وعيها – اللهُ أعلم – ارتكانًا إلى موروث الرّوِيّ المرتبط بسلطة العمود والقالَب التقليدي ، فهي تحافظُ على حال الاضطرابِ والثورة حتى آخر حرفٍ في التجربة .. بمعنى أنّها تمضي مع فرضية (النثرِ) إلى آخرِها ..

- قصيدتُها (نسيانٌ متعمَّد) التي تلخص – في رأيي – رؤيةَ (غادة) لذاتِها .. احتفاؤها بالحالة الطفولية التلقائية في النصف الأول من القصيدة قبل أن (تسقُطَ) ، ثم يخنقها البكاء ، ثم تتناسى هذه الخبرة الفرِحَة بأن تغسل وجهها وتغرقه في المساحيق ، ربما يعني أنّها تشفق من مستقبلٍ ستُضطَرُّ فيه إلى أن تكونَ أقلَّ تلقائيةً مما هي عليه .. ليس اعتباطًا أنَّ هذه القصيدةَ وحدَها تذكرني باثنتَين من أجمل قصص الأطفال وأقربِها إلى قلبي .. (ثلاث ريشاتٍ) ، و(الأرنبُ الحكيم) .. في الأولى تكونَت لديَّ بداياتُ إدراكٍ لكُنهِ الأنوثةِ ، حيثُ تسيرُ البطلةُ الطفلةُ في طريقٍ جميل ، ثم تهبُّ الريحُ فتُطيرُ قبعتَها كما تُطيرُ فستانَها إلى أعلى ، فتتركُ القبعةَ ذات الريشاتِ الثلاثِ لتطير ، بينما تمسكُ بفستانِها لتكبَحَ حركتَه التلقائية .. أذكرُ أني سألتُ أبي وأنا بعدُ لم أتجاوز الخامسة .. لماذا لم تفعل العكس .. وكان ردُّهُ بسيطًا ومتوقَّعًا جدّا!
  في القصة الثانية، يقنعُ الأرنبُ شعبَ الفِيَلَة بأنّ القمرَ غاضبٌ لأنهم شربوا من بحيرتِهِ وأثاروا صورتَه المنعكسةَ على سطحِها .. (الأرنبُ داخلَ القمرِ يبتسمُ لها) .. حالةُ الحكمة والرضا المُدَّخَرَةُ في البعيدِ الذي لا يُطال .. تعبيرٌ آخَرُ عن الاحتفاءِ بالطفولة .. (غادة) ..

-  ملاحظةُ أنّ النصوص ذات المعمار الواضح في الديوان الأول أكثرُ منها في الديوانِ الثاني .. قصيدةٌ مثل (نسيانٌ متعمَّد) وأخرى كـ(غير ملومين) في الأول من أفضل الأمثلة على هذا المعمار المتماسك .. ولا يكاد يكون بين نصوص الديوان الثاني إلا بضع قصائد ذا المعمار .. ليس في الأمر حكمٌ قيميٌّ من جانبي .. أنا فقط أسجلُ الملاحظةَ وأحاول أن أستكنهَ ما وراءَها .. ربَّما هو هروبٌ من الوعي في الديوان الأول إلى اللاوعي في الثاني ، وهو ما كنتُ نوهتُ به في مداخلتي المتواضعة أثناءَ المناقشةِ الأولى لهذا الديوان ، حيثُ أعربتُ عن تصوري أن (غادة) تعتمدُ تقنيةَ التداعي الحر في الكتابة بشكلٍ أساسيٍّ، ربما لتهرب من سلطة وعيها بالفعل .. وأرى أنَّ هذا يتَّسِقُ مع عنوانَي الديوانَين .. فالأولُ رغمَ أنه مقتطعٌ من قصيدةٍ واضحةٍ مفزعةٍ تتنبّأُ فيها (غادة) بمصيرِها وتُبدعُ الـEschatologyالخاصّ بها ، إلا أنه يكرّسُ حالةَ البهجةِ والحضور التي تحكم النصف الأول من القصيدة (تقفزُ من سحابةٍ لأخرى) .. حتى العنوانُ يذكرني بلعبةٍ أخرى لكنها لعبة (أتاري) هذه المرّة ..!
أمّا العنوانُ الثاني (تسكبُ جمالَها دونَ طائل) ، فيكرّسُ حالةً من اليأس والاعترافِ بالفشل وبالعبث ..
تجرُّني هذه المسألة إلى موضوعِ التراتب الزمني لإصداراتِ المبدع ووعيه بعلاقة إصداراتِهِ ببعضها ، كما أنَّ له علاقةً بعلاقة العنوان بالنّصّ وأسبقية أيٍّ منهما على الآخر .. أتصوّرُ أن إدراك (غادة) لهذه العلاقة بين ديوانَيها جاءَ ربما بعد أن أنجزَت الثاني بالفعل .. لكن ، ماذا لو أنَّ مبدعًا ما كان لدَيه مخطَّطٌ لإصداراته وموضوعاتِها قبل حتى أن يشرَعَ في كتابتِها؟!
هل هذا الوعي القبليُّ (وهو وعيٌ بالذاتِ بشكلٍ ما) يبعِدُ الكاتبَ من دائرةِ الإبداعِ بدَعوى أن الفنَّ تلقائيٌّ إلى أبعد الحدود؟ أنا أعني تحديدًا حالة (كريم الصياد) .. وبالمثل ، هل اختيارُ العنوان قبل كتابة النص يخرج الكاتب من هذه الدائرة بدعوى أنه يحجرُ على أفكاره مقدَّمًا؟ شخصيًّا لا أرى ذلك ..
(ليس لديّ حكمٌ قيميٌّ جاهزٌ أيضًا فيما يتصل بأفضلية أيٍّ من الكتابة الواعية وغير الواعية .. أراهما في النهاية خيطَين ينضفران بشكلٍ محتومٍ في كل كتابةٍ ، ويكاد يكون من المستحيلِ أن نقطع بسطوة أحدهما على الآخَر خارجَ النص .. فرويد كرّس (اللاوعي) وقلب التراتبَ الأفلاطونيَّ حين بسطَ هيمنتَه على الوعي ، كما فعل (نيتشه) في تصوره عن أسبقية (الصيرورةِ) على الوجود .. ثم جاء (دَريدا) لينسِفَ الأسبقيات ويكرّس سيولةً شاملة !)

- في قصيدتها (نبوءةٌ لن تتحقق) أو (فيرونيكا تقرر أن تعيش): أنا لم أقرأ رواية (پاولو) .. لكن (غادة) بهذا العنوان تسفِّهُ مسعى القصيدةِ بنفسها .. (سيتركونها تعيشُ بجنونها)، لكنَّ هذا ببساطةٍ لن يحدث .. إنها حالةٌ تشبهُ (صورة دوريان غراي) الكتابَ المقدِّسَ للفنِّ ، الذي يسفِّهُ الفنَّ وينسفهُ من جذوره في ذات الآن ..
- في قصيدتها (مرآة) .. تُكَذّبُ (غادة) أصلََ الإهداء في الديوان الأول: "إلى كلِّ من علّمني أن أتكئَ على ذاتي .. وأن أحترمَ طريقتي في فهمِ العالَم". السؤالُ هو: ألا تحتاجُ التجربةُ الصوفيةُ إلى ضبطٍ ما؟ السؤالُ مطروح ..
- خطوةٌ للخلف .. قصيدة (ثبات) .. لا يمكن وصفُ كتابةِ (غادة) بأنها نسوية .. القصيدة تحتفي بالرجل العنكبوت! الرجلُ الذي يمارسُ رجولتَه طيلةَ الوقت بينما الفريسةُ مستكينةٌ (ثابتةٌ) تنتظرٌ أن يجدلَ خيوطَهُ حولَها ويُتِمَّ صيدَها .. لا تريدُ (غادة) ثورةً في الحقيقةِ على ما هو كائنٌ ، بقدر ما تفضَحُ الحالةَ الرّاهنة .. تعرّيها أمام العِيان لكنّها تظلُّ أسيرتَها ..
Ghada is not a feminist!
ويتأكد هذا في نصِّها (عنوسة) الذي تحاول فيه أن تقتنص قدرًا من الحرية دون أن تقلِبَ الوضعَ القائم أيضا ..
- (وهمٌ دافئٌ) .. دعيني أكونُ جزئيًّا كما كان يحلو لأسلافنا من القراء!! صورةٌ بارعةٌ بكلِّ المقاييس (ماذا تفعلُ لامرأةٍ تنسجُ ثوبَ زفافٍ من خيطٍ وحيدٍ يتدلى من كُمِّ قميصِك؟) في مقابل تعبيرٍ لا أجدُ مدخلاً لفهمه على الإطلاق (عن زاوية الضياعِ بعينيك) .. هذا التراوُحُ بين معقوليةِ الصُّوَر لا يترك لديَّ سوى إحساسٍ ببداية تسرُّب (التداعي الحر) إلى الكتابة ..
- محاولةٌ أخرى لتوثين الفن في قصيدتها (الأربعاء) المهداة إلى (عمر جهان والمجموعة) .. إلى هذا الحدِّ يمكن أن يكون الفنُّ هو الحقيقة .. أتصور أن النصوص التي تخرج فيها (غادة) خارج إطار رؤيتها للعلاقة مع الرجل هي النصوص الأكثر واعديَّةً بتطوُّرٍ تعبيريٍّ في مستقبل كتابتِها .. ربما لأنها النصوص الأندر لدَيها ..
- وفي رأيي أنَّ أجملَ ما قرأته لـ(غادة) هو نصُّها (غراب السطح) .. إنه نصُّها الذي وددتُ لو كنتُ كتبتُه .. كما أتمنى لو كنت قد كتبتُ غراب إدجار آلن پو!
- من اللافت للانتباه حرص (غادة) على إفراد الصفحات الأخيرة لديوانَيها للوحاتها المحتفية بالأوجُه .. لماذا لم يلحق وجهٌ ما بكل نصٍّ على سبيل المثال؟!
أتصوَّرُ أنَّ الأمرَ كذلك لأنها لا تريدُ معادلاً بصريًّا للنصوص ولا لتيمة الديوان الرئيسة بقَدر ما تشيرُ من طرفٍ خفيٍّ إلى رغبتِها الدفينةِ في الصمت ، رغم كلِّ هذه الثرثرة ، أو بعدَها .. الصمتُ هو حالةُ الكمالِ والامتلاء والتطابق مع الذات التي تَنشُدُها (غادة) من وراء كل هذا .. ولا يتيحُ الصمتَ فنٌّ كذلك الذي يحتفي به .. التشكيل .. ولماذا دائمًا كانت اللوحاتُ بالحبر الجافِّ تحديدًا ، رغم أنّ (غادة) تشكيليةٌ متمرسةٌ تعرف التعامل مع معظم الوسائط إن لم يكن كلها؟ أتصوّرُ أنَّ لهذا علاقةً بعدم قابليةِ الوسيطِ للمحو .. بخلاف ألوان الخشب مثلاً ، سيكونُ الصمتُ هنا أبديًّا .. بقاءٌ يقتربُ من المطلقية .. ولماذا وجوهٌ فقط؟ لأنَّ هذا هو مشروع (غادة) حين تخرج من إسار الرجل .. الناس .. والناسُ وجوهُ الناس .. وهذه الوجوه تنبتُ حولها وفيها دائمًا كائناتٌ صغيرةٌ: إما نقطٌ تكوّنُ بؤرًا كما في الوجه الأول في الديوان الثاني ، وإمّا قطعٌ مستقيمةٌ حول العينين والأنف كما في الثاني ، وإمّا زخارفُ بيزنطيةٌ كما في الثالث الذي أحبُّهُ كثيرًا بعينَيه اللتَين لا تعرفان البؤبؤ كتماثيلِ اليونانِ ، وبتلك الزخارف التي تُعيدُني إلى (جوستاف كليمت) والـArt Noveau .. إنه الوجهُ الأخلدُ لأنه لا ينظرُ إلى شيء .. تعرفين يا (غادة)؟ هو يفتقدُ للدفءِ تمامًا لتفاصيلهِ هذهِ ، ولهذا فهو الأخلد! الوجهُ الرابعُ (نيجاتيف) مهولٌ لمن قبله ومن بعده .. مجردٌ من كل التفاصيل .. ربما ليرسُمَ القارئُ له التفاصيلَ التي يراها تناسبُ ذائقتَه .. لا تنسى (غادة) كتشكيلية أن تمنحَنا بعضَ المساحة لكي نرسم!! الوجهُ الخامس كاتبٌ بالإيحاء! أعني أنّ الريشات النابتةَ في جوانبه تشيرُ إلى استغراقِهِ في الكتابة، ولذا يبدو الأعمقَ حزنًا، وهو خالٍ من الألوانِ أيضًا لأنه أفرغَ ألوانَهُ بدورِهِ على دفتره .. اللوحة السادسةُ هي المنظرُ الجانبيُّ الوحيد .. لا يظهر النصُّ الكلاميُّ إلا في هذه اللوحة ، وهو هنا سطور أغنية Backstreet Boys .. هو الوجهُ الأكثرُ انعزالاً لأنه لا ينظرُ إلينا .. ينظرُ في فراغه الخاص ، ولهذا نبتت فيه كلماتُ أغنية الوِحدة، وأعشبَت أيضًا !! اللوحةُ السابعةُ رجلٌ معيَّنُ الوجهِ لا يعبأُ بوجودِ (غادة) وينبتُ من رأسهِ هوائيٌّ محترَمٌ كقرنَي استشعارٍ لا علاقةَ لهما بما تريدُهُ (غادة) من آدمية .. والجه الأخير (غادة) ، وجهُ الغلاف (غادة) ..!
- إصرار (غادة) على إدراج نصوصٍ لا تحملُ عنوانًا نصّيًّا بل رقمًا من (1-9) ، وعدمُ إدراجها في الفهرس حتى ولو بأرقامها يوحي يوجود Cryptexعلى غرار تلك الألغاز المنتشرة في رواية (شفرة دافنتشي) لـ(دان براون)! تتبُّع هذه النصوص التسعة يشبه الدورانَ في حلقةٍ مفرغَة .. يتوسطُها النص رقم (5) الذي يحتفي بالوهم ويقدسُهُ، أعني وهمَ الوجود في حضرة رجلٍ يصطادُ الشاعرةَ بصمتِهِ دون نطقه (تغازلُني الآنَ دون أن تنطق) ، وهو ما يبدو أن الشاعرة تبحثُ عنه: صمتٌ يغنيها عن كل هذه الثرثرة ، وهو يتّسقُ مع الركون إلى الوجوه الصامتة في نهاية الديوانين.
لكن أربعةً من النصوص قبل هذا ومثلَها بعده تعترفُ بالفشل والعبث وتركن إلى الثرثرة تمضيةً لوقت الانتظار الطويل .. ربما كان هذا هو السياق!
- من نافلة القول أن نعيد القول نعيده ونعيده في الارتباك اذي تعانيه الذات الشاعرة في علاقتها بالرجل ، وهذا ربما يتضحُ أكثرَ ما يتضحُ في نصّي (إلى رجلٍ بلا اسمٍ) و (رغبةٌ في الرقص) ..
- من واقع مداخلتي السابقة كذلك ، أستعيرُ تعليقي على نص (خيالٌ مسكون) .. هو مسكونٌ لأنه ملتبسٌ طيلةَ الوقت .. توجد حالةٌ من الـRoleplayingتملأ النص .. تبادل دور الفريسة والصياد بين الذكر والأنثى أرى أنه أثرى النص جدًّا ..
- اختيار اللغة السينمائية في تجربة تستلهم فيلمًا سينمائيًّا تقنيةٌ تستحق التوقفَ عندها .. كنت انتظر تعقيدًا ما في حبكة النص ، اتكاءًا على عنوانه الذي يشير إلى لغز رياضي ميكانيكي شهير اخترعه المجري (أرنو روبيك)، وعلى اللغة السينمائية المتقاطعة مع فيلم حقيقي يجسد معادلاً ما لحياة الذات الشاعرة .. النص جميل بالطبع .. ربما نتظرتُ منه أن يكون أسرع إيقاعًا ليكسر البطءَ الحزين الذي تصفه الشاعرةُ في بطلتها وفي الفيلم .. ربما!
- مازلتُ أكرر: نص (كابوس التمام) هو الأكثر استسلامًا بين نصوص الديوان للتداعي الحر ، ربما هو كذلك لأنه يحكي كابوسًا حقيقيًّا .. رغم أني أفتقد لترابطٍ يقيمُ معمارًا مميزًا في النص، إلا أن شواغل مثل التجربة الصوفية والـgender identityوالعلاقة بالرجل تتضح في فقراتٍ ومفرداتٍ بعينِها .. للنص هذا الرُّوحُ الپانوراميُّ أيضًا كما أسلفتُ من قبل، ولأنه ينتهي بـlocationخارجي تبدو فيه السماء ونجومها والقمر ثم تبتلع النيران الصور ، فهو يذكرُني بشكلٍ ما بفيلم La Dolce Vitaلفيلليني .. هو للتمام لأنه يجمعُ قصاصاتِ الشواغل المؤرقة للذات الشاعرة ، ربما كلَّها .. وهو كابوسٌ لأنها قصاصاتٌ لا تكتملُ أيٌّ منها في لوحةٍ قائمةٍ بذاتِها، ولأنّ النار تأكل الصور المتراصةَ إلى جانبِ بعضِها في النهاية فيبدو الأمرُ غيرَ قابلٍ للحل .. أحب هذا النص رغم ارتمائه في حضن التداعي الحر إلى أبعد الحدود .. ربما راديكاليتُهُ المفرطة هي السببُ في ذلك!


قراءةٌ في مجموعة (الرجال –y) لكريم الصياد

$
0
0


  لا أدري كيف أبدأ!
المشكلةُ أنّ مداخلي للتعرُّضِ لمقاربةِ عملٍ أدبيٍّ ما كانت غالِبًا تحومُ حولَ الشذَراتِ المعرفيةِ المنتشرةِ في هذا العمل .. أعني إحالاتِهِ إلى غيرِهِ بما يفتحُ أفُقَ النصِّ على ما سبقه وما عايشَهُ من نصوصٍ أدبيةٍ وغيرِ أدبية .. وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ لأن مجموعة (الرجال-y) تتكئُ على زخمٍ معرفيٍّ مهولٍ وإحالاتٍ لا حصرَ لها .. من أين أبدأ؟ رُبَّما أسهمَ في هذه الحيرةِ أنني لم أقرأ المجموعةَ مرةً واحدةً أبدا! ورُبَّما أسهمَ فيها كذلك صداقتي لـ(كريم الصياد) ومَسّي لمنطلقاتِهِ الفكرية وتأثُّراتِه .. كنتُ ألتمسُ من كلِّ هذا أن يعينَني على تقديم قراءةٍ ممنهجةٍ ، لكن يبدو أنَّ الرياحَ تأتي بما لا تشتهي السفنُ بالفعل!
  دعنا نبدأ من الواجهة .. العنوان .. فكّرتُ أن أرجئَ التعرُّضَ للواجهة إلى النهايةِ لأستكشفَ منطقها من داخل العمل ، لكنَّني انزلقتُ إلى حيرتي السابقِ ذِكرُها ..
.  .  .  .  .
 * ما الرِّجالُ Y؟! :

  تُحيلُنا الفقرةُ المطبوعةُ على الغلافِ الخلفيِّ للمجموعةِ ، والمقتبسةُ من القصةِ الأخيرةِ التي تحملُ الاسمَ ذاتَهُ ، تُحيلُنا إلى فيلم (X-men) .. في الفيلم ، تنتابُ الطفراتُ الشريطَ الوراثيَّ الإنسانيَّ لتفرزَ رجالاً خارقين ، بشكلٍ غير معقولٍ وغير علميٍّ كما تقولُ الفقرة .. بينما في القصةِ التي بين أيدينا ، يتميزُ غزوُ الطفراتِ بالعشوائيةٍ المطلقة ، فتفرزُ رجالاً ذئابًا ورجالاً حِملانًا ونساءًا فراشاتٍ ، إلى آخر الاحتمالاتِ اللانهائية من المسوخِ التي – بحسب كلام الفقرة – تشيرُ إلى "حالةٍ من (السَّخْطِ) البيولوجيِّ العامّ."
      X .. ذلك الحرفُ اللغز .. يستخدمه الأنجلوساكسون للدَّلالةِ على الافتقارِ إلى تعريف ، كما في المعادلاتِ الرِّياضية ذات المجاهيل ، حيثُ الرمزُ الذي يطلَقُ على المجهولِ الأولِ دائمًا هو X .. ويستخدمونَهُ للإشارةِ إلى المحورِ الأفقيِّ في الرسومِ البيانيةِ ، فهو معادلُهُم للمحورِ (السِّينيِّ) في اللسانِ العربي .. وللدَّلالة على التَّميُّزِ وخرقِ العادة ، كما في X-men، وكما في تصنيفِ الأفلام X-rated (الأفلام التي تعرض لقطاتٍ جنسيةً صريحة) .. وهو أخيرًا – وليسَ آخِرًا – الاسمُ الذي ارتضاهُ علماءُ الوراثةِ لأحدِ الصِّبغِيَّين الجنسيين ؛ XY .. وهو الصِّبغِيُّ (الكروموسوم) الذي لا يمكن أن تقومَ حياةٌ بشريةٌ بدونِه .. فهو موجودٌ في الذكر والأنثى ، لكن مع وجود Yفي الذكَر ، ووجود Xآخَر في الأنثى ..
  وبالرُّجوعِ إلى كلماتِ القصة الأخيرةِ المفتاحيةِ في المجموعة ، فإنَّ الرَّاويّ البطلَ العالِمَ يعتنقُ نظريةَ (إمپيذوقليس) عن العَود الأبدي .. العالَمُ يتأرجحُ أبدًا بين حالتَي المجالِ والإعصار ؛ بين السيادةِ التامةِ للتجاذبِ الطبيعيِّ بين الموجوداتِ ، والسيطرةِ الكاملةِ للتنافُرِ بين هذه الموجودات .. وكلا الحالَتين النقيتين لا تسمحُ بوجود الحياة .. ففي حالةِ الفيلم X-men، فإنَّ النظريةَ تفترضُ وصولَ العالمِ لحالةٍ وسطى من الاتِّزانِ بين النقيضين ، نتجَ عنها ظهورُ الرجالِ الخارقين ذوي (الحياةِ) الكاملة .. أمّا في الرجال-y، فالعالمُ بسبيلِهِ إلى الوصولِ إلى قطبِ المجالِ (سيادة التجاذب التامة) ، ولذا تظهرُ المسوخُ المشارُ إليها آنفًا (الرجل الثعبان والرجلُ العنكبوت والرجلُ القنفذ) ، فكلٌّ منها كان في المرحلةِ السابقةِ مباشرةً كائنين متمايزين ، اندمَجا بفعل التجاذبِ الحتمي في كيانٍ واحد ..
  في (الرجال-y) لا حياةَ هنالك .. (الرجالُ Y) لا تنطوي أشرطتُهم الوراثيةُ على الصبغيِّ Xواهبِ الحياة .. إنهم Yمجرَّدة .. مجردُ مسوخٍ لا حياةَ لها .. وهم بعكس الرجال X، يمثلونَ جنوحًا إلى القبح .. (سَخْطٌ) بيولوجيٌّ حقيقيّ .. بينما تُعبَدُ الأنثى صاحبةُ الحياةِ الكاملة XX، ويقتربُ منها الرجالُ X، يتمرّغُ في وحلِ الطبيعةِ الرجالُ Y .. وحالةُ (السَّخْط) هذه هي حالةٌ من (السُّخطِ) كذلك بضَمِّ السين .. كراهية .. تنافرٌ مسيطرٌ أو تجاذبٌ قاتل .. ويفسِّرُ هذا أن نمضيَ مع (إمپيذوقليس) في نظريته التي تجعلُ من الحب والكراهية مرادفين للتجاذب والتنافر يحركان العالَمَ بين قطبَي المجالِ والإعصار ..
  هكذا تتضِحُ أرجوحةُ الكلماتِ Word Play/ Punالتي يعتليها عنوانُ المجموعةِ الفريد ..
  لا يمكننا – بصددِ الحديثِ عن العنوانِ – إغفالُ النبرةِ المتعاليةِ التي يعتنقُها .. مجرَّدُ الإصرارِ على تسميةِ القصةِ والمجموعةِ كلِّها باسمٍ يحتفي بحرفٍ إنجليزيٍّ يُكَرِّسُ رؤيةً متعاليةً للعالَم ، خاصةً أنّ لغة الكتابةِ عربيةٌ كما هو واضح! الإنجليزيةُ لغةُ العالَم ، ولغةُ من لا لغةَ له ، كما يقولُ (كريم الصّيّاد) نفسُهُ على لسانِ المستشرقِ السويديِّ/الشيطان في روايتهِ الوَمضيَّةِ (مقشَعِرّات) التي يُفترَضُ صدورُها قريبًا ضمنَ كتابه (صِدام الحفريات).
  ولهذا فتبنّي حرفِها الشيطانيِّ Yيمثلُ -بشكلٍ ما- نقطةً متعاليةً على الظّرفِ الحاليِّ للحياةِ بكلِّ ما يعنيهِ هذا من محليةٍ ووقتية .. لماذا Yحرفٌ شيطانيّ؟ لما ذكرناهُ آنفًا من التضادّ القائم بينه وبين Xفي الوعي الجمعيِّ ، الرياضيِّ وغيرِه ، ولسببٍ آخر .. إنه المعادلُ الصَّوتِيُّ للسؤالِ الشيطانيِّ الذي تدورُ عليهِ المعرفةُ بأسرها: Why?
لماذا؟!
  هكذا يشيرُ (كريم) إلى الهَمِّ الإپِستِمُولوجيِّ الذي يُؤرِّقُهُ وهو واقفٌ خلفَ مجموعته القصصية .. نعم ، أرى الكون ذاهبًا آيِبًا بين الإعصارِ والمجالِ بلا بدايةٍ ولا نهاية .. أرجوحةٌ ترتكزُ على محورٍ واحدٍ هلاميٍّ شيطانيٍّ اسمُهُ التغيُّرُ .. فلماذا؟؟ لماذا كلُّ هذا؟؟ السؤالُ باكٍ ، وقاسٍ ، وباردٌ إلى درجةٍ لا تحتملُها العينُ ، ودموعُهُ ليستَ شفافةً كدموعِ الأسئلةِ المشغولةِ بقصص الحبِّ ، وليست دمويةً قانيةً كدموعِ الأسئلةِ المشغولةِ بهمومِ الوطن ، لكنَّها سوداءُ قاتمةٌ ، لأنَّها ... دموعٌ ملعونة ..
 
  ختامُ قولِنا على العنوانِ ، ما علاقةُ قصص المجموعةِ به؟ أعني لماذا تُصَدَّرُ به المجموعةُ دون غيره من عناوين القصص الخمسَ عشرةَ المحتواةِ فيها؟
  تحتفي القصصُ كلُّها بالمسخ (السَّخط) على حد تعبير (كريم) في الفقرةِ المذكورةِ أولا .. ففي (الترسيب) يتحولُ المريضُ بين يدَي طبيبِهِ إلى (بسكويت) هشِّ يأكلُهُ النمل ، وفي (روتيلاّ ديورا) تتحولُ الأمُّ إلى حشرةٍ أو يحدثُ العكسُ ، وفي (علاء الدين) يتحوَّلُ الهيكلُ العظميُّ لطالب طبٍّ مات بالسرطانِ إلى طالبِ طبٍّ يدرسُ عليهِ التشريحَ (أو العكس) ، و في (تجربة د.فانٍ) يتحولُ الجعرانُ إلى قلبٍ والقلبُ إلى وحشٍ مخيفٍ والمُخُّ (الرُّوحُ) إلى كائنٍ مستقلٍّ بعيدًا عن جسد صاحبه .. وهكذا وهكذا إلى آخر قصص المجموعة .. ولذا كان العنوانُ الذي يُكَرِّسُ فكرةَ المسخ في صراحةٍ هو الأنسبَ لعنونةِ هذا الكتاب ..
.  .  .  .  .
  * التَّشَبُّع / التَّشَبُّح ، ولا جدوى المعرفة :

  في رأيي أنَّ هذا واحدٌ من أهمِّ المحاورِ التي يدور عليها القَصُّ في هذه المجموعة .. ولأبدأ بـ(لا جدوى المعرفة)..
  في مقابل السؤال المعرفيِّ الذي يتساءلُ عن الغاية ، والذي قلنا أنَّ العنوانَ يتّحدُ به
Why?
يوجدُ تراكمٌ معرفيٌّ جزئيٌّ في كلِّ قصة .. تبدأ القصةُ المفردةُ بمجموعةٍ من الملاحظاتِ تثيرُ لغزًا ما ، وتتجمَّعُ الخيوطُ في يد البطل /الرّاوي رويدًا رويدًا، وقرب النهايةِ يكتملُ حلُّ اللغز .. لكنَّ النهايةَ لا تقبعُ أبدًا عند حلِّ اللغز .. بل تتجاوزُهُ إلى وقوع الكارثة ..! فالكارثةُ حتميةٌ في حكاياتِ (كريم) ، ولا يُغني حذرٌ من قدَر! دائمًا يُدركُ البطلُ / الراوي الآليةَ التي من خلالِها تتشكلُ الكارثةُ ، لكنَّهُ دائمًا أيضًا يقفُ عاجزًا إزاءَ تمام حدوثِها .. فالمعرفةُ وازديادُ المعرفةِ وازديادُ ازديادِها تبدو القيمةَ الإيجابيةَ الوحيدةَ في عالم (كريم) القصصيّ هنا (متعةٌ مستقلةٌ عن النفع) ، لأنها في النهايةِ لا تُسمنُ ولا تُغني من جوعٍ ، بل يقفُ هو مكتوفَ اليدينِ أمام النهاية المفزعة .. هذا ما يحدثُ مثلاً في (علاء الدين) حيثُ يكتشفُ طبيعةَ الهيكلِ العظميِّ الملقى أمامَه ، لكنَّهُ يُصرِّحُ لنفسِهِ ولنا في يأسٍ مُقَدَّس:
"من قالَ إنني سأنجو لمجرَّدِ أنني أعرف؟!"
وهو عينُ ما يحدثُ في (تشرنُبروف) حيث يعرفُ البطلُ الرّاوي المنقسمُ على ذاتِهِ (والفُصامِيُّ طبقًا لإشاراتِ الصفحةِ الأخيرةِ من القصة، حيث يبدو أنَّ هلاوسَهُ تتجسدُ أمامَهُ وتذوبُ شخصيتُهُ في شخصيةِ الجسيم تحت الذّرّيّ الذي اكتشفه) ، أقولُ إنه يعرفُ ما سيحدثُ للبشريةِ جَرّاءَ هذا الاكتشاف ، وهو كارثةٌ محتومةٌ بدأت مبشراتُها بحادث (المفاعل النووي) في تشرنوبل .. لكنَّهُ لا يملكُ فكاكًا من هذا المصير .. بل لم يبقَ أمامَهُ سوى الاستسلامِ للاسكيزوفرينيا ..
  ولأنَّ المعرفةَ تبقى مِن بعدُ قيمةً وحيدةً لأنّها المعادلُ الموضوعيُّ الوحيدُ المتبقّي للمتعة ، رُبَّما لا يروقُ هذا القَصُّ الثائرُ مجتمَعًا موغلاً في التمسُّكِ بأهدابِ مقولاتِ السابقين وأفعالِهم (فالنَّهَمُ المعرفيُّ ثورةٌ لا تهدأ) .. إنها الورطةُ الكبرى ، متمثلةً في أنَّ (كريم) يذهبُ بالفنِّ في تصورِهِ المثاليِّ (قيمةٌ مطلقةٌ تحيلُ إلى ذاتِها ولا ترجو التزلُّفَ إلى الأخلاقِ أو ما سواها من دوائر الممارسة الإنسانية) إلى أبعدِ مدى .. ولهذا فنُّهُ اغترابيٌّ أصيلٌ عبقريّ ..
المهم ..
  نعودُ إلى اصطلاحنا (التشبُّع / التشبُّح) .. رُبَّما يذكرُ بعضُنا المسرحيةَ العظيمةَ (الأشباح) لهنريك إبسن .. بختامِها يدركُ البطلُ أنَّهُ مجرَّدُ شبحٍ لأبيه (والمعنى مجازيٌّ) من منطلَقِ أنه يكرر أخطاءَهُ طيلةَ الوقتِ ، بل ويتحمَّلُ نتائجَ ممارساتِهِ فكأنَّهُ امتدادٌ غيرُ فاعلٍ له .. يُدرِكُ أنه غيرُ قادرٍ على الفعل .. وهنا مبعثُ الرعبِ الوجوديِّ الذي يجعلُنا نقشَعِرُّ في نهاية تلك المسرحية .. في قصص المجموعة التي بين أيدينا ، يحدثُ مثلُ ذلك .. لا يتجسَّدُ الشبحُ إلاّ مع تمام المعرفة .. فالبطلُ في (روتيلاّ ديورا) لا يُدرِكُهُ الرعبُ الوجوديُّ الكاملُ ولا يدركُ موقفَهُ الشبحيَّ إلا حين (يتشبَّعُ) بالمعرفةِ بسلوك الحشرة الحمراء الجافية التي تُظهِرُ سلوكًا عدائيًّا تجاهَ أولادِها .. والبطلُ في (علاء الدين) لا يدركُ أنَّه (مثلَ بطلِ أشباح إبسن) يكرر حياةَ صاحب الهيكلِ الجاثمِ أمامَهُ إلا مع تشبُّعِهِ بمعرفة (علاء الدين) وسيرة حياتِه .. وهكذا .. وكما يتبيّنُ من هذه الفقرةِ من مقاربتنا ، فالأمران متشابكان للغاية : التشبُّعُ بالعرفة يؤدي إلى تشبُّحٍ حقيقيٍّ ، عندَهُ يدرِكُ البطلُ الشبحُ لا جدوى المعرفة ..
.  .  .  .  .
  * الذاتُ مركزُ العالَم ، ونسويةُ الثورة :

  بين أيدينا خمسَ عشرةَ قصةً ، كلُّها محكيةٌ بطريقة الشخصِ الأول : الرّاوي / البطل .. وهذا يعكسُ رؤيةً ذاتيةً للعالَمِ تستحضِرُ (فِشْتَه Fichte) طيلةَ الوقت .. فلأنَّ موضوعَات الحكاياتِ متعاليةٌ على اللحظة والمكانِ ورُبَّما الظرف التاريخيّ ، كما أنّها متعاليةٌ على السياقِ العامّ للأدب في هذه البقعةِ من العالَم ، بل وهي متعاليةٌ على السياقِ العامّ للخيالِ العلميِّ بما هو ارتماءٌ في حضن أحد القطبَين للتصور عن المستقبل : يوتوپيا أو ديستوپيا، أقولُ: لكلِّ هذا ، كانت الرؤيةُ الشخصيةُ مناسبةً كمرجعٍ للحَكي .. إنها مثاليةٌ ذاتيةٌ ، لا تُبَشِّرُ بشيءٍ ، لكنَّها ترصُدُ حدوثَ الكارثةِ ريثَما تخلُقُها ..
  لكن لنا ثلاثٌ وقفاتٍ عند حديثِنا هذا :
- الأولى عند قصة (الشبكية) .. وأعُدُّها النموذجَ الأقصى للاعتدادِ بهذه الذاتيةِ وهَدمِها في ذاتِ الآن .. الدكتور (هوركهايمر) الألمانِيُّ الذي يلتقي البطلَ في مصحةٍ نفسيةٍ بـ(لندن) يقولُ لبطلِنا: "لكنَّ شبكيَّتَك تملكُ هذه الخاصيةَ الفريدةَ على التخليقِ المادّيّ." إنَّ البطلَ يرى كائناتٍ غريبةً ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ ويحكي للناسِ عن هذا ، فيُكَذبونه ويُودَعُ هذه المِصَحَّة ، ثم يلتقي به (هوركهايمر) طبيبُ العيون بالصدفة ، ويأخذ عينةً من نسيجِ شبكيتِهِ ، ويختفي تمامًا بما يُنذِرُ بعبثيةٍ الأمرِ برُمَّتِه ، ثم يعاودُ الظهورَ ويأخذ البطلَ من يده ليُرِيَهُ الكائناتِ التي خلَّقتها شبكيتُهُ وهي تمرحُ كبيرةً في الحجرةِ المقابلةِ ، بعد أن استنسخ خلايا تلك الشبكية الملعونة وفردَها على الحائط !!
  لكنَّ هذا الخَلقَ الخاصَّ يثبتُ لنا في نهاية القصةِ أنَّهُ قادرٌ على جلب الكارثة .. فشبكيةُ البطلِ تختزنُ دورَ شطرنجٍ حاميَ الوطيسِ كان قد لعبه مع أحد الممرِّضين في المصحّة ، والطابياتُ تكتسحُ لندن ، ورأسُ الملك الصّليبيُّ يبدو وسط الغبار ، وهذه هي (المرحلةُ قبل الأخيرة) كما يقول البطل لطبيبه ، قبل أن يأتيَ الله!
  لماذا (لندن) تحديدًا؟!
  ما من إجابةٍ قاطعةٍ بالتأكيد .. لكن .. هل لأنّها ذلك المكانُ الذي مزَّقَهُ صراعُ اللاهوتيين الكاثوليك والپروتستانت يومًا ما ، وسالت الدماءُ فيهِ أنهارًا ، قبلَ أن يزهدَ اللهَ ويُفاخِرَ العالَمَ بأعلى كثافةٍ لـ(اللاإلهيين)، وبينهم مُبَشِّرُو (اللاإلهيةِ) الأشهر ، مثل (ريتشارد دوكنز) و(ستيفن هوكنج)؟
  إذا صدقَ هذا الاحتمالُ ، فإنَّ تجلِّيًا – هو الأعمقُ – لمفهوم (التشبُّع / التّشبُّح) الذي طرحناهُ قبل قليلٍ يتبدّى هنا .. إنَّهُ التشبُّعُ بالقدرة على الخَلق ، حتى يشعر الإنسانُ في النهايةِ بتشبُحِهِ أمامَ قدرةِ الإله ، كما لو كانَ هذا المريضُ اللامريضُ الراوي البطلُ قد تحوَّلَ بتوسُّطِ العلمِ إلى إلهٍ مُؤَقَّتٍ يصدقُ عليه قولُ (پول فاليري):
"في نهاية العالم ، يقولُ اللهُ لنفسه : لقد كان حُلمًا طويلا". وهو تَجَلٍّ يتجاوَبُ والآيةَ القرآنيةَ :
  "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يتفكَّرُونَ." الآية 24 من سورة (يونُس).

- الوَقفةُ الثانيةُ مع قصة (تشرنُبروف): حين يحكي للرَاوي العالِمُ غيرُ المُعيَّنِ (الذي يشارُ في النهايةِ إلى أنه تشرنوبروف نفسُهُ) عن قصة الاكتشافِ الكارثيِّ ، فيقول:
"لقد اكتشف جسيمًا جديدًا بهذه البساطة، لكنه لاحظَ ما عليهِ من مسلكٍ غريبٍ يختلفُ كلَّ الاختلافِ عن بقيةِ الجسيماتِ تحت الذَّرِّيَّة، كان أكثرَ عشوائيةً في حركته ، بل ويَثبُتُ في مكانِهِ إلى درجةٍ يمكن معهارصدُهُ، ثم يتحركُ بسرعاتٍ متفاوتةٍ ، كان لا يخضعُ لأيِّ قانونٍ فيزيائيٍّ معروفٍ ، ولا غير معروفٍ ، ولا فيزيائي."
  بإزاءِ هذه المثاليةِ الذاتيةِ التي تنبني وتنهدمُ كلَّ حينٍ عبر صفحاتِ المجموعةِ ، يبدو هذا الكشفُ العلميُّ الخياليُّ وعدًا بيقينٍ يبحثُ عنه الكاتب .. من درسَ منّا الفيزياءَ يعرفُ مبدأَ عدمِ التأكُّدِ لـ(هايزنبرغ) ، والذي ينصُّ على استحالةِ الجَزمِ بموقعِ وكتلة ومقدار شحنة أي جسيمٍ على الإطلاقِ لأنَّ الآلياتِ التي يستخدمُها الرّاصِدُ تؤثِّرُ قطعًا على هذه المقادير .. بعدَ هذه الفقرةِ نعرفُ أن (تشرنوبروف) أحالَ البحثَ إلى قسم (المايكروبيولوجي) باعتبارِ أننا نواجهُ كائنًا حيًّا كامنًا داخل الذّرّة .. ثم يشيرُ إليه (تشرنوبروف) في نهاية القصة بعد أن تحرر من عِقالِ الذَّرَّةِ بصفتِهِ إلهًا وثنيًّا متوحشا .. نحنُ أمامَ كاتبٍ يحاولُ جاهدًا الإمستكَ بيقينٍ ما ، وهو على وعيٍ دائمٍ باستحالةِ هذا ، لكنَّهُ يشتهي لمسَ هذا اليقينِ ، ولو أدّى به إلى كارثة .. الكارثةُ تبدو محتومةً مع الإيغالِ في الذاتيةِ واستحالةِ اليقينِ ، فلِمَ لا نستقبلُها بعد يقين؟؟! رُبَّما يكونُ اليقينُ تتويجًا للذة المعرفةِ في النهاية!

-الوقفةُ الثالثةُ مع قصة (الشرنقة) .. لا يتخلّى كريم عن الرّاوي البطل هنا ، لكنَّهُ يجعلُهُ راويةً بطلة .. ومن المُلاحَظ أنَّ هذه هي القصةُ الوحيدةُ التي لا تنتهي بكارثةٍ بين قصص المجموعة ، بل تنتهي بنصرٍ ثَورِيّ ..
  إنّ (شهرزاد) الرَاويةَ البطلةَ عُضوَ الخلية الشيوعية السرية ، متزوجةٌ من (يسري باشا أبو الفتوح) رأسماليِّ مصنع النسيج ، وتخونُهُ وتتواطأُ عليه مع الرفاقِ ، فتضع صناديقَ ديدانِ القَزِّ في غرفةِ نومِهِ وتغيبُ عن الغرفة أسبوعًا ريثَما تنسجُ الديدانُ شرنقةً حولَ الرأسماليِّ المَقيتِ وتُخفيهِ تمامًا عن الوجود !!
  وبين أحاديثِ الرفاقِ نميزُ الكلامَ عن خطرِ (الإخوان) وانقلاب (المنشيفيك) ، كما نلمحُ نبوءَةَ (شهرزاد) بسقوطِ الألقاب .. ألا يُذَكِّرُنا هذا بمصر صبيحةَ انقلابِ (23 يوليو)؟!
 رُبَّما هو سيناريو بديلٌ عن الانقلابِ العسكريِّ ، تحدثُ فيه ثورةٌ شيوعيةٌ حقيقيةٌ تُطيحُ بالرأسماليةِ العتيدةِ وتُرسي ماركسيةً جديدة .. وهو سيناريو مستقبليٌّ كذلك باعتبارِ أنَّهُ ما مِن ألقابٍ سقطت بالفعل منذ ستين عاما! إنّها القِصَّةُ الوحيدةُ التي تظهرُ فيها الأيديولوجيةُ السياسيةُ واضحة .. ومِن خلالِها يقدِمُ (هيثم) أحدُ أفرادِ الخليةِ الشيوعيةِ نقدًا حادًّا للماركسيةِ اللينينيةِ السوفييتيةِ التي أوغلَت في جِذريَّتِها وسلفيَّتِها حتى سفطَت من تلقاء ذاتِها (وهو ما يدعَمُ السيناريو المستقبليَّ وليسَ سيناريو صبيحة 23 يوليو) ..
  هل هذه نسويةٌ يتبنّاها (كريم)؟ .. صحيحٌ أنَّ البطلةَ تقفُ في النهايةِ مكتوفةَ اليدينِ أمامَ الشرنقةِ العالمية التي ينسجُها عمّالُ النسيج / الديدانُ للعالَم ، لكنَّ نصرًا ما وربيعًا محتملاً يبدوان في الأفق ، ولا ننسى أنَّ آخِرَ جملةٍ في القصة : "ومن حولِهِ وفوقَ رءوسِ العُمالِ حلّقَت أسرابٌ هائلةٌ من فَراشاتٍ عملاقةٍ ذاتِ ألوانٍ زاهيةٍ ، جميلةٍ جدّا." .. البطلةُ الأنثى كانت الوحيدةَ بين أبطالِ المجموعة القادرةَ على الفعل ، ومن ثَمَّ على التغيير ، رغم ارتباكِها المؤقَّتِ قربَ النهاية .. يبدو أنَّ الأنثى ليستَ جمالاً مطلقًا فَحسبُ كما يفترض عنوانُ المجموعة ، لكنَّها كذلك ثورةٌ كامنةٌ محتملَةٌ دائما ..
.  .  .  .  .
* دائريَّةُ الزَّمن:
  وهو محورٌ هامٌّ للقَصِّ في بعض قصص المجموعة .. ونعني به تبنّي ذلك التصوُّر أنَّ الزمنَ لا يمثلُهُ خطٌّ مستقيمٌ ، وإنّما دائرةٌ مغلقةٌ تتصلُ لحظاتُها فلا نعرفُ لها بدايةً من نهاية .. أو هو كما يُنسَبُ القولُ لابنِ عربيٍّ : "مكانٌ سائلٌ ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد." .. وهو تصورٌ يلتقي بنسبيةِ (أينشتاين) ..
  يتجلّى هذا التصورُ كأروعِ ما يكونُ في قصةِ (أپاسيوناتا) .. العنوانُ يشيرُ إلى سوناتا الپيانو الثالثة والعشرين لبيتهوفن ..
  الرّاوي كما نعرفُ من حديثهِ مع شخصيةِ (فرانتس شوبرت) الموسيقار الشهير تلميذ (بيتهوفن) ، صحافيٌّ في صحيفةٍ تُدعَى (المداراتِ الجديدة) ، رأى (شوبرت) تنهمرُ دموعُهُ وهما في حفلٍ يعزفُ فيه (بيتهوفن) سوناتتَه ..
فقرّرَ أن يسألَهُ عن رأيه في السوناتة ، فاقتادَهُ (شوبرت) إلى حانةٍ ما ، وقصَّ عليه قصةَ تأليف (بيتهوفن) لهذه السوناتةِ التي لا يعرفُها أحدٌ إلا (شوبرت) بزعمِه .. يحكي (شوبرت) عن أستاذهِ أنَّه – بعكس ما يشيعُ من أنّ تاريخ بداية تأليفه لهذه السوناتة كان عام 1804 – بدأ في تأليفِها عام 1796 ، قبل أن تظهرَ عليه أولى أعراضِ الصَّمَم .. وبعد أن وضع الحركةَ الأولى منها في ليلةٍ وأوى إلى فِراشِهِ ، أقلقه من نومه في منتصف الليلِ أن يسمعَ السوناتةَ تُعزَفُ بالكاملِ في بيته .. نهض من فراشِهِ واتجهَ إلى حيثُ الپيانو ، ليجدَ (بيتهوفن) آخَرَ يشبهه تمامًا لكنَّهُ يكبرُهُ سنًّا وحجمًا ويفوقُهُ أناقةً منهمكًا في عزفِها!
  نعرفُ تدريجيًّا أنَّ (بيتهوفن) آمنَ تمامًا بقول (فيثاغورَس) أنَّ الموسيقى هي القانونُ الذي يحكمُ العالَم ، وشاء القدَرُ أن يَسمعَ شذرةً من هذا القانونِ أثناءِ نزهتِهِ الخلويةِ بجوار النهرِ غداةَ تأليفِهِ للسوناتة ، فيُخمِّنَ الباقي .. وبفعلِهِ هذا فتحَ البوابةَ الخفيةَ التي من خلالِها قابلَ في بيتِهِ في هذه الليلةِ (بيتهوفن) الشيخ ، و(بيتهوفن) الرَّضيعَ ، و(بيتهوفن) المراهقِ ، وغيرَهم .. لقدَ كسرَ استرسالَ الدائرة ، كسرَ استرسالَ الزَّمَن فرأى دائريتَهُ بعينيه!
  إنَّ المسألةَ كشفٌ يشبهُ الكشفَ الصُّوفِيَّ .. اطّلاعٌ غيرُ متعمَّدٍ على الغيب .. لكنَّ الصُّوفِيَّ الفنّانَ يواجهُ العقوبةَ / القَدَرَ على رهافةِ حسِّهِ ، فالـ(بيتهوفنون) المجتمعونَ في البيتِ في هذه اللحظةِ النادرةِ من الحياةِ يقررونَ أن يسلبوا (بيتهوفنَ) اللحظةِ المتعينةِ سمعَهُ ، لئلاّ يغلقَ البابَ ويعيدَهم إلى الظلام! إنه معنىً متفلِّتٌ مراوغٌ شاعريّ .. كيف يمكنُ أن يحدثَ هذا؟ نكادُ نبكي ونحنُ نرى (بيتهوفن) الطِّفلَ في ركن قاعةِ الپيانو يضعُ رأسَهُ بين كفيهِ صارخًا: "أنا أكرهُ الظَّلام." لقد كان محبوسًا في لحظتِهِ لا يستطيعُ مغادرتَها حتى فتحَ (بيتهوفن) عام 1796 البوابةَ وسمحَ له بالعبور .. إنَّهُ الفعلُ الذي ينتصرُ للحنين .. النوستالجيا تنتصرُ على الحتمية .. أنا ابنُ التاسعةِ والعشرينَ سأعيشُ جنبًا إلى جنبٍ مع أنا ابنِ الخامسةِ وأنا ابنِ الرابعةِ والخمسينَ (إن أدركتُ هذه السِنَّ بالطبع) ، وهكذا !!
  ولأنَّ القصةَ موسيقيةٌ جدًّا ، فالكارثةُ (الصَّمَمُ) لا تأتي مرةً واحدةً كنقطةٍ ، أو كسكتةٍ مفاجئةٍ على المدرَّجِ بلغةِ الموسيقى ، لكنَّها تنفرِشُ على مساحةٍ زمنيةٍ تبدأُ منذ تلك الليلةِ الفريدةِ حين يُصدِرُ (بيتهوفن) الشيخُ حُكمَهُ ويوافقهُ (البيتهوفِنون) ونفاجأُ بـ(بيتهوفن) اللحظةِ المتعيِّنةِ يستصرخُهُم: "ماذا تقولونَ عليكمُ اللعنة؟" فيرفعونَ أصواتَهم: "هل تسمعُنا؟" ، وتستمرُّ الكارثةُ في التشكُّلِ والصَّمَمُ في الاستيلاءِ على (بيتهوفن) – مسيحِ الموسيقى – حتى يرحلَ عن عالَمِنا ، كما لو كانت سنواتُهُ منذ هذه اللحظةِ تخضعُ لاصطلاحِ diminuendoأو decrescendoالموسيقيِّ (تتجهُ نحوَ الخفوت والتلاشي) ..
 ثمَّةَ كارثةٌ أخرى في القصةِ تقترحُها الصفحةُ الأخيرةُ منها .. وذلك حين يسألُ الراوي (شوبرت) في استخفاف:
-"وموتسارت أيضًا زارَهُ موتسارت طفل ومراهق وشابّ وشيخ؟"
فيجيبُهُ (شوبرت): "بل وامرأةٌ أيضًا."
فيسخرُ الرّاوي:
- "هاها .. وامرأةٌ كذلك؟!"
فيقولُ (شوبرت) مُغضَبًا قبل أن يترُكَه:
- "إنَّ لكلٍّ منّا في ذلك العالَمِ كافةَ التنويعاتِ البشريةِ الممكنة، هناك (بيتهوفن) امرأةٌ لكنَّها لم توجَد بعد، ويومًا ستظهرُ في هذا العالَم، .......".
هي هذه الجملةُ الأخيرة .. لماذا يُقرِّرُ (شوبرت) أنَّ هناك (موتسارت) امرأةً زارَت (موتسارت) ، بينما لم يحدث هذا مع (بيتهوفن)؟
  موسيقى (موتسارت) لها ذلك الطابَعُ الطفوليُّ الناعِمُ الأملسُ الذي يظلُّ مع الأنثى بعد اكتمالِ أنوثتِها .. أمّا موسيقى (بيتهوفن) فهي احتفاءٌ بما يتأبّى على الاحتواء .. إنّها ذلكَ اللاركوعُ ، الانتصابُ الذُّكورِيُّ الذي يخرقُ الطبيعةَ إلى الفَنّ .. الموسيقيُّ (بيتهوفن) رجلٌ من (الرجالِ – Y) .. وهو رُبَّما يكونُ المَثَلَ الوحيدَ بينهم على إمكان تحققِ الجمالِ مع اكتمالِ الرجولة .. إنه المثلُ الأعلى الذي قصَّرَ عنه بقيةُ الرجال – Yفأصبحوا مسوخًا شائهة .. ولهذا لم تظهر له امرأة .. فإن ظهرَت ... فإن ظهرَت فهي الثورة .. الكارثةُ اللاكارثة .. ستحلِّقُ الفراشاتُ العملاقةُ على الرؤوس ، وستلتفُّ موجوداتُ العالَمِ القديمِ في شرنقةٍ عملاقة ..
هاه؟ ألا يُحيلُنا هذا إلى قصةِ (الشرنقة) من جديد؟
  فإن تذَرَّعنا أخيرًا باللاهوتِ المسيحيِّ في استكناهِ (بيتهوفن) ، كان علينا أن نذكر أقانيمَ الموسيقى الثلاثةَ : (باخ) بتأسيسيّتِه وموسيقاهُ الثريةِ الملونةِ التي تشبهُ الرُّوحَ القدُسَ في جلائها وغموضِها ، و(موتسارت) بمحاكاته التامة للطبيعةِ فكأنَّهُ يقفُ بالفنِّ موازيًا لها ولا نقطةَ تقاطُعٍ بينهما فهو (الآبُ) الذي رفضَهُ (سپينوزا) ، و(بيتهوفن) بموسيقاهُ التي خرقت هذه الطبيعةَ وأسّسَ لملكوتٍ جديدٍ ، فكأنَّهُ (الابن) !

سرقنا الكلامُ عن (أپاسيوناتا) ، ولا يخفَى أنَّ سببَ ذلكَ موقعُها المركزيُّ من قصص المجموعةِ ، والمبنيُّ على مركزيةِ (بيتهوفن) بين الرجالِ – Y..

  نعودُ إلى استعراضٍ سريعٍ لدائريةِ الزمنِ في بعض قصص المجموعة :
- في (القوقعة) ثمةً لعنةٌ تتوارثُها بناتُ سلالةٍ ما!
  (فادية) الأمُّ (فعلَت ما فعلَته منذ عشرة أعوامٍ) كما في افتتاحيةِ القصةِ بشكلٍ غامضٍ ، فتسبّبَت في غرقِ أبيها بينما تضعُ يديها على عينيه وتختبرُهُ – وهي بنتُ الرابعة – "أنا مين؟!" ، ثم يلتصقُ بها يقينٌ ما على أنَّ حيوانًا قشريًّا يعيشُ في أذنِها ، وتطلبُ مساعدةَ طبيبٍ نفسيٍّ يعالجُها ويحيلُها إلى طبيب الأذن والأنف والحنجرةِ ليثبتَ لها أنَّ ما تراهُ خارجًا من أذنها أمام المرآةِ وتعتقدُ في وجوده محضُ هلوسةٍ وضلالة ، ثم يتزوَّجُها الطبيبُ النفسي.
  و(فادية) الابنةُ كما نعلمُ في نهايةِ القصةِ تسببت في تعثُّرِ أبيها في حديقةِ الفيلاّ – وهي في الرابعةِ كذلك – ليموتَ متأثرًا بعَثرتِهِ ، وتعتقدُ أنَّ حيوانًا رخويًّا يشبه (الحلزونَ) الذي يعيشُ في الحدائقِ يسكنُ أذنَها ، وتطلبُ مساعدةَ طبيبٍ نفسيٍّ آخر (د.محمد شوكت) يحيلُها إلى طبيب الأنف والأذن والحنجرةِ عينِهِ ليثبتَ لها أنَّ ما تراهُ وتعتقدُهُ هلوسةٌ وضلالة ، ونعلمُ من مذكراتِ طبيب الأنف والأذن والحنجرةِ أنَّ (د.محمد شوكت) ينوي الزواجَ من (فادية) الابنة !!
  قصةٌ شبيهةٌ بهذه توجدُ بينَ الأعمالِ الكاملةِ لـ(إدغار آلن پو) ، وهي (موريلاّ) ، حيثُ ترثُ (موريلاّ) الابنةُ لعنةَ (موريلاّ) الأمِّ ، ولكن بطريقةٍ مختلفة ..
  ثمةَ دائريةٌ كامنةٌ في الزمنِ في مثلِ هذا النوعِ من الحبكة ، ولذا فاسمُ القصةِ (القوقعة) لايشيرُ إلى قوقعةِ الأذنِ الداخليةِ لـ(فادية) الأمِّ ، بقدر ما يشيرُ إلى حالةِ الدورانِ في الزمنِ والمتاهةِ القائمةِ في تكرارِ الأحداث ..
- في (علاء الدين) كما أسلَفنا القَولَ ، يدركُ الراوي البطلُ ، طالبُ الطبِّ ، أنّ الهيكلَ العظميَّ الذي يذاكرُ عليهِ التشريحَ هو هيكلُهُ العظميُّ ، وهذا من واقعِ نوعيةِ الكسورِ التي يعانيها في جمجمتِهِ وساقيهِ ، ويعانيها الهيكلُ كذلك ، باإضافةِ إلى سيرةِ حياةِ (علاء الدين) طالب الطبِّ صاحب الهيكل الذي مات قبل بضعةِ أعوامٍ وتكرهُ الممرضة .. لا ندري متى يبدأ الحدثُ ومتى ينتهي .. إنه لا يبدأُ .. ولا ينتهي !!
.  .  .  .  .

* أسماءُ الشخصيات ..
  في بعض القصص لا توجد أسماءٌ محددةٌ للشخصيات .. لكننا نصطدمُ بأسماءٍ دالّةٍ في بعضِها الآخَر ، ولنستعرض بعضًا منها هنا:
 - في قصة (علاء الدين): الاسمُ الذي اختاره الراوي البطلُ طالبُ الطبِّ للهيكلِ الذي اشتراهُ بشكلٍ (اعتباطيٍّ) هو (علاءُ الدين) .. يُحيلُ هذا الاسمُ إلى الشخصيةِ الأسطوريةِ الموجودةِ في تراثِ الحكيِ العربيِّ ، مرتبطةً بالمغامرة والأهوالِ والانتصارِ في النهاية .. لكنَّ (مغامرةَ) علاء الدين هنا مغامرةٌ قدريةٌ لم يَختَر أن يخوضَها ، كما أنَّه لن يحقق فيها نصرًا من أي نوع .. سيموتُ بالسرطانِ بعد أن يصابَ في حادثِ سيارةٍ ، ليتحولَ إلى هيكلٍ عظميٍّ يقتنيه ويدرسُ عليهِ طالبُ طبٍّ آخرَ سيلاقي نفسَ مصيرهِ ، وربَّما كان هو نفسه (علاء الدين) .. إنه يدورُ في مكانِهِ ، معاقبًا على جُرمٍ لا يدري ما هو .. وهو يعرفُ كنه العقابِ ويعرفُ المصيرَ لكن لا فكاك ..
- في قصة (تجربةُ د.فانٍ) نجدُ ذلك الاسمَ السِّحريَّ للطبيبِ الساحر (فانٍ بن عبد العزيز) .. إنَّهُ يستلُّ قلبَ الراوي / البطلِ من صدرِهِ ، ويضعُ مكانَهُ جعرانًا ، ليضعَ القلبَ في محلولٍ ما حتى يكبر ويشيرَ وحشًا ، وبينما هو يفعلُ ذلك يلقي على مسامعِ البطلِ قصيدةَ نثرٍ يقولُ فيها:
"سأريكَ عالمًا أكثرَ أملاً .. سأريكَ عالمًا الأرضُ فيهِ كرةٌ وتسبحُ فيه حول شمسِ ، والشمسُ حولَ شمسٍ ، والشموسُ حولَ لُبِّ الكون .. وأنا وأنتَ جلطتان .. نسدُّ شريانَ الكونِ فيخبو ضوءُ النجوم .. نسري في شريانِ الكونِ ، فيعودُ الضوءُ إلى العالم."
  ويتذكَّرُ البطلُ هذا فيقولُ لنفسه: "بل إنه يصرفُ الناسَ عن عمودِ الشعرِ وراحَ يُنشِدُهُم شعرَهُ المنثورَ القبيح."
  نحن أمامَ طبيبٍ ساحرٍ يقدمُ لبطلِنا المعرفةَ بينما يسلبُهُ قلبَهُ عنوة .. هكذا يكشفُ له حقائقَ الفلَكِ في قصيدة نثرٍ ، ثُمَّ يُطلِعُهُ على حقيقتِهِ الحقيرةِ وينفي عنه تضخُّمَ أناهُ ومركزيتَها الزائفةَ (وأنا وأنتَ جلطتان ......) ، ويُبَشِّرُهُ بفتحٍ معرفيٍّ إن هو أسقطَ عنه حجابَ الأنا (نسري في شريانِ الكونِ فيعودُ الضوءُ إلى العالَم."
  ولأنَّهُ يفعلُ ذلك ، ولأنَّه يسرفُ الناسَ عن عمودِ الشِّعر (اللوغوس) ويتلو عليهم قصائدَ النثرِ المتحررةَ من المركز والشكلِ والنظامِ ، فهو الشيطان ..
أو ..:
  رُبَّما هو ابنُ الشيطان .. الشيطانُ مُنظَرٌ ، واسمُهُ (عزازيل) كما نعرفُ من أدبياتِ الديانات السماوية .. أمّا هذا فـ(فانٍ) بنُ (عبدِ العزيز / عزازيل) .. هو فانٍ لأنَّهُ ليسَ إلا التجسُّدَ الإنسانيَّ للشيطان .. إنه بعثُ الأسطورةِ وموتُها معًا .. هو الـÜbermenschالذي بشّر به (نيتشه) .. وريثُ الشيطانِ والإلهِ معا .. ولهذا أيضًا حرَّرَ البطلَ من جسدِهِ / قيدِهِ في نهايةِ القصة ليفعلَ ما يحلو له ويمارسَ طفولةَ حياتِهِ السوپرالجديدة (فيلعب مع الأولاد في الشوارع) ..!
- في (القوقعة) : نجدُ أنَّ الأمَّ والبنتَ صاحبتَي اللعنة تحملان الاسمَ نفسَهُ (فادية) .. ويالَهُ من اسم! هذا الاسمُ بكلٍّ ما يحملُهُ من التضحيةِ ونُكرانِ الذاتِ والفِداءِ ، يقفُ على السطورِ ضاحكًا ضحكةً خبيثةً مما تفعلُهُ صاحبتاهُ الأمُّ والابنةُ ، رُبّما رغمًا عنهما .. يتقشَّرُ الاسمُ عن المُسَمَّى مرتينِ في قوقعةٍ زمنيةٍ لعينة ، فلا يترُكُ إلا عبثًا ضاحكًا في يأس ..
- في (الشرنقة) : للبطلةِ الراوية اسمٌ أسطوريٌّ هي الأخرى .. إنّها (شهرزاد) .. انتزعَها (كريم) من أحضانِ (شهريار) في (ألف ليلةٍ وليلة) ، واستغلَّ ميراثَها الحَكَوِيَّ في الليالي الألفِ ، ليجعلَهاراويةَ قصتِهِ المختارة .. واستغلَّ ثورتَها المحتملةَ طيلةَ الليالي الألفِ - والتي وجدَت متنفَّسًا في فعلِ الحكيِ الذي تؤجِّلُ بهِ فناءَها وتؤكِّدُ به وجودَها ليلةً بعدَ ليلةٍ – ليُخرجَها إلى رحابةِ المشاركةِ في الفعلِ ، فهي التي خدّرَت مشاعرَ الرأسمالِيِّ الذكورِيِّ المتسلِّطِ المستغلِّ (يسري باشا أبو الفتوح) ، وهي التي وضعت صناديقَ دود القزِّ في غرفة نومه .. ما أهمَّ عبارتَها حين تقولُ لقائد الخلية الشيوعية: "كلهم يعرف علاقتي بك يا عبيد .. وأنا في نظرهم مناضلة .. كلُّ شهرزاد مناضلةٌ بالفِطرة." إنها عبارةٌ مفتاحيةٌ لفَهم ما تنطوي عليه هذه الأنثى من ثورةٍ ؛ محتملةٍ قبل القصةِ ، وواقعةٍ في القصة ..
- في (أپاسيوناتا): يحكي (شوبرت) للرّاوي عن الـ(بيتهوفنين) الموجودين معًا أمام الپيانو في الليلةِ الموعودة .. فيقول: (لودفيج الوليد الباكي – لودفيج الشاب – لودفيج المراهق) .. استخدامُ الاسمِ الأولِ لـ(بيتهوفن) يوحي بتلك الحميميةِ النادرةِ مع شخصِهِ ، والتي نجدُها في غير هذا العمل في قليلٍ من الآثارِ الأدبيةِ المحتفيةِ ببيتهوفن ، ومن بينِها (البرتقالةُ الآليةُ) لـ(أنتوني بيرچس) ، حيث يشيرُ البطلُ دائمًا إلى بيتهوفن باسمه الأول .. تلك علاقةٌ خاصةٌ بين (كريم) وبين (بيتهوفن) ..
- في (موعد قبلَ الميلاد): تكادُ تكونُ دلالةُ التوأمتَين مباشرةً فهما (يُمنى) و(يُسرَا) .. فـ(يُمنى) هي الفتاةُ التي ضحّى الطبيبُ بأختِها (يسرا) لكي تولدَ حيةً ، ويقابلَها الرّاوي البطلُ ويُحِبَّها ، قبل أن يعرف بأمر أختِها التي احتفظت بها الأسرةُ في مرطبانٍ جنينًا مكتملاً لم يُؤذَن له في دخول الدنيا حيّا .. (يُمنى) هي ذلك الوَعيُ المُخترَقُ بالكاملِ ، مخترَقٌ حتى الثُّمالةِ بكيانٍ غائبٍ حاضرٍ هو (يُسرا) .. حين يباغتُ الرّاوي الجنينَ المحفوظَ في المرطبانِ داخلَ حجرةِ النوم المظلمةِ ، يتجمَّدُ مذهولاً أمامَ المرطبانِ ويصفُ لنا جنينًا مبتسمًا ابتسامةً غامضةً تقصدُهُ ولا تقصدُهُ ، وتعقدُ ساعدَيها على صدرها كالموناليزا .. هي هكذا لأنّها تجسّدُ سطوةَ اللاوعي المتناهيةَ على (يُمنى). كيانٌ خافٍ جَلِيٌّ ينتقمُ لمصيرِهِ وهو ميت!
- في (الشبكية): يأتي اسمُ طبيبِ (العيون) الذي يأخذُ عينةً من شبكية البطل ويستنسخُها ويفحصُها : (هوركهايمر) ، وهو اسمُ الفيلسوفِ وعالم الاجتماعِ الألمانيُّ الشهيرُ المنتمي إلى مدرسة (فرانكفورت) ، وهو أهمُّ مؤسسي (النظرية النقدية) وصاحبُ كتاب (كسوفِ العقل) الذي يستعرضُ من خلالِهِ تصوُّرَهُ عن انتقالِ الفلسفةِ الغربيةِ عبرَ تاريخِها من العقلِ الموضوعيِّ إلى العقلِ الذاتيِّ إلى العقلِ الأداتيِّ حيثُ تصلُ فكرةُ (الصدقِ) في الأخيرِ إلى أقصى ما يمكنُ أن تصلَ إليه من اعتمادِ التفضيلِ الشخصيِّ والانعتاقِ من التصوراتِ المطلقة وما كان يعتبرَ (حقائقَ موضوعية) .. رُبَّما لهذا المُنجَزِ الفكريِّ استخدمَ (كريم) اسمَ الرجلِ هنا .. فطبيبُ العيونِ في القصةِ سينحو بذاتيةِ الوجودِ إلى أقصاها ، فيُعطي مسوِّغًا لأن تتجسَّدَ على أرضِ الواقعِ أكثرُ تصوراتِ البطلِ / الرّاوي شخصانيةً وذاتية .. إنه اللحظةُ الفارقةُ التي عندها تتحولُ الرغبةُ المكبوتةُ في الخلقِ ، إلى خَلق ، ومن ثَمَّ إلى كارثة !!
- في (بئر لَملَم) : ليسَ من قبيلِ المصادفةِ أنَّ الشابَّ الملعون (المنطويَ على قدرٍ لا بأسَ بهِ من الأصالةِ الذاتيةِ) اسمُهُ (إسماعيل) ، وأنَّ أمه (هاجَر) .. (إسماعيلُ) الذي رُزِقَته أمُّهُ على كِبَرٍ يقلِبُ النظرةَ الإسلاميةَ لـ(إسماعيلَ) النبي عليه السلام .. فالأخيرُ غلامٌ طائعٌ للأبِ ، يستسلم لسِكّينِهِ أثناءَ الذبحِ طالما أنّ الآمِرَ الله .. أمّا الأولُ فهو يتناولُ المقدساتِ بالسخريةِ طيلةَ الوقتِ ، يعصي أمه حين تستجدي منه الطاعة والعودةَ إلى الله .. وهي ليست فقط (هاجَر) زوجَ (إبراهيم) وأمَّ (إسماعيل) عليهما السلامُ ، بل هي (إيزيسُ) الإلهةُ المصريةُ مُحبطَةَ المسعى .. جمعت (إيزيسُ) فُتاتَ زوجِها (أوزيريس) المبعثرةَ من الدلتا إلى النوبة ، وأعادت إليه الحياة بسحرِها وغنائها ، فعادَ النورُ إلى العالَمِ ، وحبلَت منه بـ(حورِس) .. أمّا الحاجّةُ (هاجَر) / إيزيسُ قصتنا ، فمحكومٌ عليها بإخفاقِ محاولاتِها لجمعِ قطع الزجاجِ التي تحولَ إليها ابنُها وإعادةِ الرُّوحِ إليها .. ولا يفوتُنا هُنا أن نذكُرَ التأثُّرَ الواضحَ في هذه القصةِ بفيلم (دوني داركو) .. فمشهدُ الحاجّة (هاجَر) بشَعرها الأشيبِ المهوَّشِ وملابسِها الرثَّةِ وهي تحفِرُ الأرضَ بحثًا عن شيْ مجهولٍ في بداية القصةِ يُعيدُنا إلى
Grandma Death
أو الجَدّة (موت) التي تبحثُ كلَّ يومٍ في الفيلم عن رسالةٍ لا تصلُ أبدًا ، ومشهدُ الجزءِ من السقفِ الذي ينهارُ في حجرةِ (إسماعيل) يُعيدُنا إلى ذاتِ المشهدِ في حجرةِ (دوني داركو) .. القصةُ تجمعُ خيوطَها من هذه المصادر الثلاثةِ (قصة هاجر والنبي إسماعيل – أسطورة إيزيس وأوزيريس – فيلم دوني داركو) ، ورُبَّما ممّا وراء ذلك!
- في (الموت قيصريًّا) : تلك القصةِ المتأرجحةِ بين الحلم والواقعِ ، نجدُ (إسماعيلَ) آخَرَ هو الشيخُ الملتحي الذي يعملُ في المَذبَحِ مع الرّاوي البطل .. إن مهمتَهُ تنحصرُ في شق الذبائحِ وتقطيعِها بالمنشار الكهربي المستدير .. يصفُ الرّاوي بسمتَهُ بأنها (هلاليةٌ) تبدو كلما أوشكَ على شق الذبيحة .. الشيخُ (إسماعيلُ) معادلٌ موضوعيٌّ لرغبةِ الرّاوي / البطل في الانتقامِ من اليهود الصهاينةِ على بَقر بطن أمه بالسونكي قبلَ أن تلدَه .. وهو رمزٌ إسلاميٌّ حتى النخاع ، من لحيته التي تلفُّ وجهه المكتنزَ ، إلى اسمه المرتبطِ بجد نبي الإسلام عليهما الصلاة والسلامُ وأبي العرب ، إلى بسمته الهلاليةِ بما للهلالِ من مكانةٍ في الوعي الجَمعيِّ الإسلامي ..
.  .  .  .  .

* الاشتباكُ مع المأثورِ الإسلامي:
  وهو محورٌ أوضحُ من أن نبينَه .. لن يخفى على القارئ في إيماءاتنا السابقةِ ، كما لن يخفى على قارئ المجموعة بالطبع .. وهذا الاشتباكُ يتراوَحُ بين الثورةِ والهدمِ والقلبِ من ناحيةٍ ، وبين التسليمِ المؤمنِ من ناحيةٍ أخرى ..
  - ففي قصةِ (بئرِ لَملَم) مثلاً ، كما أسلَفنا القولَ ، يقلبُ (كريم الصياد) التصور الراسخ في الوعي الإسلامي عن (إسماعيل) ليخلق (إسماعيلَ) جديدًا ثائرًا ملعونًا محكومًا عليه بسرطان الزجاج!
  يُعيدُنا هذا إلى سُورةِ الأعرافِ حيثُ يصفُ القرآنُ حالَ المكذبين بالله: "إن في صُدورِهِم إلا كِبرٌ ما هم ببالِغيه."
  إنه هذا الكِبر .. (إسماعيلُ) القصةِ التي بينَ أيدينا ، الفتى العاصي المتأبّي على أوامرِ اللهِ ، تصيبُهُ لعنةٌ ما هي إلاّ تجسيدٌ لمجازِ حالِه .. فالزجاجُ كيانٌ مسلوبُ الماء ، لا يقبلُ الانثناءَ ولا التشكيل ، ومآلُهُ إلى الانكسار .. وهو ما يحدثُ بالفعل!
- وفي قصة (الموت قيصريًّا): تنبني القصةُ على الحديث النبويِّ الواردِ في صحيح مسلمٍ : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله . إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ." .. ويكادُ الحدثُ الواردُ في هذا الحديثِ أن يكونَ من أركانِ علم آخِر الزمان
Eschatology
في الإسلامِ بمعظمِ أطيافِهِ من السلفيةِ الأرثوذكسيةِ إلى الصوفية .. والاشتباكُ هنا ينتهي إلى تسليمٍ مؤمنٍ بالمأثور ، حيثُ يقعُ الأخُ الأصغرُ المولودُ لأمٍّ يهوديةٍ على المنشار الكهربيِّ ليموتَ بجراحِهِ ، رغم إصرار أمِّهِ على أن تبعث بخشب أثاث البيتِ كله من الخارجِ (من ألمانيا) ، ليكون مصنوعًا من خشب الغرقد! القصةُ تحتفي بحبكةِ المؤامرةِ ، والثغرةِ المزروعةِ داخلَها ، التي تمكّنُ الطرفَ المُتَآمَرَ عليه من الانتصارِ في النهاية ..
- في قصة (اللؤلؤة .. أو ذرَّةُ رمالٍ من سِجِّيل) ، يأخذ الاشتباكُ شكلَ التسليمِ التدريجيّ كذلك .. فالكاتبُ المزعومُ للنَّصِّ (أشواعُ بنُ دارع) مترجمُ (أبرهةَ) الحبشيِّ إلى العربيةِ ومنها ، يروي قصة مداهمةِ الكعبةِ ولقاء أبرهة بعبد المطَّلِبِ ، ثم ينطلقُ منها لمذكراتِهِ بعد العودة إلى (أكسوم) ونمو اللؤلؤةِ داخلَهُ وداخلَ زوجتَيه ، حتى يصل في السطرِ الأخيرِ من القصةِ إلى أن يقول رغمَ آلامه وإصابته بالشلل التام: "لكنني كنتُ سعيدًا .. ورَبِّ الكعبةِ كنتُ سعيدا"!
  إنَّ (أشواعَ بن دارعٍ) هو المعادلُ الموضوعيُّ للرَّجُلِ – Yالذي تحلُّ به اللعنةُ ، ثُمَّ يُشفَى منها تدريجيًّا ، ويستقبلُ موتَهُ سعيدًا عائدًا إلى الحالةِ المعياريةِ السليمةِ من المَسخ والسَّخط ، وهي حالةُ (الرَّجُلِ) فقط .. وليسَ الرَّجُلَ – Y !

*   *   *   *   *

كان هذا غيضًا من فيضٍ عمّا يمكن أن يزخرَنا به خمسةَ عشرَ نصًّا بديعًا ، احتوتها هذه المجموعة .. وأزعمُ أنَّ ثراءَ هذه المجموعةِ يتركُ كُلَّ من يتعرَّضُ لمقاربتِها شاعرًا بالعجز والتقصير وهو يكتبُ عنها .. أعترفُ بأنَّني أتعمَّدُ الانتهاءَ من تدوينِ ملاحظاتي عن المجموعةِ هنا ، وأنَّ في هذا كثيرًا من العَسف .. لكن ، ما يشفعُ لي ، هو أنني أتناولُ نصوصًا بهذه الثراءِ ، هي بالتأكيدِ أهمُّ من محاولةِ مبتدئٍ دائمٍ مثلي .. واللهُ من وراء القصد!





  

Hggi

$
0
0


آتٍ وَئيدًا إلى أقصايَ من أقصايْ   مُخَبِّئًا مِلءَ أكمامي خَواءَ الفاي!
يا بِذلَتي، خَبِّريني مَن أنا .. أأنا   مملوكُ أيبكَ أم أقطايَ؟ أم أقطايْ؟!
راجَعتُ خَطَّيْ جَبيني ، عَلَّ تَذكِرةً   تُبينُ لي وِجهتي ، لكن سَها خَطَّايْ
تُراقِصُ الناسَ رُوحي وَهْيَ حائرةٌ   شرقيةُ النَّغَمِ الغربيِّ .. جَلَّ الرَّايْ!
سُكُّوا على ما لِتَوِّي قُلتُهُ ثَمِلاً   القِرشُ والنّاهِدُ ابنُ المُرتَقَى حَظّايْ
رَسَمتُ قِرشَ حشيشٍ فوقَ دائرةٍ   لم أدرِ أنَّ دُخانًا سوف يَغشَى الپايْ
وبينما تَركُضُ الأرقامُ مُسرعةً   إلى اليَمينِ ، وقَلبي مُمسكٌ بعَصايْ:
إذ باسَني عَبديَ الحاسوبُ في لُغَتي   سُبحانَ سُبحانَ ، هذا إتش چي چي آيْ
فلَمْ يَسَعني كتابٌ أو مُدوَّنةٌ   أو صَدرُها .. لا سماواتي ، ولا أرضايْ
وضَعتُ شِقّي على حُلمٍ يُراوِدُني   فطارَ في الحُلمِ حتى سِدرتي شِقّايْ
!
محمد سالم عبادة
22 مارس 2012


تذكـُّرُ كلِّ ما لم تقـُله - من ديواني (طقوس التَّبرُّم) - تحت الطبع

$
0
0



هي ناهضةٌ أو ستَجلِسْ ..
وجهُها ليس يُفصِحُ إلا عن الـْ...!
قُبِلَ الراجِلُ الراكِبُ السائرُ الآن أو ما قُبِلْ ...
وأنا صَدِئٌ مُتَكَلِّسْ ..
بل أحبكِ ،كنتُ ومازلتُ ، لا تحسبي فِقرةً حُذِفَتْ ،
إنني صادقٌ لا أدلِّسْ ..
بل أحبكِ ملءَ السماواتِ والأرضِ والشيءِ مِن بعدُ حيثُ تُريدينَهُ ،
سمعَ اللهُ مَن حَمِدَهْ !
هي جاريةٌ سيدَةْ ..
وأنا سَيِّدٌ مُغرَمٌ بالتَّذَلُّلِ مُثرٍ ومُفلِسْ ..
وهَوايَ الأورُبِّيُّ لا أتكلَّفُهُ ،
أتقبَّعُ في تُؤَدَةْ ...
ثم أسعى إلى صفحاتِ كتابٍ لَهُمْ ،
أتأوَّلُ ما قاله بَطَلي ، ثُمَّ أُبلِسْ !
اعترضْتُ مَضاءَ حماقتِها فإذا وجهُها ليس يُفصِحُ إلاّ ...!
كَثُرَ الوَردُ في خَدِّها حين قَلاّ ...
الدَّجاجاتُ لا ينتظِرنَكِ سيِّدتي ،
قد طَعِمنَ مع المَرَدَةْ ...
أطعِمِيني أنا ، طفلَكِ الرَّاهِنَ الواهِنَ المُستغيثَ ،
قُتِلْ !
شاربي لم يَطُرَّ وشاربُهُم ،
آهِ ،
شاربُهُم قد فُتِلْ !!
هي ناهضةٌ أو ستجلِسُ ،
أُمسي وأُمسي وكُلُّ فِراشٍ سيُصبِحْ ..
كلُّ ما لم تَقُلهُ تَمَلَّكَني بَغتَةً ،
يالمَعبديَ المترنِّحْ ...
ألفَحُ المرأةَ الأوليةَ نارًا ،
فتركنُ هَونًا إلى ريقِها وتُحَمحِمُ مُبتَرِدَةْ ...
كنتُ أنظُرُ قُربَ الخِتامِ إليها ،
أُسَبِّحْ ..
وجهُها .. ليسَ يُفصِحْ !

...
2008 

لماذا صوتي لخالد علي؟ أو: لماذا سكتُّ دهرا .. ونطقتُ كُفرا؟!

$
0
0


لماذا صَوتي لخالد علي؟
أو:
لماذا سكتُّ دهرا .. ونطقتُ كُفرا؟!
·       مقدمةٌ قصيرةٌ منفلتةٌ من المنطق:
في المسرح اليوناني القديم ، ظهرت تقنية الإله الخارج من الآلة Deus ex Machinaأي الحدث أو الشخصية الخارجة عن سياق الحكاية ، والتي تغير مجراها بالكامل .. مشهد انتخابات الرياسة في مصر لا يختلف كثيرًا ، فيد الإله التي ستغير كل شيءٍ هي ما يسمى بالمجلس العسكري. التربيطات والصفقات فوق كل شيءٍ بالتأكيد ، ولا يمكن تصوُّر أن يشرف المجلس العسكريُّ على انتخابات رياسةٍ (تهمِّشُ دورَهُ في صناعة القرار، أو تحدُّ من استقلالية ميزانيتِهِ وتعاليها على مراجعة وتدخل الپرلمان، أو تحاسب أعضاء هذا المجلس على ما يُعتبرُ من وجهات نظرٍ كثيرةٍ انتهاكاتٍ ارتُكِبَت بحق الشعب المصري خلال ما يسمى بالفترة الانتقالية، حين يصل أحد المرشَّحين إلى منصب الرئيس) دون أن يتدخلَ هذا المجلسُ العسكريُّ في وصول شخصٍ بعينِهِ إلى هذا المنصب ، بأي وسيلةٍ ممكنةٍ، وبينها ما يتواردُ عن تزوير بطاقاتٍ مدنيةٍ لأفراد الجيش والشرطة، أو حشد أهالي المجنَّدين والضباطِ للتصويت لصالح مرشَّحٍ بعينه، أو عقد صفقاتٍ واضحةٍ أو ضمنيةٍ مع كل المرشَّحين. ولهذا، فإن قراري بشأن التصويت لمرشَّحٍ بعينِهِ لا يعني أنني أعلِّقُ آمالاً عِراضًا عليه أو على غيره إن وصل إلى كرسيِّ الرياسة .. وإنما أنا أنزلُ إلى الشارع وأدلي بصوتي من منطلَق ممارسةِ المتعة الصافية المتعالية على التبرير العقليِّ أساسًا ، لأنَّ كل هذا عبث .. وأحبُّ أن أنوِّهَ مقدَّمًا إلى أني لن أتعرضَ لبرنامج مرشَّحي المفضَّل أو أيٍّ من المرشَّحين ، لأن البرامج متشابهةٌ كما يعرف الجميع ..
·       نقاطٌ هامةٌ في اختياري لخالد علي:
1-             ضعفُ الكاريزما: لا أحبُّ أن أغمط حقَّ الرجل .. لكن يبدو أنَّ الكاريزما – مع ذاتية الحكم عليها – هي جِماعٌ لعدة عوامل تبدو تافهةً لكنَّها توجهُ الرأيَ العامَّ في اختيار مرشَّحٍ على حساب آخَر .. في أمريكا مثلاً نجد أنَّ ناخبًا غيرَ مُسيَّسٍ قد يختار في عامٍ مرشَّحًا جمهوريًّا ، وبعد ذلك بأربعة أعوامٍ مرشَّحًا ديمقراطيًّا ، استنادًا إلى الانطباع الذي وصله من أداءِ أحدهما كرئيسٍ بالفعل في الفترة السابقة ، وإلى البرنامج أحيانًا ، وإلى الكاريزما في معظم الأحيان .. لست متخصصًا في التواصل غير اللفظي، لكن أزعمُ أنَّ عواملَ من قبيل مواجهة العين Eye Contact
وخامة الصوت Pitch of Voiceوحركات الأيدي ، بالإضافة إلى منهجية عرض وجهات النظر وحتى شكل وجه المرشَّح وربَّما توزيع الشَّعر في وجهه وبنيته الجسمية : كلُّ هذا العوامل تخلق الكاريزما .. في رأيي أنَّ (خالد علي) حظُّهُ من هذه العوامل قليلٌ ، رغم حبي للرجل على المستوى الشخصي والانتخابي .. لماذا إذن أنتخبه بعد هذا؟؟ لكي أكسِرَ حالةَ الرئيسِ الإله/الفرعون/الأب المتجذرة في الوعي الجمعي المصري (قال الفنان هاني رمزي في حديثٍ تليفزيوني: احنا مش محتاجين عقل يحكمنا .. احنا محتاجين قلب يخاف علينا!) ، وليصبحَ الرئيسُ مجردَ تُرسٍ في ماكينة (ليست هي ماكينة الإله المشار إليها آنفًا بالتأكيد) .. ربما هو ترسٌ كبيرٌ ، لكنه ترسٌ في النهاية .. دولٌ كثيرةٌ ذات نظامٍ رياسيٍّ كالذي كان قائمًا لدينا لا يُحاطُ فيها الرئيسُ بكلِّ هذه الهالة ولا تدبَّجُ في مدحه وتكريسه الأغاني .. فلماذا لا يكونُ ترسا؟! هذا مع ملاحظةِ أنَّ صلاحياتِ الرئيسِ المنتخَب غيرُ معروفةٍ إلى الآنِ ، وأننا نقامرُ على ورقةٍ مجهولةٍ بالأساس ..
2-             تاريخ الانحياز للمهمَّشين: رغم تنويهي بأني لن أتعرَّضَ للبرنامج الانتخابي ، فسأستندُ فقط إلى تاريخه القصير كمدافِعٍ عن حقوق المهمَّشين في هذا المجتمع ، وهو شيءٌ يمكن للمهتم أن يراجعه على صفحته الرسمية على الإنترنت .. صحيحٌ أن لمرشَّحين آخرين تاريخًا نضاليًّا محترمًا في أكثر من اتجاهٍ ، لكني أزعم أن تركيز (خالد علي) على قضايا المهمَّشين يتمتع بفرادةٍ لا تُجحَد .. المهمَّشون هم معظم الشعب المصري في النهاية .. أذكرُ عنوانَ خبرٍ في مجلة (المُصَوَّر) ، في عددٍ طالعته مع أبي بينما كنا جلوسًا في (جروپي) حديقة الحيوان منذ أكثر من سبعة عشر عامًا: "ربع مليون طبيب مصري تحت خط الفقر" .. ماذا عن الطبيب المصري الآن؟؟ الطبيب المصري ليس هو المهمَّش .. وأنا في النهاية لا أهتمُّ كثيرًا بأي إحصاءٍ يصدر عن جهةٍ إحصائيةٍ مصرية .. تعلمتُ ألاّ أهتم .. أنا فقط أخرجُ صباحًا لأقفَ في محطة الأتوبيس منتظرًا ما يذهبُ بي إلى (قصر العيني) طالبًا ، أو (أحمد ماهر) طبيبًا ، أو (جامعة الأزهر) طالبَ ماچستير ، لأشمَّ رائحةَ روثِ الغنم الرابضة تحت إمرة الراعي البورچوازيِّ الصغير عند المحطة ، ولتبدَهَني صورةُ رجلٍ مسنٍّ أو طفلٍ أو امرأةٍ في منتصف عمرها تعبثُ في أكوامِ الزبالة القريبة والمتناثرة ، علَّها تجدُ إفطارَها ..
3-             لستُ صادرًا في هذا الاختيار عن رومانسيةٍ ثوريةٍ تستدعي شعراءَ أوربّا في عام الثورات في 1848 .. فأنا لستُ رومانسيًّا بالمرَّة .. يعرف هذا قليلون يقرأون ما أكتبه ، ويعرفه أصدقائي المقرَّبون الذين سمعوني أتجشَّأ بعد (شوربة العدس) .. كما أنني لستُ ثوريًّا، وأعترفُ بهذا .. لم أنزل إلى ميدان التحرير طيلة ثمانية عشرَ يومًا إلا يومَين .. وليسَ وراءَ هذا إلا الكسلُ أو اليأسُ في معظم الأحيان .. وهي طبيعةٌ لا يصعبُ تغييرُها على من يمتلكُ الإرادة .. لكنَّ لي تفضيلاتي الشخصيةَ فيما يتصل بقضاء وقتي .. ولا أعتقد أنها ستتغيرُ في الأمد القريب .. المهمُّ أنني أرشِّحُ (خالد علي) لسببٍ أكثر جذريةً من الرومانسية الثورية .. فإنني مصداقًا لشعارِ حملته الانتخابيةِ الموازية : اعتبرته اخويا! الرجلُ أكملَ الأربعينَ بالكاد .. ربما خبرته الإداريةُ ضعيفةٌ ، لكنني أفترضُ وجودَهُ وسطَ (مؤسسةٍ رياسيةٍ) متكاملةٍ وطاقِم مستشارين .. كما أنني مهتمُّ بفكرة الترس إلى أبعد الحدود .. أنا أحبُّ التروسَ في الحقيقة!!
4-             القاف: (خالد علي) لا ينطق القافَ سليمة .. وهذا من أسرارِ ترشيحي إياه .. (خالد علي) لا يشبهُني .. ربما يمثل (خالد علي) بقافِهِ المحتفيةِ بالضعفِ ، وملامحه الموغلةِ في الدقهليةِ الطيِّبةِ التي أحبُّها : أقولُ ربما يمثلُ نقطةَ تطورٍ حقيقيةً في مسار الفكر السياسي المصري .. لن يتولى (خالد علي) الرياسة ، وفرصه منعدمة .. ولكن هذا لا يعنيني! (خالد) يمثل انهيارَ مركزية الرئيس في نظام الحكم .. خطوةُ باتجاهِ اللاسلطوية Libertarianism .. أنا لستُ لاسلطويًّا أصلاً ، لكنَّ وصولَ مجتمعٍ ما إلى التكيف مع اللاسلطوية يعني تقدمًا إنسانيًّا في رأيي .. أنا مجردُ خادمٍ للقدَر .. وكذلك (خالد علي) .. ولن تقومَ الساعةُ إلا على شِرار الناس .. هه! أعرفُ أنها مسألةٌ محيِّرة .. لكن من قرأ عن الجماعات الدينية اليهودية التي ترفضُ قيامَ إسرائيل الدولةِ بشكلِها الحاليِّ وترفضُ الهجرةَ إليها من منطلَقِ أنَّها تحايُلٌ على كلمة الربِّ ، يعرف ما أعنيه .. الاستسلامُ للقدَر . الاستسلامُ للتاريخ .. من قرأ كتاب الدكتور (رشاد الشامي) عن (القوى الدينية في إسرائيل .. بين تكفير الدولة ولعبة السياسة) ، يدركُ ما أعنيه!
5-             لماذا ليس أبا الفتوح تحديدًا: يراهن البعضُ على (أبو الفتوح) باعتباره قادرًا على مواجهة العسكر وتحجيمهم في حالةِ إذا ما لقيَ تأييدًا شعبيًّا كاسحا .. وأنا لم أستطع أن أرى ذلك لسببٍ هامٍّ هو تصريحاته المهادنةُ للعسكر .. لا يعني هذا أنَّ الآخَرين لم يهادنوا العسكر .. التربيطاتُ فوق الجميع .. لكن حتى إذا نجح (أبو الفتوح) في تحقيق حلم النخب الثورية ، فإنه سيكونُ بذلك ضد النقاءِ الثوري ، الذي لا أدّعي الدفاعَ عنه لأنه غير ممكن التحقق في ظلِّ حنَقِ الكثرة الكاثرة من الشعب المصري على نفس هذه النخب الثورية! أعني أنَّهُ سيثبتُ پراجماتيَّته إن فعل .. فهل الپراجماتيةُ عيبٌ في السياسة؟ بالطبع لا .. لكنَّ التباسَ مواقفِ الرجلِ وتاريخَهُ الإخوانيَّ (مع ما يتميز به الإخوان من تبدُّلٍ سريعٍ في القراراتِ حسبَ المصالح التي لا يعلمُها إلا اللهُ جلَّ وعلا ، ثم فضيلةُ المرشد وأعضاء مكتب الإرشاد) لا يجعلاني واثقًا تمامًا في قدرته على إنجاز هذا الفعل الحاسم مع العسكر .. هذا مع محبتي الحقيقية لشخص الرجل ، بشكلٍ يصعب تبريره ، لكن ربما يكون مرجعُ هذا إلى نظرته الأبوية الحانية ونبرة صوته المُحتَوِية ..!

·       سيناريوهات بديلة:
1-   لو كنتُ في ديمقراطيةٍ راسخةٍ كأمريكا: والدستور قائمٌ يحدد صلاحيات كل سلطةٍ في نظام الحكم .. إذن لاخترتُ صاحب الكاريزما الأعلى ، ومعه نائبه بالطبع .. في رأيي ، هما (حمدين صباحي) ، ونائبه (الدكتور سليم العوّا) .. لن يستطيع الرئيسُ إساءة استخدام تلك الصلاحيات لوجود ضوابط دستوريةٍ وعُرفيةٍ عتيدة .. لم أرفض (حمدين) لقوميته العربية ، أو لخوفي من تكراره التجربة الناصرية أو لانتمائه إلى الناصرية .. فالمرجعيةُ لا تُخيفُ مهما كانت (إلا إذا انطوَت بحكم بنيتِها على انغلاقٍ تنظيميٍّ ومبالغةٍ في المكيافيللية) .. الأفكار تتطور .. ولا يمكن استنساخ تجربةٍ مضى على تحققها أكثر من أربعين عاما .. التاريخ لا يعود للوراد ، وظروف اليوم غير ظروف أمس .. لكنّي ببساطةٍ ، لا أريدُ إلهًا على كرسي الرياسة .. أنا مسلم! وصديقي المسيحيُّ مسيحيّ!! لدينا عباداتنا بالفعل .. عذرًا أستاذ (حمدين) ، لكنك بالفعل مضيءٌ أكثر مما ينبغي .. هذا رأيي .. ولك أيها القارئ النادر أن تقذف به في بالوعة العوالم المتوازية .. إذن فلماذا (العوّا) نائبًا؟؟ تذكَّروا نواب الرؤساء في أمريكا .. عادةً يميلون إلى البدانة ، وهم أسَنُّ من الرؤساء ، وهم الأكثر منهجيةً في عرض أفكارهم ، ولهم منجزهم الفكريُّ أحيانًا .. لهذا هو (العوّا) !! رغم أن هذا سيغضِبُ الكثيرين.
2-    لو كنت في ديمقراطيةٍ راسخةٍ أخرى كإسرائيل: لانتخبت الدكتور (عبد المنعم أبو الفتوح) دون تفكير .. في إسرائيل ، منصب الرئيس شرفيٌّ ، ونظام الحكم پرلماني .. والدكتور (أبو الفتوح) له هذا القَبول لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب .. فضلاً عن كونه خرّيج قصرالعيني .. وهو هذا الأبويُّ في هيئته ، وأنا حقيقةً أحبه على المستوى الشخصي (تاني!!) .. وكفاية انه ذاكر باطنة ..
3-   لو كنتُ أكثرَ رضًا مما أنا عليه: لاخترت (أحمد شفيق) بالطبع .. هذا الخطابُ الفارغُ ، الذي سقط منه النحو سهوا .. الرجل لا يقول شيئًا تقريبًا .. وهذه هي فضيلةُ الصمت .. أسعى إلى الوصول إلى هذه المرتبة من الرضا ، التي أعودُ فيها إلى اللوغوس .. إلى الصمت.
              

قداسٌ أسود يصدر قريبًا عن دار كلمة

$
0
0






لا أمرُها
بل ما شاءَت الصُّدَفُ
حَلَّ الظلامُ العظيمُ
والسُّدَفُ !

فأشعلَت مُوجِباتِ حَيرتِها
فلم يُفِدها في الظُّلمةِ النَّجَفُ !

عُيونُ أطفالِها
تَرى شَذَراتٍ
لا تَراها عُيونُها الخَزَفُ ..

مَوتى بسَمتِ الأحياءِ
يَنطَلِقونَ
في وَقارٍ ، وتَصفُرُ الغُرَفُ

ويَقصِدُون البِيانَ قِبلَتَهُمْ
ويَدمَعُ البيتُ
كلما عَزَفُوا

لا تَصفِقِي البابَ
إنهم سَكَنوا
في حَلقِهِ ، ثُمَّ صَرَّ إذ رَجَفُوا

لا تَشرَبي في الإنجيلِ
فالصَّفَحاتُ :
لن تَرَيْ غيرَ أنهُم .. نَزَفُوا !!

من تجربتي (الآخرون) - ديواني (قدّاسٌ أسود)
يصدر قريبًا عن دار (كلمة) للنشر

Article 4

$
0
0
سِيينّا وِسْت


لاحَت (سيينّا) لنا ، ما أعظمَ الشأنا    
إذ أحرقَتنا بِظِلٍّ قد تفيَّأْنا

كالمستجيرين من رمضاءِ نظرَتِها    
بنارِ عِشرَتِها جئنا ، فهل جئنا؟!

بِضاعةٌ غيرُ مُزجاةٍ تُراودُنا      
عن ركعَتَينا إذا قُمنا توضَّأنا

هِئْنا لها ، لم نَقُدَّ الثوبَ مِن دُبُرٍ  
بَل قُدَّ مِن ذاتِهِ لمّا رأى هِئْنا

يا صدرَها يا أبا الدنيا وزينتِها  
إنا عَدِمْنا فأطعِمْنا وأنشِئْنا

مَن حابِكٌ حَولَ نهدَيها تَسَتُّرَها؟  
إنّا على بَيضَتَي خِدرٍ توكَّأْنا

وفلقَتَا قَلبِها السُّفلِيِّ رَجْرَجَتا   
صَمتَ السريرِ متى رُحنا متى فِئنا

على قراريطَ مِن رُوحي نثرتُ لها  
عُشْبي، فراحَت (سيينّا) تَفتِنُ الضَّأْنا !

من ديواني (طقوس التبرُّم) - يصدر قريبًا بمشيئة الله عن مركز (المحروسة) للنشر والتوزيع
صفحة الديوان على جودريدز:

تمرين للقلب على الغيبة – شاعريةُ الاستسلامِ للقدَر: قراءة في ديوان (رانيا منصور)

$
0
0



  تجربة (رانيا منصور) في رأيي تمثّل شاعرية الاستسلام للقدَر .. يتّضِحُ هذا في عنوان الديوان الذي يُسَلِّم بدءًا بقدَر الغياب ، لكنَّهُ يحاولُ أن يتأقلم مع هذا القدَر المحتوم .. هذه الشاعرية (المؤمنةُ) إن جاز التعبير ، تبلُغُ ذِروةَ إنجازِها التعبيريِّ حين تتذرَّعُ بالصورة لتعبر عن مشاعر الحزن والاكتئاب .. ففي قصيدة (خلّي الباب مفتوح) التي يمكن اعتبارُها محاولةً للخروج من الحزن ، نجدُ أكثر الصور عبقريةً هي المعبرة عن الحزن، حيث تقول (رانيا): "صباح مفتوح على الآخر/كتير عارفها مِ الأول/ماحدِّش عارف الآخر/ويمكن لَمّا تتسرسب بنات الحزن من راسي/أفك إْيديّا من حواليني واتْفائل/وافرّحني/بِبَاكو جَلاَكسي بالبندق/تفوتني الحبسه، تِتّاخِر/أحسّ اني فتحت القلب ع الآخر/تعدّي الإبرهمن قلبي/ تعدِّي الدوخه والزحمه/واطلّع راسي من قلبي/عشان ما تعبتْ." .. نجد هنا بنات الأفكار قد تحوّلت إلى (بنات الحزن) التي تتسرّب في نعومةٍ من رأس الشاعرة ، ونجدُ الاختناق (الحبسة) كائنًا من لحمٍ ودمٍ يجثم على صدرها ويستأثر بالبراحِ من دونِها حتى لا يدعَ لها سوى أقلِّ القليل من مساحةِ العيش ، ونجد وخزَ الحزنِ إبراةً حقيقيةً اخترقت قلبَها (مع ملاحظة أنَّ هذه الإبرةَ ماضيةٌ في طريقِها وأنه لا فكاكَ منها ، إلا أنَّ الباب المفتوح / الأملَ سيعجِّلُ فقط بعبورِها القلب) ، ونجدُ عقد اليدَين في الجلسة الحزينةِ فعلاً مستنسخًا مراتٍ عديدةً فيما يبدو حتى أنها تكادُ تكونُ محاصرةً بأيديها معقودةً حولها (أفُك إيديا من حواليني) ، وهو ما ذكَّرَني على الفور بلوحةٍ للتشكيليِّ (جورج ناشد) بعنوان أغنيةٍ لأمِّ كلثوم (أروح لمين) حيث يستنسخ (أمَّ كلثوم) مراتٍ عديدةً داخل اللوحة ، وكلُّ نسخةٍ تقف أمام أحد العازفين وتغني له علَّها تجدُ لديه حلاًّ! إنها سرياليةُ التكرار في تلك اللوحة كما هي في هذه الصورة الشِّعرية .. وأخيرًا وهي الصورة الأكثر سرياليةً وعبقريةً في رأيي (واطلّع راسي من قلبي) : تستدعي الجُملةُ على الفورِ تلك الجلسةَ المرتبطةَ في وعيِنا بالاكتئاب حيث يضعُ الواحدُ رأسه بين ساقيه حتى تكاد تلامس صدرَه ، والشاعرةُ موغلةٌ في هذا الاكتئاب حتى أن هذه الرأسَ اخترقت الصدرَ إلى القلب واستقرّت به بالفعل! إنها سرياليةٌ متماسكةٌ تستقي مفرداتِها الواضحةَ من الواقع وتذهبُ بها إلى أقصى ما يمكن الذهابُ إليه ..
  لا يخفى على قارئ الديوان أنَّ الحيز الواقعيَّ للتجربةِ ضيّقٌ بالفعل .. أعني أنَّ معظمَ النصوص – إن لم يكن كلُّها – مشغولٌ بعلاقة الذات الشاعرة بالآخَر / الرَّجُل .. لكنَّ (رانيا) استطاعَت أن تستنطِقَ كلَّ الظلالِ المُهملَة والأطيافِ المحتمَلة التي ينطوي عليها هذا الحيِّز الضيق .. ربَّما يكونُ الموضوعُ الأساسيُّ في قصائد الديوان هو أنَّ الآخَر / الرجل هو معنى الحياة ، وينسحب هذا الآخَرُ أحيانًا على الإله ، فتغرق التجربةُ في الصوفية .. نجدُ هذا الموضوع أبرزَ ما يكونُ في النص الافتتاحي في الديوان وهو (كُون بخير) ، حيث تقولُ (رانيا): "كباية المية اللي قمت اشربها شرئت لما جيت اطفيك بريقها فخدت بالك؟ ماتطفتشْ." وتقول: "بابلع دموع الغيم واغطيك بالدعا / واسرح ف راحة يَدّ بتبُكّ الحروف." وتقول: "وتعالى رتّب نعكشِة عين صاحية بدري عشان تقول لك وقت توزيع الدعا والرزق: إسمع! كون بخير." .. هنا نرى الآخَر / الرجلَ شمسًا داخليةً أو نارًا تشتعلُ في ذات الشاعرةِ وترفضُ أن تنطفئ رغم محاولاتِها ، ونراهُ صاحبَ الصمتِ المنطوي على احتمالات المعاني كلِّها في قولِها : "واسرح ف راحة يدّ بتبُكَ الحروف." ، ونرى طمأنينةَ الرؤيةِ لا تتحقق إلا بحضوره في قولها: "وتعالى رتّب نعكشة عين صاحية بدري." ، كما تقولُ: "غربلت يومي وخُفت جدًّا لا النشارة تكون خَفِتني / مانا قلبي حبّات رُفعَها يخليها هُف تطير بنسمة ، فخُد ف بالك / هيّ حَبّة ، خد قرارك إنها مش راح تدوب." وهي هنا تجسدُ هاجس الانمحاء بفعل تيار السخف اليومي ، وتُعَلِّقُ أمل البقاء بهذا الآخَر / المُخاطَب.
  وفي قصيدة (رايح جاي) يتجلى التسامي الصوفي بهذا المُخاطَب / الآخَر / المحبوب كأبرز ما يكون .. فابتداءًا من عنوان القصيدة نلمحُ التأرجُحَ الدّالَّ على معاناةِ الصوفيِّ في رحلته الروحية ، ثم تشير بعضُ المفردات المتكررة في النص إلى هذا التأرجُحِ لتُعَضِّدَه كقول الشاعرة: "خايف لافكّر فاحكي اقول لك / يتدلق مشحون مرار الصبر فيّا / تغرق نواحي بسمتك تزعل / فامرَّر لما حضني يتهزم – مهزومة دايمًا بيك وفيك – ما بين حالين" ، ثم تعود لتقول في آخر القصيدة: "وامّا تندَه / آه يا خوفي لما تنده / خوفي أحسن مالقانيش ما بين حالين" .. أعني هنا مفردةَ (حالين) التي تحيلُنا إلى جدلية الخوف والرجاء في المأثور العِرفانِيِّ الإسلامي .. وكذلك في قولِها: "مستنياك تخرج عليا من السحاب / أصلي باحبُّه – أو من رخام العتمة تخرج لي ، أنوَّر" ، ففيه إشاراتٌ إلى هذا الإشراق الإلهي الذي يتغني به الصوفية ، وكذلك "خايفة تتأخر عليا وماتناديش فأبوش مكاني" حيث يتمكن حالُ الخوف من الذات الشاعرة ، ويتملكُها الإشفاق من فقدان تماسُكِ كيانِها (حال البوش كما تحبُّ أن تسميَه) إن لم يَجُد الحبيب / الإله بالنداء ..
  أمّا في قصيدة (محروقة عينُه) فيتداخل صوتان طيلة القصيدة ، أحدُهُما صوت الذات الشاعرة حيث تنطق حكمةً تستقي ماءَها من المأثور الإسلامي كقولِها: "قال والوقوع؟ قال لك : تمسّك بالتي أقوَم وعُود .. ربك عليم بيك فاصطبِر / قال بحر أهوج رامي موجُه المِلتوي / قال لك سماك أوصع غطا تغطي العيوب / ربك بيستر رغم علمه بالدواخل / فتناول الرحمة بكفوفك / إشرب تعافَى وارتِوِي" .. هنا يتنحَّى المُخاطَب الرجل تمامًا ، ويفسح مكانه لآخر غير معيَّن ، هو تجريد من الذات الشاعرة ، يحدثُ لكي تقيم حوارًا داخليًّا بينها وبين ذاتها..
·        من السمات الأسلوبية لـ(رانيا):
 أ- حقيقة أنّ (رانيا) تكتب شعر الفصحى كما تكتب العامية تلقي بظلالِها على التجربة التي بين أيدينا ، ورُبَّما نجد تيارًا محددًا من شعر الفصحى يَرفُدُ نصَّها العامّيّ بنماذجه التعبيرية ومفرداته .. وأكادُ أزعمُ أنَّ الشِّعرَ المبنيَّ على الـ(كود) المشرقيِّ أو الصيغة الشآميةِ للعربية الفصحى هو هذا التيار! نجدُ إشارةً إلى هذا في مواضع مثل: "ينشف الخوف المعانِدني فافتّح" في قصيدة (حَبّة كتار) و"مين قال مكتوب على قلبي الـ(زي الشمس) كسوف؟" في قصيدة (تلاكيك) و"الضحكة الـ(كانت مفروشة) على وشّي زمان لمّا عرفتك." في قصيدة (معلش يا زهر) وفي نفس القصيدة قولها: "بتخلّي القلب الـ(كان مرتاح) بيدُقّ بسرعة ضرب النار." .. هذا الاستخدام لـ(ال) التعريف في مكان الاسم الموصول (اللي / الذي التي) ليس متداوَلاً في العامية المصرية بقَدر تداوُلِه في الصيغة المشرقية الشآميةِ للفصحى ، كما في قول (نزار قبّاني): "تلك العيناها .. أصفى من ماء الخلجانْ. تلك الشفتاها.. أشهى من زهر الرمانْ." ..
ب- ظاهرةُ (الأفعال المنعكسة): أعني تلك الأفعال التي تكون الذات الشاعرة فيها هي الفاعل والمفعول ، ونجد ذلك في مواضع كقَولِها: "وافرّحني بباكو جلاكسي بالبندق." في (خلي الباب مفتوح) ، وتلحق بها تعبيرات من قبيل "واجري واخد بالي مني وصحتى" في (حَبّة كتار) ، وكذلك الأفعال التي تقومُ بها الذات الشاعرةُ داخل ذاتِها كقولِها: "مش هاقبل اني أكون تمليك / ولا اولّع جوا عروقي بزيت." و"لما بيصقّف لي قلبك ، باتكسف جوّايا جدًّا." و "لما اجي اوشوش قلبي عنّك فانتفض" في قصيدة (عبَط) .. أتصوّر أن هذه السِّمة الأسلوبية تكشفُ لنا عن غوص الشاعرة في عالمِها الداخلي الذي رُبَّما يكون هو النبع الحقيقيَّ لكل الإمكانات التعبيرية التي تفجِّرُها في هذا الحيِّز الضيقِ من التجربة .. هي تستعينُ برحابةِ داخلِها على ضيقِ خارجِها طيلةَ التجربة ..
ج – الرغبة في استقصاء المعنى: ووسيلةُ الشاعرة الأثيرةُ هنا هي حروف الجر وتكرار الفعل مع تعديلاتٍ على مفاعيله ، كما في قولِها : "وهارضابك / عشان حاسّاك هتِفرَحني / وتفرَح بي / تِفَرَّحني" في قصيدة (كفوف واسعين وبيقضُّوا) ، و"يمكن عبيطة / شايفة السدود حوالينا / فينا / وبينا / منّا." في قصيدة (عبط) ، و"حاول تخاف / منّي وعليّا وبيّا فيّا ولِيّا ليك." في قصيدة (ماتخافش / خاف) ، و"مهزومة دايمًا بيك وفيك" في قصيدة (رايح جاي) .. وهذا يتسق بشكلٍ ما أو بآخر مع زخم التفاصيل النفسية الذي تتيحه قراءة نَصّ (رانيا منصور) ، في مقابل تفاصيل العالَم الخارجي التي لا نلمحُها إلا للضرورةِ القصوى .. إنه احتفاء (رانيا) بعالمِها الداخليِّ الفسيح على حساب الخارج الضيق الذي تكادُ تزدريه بتفاصيله وتنميقاتِهِ الكاذبة ، ولا يعبرُ عن هذا النزوع لدى (رانيا) مثلُ قولِها في قصيدة (تلاكيك): "هاقبل بالنَّص صحيح / لكني هاصيغه براحتي واغيّر خطُّه / واكتب بالرقعة عشان باستسخف خط النسخ!!" .. الرقعة باكتفائه بالضروريِّ من الخطوط وزهده في التنميق ، على حساب النسخ الغارق في التفاصيل والنمنمات .. هو نزوعٌ اختزاليٌّ للواقع Minimalistيقدس المعنى ويعتبر الحرفَ ضرورةً لابُدَّ منها ولا شيءَ أكثر من ذلك.
·        حِدّة الحواسّ: نعني بذلك التعبير عن ملامح معينةٍ في الأشياء والحوادث تفاجئنا (رانيا) بالتقاطِها وهي ملامح لا ينتبهُ إليها الواحدُ في العادة أو لا يُحيرُها بالَه .. وممّا يبدَهُ ويُدهشُ بهذا الصدد قولُها في قصيدة (معلش يا زهر): "وامسك ورقة سيلوفان بتوِشّْ / تِتْلفّ فْ إيدي وتصبح دايرةْ نور بتضُمّ /واتْمَنَّى انا وانتَ نكون جوّاها /فْ نُصّ القُطر". هذا السمع الحادّ الثاقب الذي التفت إلى (وَشّ) ورقة السيلوفانالتي ستلتف في يدها لتتحول إلى دائرة مضيئة ، ناهيك عن البصر المرهف الذي اخترقه نور السيلوفان فيما بعد .. هذه الإدراكات تنبئ عن حميميةٍ لا تُجحَد ، تجمع الذات الشاعرةَ بالأشياء ، وتجعلُها تَخبرُها رُبَّما بطريقةٍ تختلفُ عن خبرةِ غيرها بهذه الأشياء .. وفي قصيدة (كفوف واسعين وبيقضُّوا) تقول: "ولما ازعل وابوِّز حبة من كلمة / هتزل جري تشري لي عصاية بطول تلاتةِ ادوار / بغزل بنات وبالونة / ومن جواها بالُّونة" .. المفارقةُ هنا في إدراك طول العصا التي يُعلَّق فيها (غزل البنات) والبالونة! ربما هو إدراكُ الطفلة لكل شيءٍ كبيرٍ باعتباره منبئًا بكثيرٍ من البهجة ، فالأشياءُ الكبيرةُ هي متعلقاتُ الكبارِ والكبارُ محورُ حياتنا ومدارُنا ونحنُ صِغار .. في قصيدة (رايح جاي): "خايفة تتأخر عليا وماتناديش فأبوش مكاني" تبدهُنا هذه الجملة بإدراكٍ مفارقٍ لحال الانتظار ، حيث تتشيّأ الذات الشاعرةُ في هذه الحال وتتحوّلُ إلى كيانٍ فقد فعاليتَه وتماسكه ، لم يختفِ ولم يفنَ ، لكنَّه لم يعُد نفسَه .. نعودُ إلى قصيدة (معلش يا زهر) وهي بالفعل أكثر القصائد احتفاءًا بالإدراك المفارق والحواسّ السوپر: "فاكر – ولو انك مش فاكر – الضحكة الـ(كانت مفروشة) على وشي زمان لما عرفتك - الحاجه الواحده اللي بتِعلاَوباعْلاَ معاهاكانت يعني!(وانا كُنت كمان)دلوقتي بتخرُج مجروشه." حيث الضحكة تبرِّدالقلب كقطعة ثلجٍ يلعب بها طفلٌ ويبتهجُ لبرودتِها المنعشة وملمسِها ، لكنّ هذه الضحكة انجرشت (تكسَّرَت) كقطعة الثلج أيضا .. وهو مثالٌ آخر على الإدراك المفارق ..
·        غلاف الديوان يُبرز لوحةً للفنان الإكوادوري (جواياسامين) ، وهو من تصميم الشاعرةِ والتشكيلية (نهى جمال) .. وهو اختيارٌ موفَّقٌ بشكلٍ كبيرٍ ومناسبٌ لمحتوى الديوان ، انطلاقًا من اتّساقه مع فكرة الذات الشاعرةِ المغمضةِ عينيها والمتأملةِ داخِلَها والمكتفيةِ ببراحِها الداخليِّ بديلاً عن العالم الخارجي الضيق ، واللوحةُ تقدمُ معادلاً تشكيليًّا بالفعل لهذه المعاني ، فالكائن الأنثى مغمضُ العينين ، متعملق الوجه والكفَّين ، قليل التفاصيل الظاهرة ، ولا شيءَ خارجه على الإطلاق في خلفية اللوحة ، وهو ما يشي بانكفائه على ذاته وبراحِها الداخلي ..



  
Viewing all 94 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>